من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)

____________________

١٥٦ [بهتانا] : البهتان الكذب الذي يتحير فيه من شدته وعظمته.

٢٤١

دوافع الكفر

هدى من الآيات :

لماذا يفرق المرء المؤمن بين الله ورسله. هل لأنه لا يقتنع بصدق الرسول؟

كلا .. ان أكثر الناس يخالفون الرسول استجابة لأهوائهم ومصالحهم الانية ، وانما يغلفون مخالفتهم بطبقة من الجدل الفكري فهؤلاء بنو إسرائيل يطالبون الرسول بأن يأتيهم بقراطيس منزلة من السماء مباشرة كألواح موسى ، فهل كفروا بالرسول لأنه لم ينزل عليهم قراطيس من السماء؟ وهل انهم يؤمنون إذا نزلت هذه القراطيس؟ كلا .. لقد جاءهم موسى بما اقترحوا ولكن لم يؤمنوا به أيضا ، وانما قالوا لموسى : أرنا الله جهرة حتى نؤمن لك ، وهل كان من الممكن استجابة طلبهم التعجيزي؟! ثم انهم أشركوا بالله بعد ان اقتنعوا بالحق عن طريق البينات التي جاءتهم ، وأكثر من ذلك انهم نقضوا ميثاقهم بعد ان أحكمه الله عليهم أحكاما ، بعد ان ظلّل عليهم جبل عظيم ، فكاد يقع عليهم لولا انهم تعهدوا بالطاعة ، فلما رفع عنهم الجبل عادوا الى غيهم ، وكفروا بآيات الله ، وقتلوا الأنبياء ، وادعوا ان قلوبهم مقفلة لا يدخلها نور الايمان ، وانما هم الذين اقفلوها

٢٤٢

على أنفسهم بالكفر.

ومثل آخر : ان بني إسرائيل كفروا بعيسى ، واتهموا امه الصديقة مريم ببهتان عظيم. وادعوا انهم قتلوا المسيح الذي لم يقتلوه ، بل انهم اشتبهوا فيه ، ولكن الله رفعه اليه ، وقبل ان يموت أي واحد منهم فسوف يؤمن بالمسيح لأنه حق. والإنسان قبل موته يرى الحق بوضوح.

إذا ماذا كان وراء كفر هؤلاء؟ انه الظلم الذي حرم الله عليهم بسببه كثيرا من الطيبات التي أحلت لهم سابقا.

فالظلم سواء كان ذاتيا أو اجتماعيا فانه العامل الاساسي للكفر ، والظلم الذاتي مثل شرب الخمر ، والظلم الاجتماعي مثل محاولة تحريف الناس عن الحق ، وأخذ الربا ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وكل هذه تسبب الكفر ، ومرد الكفر عذاب اليم.

بينات من الآيات :

حقيقة الكفر من واقع بني إسرائيل :

[١٥٣] يجب الّا تخدعنا كلمات الكفار التي يتظاهرون بها. ان مخالفتهم للرسالة انما هي لعدم قناعتهم الفكرية بها ، ويقدمون طلبات يزعمون أنها لو تحققت إذا لآمنوا كلا ، فعلينا أن نكشف عن دوافعهم ورغباتهم الاجتماعية.

فهؤلاء بنو إسرائيل طالبوا الرسول بأن ينزل عليهم كتابا من السماء غير القرآن ، ويبدو أنهم كانوا يريدون أن يكون الكتاب محتويا على بعض الأفكار ، أو أنهم طالبوا بكتاب مكتوب في الألواح ، كما نزل على موسى عليه السلام.

٢٤٣

بيد أن هذا الطلب لم يكن في الواقع سوى ستار لإخفاء دوافع كفرهم المصلحية.

إذ أن موسى عليه السلام جاء إليهم بمثل ما يريدون فلم يلبثوا حتى طلبوا منه طلبا تعجيزيا ساذجا فقالوا : أرنا الله!!!

أو يمكن أن يرى ربنا سبحانه؟! بيد أنهم اشترطوا على موسى أن يريهم الله حتى يؤمنوا.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)

نزلت صاعقة عليهم أبادتهم عن آخرهم ثم أحياهم الله ، والسؤال : لماذا نزلت الصاعقة عليهم بعد طلبهم السخيف؟

الجواب : لأنهم كانوا من قبل ظالمين لأنفسهم وللناس ، وما كان طلبهم الّا غطاء لظلمهم ، أو لأن مجرد هذا الطلب كان دليلا على أنهم يكفرون بالله ، وبقيمة ومناهجه.

