من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ

كانت بداية الآية تبين تطور الجنين في الرحم ، اما هنا فتبين تطوره بعد ان يولد طفلا ، حيث يتحول بعدئذ الى شاب يافع قد بلغ أوج قوته (أشده).

وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى

كأن يموت بمرض أو بحادث أو بقتل ، وليست له حيلة في وفاته ، انما تكون بأمر الله وتقديره. وقد يبقى طويلا في الحياة ليعود ضعيفا كما بدأ.

والواقع ان الزمن ليس دائما في مصلحة الإنسان ، وان الإنسان ليس أبدا في تكامل ذاتي ، كيف وهو إذا بلغ أرذل العمر يعود كالطفل فلو كان تكامله ذاتيا ، كان لا بد ان يعود دائما ولا ينتكس.

حقا : ان أهم ما يفقده البشر بكبر سنه هو علمه. العلم ـ في ذات الوقت ـ أعظم نعمة يسعى البشر نحوها ويحاول المحافظة عليها ، لأن العلم يميّزه عن سائر الخليقة ، وحين يفقد علمه لا يعود ذا كرامة في أهله وولده ومجتمعة ، أو لا يكون ذلك شاهدا على ان تكامل البشر ليس من ذاته؟!

وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً

كأنها موات.

فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ

ان تلك الأرض الميتة عند ما تستقبل الأمطار فانها تزيد وتنمو عليها النباتات.

٢١

والنباتات ليست ذات شكل واحد ، ولو كانت الطبيعة هي التي تحكم الحياة اذن لكانت عمياء ولكان كل شيء على صورة واحدة ، ولكن تلك المواد الواحدة ـ التراب ـ الأملاح ـ الماء ـ النور ـ تتحول الى عدة أنواع من النباتات ، بل ان الله يخلق من كل نوع زوجين لضمان استمرار كل فصيل ونوع ـ ثم ان متانة الصنع لا تمنع جماله.

[٦] ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ

إذ لا حق لسواه ، وانه حق لا ريب فيه وفي قدرته ، وبما انه الحق ـ كل الحق ـ فهو أحق ان يتبع.

وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

[٧] وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ

أولئك الذين كانوا في القبور يبعثون للحساب بقدرة الله سبحانه ، تلك القدرة التي تتجلى اليوم في بعث البذور ـ الكامنة في جوف الأرض ـ بالنسبة للبذور كالقبر للميت؟ ولكن فكما يحيي ربنا بالماء البذرة وكذلك يحيي سبحانه الإنسان وهو في قبره.

من هنا جاء في الحديث :

«إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم»

٢٢

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)

٢٣

الايمان بين المجادلين والحرفيين

هدى من الآيات :

تبين آي الذكر هنا جانبا من حقيقة الايمان ، ومواقف الناس تجاهه. فمنهم المجادلون ، ومنهم الحرفيون الذين لا يصمدون امام الفتنة ، ومنهم المؤمنون حقا الصالحون عملا.

وتشير الآية الاولى الى الحجة التي بدونها يصبح الجدال في الله باطلا. وهي العلم والهدى ، أو الكتاب المنير.

ومن لا يملك حجة فهو غير مؤمن ، بل مستكبر عن الحق يثني عطفه ويسعى لإضلال الناس عن سبيل الله ، وجزاؤه الخزي في الدنيا حيث يشمله الصغار والهوان. اما يوم القيامة فله عذاب الحريق ، جزاء وفاقا بما جنته يداه.

اما الذين لم تترسخ في افئدتهم حقيقة الايمان التي تقاوم الفتن ، وتتحدى الضغوط ، فتراهم يعبدون الله على طرف السبيل ، تطمئن نفوسهم إذا أصابهم الخير

٢٤

بايمانهم وينقلبون الى هاوية الجحود ان أصابتهم الفتنة وتعرضوا لضغط. فيخسرون الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.

ان هؤلاء يميلون مع رياح السلطة والثروة فيدعون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، من أصنام حجرية أو بشرية ـ ذلك هو الضلال البعيد.

