من هدى القرآن - ج ٨

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-11-4
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٩٥

جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ

حيث يجيز الشارع المقدس للمرأة الكبيرة في السن ، ان تضع بعض ثيابها مثل جلبابها وخمارها مما يغطي رأسها ما دام لا يرغب أحد في نكاحها ، بشرط ان لا تتبرج بإظهار مواضع زينتها ، ولكن الأفضل ان تسود المجتمع الاسلامي كله حالة من العفاف والاحتشام.

وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ

فالمرأة وان كبرت وبلغت سن اليأس ، فان الحجاب أكثر هيبة لها ، كما ان ذلك يشجع الشابات على ان يتمسكن بالحجاب.

وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

فلا يجوز لها ان تقول كلاما تثير به شهوة الرجال ، أو تنوي القيام بحركة معينة حراما ، إذ ن الله سميع للقول الظاهر عليم بالنية الباطنة.

[٦١] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ

قال بعض المفسرين : ان الناس كانوا يتحرجون من التعامل مع هذه الطوائف الثلاث في الجاهلية ، لأنهم كانوا يعتقدون ان الله قد غضب على من ابتلي بهذه الحالات ، فيبتعدون عنهم ، وجاءت هذه الآية لتبين الحقيقة بأن الله لم يغضب على هؤلاء ، بل من الضروري معاشرتهم بالإحسان ، جاء في الرواية المأثورة عن الامام الباقر عليه السّلام :

ان أهل المدينة قبل ان يسلموا كانوا يعزلون الأعمى والأعرج والمريض ان يأكلوا معهم ـ كانوا لا يأكلون معهم ـ وكان الأنصار فيهم تيه وتكرّم : فقالوا ان

٣٦١

الأعمى لا يبصر الطعام ، والأعرج لا يستطيع الزحام على الطعام ، والمريض لا يأكل كما يأكل الصحيح ، فعزلوا لهم طعامهم على ناحية ، وكانوا يرون عليهم في مؤاكلتهم جناح ، وكان الأعمى والأعرج والمريض يقولون : لعلنا نؤذيهم إذا أكلنا معهم ، فاعتزلوا من مؤاكلتهم ، فلما قدم النبي سألوه عن ذلك فأنزل الله عز وجل : «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً» (١)

ولعلنا نستوحي من السياق أيضا ان نفي الحرج هنا يعني جواز الاكل ، فيكون المفهوم من الآية ليس على الأعمى حرج ، ولا على الأعرج حرج ، ولا على المريض حرج ، أن يأكل من بيوت الناس ، أما أنتم فليس عليكم حرج أن تأكلوا من بيوتكم ، أو بيوت أقاربكم.

والحكمة في ذلك : ان هؤلاء هم العناصر الضعيفة الذين يعجزون عادة عن كسب رزقهم ، فعلى الأصحاء كفالتهم والسماح لهم بالدخول الى بيوتهم للطعام وبرهم.

وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ

تذكر هذه الآية بالتفصيل البيوت التي لا حرج على الإنسان في دخولها والاكل منها.

ويبدو أنها ليست في مقام إعطاء الاذن فحسب ، بل في مقام التشجيع على ذلك أيضا ، فربما يتحرج الإنسان من الدخول الى بيوت أقاربه أو معارفه من الأصدقاء ، فيرفع النص ، هذا الحرج ، لتنمو الالفة والمحبة بين الأسر المختلفة ، وكما يقول

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٣ / ص ٦٢٤.

٣٦٢

الحديث الشريف عن الائمة (ع) :

«أحبكم إلينا أكثركم اكلا في بيوتنا».

لان الجلوس الى مائدة الطعام في البيت يفتح القلوب على بعضها ، ويمتن العلاقات ، وبالتالي يفتح طريق التعاون بين افراد المجتمع.

