من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

يكتسبون شهرة واسعة وعلوا عند الناس ، فيبدأ ينهى الناس عن الإنفاق حتى يصبحوا مثله ويجعل رسالته في الحياة الصد عن سبيل الإنفاق.

وحين يشتد ضغط الناس عليه بضرورة الإنفاق ، تراه يكتم عن الناس ثرواته ويتظاهر بالفقر ، وفي بعض الحالات يكتم المختال ثروته خوفا عليها ، وحفاظا لها عن أعين المنافسين.

ويقع البخيل فيما هرب منه ، أوليس هرب من الفقر وما فيه من صفة اجتماعية وقيود مادية ، فها هو عاد فجلب الى ذاته كراهية الناس ، كما قيد نفسه عن الإنفاق ، وكتم نعم الله عليه ولم ينتفع بها ، أو ليس هذا فقرا أشد ألما من عدم الفقراء ومسكنة الصعاليك ، من هنا جاء في الحديث : (البخل فقر حاضر)

وينهي القرآن الآية بهذه الكلمة :

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)

للايحاء بأن كتمان نعم الله ، والبخل بها ، والاختيال والفخر ، انما هي كفر بالله ومما آتاه الله للإنسان من نعم الحياة ، وبالنسبة للمختال يهيء له الله عذابا مهينا ، جزاء تطاوله على الناس وتكبره عليهم.

المرائي شيطان ناطق

[٣٨] بلى طبقة الأغنياء تنفق المال ولكن لمن؟ ولماذا؟

انها تنفق المال لأولئك المتملقين الذين يكيلون لهم الثناء الباطل بغير حساب ، ويزينون للناس صورتهم القبيحة ، وهم يقصدون من وراء ذلك امتصاص المزيد من جهد الناس وحقوقهم.

٨١

وهذه الطبقة المتملقة يسميها القرآن هنا شيطانا لأنها تخدع صاحبها وتضله عن الصراط وتزين له اعماله السيئة ويقول :

(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً)

[٣٩] ولنتساءل من هؤلاء؟ ولماذا يكفرون بالله ولا ينفقون أموالهم الّا رياء؟ أو ليست هذه الأموال نعم الله عليهم ، أو لا ينبغي لهم شكر الله على نعمه بالايمان به والإنفاق في سبيله؟ وما الذي يخشى هؤلاء من الايمان والإنفاق؟ هل يخشون أن يسلب الله نعمه عنهم لو أنفقوها في سبيله؟ أم يخشون ان لا يجازيهم عليها؟

(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً)

[٤٠] (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ)

فهو يجازي الناس بالضبط ، وإذا كفر شخص بقدر وزن ذرة صغيرة ، فانه يجازيه بقدر كفره.

اما إذا أحسن بهذا القدر فهو ليس يجازيه فحسب ، بل ويزيد له من رحمته.

(وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) ي

ضاعفها في الدنيا ، ويجزي عليها بثواب عظيم في الآخرة.

من هو القائد

؟ [٤١] طبقة الأغنياء تتعالى على الناس بالباطل ، وتتعالى على القيادة

٨٢

الشرعية ، وتحاول التمرد عليها خصوصا في إعطاء حقوقها من الضرائب الشرعية.

من هنا جاء ذكر الرسول (ص) باعتباره القيادة الشرعية ، وبيّن الله ان الرسول (ص) هو القائد الحقيقي للناس ، فاذا لم يطعه شخص في الدنيا فانه في الآخرة شهيد عليه ، وهنالك يتمنى هذا الشخص انه كان تحت التراب ولم يعص الله ، ويكتم نعم الله عليه ويقول كذبا أن ليس لله عليه حقوق كما تفعل طبقة الأغنياء.

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)

[٤٢] (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً)

تسوّى بهم الأرض تعبير رائع للدلالة على أنهم يودون لو كانوا تحت التراب بحيث لا يبقى لهم أثر ظاهر عليه.

٨٣

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ

____________________

٤٣ [لامستم] : واقعتم النساء.

[صعيدا] : وجه الأرض.