بلى انهم يضرون أنفسهم بدعوة الأصنام التي هي قيادة سوء وصحابة سوء. أما الذين يعبدون الله باطمئنان وسكينة ، ويتحدون الفتن والضغوط ، فلهم من ربهم الجزاء الحسن ، جنات تجري من تحتها الأنهار ان الله يفعل ما يريد.

بينات من الآيات :

[٨] الحجة بين الله وخلقه العقل ، ومنه العلم والمعرفة ، ومنه الهدى ، والعقل يدل صاحبه الى اتباع الكتاب المنير ومن لا يملك هذه الحجة ، فانما يجادل في الله باطلا.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ

فيقول : هل الله قادر على ان يبعث الموتى ، أو يفعل ذلك؟ ولماذا؟

ونستوحي من الآية : ان الايمان بالنشور فرع الايمان بالله ، وبأسمائه ومنها القدرة والحكمة ، بل الايمان بسائر حقائق الدين انما هو فرع لمعرفة الله ، كما ينبغي ان يعرف ، بعظمته وحكمته ورحمته بعباده.

بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ

ما هي حقائق هذه الكلمات التي من تمسك بواحدة منها فاز؟

أ: العلم ، وهو ضوء العقل ، وهو انكشاف الحقائق للقلب بنور الله ، حيث

٢٥

يغني صاحبه من اتباع دليل أو التماس حجة.

ب : الهدى وهو مستوى أقل من العلم ، كمن يمشي في الصحراء تائها وإذا به يجد علامة من بعيد تدلّه على الوجهة التي يجب عليه ان يتبعها. والفرق بين المستويين (العالم والمهتدي) ان العالم يمتلك خريطة مفصلة يمكنه الاعتماد عليها في مسيره الى الله ، فهو لا يحتاج الى علامة ، اما المهتدي فهو كمن يتبع وميض نور يسير على هداه.

ج : الكتاب المنير قد لا يكون الإنسان عالما ولا مهتديا ، فيكون سائرا على هدى عالم آخر ، كما لو ان جماعة من الناس يسيرون في صحراء خلف دليل ، والدليل هو العالم ، وقد يكون الدليل هو الكتاب فهم يسيرون معه انى اتجه.

[٩] ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ

اي مائلا ما بين منكبه ورقبته تعبيرا عن التكبّر والاعراض ، لما يواجه به من الحق ، فهو أبدا مولّ عنه ، ويسعى لإضلال الناس عن سبيل الله ، وسبيل الله هو الايمان به والعمل الصالح خالصا لوجهه.

لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ

لعلنا نستوحي من الآية : ان من يجادل في الله ، يبتلى في الدنيا بخزي أعده الله له لا يمكنه الفرار منه ، فاما فشل ذريع ، أو ميتة سوء ، أو فضيحة عند الناس ، أو لعنة ابدية. أو ليس قد اختار لنفسه الذلّة باتباع إبليس وطاعة الطغاة ، والخضوع للأثرياء؟

وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ

النتيجة في الآخرة لن تكون أحسن منها في الدنيا ، بل هي أشد واسوأ .. كلما

٢٦

تنضج جلودهم تبدل بجلود غيرها ، ليذوقوا العذاب الحريق.

[١٠] ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ

واليدان تعبير عن كل الجوارح ، فهذه حكمة الله ، انه يترك الإنسان في الدنيا يقترف ما يريد ويجرم ما يشاء ولكنه يقف له بالمرصاد يأخذه بذنبه حين يشاء.

وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ

لأنه سبحانه قد أعطاك عقلا ، وبعث إليك رسلا ، وأوضح لك طريقك ، وبيّن لك كيف تعمل ، وكيف توفّر لنفسك العزّة في الدنيا والنعيم في الآخرة ، ان الرب قد أراد العزة للخلق حين أمرهم بعبادته ، ورفض عبادة المخلوقين ، ولكنهم ظلموا أنفسهم فاخذهم بما كانوا يكسبون.