فكم من تعاون بدأ من جلسة طعام ، حتى الثورات الرسالية كثيرا ما تنطلق من مثل هذه المناسبات ، فحينما تقترب النفوس وترتفع الحجب بين الإنسان وأخيه وبعيدا عن انظار الناس وأسماعهم ، هنالك يبدأ الإنسان بالحديث عما يعانيه ، فيبث همومه ومشاكله لأخيه وبالتالي تتوفر الأجواء الملائمة للمناقشة وتبادل الأفكار مما يكون مناسبا لجمع الامكانات والكفاءات المختلفة وازالة الصعوبات ، فربما جلس أناس مؤمنون لبعضهم كي يأكلوا ، ولكنهم قاموا من على مائدة الطعام لينجزوا أعمالا عظيمة في سبيل الله.

إن التجمعات الأسرية في الإسلام هي اللبنات الاولى والأساسية في صرح الصمود والتضحية في المجتمع الاسلامي ، فلا يستطيع الإنسان الصمود أمام تحديات الزمن وعنجهية الطغاة ، وتحقيق النصر لوحده ، ولكنه يستطيع ذلك حينما يجلس الى أقاربه ومعارفه ويتفاعل معهم حيث يشعر بالقوة فيندفع بحماس لمواجهة كل التحديات.

ولما في الجلوس الى الموائد من فوائد اجتماعية عظيمة ، نجد الإسلام يشجع عليها ، ولو كانت العلاقات الاجتماعية في البلاد التي يحكمها الطاغوت متينة وفعالة لشلّ سيف الطغيان فيها ، لان الطاغوت حينئذ لا يضرب واحدا واحدا ، وانما يضرب اسرة اسرة ، والاسرة القوية المتفاعلة صخرة صماء لا تتفتت ، فلو وقف المجتمع بأسره المتعاونة مع بعضها عبر قياداتها لسقط الطاغوت المتسلط على رقاب

٣٦٣

الناس.

ثم يبين القرآن الكريم حكما آخر يعطي العلاقات الاجتماعية حرارة ودفئا فيقول :

أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ

فاذا اعطى المالك مفتاح بيته لأحد ، يجوز له تناول الطعام الذي فيه ـ بالفحوى ـ لما ينبئ ذلك عن رضى قلبي.

جاء في التاريخ :

إذا بعث رسول الله أحدا من أصحابه في غزاة أو سرية ، يدفع الرجل مفتاح بيته الى أخيه في الدين (وهو الذي آخى النبي بينه وبينه) ، ويقول له : خذ ما شئت وكل ما شئت ، فكانوا يمتنعون من ذلك حتى ربما فسد الطعام في البيت ، فأنزل الله هذه الآية. (١)

واعطى الإسلام الصديق الوفي حكم القريب فقال :

أَوْ صَدِيقِكُمْ

و جاء في الحديث عن الامام الصادق (ع) :

«من عظم حرمة الصديق ان جعله من الانس والثقة ، والانبساط وطرح الحشمة ، بمنزلة النفس والأب والأخ والأبن» (٢)

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً

__________________

(١) المصدر / ص ٦٢٥.

(٢) المصدر / ص ٦٢٦.

٣٦٤

فبإمكان الاسرة ان تجتمع بأكملها حول مائدة الطعام ، أو يحضر افراد منها فقط كأن يأكل الأخ مع أخيه والصديق مع صديقه.

فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً

يجب ان تكون القلوب متحابة متآلفة ، ومجندة في جيش واحد ، والسّلام هو رمز تآلف القلوب ، وعند ما يسلم المرء على أخيه ، فانه يربط نفسه معه برابطة المحبة ويتعهد بأن يكون مسالما له في حضوره وغيابه.

لذلك يؤكد القرآن قائلا : «فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» اي انكم تشكلون نفسا واحدة ، «تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ» فحينما يقول الإنسان لأخيه السّلام عليكم يقول الله أيضا السّلام عليك ايها المجتمع الذي يتسالم افراده ويتبادل أبناؤه السّلام ، إني سوف امنحكم السّلام تحية ، «مباركة طيبة» وهذا السّلام يسبب البركة اي النمو الاجتماعي والمعنوي ، الذي يختلف عن النمو المادي الفاسد لدى المترفين أو الحكام الطغاة ، بل هو تكامل طيب ومستقبله عظيم.