٤٦ [ليا] : اللّي الفتل وليا من لوى يلوي إذا حرف وأمال ولي اللسان تحريكه لتحريف الكلام.

٨٤

سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)

____________________

٤٧ [نطمس] : الطمس عفو الأثر ، وطمس الشيء إذهاب أثره.

٤٨ [افترى] : اختلق وكذّب.

٤٩ [يزكون] : التزكية التطهير والتنزيه.

[فتيلا] : الفتيل هو ما في شق النوات من خيط ضعيف.

٨٥

مسئولية العلم وخطر الانحراف

هدى من الآيات :

الآية الاولى تتناول التطهّر وتثير هذا السؤال : لماذا هنا بالذات بين القرآن موضوع الطهارة الجسدية؟ ألم يكن من الأولى أن تتحدث عنها ضمن آيات الصلاة مثلا؟

الجواب بالاضافة الى طبيعة التفاعل بين الطهارة الجسدية (موضوع الآية) والطهارة الروحية (موضوع الآيات السابقة واللاحقة) فان هناك جانبا اساسيا آخر يبيّنه لحن ألفاظ القرآن هو الجانب الاجتماعي من الطهارة ، حيث يحتمل الإنسان مسئولية النظافة رعاية لمشاعر الآخرين ، فحين يدخل المسجد ويتواجه مع المجتمع فيه عليه أن يكون نظيفا من السكر والجنابة ، فحتى لو لم يستطع التطهر بالماء ، فعليه أن يتطهر بالتراب ليرفع عن نفسه قذارات الجنابة أو الغائط.

وبعد الحديث عن هذه المسؤولية يتناول القرآن مسئولية العلم ، باعتباره أداة

٨٦

فعالة لبناء المجتمع إذا استخدم بأمانة ، أو هدمه لو خان صاحبه الامانة.

وعلم الدين هو أبرز مظاهر العلم ، وهؤلاء الذين يدّعون علم الدين (وهم في الواقع لا يعرفون منه الّا قليلا) ويخونون أمانة العلم في أعناقهم من أجل مصالح عاجلة وزهيدة ، هؤلاء يضلون الناس بدل أن يهدوهم ، ويحرّفون كلام الله ، وينافقون مع رسله ، وعاقبة هؤلاء لعنة في الدنيا وعذاب في الآخرة ، حيث تنحرف عنهم الجماهير في الدنيا ، ويحاسبهم الله في الآخرة حساب المشركين.

ومن صفة هؤلاء أنهم يزكون أنفسهم ، ويجعلونها فوق الجميع ، ويكذبون على الله ، ويفضلون قيادة الظلمة (الطواغيت) على قيادة الله ورسله.

ومن صفاتهم السيئة أنهم بخلاء ، يستغلون مناصبهم في بلاط الطواغيت ، من أجل التسلط على الناس وتحديد حرياتهم ، وابتزازهم حسدا وبخلا.

هذه بعض الصفات التي يبتلى بها هؤلاء المثقفون الذين يخونون أمانة الكتاب ، فيحرفون فيه لقاء دراهم معدودة.

بينات من الآيات :

الاغتسال زكاة الجسد :

[٤٣] التوضؤ أو الاغتسال يهيئان المؤمن نفسيا وجسديا للدخول في محراب العبادة ، فالذي يخوض في معارك التجارة ، أو صراع العمل الشاق ، يحتاج الى بعض الوقت حتى ينقطع عن مؤثرات التجارة ، وآثار العمل ، ويستعد للقاء ربه. والوضوء أو الغسل يعطيه هذا الوقت ، ويعزله مؤقتا من صخب الحياة ، ويعطيه فرصة للتفكير الجاد في مجمل أحداث الدنيا بوعي وتعقل.

٨٧

وبالاضافة الى هذا الاعداد ، فان الغسل والوضوء يعطي المؤمن أناقة تساعد على تبادل الحب مع إخوانه ، والتعاون معهم على البر والتقوى.

مظهر الشخص الذي لا يزال النعاس يملأ عينيه ، والرائحة تتصاعد من حلقه ، وتكسو وجهه آثار النوم والكسل ، إن هذا المظهر لا يساعد على التعاون وتبادل الحب بين المسلمين.