وربما توحي هذه الآية بان الله لا يأخذ عباده بما ينوون القيام به من السيئات ، بل بما يقومون به فعلا. ولذلك جاء التعبير بما قدمت يداك.

الاتباع على حرف :

[١١] كان ذلك واقع المجادلين في الله باطلا .. وهناك طائفة ثانية يتحدث عنها السياق هنا ، وهم طائفة الحرفين التي تؤمن بالله ظاهرا ولكنها على شك ، فان أصابهم خير اطمأنت نفوسهم وركنت اليه ، وان أصابهم شر تردوا الى مهاوي اليأس وسوء الظن ، انهم كمن يمشي على طرف الهاوية يسقط فيها بأقل زلة قدم ، ويزعم هؤلاء : ان مقياس الحق ما يحصلون عليه من المنافع ، فاذا ما أوتوا قدرا من المال والسلطة إذا هم مع الحق امّا إذا محّصوا بالبلاء من قبل الله نكصوا على أعقابهم.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ

٢٧

والحرف هو : الحافة والطرف.

فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ

ان هذا الاطمئنان ليس بالله ، وانما بذلك الخير الذي اصابه ، فهو يتبع قيادة الرسول ما دام يسبغ عليه الخير.

وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ

ولعل الانقلاب على الوجه تعبير عن التغيير كليا وبصورة فجائية ، حيث يقطع علاقته بالمؤمنين تماما ، ويقف في صفوف الكفار كاملا.

يتحدث الله عن هؤلاء قائلا :

خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ

لان الإنسان الذي يمشي على شك لا يصيب من الدنيا متاعا ، ولا ينال في الآخرة اجرا ، لأنه في الدنيا كان مع المؤمنين وهم عادة ما يكونون مبتلين بالشدائد ، ويعيشون ظروفا صعبة من الفقر والحرمان والمطاردة ، اما في الآخرة عند ما يهب الله الأجر للمؤمنين لا يحسب منهم ، لأنه ممن كان قلبه متعلقا بالكفار فهو نائل ما ينالونه.

ويؤكد القرآن وبشدة على عذاب هؤلاء ، لان أكثر الناس الذين يدّعون الايمان انما هم من هذه الطائفة ، فهم يصلون في ظروف السلم والهدنة ، اما إذا جدّ الجدّ وأصبحت الصلاة جريمة يعاقب عليها القانون ، فهم ليسوا مستعدين للصلاة ، انهم مع تقلبات السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع ، كالريشة في مهب الرياح.

ولقد فسرت كلمة (حرف) في الأحاديث بأنه الشك ، وابرز مظاهر الحرفية في

٢٨

حياة هؤلاء ان انتمائهم الى القيادات الرسالية يخضع لقانون الحرفية ، فمتى ما وجدوا القيادة في حالة انتصار كانوا معها ، ومتى ما كان العكس انفضوا عنها. ولذلك جاء في أحاديث كثيرة ومأثورة : ان الحرفيين هم أولئك الذين يشكون في القيادات الالهية ، إذ ان الطاعة المطلقة للرسول وأوصيائه من الائمة وبعدهم الفقهاء ، هو ابرز مظاهر الايمان. ولذلك تجد السياق يحدثنا عن مسألة الولاء في الآيات التالية.

[١٢] مقياس الايمان الحق الانتماء الى القيادة الالهية ، والثبات معها وطاعتها في الظروف الصعبة رغم مخالفتها للأهواء والمصالح الذاتية.

وابرز مظاهر الحرفية في الايمان الشك في القيادة الربانية عند ما تأمر بعمل صعب ، أو يخالف قرارها هوى النفس ، أو حينما تتعرض لنكسة أو هزيمة. وان مصير الحرفيين الارتماء في احضان القيادات الجاهلية ، كالسلطات الطاغوتية ، أو الأحزاب الملحدة ، أو الفئات المنحرفة. وهذا يعتبر شركا ظاهرا في منطق القرآن. وهو في ذات الوقت ضلال بعيد.

يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ

اي من دون الله ، والقيادة التي أمر الله باتباعها. من نبي مرسل أو امام معصوم ، أو قائد منصوب من قبله.

ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ

أحيانا يتبع الإنسان قيادة لا تنفعه وهو يحسب أنها تفيده بل هو ينفعها باتباعه لها ، أو ليس الضلال أن يعبئ الإنسان طاقاته من أجل لا شيء ، فلا نفع ولا دفع للضرر؟!

٢٩

وأبعد من هذا الضلال أن ينتمي البشر الى قيادة تضر ولا تنفع.

[١٣] يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ

حيث يتراءى لهذه الفئة من الناس ان القيادات الجاهلية توفر لهم قدرا من العزة ، والثروة ، الا ان العاقبة هي الفقر والاستعباد.

لَبِئْسَ الْمَوْلى

القائد.

وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ

الصاحب.

ولعل هذه الآية تكشف لنا انه لا يجوز للإنسان ان يأذن للآخرين باتباعه ان لم يعرف في ذاته الكفاءة ، ولا يجوز له ان يعتذر بقوله : ان الناس هم الذين نصبوني إماما وقائدا لهم ، بل يجب عليه ان يعتزل عن هذا المنصب ، وإذا لم يعتزل فانه ممن يقول الله «لَبِئْسَ الْمَوْلى».

[١٤] إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

وهم الذين آمنوا بالله ايمانا راسخا ، وترجموا ايمانهم الى ممارسات عملية ، وسلوك صالح.

إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ

لأنه قادر مريد مطلق القدرة والارادة ، يفعل ما يريد ، لا ما يريده غيره ، ومن

٣٠

مظاهر إرادته الحكيمة حسن جزائه للمؤمنين الصالحين ، وسوء عقابه للمجادلين فيه ، والشاكين في أنبيائه وأوليائه.

أو ليس الأولى بنا إذا ان نسعى الى جنان الرب التي وعدنا إيّاها ان كنا مؤمنين صادقين؟ وأيّة جنات هي التي بشر الله عباده بالغيب؟ دعنا نستمع الى أئمة آل البيت عليهم السّلام وهم يفسرون القرآن ، وينقلوننا الى رحاب تلك الجنات التي بشر بها القرآن.

إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الى قوله تعالى وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله (ع) : جعلت فداك شوقني فقال : يا أبا محمد من أدنى نعيم الجنة أن يوجد ريحها من مسيرة ألف عام من مسافة الدنيا ، وأن ادنى أهل الجنة منزلا لو نزل به الثقلان الجن والانس لوسعهم طعاما وشرابا ، ولا ينقص مما عنده شيئا ، وان أيسر أهل الجنة منزلة من يدخل الجنة فيرفع له ثلاث حدائق ، فاذا دخل أدناهن رأى فيها من الأزواج والخدم والأنهار والثمار ما شاء الله مما يملأ عينه قرة وقلبه مسرة ، فاذا شكر الله وحمده قيل له : ارفع رأسك الى الحديقة الثانية ففيها ما ليس في الاولى ، فيقول : يا رب اعطني هذه ، فيقول الله تعالى : ان أعطيتكها سألتني غيرها ، فيقول : رب هذه فاذا هو دخلها شكر الله وحمده ، قال : فيقال : افتحوا له بابا الى الجنة ويقال له : ارفع رأسك فاذا قد فتح له باب من الخلد ويرى أضعاف ما كان فيما قبل فيقول عند مضاعف مسراته : رب لك الحمد الذي لا يحصى إذ مننت عليّ بالجنان ، وأنجيتني من النيران ، قال أبو بصير : فبكيت وقلت له : جعلت فداك زدني قال : يا أبا محمد ان في الجنة نهرا في حافتيه جوار نابتات ، إذا مر المؤمن بجارية أعجبته قلعها وأنبت الله عز وجل مكانها أخرى ، قلت : جعلت فداك زدني قال : يا أبا محمد المؤمن يزوج ثمانمأة عذراء ، واربعة آلاف ثيب ، وزوجتين من الحور العين. قلت : جعلت فداك ثمانمأة عذراء؟ قال : نعم ما يفترش منهن