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

فكلما كانت الأحكام القرآنية حساسة وعميقة ، كلما وجدنا بعدها مباشرة مثل هذه الكلمات : لعلكم تعقلون ، لعلكم تتفكرون ، لحاجة الأمر الى التعقل والتفكر حتى يعرف المؤمنون أهميته ، وانه لا يمكن فهم ذلك الا إذا استشار الإنسان عقله ، وقدح زناد أفكاره.

٣٦٥

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

٣٦٦

بين القيادة الرسالية والامة المؤمنة

هدى من الآيات :

في ختام هذه السورة التي تتحدث عن الاسرة الفاضلة ، وعن القيم التي ينبغي ان تنمو فيها ، والتي من أبرزها الطاعة لوليّ الأمر انطلاقا من الطاعة للقيم الحق ، يؤكد ربنا في هذه الآيات الكريمة على ضرورة الطاعة للقيادة الرسالية في القضايا الاجتماعية المختلفة.

فاذا كان المسلمون مجتمعين على أمر كالحرب أو البناء أو اي عمل آخر فلا يجوز لأحد منهم ان يتسلل من الاجتماع في خلسة ويذهب لأعماله الخاصة ، حتى ولو كانت هناك حاجة تدعوه الى ذلك ، لان حاجة المجتمع أهم من حاجته الشخصية.

نعم له ان يستأذن القيادة ، فاذا أذنت له فليذهب والا فلا .. والقيادة ـ بدورها ـ تستطيع ان تأذن لمن شاءت إذا عرفت الكفاية في الباقين ، ومع ذلك تستغفر القيادة له ، لأن استئذانه في مثل هذا الوقت نوع من الذنب ، إذ هو هروب

٣٦٧

من المسؤولية الاجتماعية.

وبعدئذ يؤكد القرآن على ضرورة تمييز الرسول عن الآخرين باعتباره القائد ، والمبلغ للرسالة ، مما يجعله شخصية ذات تأثير فعّال في فرض الأوامر والتعليمات ، ويحذر بشدة أولئك الذين يخالفون عن أمره بأن تصيبهم فتنة ، وأبرز الفتن سيطرة الطغاة ، أو عذاب اليم في الآخرة.

ويحذرنا الله نفسه ، أو ليس له ما في السموات والأرض ، وهو عالم بما نحن عليه من خير أو شر؟! وحين نعود اليه يخبرنا بأعمالنا وهو بكل شيء عليم ، فلما ذا التبرير والنفاق والخداع الذاتي؟

بينات من الآيات :

[٦٢] ان الإسلام يريد لمجتمعه ان يكون مجتمعا متكافلا متكاملا موحّدا ، والقيادة هي الرابط الاجتماعي الذي يعصم المجتمع من الانهيار والتشتت ، وهنا تكمن اهمية الوحدة ، وعدم شق عصاها ، فلا يجوز للفرد ان يعتنق رأيا يفصله عن المسيرة العامة للأمة ، وهذا هو المقياس الصحيح لمدى ارتباط المسلم بالمجتمع الاسلامي وانتمائه الحقيقي له.

أما الإفراد الذين يرسمون لأنفسهم خططا ، يفرضونها على المجتمع ، شاءت القيادة أم أبت ، فلا يمكن ان يكونوا منتمين الى المجتمع ، وهؤلاء هم المنافقون في منطق القرآن الحكيم.

لذلك نجد التعبير القرآني يقول : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ» للتأكيد على ان هؤلاء وحدهم الذين ينتمون الى مجتمع الايمان ، اما الآخرون فلا.

وهكذا يريد الإسلام ترسيخ الشعور بالمسؤولية في نفوس المؤمنين ، ويبدو من

٣٦٨

هذه الآيات ان بعض الناس كانوا يريدون التنصل من مسئولياتهم.