وأوضح الله لهم البينات لقد عبروا البحر بعد أن انفلق لهم وتحول الى طريق سالكة ، ولقد قضى الله على عدوهم فرعون بالموت غرقا.

ولقد نزل عليهم المن والسلوى وتفجرت لهم الصخور بالمياه العذبة ، ومع كل ذلك عبدوا العجل ، أفلا يدل ذلك على ان لهم دوافع مصلحية تدعوهم الى الكفر؟!

(ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً)

٢٤٤

استطاع بذلك السلطان قمع التمرد المتمثل في عبادة العجل ، وقتل الكثير من الداعين اليه ، وضمن الوحدة الفكرية لبني إسرائيل.

[١٥٤] ومثل آخر من واقع بني إسرائيل أيضا ، حين اقتطع الله قطعة من الجبل فوضعها فوق رؤوسهم ، وهددهم بإفنائهم حتى تعهدوا له بتطبيق الميثاق ، ثم أمرهم بأن يدخلوا المدينة ساجدين لله سبحانه لا متكبرين ولا طامعين ، ونظم حياتهم ، فأمرهم بألّا يصيدوا يوم السبت ، وأخذ منهم ميثاقا وتعهدا شديدا بأن يطيعوا أوامره. فهل فعلوا؟! كلا ..

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ)

أي رفعنا فوق رؤوسهم الجبل ليتعهدوا بالميثاق والعهد.

(وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً)

لله ، والباب هو باب المدينة التي فتحها الله لهم بعد أن تعبوا من حياة البداوة ، وسألوا الله بأن يرزقهم حياة الزراعة والتحضر.

(وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ)

أي لا تتعدوا حدود الله في السبت.

(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)

[١٥٥] ولكن لماذا نقضوا الميثاق ، وكفروا بآيات الله ، وقتلوا الأنبياء ، وابتعدوا نهائيا عن اتباع الحق ، وبرروا ذلك لأنفسهم ، بأن قلوبنا مغلقة ، ولا تستطيع أن تستوعب هذه الحقائق ، أو ليس لأنهم كفروا؟! فلما كفروا طبع الله على قلوبهم ، وأغلق فيها نوافذ الهدى ، ولم يعطهم الهداية التي هي منّة الله ،

٢٤٥

وكان مثلهم مثل الذي أغمض عينه عن الشمس حتى غابت عنه فهل يستطيع أن يراها حتى ولو فتح عينه؟ كلا ..

أنهم اختاروا العمى على الهدى ، فسلب الله عنهم نور الهدى جزاء لكفرهم به.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ)

بالطبع لا يكون قتل النبي بحق ، وانما جاء القرآن بكلمة (بغير حق) تأكيدا ، أو أراد أن يبين أنهم لم يقاتلوا الأنبياء ، فيقتلوهم في الحرب مما قد يوحى الى البعض أن قتلهم حق ، كلا ..

إنما قتلوهم صبرا ، ومن دون أي مبرر حتى عندهم هم ، وحسب مقاييسهم الجاهلية.

(وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ)

أي مغلفة. لا تستطيع أن تستوعب نور الحق ، وهذا تبرير سخيف يتوسل به كل المعاندين الذين يريدون قطع الجدل على من يخاصمهم ، فيقولون هكذا خلقنا الله ، أننا لا نفهم ، أننا لا نستطيع أن نؤمن ، وبالتالي يلقون بمسؤولية كفرهم على الله سبحانه ، ولكنه كذب واضح.

(بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ)

فهم كانوا قادرين على فهم الحقائق ، وقد ساواهم الله في نعمة العقل ، وفرصة الهداية كالآخرين ، ولكنهم سدوا على أنفسهم الطرق بكفرهم بالله ، وعنادهم المتعمد وحتى الآن هم قادرون على تغيير مسارهم ، ولكن بصعوبة كبيرة ، وذلك بأن يتركوا عنادهم ويتوبوا الى الله من جحودهم ، وآنئذ يتوب الله

٢٤٦

عليهم ، ويعيد إليهم نعمة العقل ونور الهدى المسلوب عنهم.

بيد أن هذه العملية صعبة جدا ، ولا يقوم بها الا قليل منهم.

(فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً)

بيد أن وجود هذه الفئة القليلة التي تؤمن من بعد الكفر لدليل على سخافة فكرة (حتمية الضلالة) التي تشبثوا بها لتبرير كفرهم.