٣١

شيئا الا وجدها كذلك. قلت : جعلت فداك من أي شيء خلقن الحور العين؟ قال : من تربة الجنة النورانية ويرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة كبدها مرآته وكبده مراتها ، قلت : جعلت فداك ألهن كلام يتكلمن به في الجنة قال : نعم. كلام لم يسمع الخلايق اعذب منه ، قلت : ما هو؟ قال يقلن بأصوات رخيمة : نحن الخالدات فلا نموت ، ونحن الناعمات فلا نبأس ، ونحن المقيمات فلا نظعن ، ونحن الراضيات فلا نسخط ، طوبى لمن خلق لنا ، وطوبى لمن خلقنا له ، ونحن اللواتي لو أن قرن أحد بنا ، علق في جو السماء لأغشى نوره الأبصار (١)

__________________

(١) بح ج ٨ ص ١٢٠.

٣٢

مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ

________________________

١٥ [بسبب] : السبب كل ما يتوصل به الى الشيء.

[يغيظ] : ما أوجب غيظه من المشكلة والفتنة التي وقع فيها.

١٧ [الصابئين] : هم خليط من الأديان ، وقيل لكل خارج من الدين الى دين آخر صابئ.

[المجوس] : عبدة النار كان لهم نبي وكتاب ، فقتلوا نبيهم وأحرقوا كتابهم.

٣٣

وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢)

٣٤

هكذا يحيط تدبير الله بالإنسان

هدى من الآيات :

تطرقت الآيات السابقة عن ان هناك من يؤمنون بالله ايمانا حرفيا ، فاذا أصابتهم نعمة اطمأنوا بها ، أما إذا امتحنوا بفتنة انقلبوا على وجوههم وقالت : ان هؤلاء يتبعون قادة يضرون ولا ينفعون.

وفي هذا الدرس يذكرنا القرآن بأن الحاكم الحقيقي للكون ، ومن له الولاية الحق على الإنسان هو الله ، ليس فقط في المجال التشريعي وفي الآخرة ، وانما أيضا في الدنيا وفي المجال التكويني.

ولتأكيد هذه الفكرة تذكرنا الآيات بعدة حقائق :

أولا : ان الذين يزعمون انهم منفصلون عن ارادة الله وتدبيره فليفعلوا ما يشاءون ، وليكيدوا ما يريدون ، ثم لينظروا ، هل باستطاعتهم ان يخرجوا من حدود قدرة الله وملكوته؟

٣٥

ثانيا : هل باستطاعة الإنسان ان يهتدي الى سواء السبيل ، ويعرف الطريق القويم ، من دون هدى الله المتمثل في آياته ورسوله وفي توفيقه للهدى؟

ثالثا : هل بالإمكان توحيد البشر على أساس غير رسالة الله الحق؟ كلا ..

ان رسالة الله والعمل بها هو الأساس الوحيد لتوحيد الناس.

ثم يؤكد الذكر على ان كل ما في السماوات والأرض خاضع لله وساجد له ، كالشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب ، ولكن تبقى مجموعة من البشر تشذ عن هذه السنة لفترة محدودة ، وفي مجال محدود ، ينتهون بانتهاء الفرصة التي أعطاهم الله. فليس بإمكان الإنسان ان لا يأكل أو لا يشرب أو لا ينام ، وكذلك ليس باستطاعته ان يخرج نفسه من الأرض ، أو يتمرد على سنن الحياة ، نعم بإمكانه ان لا يصوم أو لا يصلي ، في هذا المجال المحدود فقط اعطي الحرية لكي تمتحن إرادته ، اما في سائر المجالات فلا بد له من الخضوع طوعا وكرها؟

اذن ما دمت لا تسطيع الخروج عن ولاية الله ، فلما ذا تتمرد عليه وتتخذ غيره وليا؟

هذا في الدنيا ، اما في الآخرة فيساق المجرمون الى جهنم سوقا وتفصّل لهم ثياب من نار ، ويصب من فوق رؤوسهم الحميم فيصهر ما في بطونهم وأجوافهم ، ولهم مقامع «مطارق» من حديد ملتهب ، وكلما حاولوا الفرار من النار أعيدوا إليها مقهورين.