وكثيرا ما ينفر الإنسان من تحمل المسؤولية حينما يشعر بثقلها ، أو خطورتها على مصالحه ، وحتى يخفي هذا الشعور يصنع دثارا من المبررات لنفسه ، ولكي يعالج الإسلام هذه النزعة فقد فرض على الإنسان المسلم ان يتحلى بصفتين اساسيتين هما :

١ ـ الطاعة والتسليم.

٢ ـ التنفيذ الجاد لقرارات القيادة.

ولو عرف الإنسان المسلم نوعية فكر القيادة الرسالية ، وكذلك توجهها ، فانه سيسلم نفسه لها تسليما عميقا يذوب بسببه كليا في خطها ، ولا يكتفي باتباع القرارات الظاهرة فقط ، بل سيتبع روح القرار واهداف القيادة ، حتى من دون ان تحدد هي ذلك بالضبط ، وهنا ننقل قصة حدثت في إيران :

جاء رجل الى أحد قادة الثورة يستأذنه في قتل أحد افراد الساواك ـ وهي مؤسسة ارهابية تجسسية كانت تابعة للنظام الشاهنشاهي المقبور ـ فأجابه القائد بالنفي ، مما أثار إعجاب الجالسين ، فما كان منهم الا ان سألوه ولماذا وهو يستأذنك في قتل مجرم طالما قتل الناس وأفسد في الأرض وفعل كذا وكذا؟! فقال لهم : ان مثل هذا الإنسان ليس لهذه المهمة ، لأنه لو كان لها لما أتى يسألني اقتله أم لا! وهو عاقل يعرف الأحكام الشرعية و التوجه العام لاحاديثي الجماهيرية.

وكذلك بنو إسرائيل لما قال لهم موسى (ع) ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة امطروه بوابل من الأسئلة : ما هذه البقرة؟ ما لونها؟ ما شكلها؟ ما .. ما. إلخ؟

«فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ» لان التسليم النفسي لم يكن موجودا عندهم بما

٣٦٩

فيه الكفاية ، فكانوا يريدون التنصل من المسؤولية بأية وسيلة كانت.

ولا يكتمل إيمان المؤمن حتى يذوّب شخصيته في شخصية الامة ، ويبيع نفسه وتوجهاته في الحياة للقيادة الرسالية ، بان يكون رهن أوامرها ، كما لا يكتفي بتنفيذ ظاهرها فقط ، وانما يغوص الى الاعماق ، ليكتشف أبعادها ، ويطبقها بالشكل الأكمل ، بخضوع قلبيّ تام ، وقد وصف القرآن المؤمنين بذلك حيث قال : «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» ، والتسليم هو الانصياع النفسي التام.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ

فلا يشكّل الايمان بالله وحده قيمة حقيقية ما لم يكن مقترنا بالايمان بالرسول ، وما يترتب على ذلك من تلقّي الأوامر والتعليمات والتشريعات الالهية منه ، وهذا ما يميّز المؤمن الحقيقي عن المؤمن الظاهري.

وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ

أي إنهم لا يتصرفون وفق رغباتهم الشخصية ، انما يدعون القرار الحاسم بيد القيادة.

إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ

قد تحتاج الى هذا الشخص فيجوز لك ان تأذن له.

وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

لأن ذهابهم وان كان بأمر الرسول الا أنه نوع من الذنب ، لذلك ينبغي للرسول

٣٧٠

الاستغفار لهم حتى يغفر الله لهم من جهة ، وحتى يكون ذلك اشعارا للآخرين بأن لا يطلبوا أذنا مماثلا ، وبالتالي ينفض الناس شيئا فشيئا ويبقى الرسول وحيدا في الساحة.