وكذلك الذي يحمل في جسمه آثار المعاشرة الجنسية ، أو قذارة الحاجة الطبيعية ، انه مظهر كريه ، وان دل على شيء فانما يدل على اهانة الآخرين ، وعدم القيام بواجب احترامهم.

من هنا بيّن القرآن في مجال حديثه عن المسؤوليات الاجتماعية ، واجب الاغتسال والوضوء أو التيمم وقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى)

الصلاة عادة تكون في المساجد وبشكل جماعي ، فالاقتراب منها اقتراب من الاخوة المؤمنين ، ويدل على ذلك قوله بعدئذ (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) أي عابري السبيل من خلال المساجد.

والسكر هنا قد يكون سكر النوم ، أو سكر الخمر قبل أن تصبح حراما ، اما بعد أن أصبحت محرمة فان اقتراب المخمور من مجامع المسلمين يعتبر أشد حرمة ، لأنها اهانة لمقدسات الامة.

ويرتفع سكر النوم بالوضوء حيث يعود الى الفرد رشده ويصبح كلامه بوعي كامل ، ويتجنب المسلمون النزاعات التافهة التي تنشأ بسبب النعاس وابتداء

٨٨

الكلمات الشاذة من بعضهم ، أو التي تنشأ بسبب فقدان الوعي بالخمر ، لذلك أكد القرآن على أن الوعى شرط مسبق لمن يريد أن يقرب الصلاة وقال :

(حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ)

ثم بيّن ضرورة التطهر من الجنابة باعتبارها قذارة جسدية ونفسية ، ذلك أن التعامل مع المسلمين ، أو مناجاة الله لا تكون مع جو المعاشرة الجنسية ، بما فيها من انغماس في الشهوة ، وابتعاد موقت عن الحياء الانساني.

من هنا جاء الغسل ليكون تطهيرا للجسد من قذارة الجنابة ، واعدادا للروح للدخول في مجالات انسانية أخرى.

(وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا)

ان الجنب لا يدخل المسجد الّا بصورة عابرة ، يدخل من باب ليخرج من باب آخر ، كما لا يحضر تجمعات المسلمين الأخرى الّا بشكل عابر.

وفي صورة تعذر الوضوء أو الغسل ، على الفرد أن يستخدم التراب أداة لتطهير جسمه واعداد نفسه ، فان التراب طهور يكفي صاحبه عشر سنين إذا استمر عذره.

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا)

أي توجهوا الى الأرض.

(صَعِيداً طَيِّباً)

منطقة نظيفة من الأقذار.

(فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)

٨٩

من ذلك الصعيد بعد أن تضربوا فيه أيديكم ، وتمسحوا بها على الجبهة حتى الأنف ، ثم على ظهر الكفين.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً)

يسهل عليكم أمر الدين ، ويجعل لكم بدل الماء ترابا تطهرون به أنفسكم.

الضلالة نتيجة الخيانة :

[٤٤] هؤلاء فريق من الناس يخونون أمانة العلم في أعناقهم ، ويشترون بعلمهم متاع الحياة الدنيا ، ولكن هذا المتاع لا يأتيهم الّا مقرونا بالضلالة والانحراف عن الصراط المستقيم ، فرجل العلم الديني الذي يسكت عن جرائم الظلمة لقاء سلامته ، أو في مقابل بضعة دراهم ، لا بد أنه يبدأ في تأييد مواقف الظلمة ، وبالتالي يفقد قدرته على التمييز بين الحق والباطل ، بل ويصل الى حد الدعوة الى الباطل الذي يمثله الظلمة.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ)

وقد عبّر القرآن عن هؤلاء المسمون بعلماء الدين بقوله (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) استخفافا بهم وبعقولهم ، انهم أنصاف المثقفين وليسوا علماء بالكامل.

الله نصير المؤمنين :

[٤٥] يتظاهر هؤلاء الرهبان والأحبار وعلماء الدين الخونة ، بالصلاح ، وحب الناس ، وطيبة القلب في نصائحهم ، بينما هم بمقياس الله خونة ، ولا أمان لخائن ، إنهم سكتوا عن جرائم الطغاة بحق أمتهم فكيف بالآخرين؟!