اذن فبداية الإنسان ونهايته محدودتان بتدبير الله ، انه لا يخرج من ملكوت الله وسلطانه ، فحري بالإنسان ان لا يتخذ غير الله وليا وقائدا.

٣٦

بينات من الآيات :

[١٥] مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ

(الهاء) في كلمة (ينصره) تعود الى أحد معنيين ، اما الى نبينا محمد (ص) واما الى من في جملة «مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ».

ففي الحالة الاولى يكون المعنى : انه من كان يحقد على محمد (ص) ، وما جاء به من رسالة الله ويشك في نبوته ، ولا يعتقد بان الله ناصره في الدنيا والآخرة ، فليبذل كل ما في وسعه ، وليجرب كل حيلة الى ذلك ، حتى لو استدعى ذلك ان يمد حبلا من أعلى ويشنق نفسه ، ثم لينظر : هل استطاع ان يتحدى ارادة الله بمنع رسوله أو بمنع رسالته فيشفي بذلك حقده وظنه؟

اما في الحالة الثانية فان الآية تعني ان الله سبحانه ينصر الإنسان ، ويحفظه ويعينه في الدنيا والآخرة. ومن كان يظن غير ذلك ، فليذهب انى يشاء ، وليفعل ما يريد ، حتى ولو شاء خنق نفسه (بمد حبل الى السماء ثم قطعه) فانه لن يقدر على تحدي سلطان الله ، ولن يذهب عمله وحقده على الله.

ولعل الآية تتضمن تحديا اعجازيا للبشر ، فاذا كانوا يشكون في قدرة الله اذن فليخرجوا من ملكوت الله ، ومن سننه وقوانينه الثابتة التي اخضع لها كل شيء ، والتي يكرهون على الخضوع لها ، ومن ثم لينظروا ـ بعد ان يستخدموا كل امكاناتهم وعلومهم ـ هل استطاعوا ان يخرجوا من ملكوت الله ، أو هل تحرروا من قوانين الحياة المادية والمعنوية ، فيشفوا بذلك غيظهم النابع من جهلهم الموجه ضد ارادة الله وسننه التي وضعت لمصلحتهم ، والتي كان ينبغي عليهم ان يعملوا بموجبها ويشكروا الله عليها لأنها أهم مظاهر رحمة الله بعباده. فيكون معنى الآية : مدّوا

٣٧

بحبل الى السماء ، فهل تقدرون على ذلك؟ والله العالم.

عند ما صعد رائد الفضاء (ارمسترونغ) الى القمر .. هل استطاع ان يخرج من ارادة الله؟! كلا .. انه لا يستطيع ذلك حتى انه لم ينس مشاكله العائلية مع زوجته ، فقد صرّح بعد نزوله الى الأرض : كنت أفكر وانا على سطح القمر في خلافاتي مع زوجتي .. وهل هي راضية عن عملي هذا الذي أقوم به أم لا؟

هكذا يبقى الإنسان محكوما بالانظمة والقوى الطبيعية حوله ، مادية كانت أم معنوية ، شاء ذلك أم ابى ، ولا يمكنه والحالة هذه الا ان يمتثل لأمر مولاه. وان تكبر واستنكف فلا يضر الا نفسه.

وأخيرا لو تفكر الإنسان : من الذي يرزقه ويسبغ عليه النعم ، ومن الذي يدفع عنه آلاف الاخطار التي تحمل في طياتها الموت والدمار ، لوجد انه هو الله الرزاق ذو القوة المتين ، وما عداه ليس الا أسبابا مخلوقة ..