وجاء في التاريخ : «ان هذه الآية نزلت في قوم كانوا إذا جمعهم رسول الله لأمر من الأمور ـ في بعث يبعثه ، أو حرب قد حضرت ـ يتفرقون بغير اذنه ، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك». (١)

وجاء في نص آخر : ان الآية نزلت في حنظلة بن أبي عياش وذلك انه تزوج في الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد ، فاستأذن رسول الله ، ان يقيم عند أهله ، فانزل الله عز وجل هذه الآية «فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» فأقام عند أهله ، ثم أصبح وهو جنب ، فحضر القتال واستشهد ، فقال رسول الله ، رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء والأرض فكان يسمّى غسيل الملائكة. (٢)

[٦٣] ان احترام القيادة في قراراتها يجب ان ينعكس على احترامها في الظاهر أيضا ، فلو نطقت باسم الرسول ، أو باسم قيادتك كما تنطق باسم الآخرين دون ايّ احترام ، أو إذا جلست الى الرسول ترفع صوتك أمامه ، كما ترفعه أمام الآخرين أو تناديه من وراء الحجرات كما تنادي الآخرين ، فانك لن تكون مستعدا بعد ذلك لتلقّي أوامره ومن ثم تنفيذها ، إذا لا بد من اعداد نفسي كامل سلفا ، لتلقّي أوامر الرسول أو القيادة الرسالية التي تمثله على الواقع ، كأن يتوضّأ الفرد قبل الذهاب الى مجلس الرسول ، أو يغتسل ان كان عليه غسل ، ثم يجلس في محضره مجلس المستفيد ، ليقتبس من علمه بتركيز تفكيره في كلامه ، وتفريغ نفسه لتطبيق تعاليمه .. وهكذا

__________________

(١) المصدر / ص ٦٢٨ نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم.

(٢) المصدر.

٣٧١

حتى ينتهي الأمر به الى تنفيذ أوامر القيادة بشكل دقيق جدا.

فحينما تحترم القيادة تطبق أوامرها وتوجيهاتها ، وعلى العكس فانك تأخذ أوامرها وتوجيهاتها مأخذ الهزل لو لم تكن تحترمها.

لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً

ولهذا المقطع من الآية وجهان : أحدهما ظاهر والآخر باطن.

أما الظاهر فهو : ان لا يسمّي الإنسان رسول الله باسمه الخاص ، بل بكنيته ، وحينما جاءت هذه الآية حرم على المسلمين ان ينادوا رسول الله باسمه ، فأخذوا ينادونه يا رسول الله أي باسمه القيادي.

واما الوجه الباطن فهو : ضرورة تهيّؤ المسلم نفسيا لتقبل قيادة الرسول (ص) وكل من جلس مجلسه وحكم باسمه ، ولا يقول هذا إنسان وانا إنسان ، بلى انه بشر ، ولكنه يمتلك صفة اعتبارية أنت لا تملكها ، هي جلوسه مجلس الرسول ، لذلك قال كثير من فقهائنا : (إذا حكم ولي الأمر المجتهد الجامع للشرائط بحكم ما ، وجب على الناس ـ سواء منهم المقلّدون لهذا المجتهد أو غيرهم ـ اتباع حكمه ، بل وحتى على المجتهدين ان يتبعوه في حكمه) ، لأنه حينما يحكم فإنه يحكم باسم منصبه ، واهانة حكمه اهانة لمركزه ، والاهانة لمركزه اهانة للدين ، وبالتالي لله سبحانه وتعالى ، وكما يقول الحديث في حق الائمة :

«الراد عليهم كالراد علينا والراد علينا كالراد على الله»

قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً

اي يتسللون خلسة دون ان يشعر بهم الرسول أو يرأهم وهم يخرجون من مجلسه.

٣٧٢

فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ

ان المقصود من «الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» ليس فقط مخالفة الأوامر الظاهرة ، بل أيضا مخالفة روح القيادة.

أنهم استطاعوا ان يتسللوا لواذا وان يهربوا خلسة ، ولكن هل أصبحوا في مأمن كما يزعمون؟!