٩٠

ان الإنسان المسلم ذكي ، لا يأخذ الأشياء ببساطة وطيبة قلب ، بل بالتقييم الموضوعي وفق مقاييس الله الذي هو أعلم بالعدو والصديق.

ويجب الّا نخشى من هؤلاء الدجالين المقنعين بقناع الدين ، ولا نقول (قد) يكونون مقرّبين عند الله ، بل علينا أن نتصل مباشرة بالله وبهداه في تقييم الناس ، وهو يكفينا شر هؤلاء.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً)

الولي هو : الذي يلي الإنسان في القرب ، أو يلي شؤونه ويقوم بها ، وقد يكون للإنسان صديق عاجز ولكن الله ولي ينصر عباده.

كيف تعرف العالم المزيف

؟ [٤٦] وإذا أردنا أن نعرف هذا الفريق من الناس ، فما علينا إلا أن نلقي نظرة على صفاتهم التي من أبرزها تحريف الكتاب ، وتأويل آياته في غير معانيها الصحيحة ، فاذا أنزلت آية في سلطان جائر حرّفوها حتى تنطبق على السلطان العادل ، أو على الشعوب المطالبة بحقوقها. مثلا : يحرفون كلمة الفتنة من معناها الحقيقي الذي يعني الظلم الى معنى الثورة ضد الظلم ، وبدلا من أن يسموا الحكام بالمفتنين ويصدروا بحقهم أحكام القرآن ، تجدهم يؤلون ذلك في الثوار فيسمونهم بأصحاب الفتنة.

هؤلاء منافقون ، يميعون قرارات القيادة ، ويبررون مواقفهم الجبانة ببعض التبريرات السخيفة التي لا تعود الى محصل.

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ)

٩١

أي أنهم بعد الاعتراف بالعصيان يحاولون تبريره ، ويطلبون الاستماع لهم ، الّا أن أقوالهم لا تستحق السماع.

(وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ)

ان كلامهم واعتذارهم لا ينطلق من منطلق التوبة ، بل من منطلق النفاق ، والتمييع للقرارات ، والمخالفة لها ، وبالتالي الطعن في الدين وأصوله.

وكان الأفضل لمصلحة هؤلاء الشخصية ، ولاستقامة حياتهم العامة ، أن يطيعوا الله اطاعة تامة ، حتى إذا خدعتهم الدنيا عن الطاعة ، تابوا الى الله وطالبوا بأمهالهم فترة من الوقت لكي يطيعوا الله في المستقبل.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا)

أي طلبوا الاستماع الى أعذارهم ، وطالبوا بإمهالهم وانظارهم ، حتى يطبقوا القرارات في المستقبل.

(لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ)

أي أكثر نظما لحياتهم (مقتبس من القيام بمعنى ما يقوم به الشيء)

ويبقى سؤال : لماذا خالف هؤلاء أوامر الله؟

الجواب : لأنهم يكفرون بالله في واقع أمرهم ، بالرغم من ايمانهم الظاهر ، والله يبعد الكفار عن رحابه.

(وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً)

٩٢

ما هو مصير الخونة

؟ [٤٧] والمصير الذي ينتظر هؤلاء الخونة من علماء الدين ، أنهم يفقدون ثقة الجماهير بهم ، وكأن وجوههم قد طمست معالمها ، وأصبحت صفيحة ممسوخة لا تعرف ، ويعودون الى حالة ما قبل العلم ، وكأنهم لم يحصلوا على علم الدين أبدا.

وبالاضافة الى ذلك فإنهم ملعونون ، ينزل عليهم صاعقة من قبل الله ، كما فعل الله بالذين عصوه في تعطيل يوم السبت ، فتحولوا الى قردة وخنازير وهكذا يفعل الله بالخائنين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ، أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)

الشرك نهاية المطاف :

[٤٨] والنهاية المأساوية التي قد يصل إليها هؤلاء : هي الشرك بالله ، وذلك بالاستسلام للطواغيت.