الله يهدي من يريد :

[١٦] وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ

كما ان الجانب المادي من حياتنا محكوم بإرادة الله سبحانه فكذلك الجانب المعنوي منها كالهداية ، ولو كان العقل والفطرة كافيان لهداية الإنسان ، فلما ذا يضل البعض ويهتدي الآخرون والجميع يمتلك العقل والفطرة؟ كلا .. أَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ . وما دامت الهداية من الله فلنتخذه وليا ، لا نعبد سواه.

[١٧] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ

ثم ان الاختلاف الناشئ بين البشر دليل واضح على ان الإنسان بحاجة الى

٣٨

الله ليهديه الى الطريق القويم وان الله هو الذي يقضي بالحق ، ويفصل بين اتباع المذاهب المختلفة.

إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ

إنّ فصل الله بين المذاهب والآراء المختلفة ، وبالتالي بين الحق والباطل في كل قضية صغيرة أو كبيرة ، انما هو تجل لشهادته الشاملة لكل شيء ، وانه المهيمن الذي لا يعزب عن علمه شيء في السموات والأرض.

ولأنه شهيد على كل شيء ، فلا بد من احترام محضره المبارك ، والتحسس برقابته المباشرة واشرافه الدائم ، وان يسأل كل إنسان نفسه عند ما يهم بعمل أو قول ، أو حتى عند ما يجيل بخاطرة فكرة ، ويريد ان يتخذ قرارا أو يصدر رأيا ، هل الله راض عن ذلك ، انه يحاسبه غدا عليه. ان هذا الاحساس هو الذي يبعث نور الهدى في ضمير البشر ، ويشد أزر العقل ضد الهوى ، ويساعد على منهجية التفكير دون الفوضى ، ويقوم سلوك الفرد دون التطرف .. ويجعل له من نفسه واعظا مرشدا.

لقد جاء في الأثر : ان زليخا عند ما طلبت الفحشاء من يوسف (ع) وغلقت الأبواب رأت في جانب الغرفة صنما ، فقامت وغطته ، فسألها يوسف : لماذا صنعت هكذا؟ فقالت : لكي لا يرانا ، فقال يوسف : تستحين أنت من صنمك وهو لا يسمع ولا يبصر ، ولا استحي انا من ربي؟!

[١٨] ثم يوجه القرآن الحكيم نظر الإنسان الى السماء والأرض .. الى آيات الله التي تشهد جميعها على هيمنة الله المطلقة وخضوع كل شيء في الوجود له سبحانه.

٣٩

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ

ان هذه الأشياء تخضع خضوعا الله.

وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ

لكن كثيرا من الناس لا يسجدون لله وهؤلاء لا يشكلون في الواقع سوى نسبة ضئيلة إذا ما قيسوا بما في الكون من مخلوقات هائلة ، واعداد غفيرة تعجز الكمبيرترات عن إحصائها وتسجيلها.

ان كرامة الإنسان تقتضي السجود لرب تسجد له السموات والأرض ، ومن فيهما ، ذلك الله الفاعل ما يشاء ، اما السجود لصنم لا يضر ولا ينفع بل يضر ولا ينفع ، أو لبشر ذليل حقير كالسلاطين المغرورين ، أو كأصحاب الثروة المفسدين فانه يستتبع اهانة وذلة وصغارا.

والله سبحانه حين لا يهدي البشر يبتليه بعبادة الأصنام الصامتة أو الناطقة ، فيهينه بذلك ، ومن اهانه الله لا مكرم له من بعده.

ولا يقدر أحد تحدي ارادة الله ، والخروج عن اطار الاهانة الشركية الى عز التوحيد ، لان الله يفعل ما يشاء ، ولا يفعل ما يشاء غيره سبحانه.

وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ

من اهانة هؤلاء ، أو إكرام أولئك الذين يسجدون له ، من هنا كان علينا الالتجاء اليه ليهدينا اليه ، ويجعلنا ممن أكرمهم بالسجود له.

[١٩] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ

٤٠