قصة المسيح وأمه :

[١٥٦] كيف كفر هؤلاء حتى طبع الله على قلوبهم؟

انهم كفروا بعيسى ، وأضافوا على كفرهم اتهام أم عيسى الصديقة مريم ببهتان عظيم.

(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً)

اتهموها بالزنا لإسقاط شخصية نبيهم عيسى في أعين الناس ، وكانوا يعلمون ان هذه تهمة باطلة ، وأنها تهمة كبيرة.

[١٥٧] وأيضا بهدف إسقاط شخصية عيسى في نظر الجماهير ، وبالتالي إسقاط رسالته قالوا : انا قضينا على عيسى ، قالوه كذبا ، وانما قتلوا رجلا آخر شبيها بعيسى.

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ)

وانما كرّم القرآن اسم عيسى هنا بأنه كان المسيح وهو ابن مريم الصديقة ، وهو رسول الله ، لكي يقابل محاولة اليهود لإسقاط شخصيته في أعين الناس.

٢٤٧

(وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)

فقد قتلوا شخصا آخر ، أو أنهم تصوروا قتل المسيح بيد أنه كان قد رفع الى السماء حيا.

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ)

ومجرد اختلافهم في كيفية قتله لدليل على أنهم لم يقتلوه يقينا ، وإلا فعملية القتل خصوصا لشخصية كبيرة كعيسى لا يمكن ان تبعث الشك والتردد ، بل تكون موضع يقين واتفاق الجميع.

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ)

ذلك الظن الآتي من غياب عيسى فادّعوا بأنهم قتلوه ، وبعض أدّعوا بأنهم صلبوه.

(وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً)

علما بأن القتل يكون شيئا يتيقن الإنسان به.

[١٥٨] انما استعاده الله ورفعه الى السماء ، وهو حيّ يرزق والله قادر على ذلك بعزته ، وهو حكيم يرفع عيسى بعد ان أدّى رسالته ، وانتهت وظيفته.

(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)

متى يؤمنون :

[١٥٩] وهؤلاء الذين يقرءون الكتاب يعلمون ان عيسى لم يكن سوى رسول من الله. وان ارتيابهم فيه ليس الا بهدف المصالح ، أو بسبب ضيق

٢٤٨

النفس ، وعامل الحسد والكبر وحين تسقط عنهم حجب الريب فتنتهي المصالح ، ويطهر القلب من الحسد والكبر. آنئذ يؤمنون بعيسى ، ولكن متى يتحقق ذلك؟

إنما يتحقق عند الموت ، فعند الموت يفكر الإنسان تفكيرا جديا سليما بعيدا عن مؤثرات الدنيا الفانية ، وآنئذ يعرف الحقائق ، ويعلمها يقينا.

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)

بماذا يشهد عليهم ، أنه يشهد بكذبهم وجدلهم ، ومحاربتهم له. لا لشيء الّا لأنه حمل إليهم رسالة الله ، وأراد لهم الخير ، يشهد على أنهم إنما كفروا به بعد أن عرفوه ، وأن ارتيابهم فيه لم يكن سوى غطاء لحسدهم وحقدهم.

والإنسان حين يتصور نفسه في لحظة مفارقة الحياة ولقاء الله ، آنئذ يكتشف زيف كثير من التبريرات التي يمني نفسه بها ، ويرى الحقائق بوضوح تام ، وعلينا إذا ان نتصور ذلك بين فترة وأخرى لعلنا نهتدي الى الحق.

علاقة الكفر بنقص النعم :

[١٦٠] ان كفر اليهود (وجحودهم وعنادهم) سبب لهم العمى ، وان الله طبع على قلوبهم ، وبالتالي سبب لهم انحرافا رئيسيا في الحياة كما رأينا وانتهى بهم الى نقض الميثاق ، وقتل الأنبياء ، وادعاء قتل عيسى.

أما ظلمهم (تعديهم على حقوق بعضهم) فقد سبب لهم حياة البؤس حيث لم يستطيعوا التلذذ بنعم الله في الحياة.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)

هل حرمها الله عليهم تحريما تشريعيا (كما حرم عليهم أنواعا من اللحم) أم

٢٤٩

حرمها عليهم طبيعيا ، أي منعها عنهم بطريقة تكوينية. كما حرم مثلا على موسى وهو رضيع المراضع.

قد يكون هذا وذاك معا. إذ أن الامة الظالمة يشدد الله عليها في التشريع كما أن المجتمع الظالم يستوجب نظاما شديدا وقوانين رادعة كثيرة ، وقد كان بنو إسرائيل من هذا النوع ، ولذلك رأينا كيف أن الله تشدد معهم في قصة البقرة لظلمهم ، وهكذا.