كلا .. بل إنهم يعرضون أنفسهم للفتنة ، وللعذاب الأليم ، فاذا استدعاهم الرسول في يوم ما ، وأصدر إليهم أوامرا مباشرة بحمل السلاح ، والتوجه الى الغزو مثلا ، فإنهم في هذه الحالة أمام موقفين ، فإما الانصياع الى الأوامر ، وهذا خلاف ما يريدون ، وأما الرفض فيخرجون ـ بذلك ـ ظاهرا وباطنا عن الإسلام ، ويضعون أنفسهم تحت طائلة العقاب الشرعي في الدنيا وفي الآخرة.

وعلى فرض أنهم اختاروا الأمر الاول ، فإنهم سيجدون صعوبة بالغة في تنفيذ الأوامر ، لان الذي لم يربّ نفسه على تنفيذ الأوامر الصغيرة لا يستطيع ذلك في القضايا الكبيرة ، والذي يهرب اليوم من الحر والبرد ، وسهر الليل ومشاكل التدريب وما أشبه ، كيف لا يهرب غدا من الحرب والقتال؟!

اذن فعلى الإنسان ان يربّي نفسه على الطاعة والانضباط وتحمل الصعاب حتى يكون على أتم الاستعداد نفسيا وبدنيا لتطبيق الأوامر الهامة.

أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ

جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق عليه السّلام :

«يسلط عليهم سلطانا جائرا ، أو عذابا أليما في الآخرة» (١)

__________________

(١) المصدر / ص ٦٢٩.

٣٧٣

والواقع : ان هناك رابطة وثيقة بين سيطرة الطغاة وبين مخالفة أوامر القيادة الشرعية.

[٦٤] أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ

أي ان الله وبكل تأكيد يعلم بكل ما تفعلونه ، وهو قادر على محاسبتكم ومجازاتكم لأنه مالك الكون والوجود.

وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

وغدا يخبركم بكل ما فعلتم ، لان علمه محيط بالإنسان ، ومعرفة الإنسان بهذه الحقيقة تجعله مسئولا عن أقواله وأعماله ، فيعمل على إصلاحها وتحسينها ، ليكسب ثواب الله ، ويتجنب عقابه.

٣٧٤

سورة الفرقان

٣٧٥
٣٧٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فضل السورة :

عن رسول الله (ص) قال :

«من قرأ سورة الفرقان بعث يوم القيامة وهو مؤمن ، أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ »

(نور الثقلين / ص ٢ / ج ٤)

عن الامام الرضا (ع) قال :

«يا ابن عمار لا تدع قراءة «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ» فان من قرأها في كل ليلة لم يعذبه الله أبدا ، ولم يحاسبه ، وكان منزلته في الفردوس الأعلى»

(مجمع البيان / ص ١٥٩ / ج ٧)

الاسم :

لأن هذه السورة تبيّن حقائق عن الوحي ، ولأن أهم ميزة للوحي هو تفريقه بين الحق والباطل فقد سميت ب (الفرقان) الذي يشير الى الآيات المحكمات في القرآن.

٣٧٧

الإطار العام

انها رسالة ، وعظمة الرسالة أولا تأتي من جانب مرسلها.

والدرس الأول من هذه السورة التي يبدو انها تبين حقائق الوحي وتنسف العقبات التي تعترض طريق الأيمان به ، يذكرنا بمن أرسل الكتاب ، وبالكتاب ، وبالرسول الذي أرسل معه.

أولا : الله هو الذي انزل الفرقان ، وهو رب السماوات والأرض الذي أرسل الكتاب.

انه الله الذي تبارك وتعالى. أو ليس خيره عميم ثابت يغني ولا يتناقص وله وحده ملك السموات والأرض وهو الذي قدر كل شيء.

ثانيا : ومن آمن بالله عرف رسالاته ، أما من اتخذ من دونه شركاء فسوف لا يحظى بالايمان بالرسالة ، لذلك تراهم يتهمون الرسالة بالافتراء ، ويزعمون : انها أساطير.

٣٧٨

بينما الذي يعرف الله ، وانه العليم بسر الخلق يؤمن بالرسالة التي تكشف جانبا من ذلك السرّ.