وتمهيدا للحديث عن ذلك بيّن القرآن حقيقتين :

الاولى : ان الشرك افتراء عظيم على الله ، وان الله لن يغفره.

الثانية : أن هؤلاء يزكّون أنفسهم باستمرار ، ويجعلونها مقياسا للحق والباطل ، ولذلك لا يقبلون الانتقاد ، ولا هم يقيّمون أنفسهم ويحاسبونها بدقة موضوعية ، وطبيعي في هؤلاء أن تنتهي مسيرتهم الضالة الى الشرك.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)

٩٣

أي ان الله ذو المغفرة الواسعة ، ومع ذلك لا يغفر للمشركين.

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً)

بالرغم من ان الشرك كذب عظيم ، ولكنه في الواقع ممارسة عملية لهذا الكذب ، ولذلك فهو اثم عظيم ، من هنا تجد القرآن قد عبّر أولا بكلمة (افترى) (الدلالة) على الجانب النفسي والفكري في الكذب ، ثم عبّر (اثم) للدلالة على الجانب العملي منه.

الله مقياس الحق :

[٤٩] ومن صفات هؤلاء تزكية أنفسهم ، وجعلها مقياس الحق والباطل ، بينما الصحيح ، أن يجعل الإنسان ربه مقياسا لذلك ، فيقيم ذاته حسب قيم الله وأوامره.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ)

والله عادل في تقييمه للبشر ، ولذلك يجب الّا يتدخّل البشر ذاته في هذا المجال خوفا من الحاق الظلم به.

(وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)

أي بمقدار الخيط الموجود في شق نواة التمر.

[٥٠] وتزكية الذات هي افتراء على الله ، وادعاء عليه بأنه قد طهّر هؤلاء من الذنوب ، وعصمهم من الزلل.

وهؤلاء الخونة من علماء الدين لا يتورعون عن هذا الكذب ، وهو اثم واضح

٩٤

إذ يسبب في إفساد المقاييس والقيم ، وتشويش الرؤية ، ودفع الناس الى الضلالة.

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً)

ان الفرية على الله تكفي إسقاط صاحبها عن الاعتبار ، وسحق شخصيته الاجتماعية.

٩٥

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)

٩٦

شروط قيادة العلماء

هدى من الآيات :

لكي لا يتلاعب رجال الكهنوت بمقدرات الأمة بالاتفاق مع الانظمة الفاسدة ، سحب كتاب الله الثقة بهم بوجه مطلق ، وحدد شروطا معينة (تدل عليها الآيات بصورة غير مباشرة) إذا وجدت في علماء الدين جاز للأمة إتباعهم ، والّا وجب عليهم الثورة ضدهم دون ما وازع من الخوف أو الحياء.

ومن تلك الشروط :

أولا : محاربة الطغاة والوقوف ضد ظلمهم للناس ، أما إذا ارتمى علماء الدين في أحضان الانظمة الفاسدة ، وآمنوا بها وزعموا أنها أهدى سبيلا من المعارضين لهم ، المؤمنين بالله ، فإنهم يسقطون من أي اعتبار ، بل تلاحقهم لعنة الله وعذابه.

ثانيا : حب الخير للناس جميعا ، وطهارة القلب من الحسد ، والتسليم للحق حتى ولو كان عند منافسيهم من العلماء ، وحب الخير للناس. أما علماء السوء فهم بالعكس ، إذا وصلوا الى أعتاب السلطات ، ضاقت أنفسهم وحاولوا منع

٩٧

السلطات من كل خير حسدا وضعة وبخلا ، ويتحاسدون بينهم ، ويستعينون بالسلطات على بعضهم البعض ، ولا يؤمنون بأن الله يقدر للعباد الرزق ، وعليهم أن يجتهدوا بأنفسهم للحصول على فضل الله ذلك الفضل الذي أعطاه ربنا لآل إبراهيم فحسدهم البعض عليه ، وأخذوا يصدون الناس عنه صدودا.

وجزاء من يصد عن الهدى حسدا ان يذيقه الله عذاب نار أليمة ، أما جزاء من يحارب الحسد في ذاته ، ويسلم وجهه لله ، ويؤمن برسله ، ويعمل صالحا ، فان جزاءه الجنات الطيبة.

بينات من الآيات :

ما هو معنى الجبت

؟ [٥١] الجبت هو : الشيطان الخفي الذي يحاول خداع الإنسان عن طريق تزيين الأعمال المنكرة عنده ، والجبت كذلك هو : الأفكار الخبيثة التي ينطلق منها الشيطان في إفساد ضمير البشر ، وهي التبريرات والاعذار التي يحتمي وراءها الكسالى والمتقاعسون عن تنفيذ أوامر الله ، وهي الثقافة المتخلفة التي تعتمد على القدرية والحتمية الكسولة ، والتي تدعو صاحبها الى الترهل واللامسؤولية.

وبالتالي الجبت هو : العوامل الذاتية التي تدعو الإنسان الفرد والمجتمع الى الخمول والانحراف.

من هو الطاغوت؟

الطاغوت هو : الرجل أو النظام المتسلط على الجماهير باسم الجبت ، وبسبب الجبت ، فالديكتاتور الأرعن الذي يستبد بمقدرات الامة ، يجد في ايمان الامة

٩٨

بالجبت ، وبالتالي في تخلفها وكسلها ولا مسئوليتها ضمانا لاستمراره في الظلم والعدوان.

وعلماء الدين هم الذين يكفرون بالجبت ، ويفكون عن الناس أغلال الخوف والحتمية والكسل ويرغبونهم في التضحية والنشاط ، وهم الذين يقاومون الطاغوت ، ويقودون ثورة الجماهير ضده.

صفات العالم المزيف :

ان علماء السوء هم الذين يبيعون أنفسهم للطاغوت ، ويؤمنون بالجبت ، ويضللون الجماهير ، ويتخذون موقفا جبانا من الرجال العاملين ضد الجبت والطاغوت ، وذلك لكي تستمر مراكزهم عند الطاغوت ، ولهؤلاء العلماء اللعنة ، ولهم العزلة الجماهيرية.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً).

[٥٢] (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً)

هؤلاء يريدون أن يجمعوا بين مراكزهم عند الناس وعند الطاغوت ، ولكن الله ينسف مراكزهم عند الناس ، ويفضحهم أمام الجماهير ، وآنئذ لا يشتريهم الطاغوت بشيء ، لان الطاغوت انما أرادهم لأنهم يخدعون الجماهير ، وها هي الجماهير تكشف ما وراء أقنعتهم الدنيئة من الزيف والضلال ، فيطردهم الطاغوت فلا يبقى لهم نصير لا في الأرض ولا في السماء.

[٥٣] بعض هؤلاء يبرر اقترابه من الطاغوت بأنه في مصلحة الناس ، ومن أجل تمشية حاجاتهم ، ولكنهم يكذبون ، فاذا وصلوا أعتاب الملك نسوا الناس ،

٩٩

واستأثروا بالخيرات لأنفسهم :

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً)

لا يؤتون شيئا للناس حتى بمقدار ما يوجد في الحفيرة الصغيرة الموجودة في طرف نواة التمرة.

[٥٤] ان هؤلاء حساد ، يتقربون الى السلطات لدعم مركزهم في مواجهة منافسيهم من العلماء الأكثر علما وشعبية.

والسؤال هو : لماذا الحسد ما دام الله هو الذي فضل أولئك العلماء عليهم لما وجد فيهم من المثابرة والنشاط والنية الصالحة؟!

ان الأفضل لهم أن يعترفوا بفضل أولئك عليهم ، والتسليم لهم لا الكفر بهم ، والتقرب الى الأعداء.

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)

وما دام الله هو الذي يؤتي كل خير ، فلما ذا لا نتوسل به ليؤتينا الخيرات التي آتاها لغيرنا؟!

جزاء الايمان والخيانة :

[٥٥] ان فضل الله كبير ، وعطاءه واسع لا يحد ، وخير للإنسان أن يجتهد من أجل الوصول الى ذلك الفضل والعطاء بطريق مستقيم ، وأول شروطه الاعتراف بمن فضله الله ، والايمان بالأنبياء بغير تردد.

١٠٠