ثالثا : قالوا : كيف يبعث الله بشرا رسولا. إنه يأكل ويكتسب معيشته ، وقالوا : لماذا لم ينزل معه ملك ، ولم يلق اليه كنز ، ثم قالوا : انه رجل مسحور.

وهكذا ضلوا عن السبيل بسبب ضربهم الأمثال للرسول.

وبعد ان يجيب السياق عن افتراءاتهم بأنه قادر على ان يجعل للرسول ما يملأ عيونهم من الجنات والقصور ، يبيّن جذر الكفر بالرسالة المتمثل :

أولا : في تكذيب الساعة ، ينذرهم بها حيث تستدعيهم من بعيد بزفير وتغيظ ، فاذا اقحموا فيها تنادوا بالهلاك ، ويقارنها الذكر بالجنات التي وعد المتقون.

ثانيا : باعتمادهم على شركائهم. حيث يذكرنا الرب بأن الأنداد لا يغنون عنا شيئا في ذلك اليوم الذي يقفون امام المحكمة ، ويتبرءون ممن كانوا يعبدونهم.

ثالثا : ان من أسباب الكفر بالرسالة نسيان الذكر بسبب تطاول العمر واستمرار النعم ، فكان سببا لهلاكهم.

ويعود الذكر الى رد شبهاتهم التي سبقت الواحدة تلو الأخرى.

أولا : قالوا : لماذا يأكل رسولنا الطعام ويمشي في الأسواق ، فقال الرب : انّ المرسلين سابقا كانوا أيضا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، وانّ ابتلاء الناس ببعضهم سنة الله التي تمضي في الخلق لمعرفة من يصبر ، وهو البصير بهم.

ثانيا : قالوا : لماذا لم ينزل معه ملك نذيرا ، يقول ربنا : انه الاستكبار والعتو.

٣٧٩

أولا يعلمون انه لو تنزلت الملائكة ، وانكشف الغطاء فقد لزمهم الجزاء ، ولا بشرى لهم يومئذ ، وتنتشر أعمالهم فلا تنفعهم ، ويمضي السياق في بيان أهوال الساعة التي كذبوا بها لعلهم يتذكرون.

ثالثا : من أسباب الكفر بالوحي خلة السوء حيث يعض الظالم ـ آنئذ ـ على يديه ، وينادي بالويل على نفسه على ما اتخذ من اخلّاء سوء اضلوه عن الذكر.

رابعا : يأتي الرسول يوم القيامة يشكو الى ربه من قومه الذين اتخذوا القرآن مهجورا.

خامسا : وقالوا : لولا أنزل القرآن جملة واحدة ، ويجيب السياق بان الحكمة هي تثبيت الفؤاد ، ومقاومة أمثلتهم الباطلة بالحق المبين.

ويحدث السياق عن مثل للرسالة الالهية حيث بعث الله موسى الى فرعون رسولا ، كما بعث نوحا الى قومه ، وأرسل الى عاد وثمود وأصحاب الرس ، فما ذا كانت عاقبة الذين كذبوا بالرسالة. ان مصير القرية التي أمطرت مثلا واحدا لعاقبة أولئك المكذبين. أفلا يعتبر هؤلاء بهم ويكفّون عن تكذيبهم؟!

سادسا : ويتخذون الرسول هزوا ، ولكنهم يعترفون بمدى تأثيره فيهم ، والواقع :

انّ الهدى من الله وليس الرسول وكيلا عنهم ، ولا يهديهم الله إذ أنهم اتخذوا أهواءهم آلهتهم ، ويبيّن القرآن ان الله هو الذي جعل الشمس دليل الظل ، وأحيى ميت البلاد ، وصرّف الأمثال فهو الهادي والمذكر ، ولكن أكثر الناس يكفرون.

والله سبحانه المالك المقتدر ، وقد أمر الرسول بجهادهم جهادا كبيرا ، وبيّن آيات قدرته البالغة ، حيث مرج البحرين ، وجعل بينهما حاجزا وقد خلق من الماء بشرا.

٣٨٠