والامة الظالمة لا تتنعم بنعم الله ، لان كل فريق منهم يحاول الاستيلاء على حقوق الفريق الآخر ، ولا يحاولون أن يتحدوا ، ويكثفوا الجهود من أجل تحقيق رفاهية الكل واستغلال موارد الطبيعة من أجل خير ورفاهية الجميع.

ولكن يبقى سؤال : ما هو الظلم الذي يمنع النعم؟.

الجواب : أولا : منع الناس عن الاكتساب ، ووضع عراقيل أمام الطاقات أن تحقق الرفاه مما يسميه القرآن هنا بسبيل الله.

ومن الطبيعي أن تتخلف الامة التي تكبل الكفاءات وتضع عليها قيودا كثيرة.

ثانيا : باستغلال القوي للضعيف حيث ان القوي يتكاسل ـ إذ ذاك ـ عن العمل البناء ، ويكتفي بما يستغله من الناس.

والضعيف لا يؤدي دوره لأنه مستغل ، ويضرب القرآن لنا بمثلي أخذ الربا ، وأكل اموال الناس بالباطل .. فالأول : استغلال مبطّن والثاني : استغلال سافر.

(وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً)

٢٥٠

علم راسخ ، وفطرة ايمانية :

[١٦١] (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً)

بما أن الحديث السابق كان عن بني إسرائيل على وجه الإطلاق وبصفة عامة فقد خصص القرآن العذاب للكافرين منهم لكي لا يزعم أحد : أن كل بني إسرائيل كفار ، ولكن يستثني منهم طبقة خاصة يتحدث عنها في الآية التالية.

[١٦٢] (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ)

الذين لم يتخذوا العلم وسيلة ارتزاق ، بل منظارا لمعرفة الحياة.

(وَالْمُؤْمِنُونَ)

الذين طابت نفوسهم ولم تحمل رواسب الجاهلية ، وهذه الآية تدل على ان البشر يجب ان يتمتع ، أما بعلم راسخ أو بفطرة إيمانية نظيفة ، وبالتالي : أما أن يفهم الحقائق كلها شخصيا ، أو يسلّم لمن يفهمها بعد أن يكتشفها ببصيرة طاهرة ، ويتجرد عن ذاته ، ويتسلح بصدق وصفاء.

(يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً)

٢٥١

إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً

٢٥٢

وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠)

٢٥٣

دلائل صدق الرسالة

هدى من الآيات :

في اطار الحديث عن الطبقات الاجتماعية انتهى القرآن في حديثه السابق الى طبقة الكفار ، وضرب مثلا من واقع بني إسرائيل الذين طالبوا الرسول بكتاب ينزل من السماء ، وغلفوا دوافع كفرهم بهذه المطالبة فردهم القرآن ، وبيّن ان للكفر دوافعه النفسية والمصلحية والاجتماعية.

أما لو أوتي البشر رسوخا في العلم أو ايمانا فانه لا يكفر ، وفي هذا الحديث يسوق القرآن بعض البينات على رسالة الرسول ، فيقول :

أولا : ان الرسالة ليست جديدة على الناس ، بل هي امتداد للرسالات السماوية السابقة التي نزلت على النبيين.

ثانيا : أن الهدف من الرسالة الّا يبقى للناس على الله حجة ، فلا يعذبهم دون ان ينذرهم سلفا.

٢٥٤

ثالثا : ان الله هو الشاهد على صدق الرسالة ، فكل من يعرف الله يعلم ان الله يحب الخير ، ويدعو الى الإحسان والصدق والفداء ، وكل تلك القيم تتفق وروح الرسالة ، ثم يبين الله مصير الكفار بالرسالة فقال : أنهم منحرفون عن الصراط ، وان طريقهم يؤدي بهم الى النار.

ويأمر الناس أخيرا بأتباع الرسالة لأنها خير للناس ، وأنهم لو خالفوها فلن يضروا الله شيئا ، بل انما يعرضون أنفسهم لعقاب الله وسخطه العظيم.

بينات من الآيات :

خط الأنبياء :

[١٦٣] لأن وحي الله لبعض عباده خرق لعادة الطبيعة ، ومخالفة للسنن التي يألفها الناس ، لذلك كان يردّ مدعي الرسالة ، وأوضح تبرير لردّه كان مخالفته للمألوف الذي تعود على الناس ، ولكي يتجاوز القرآن هذا الحاجز النفسي المانع للناس عن اتباع الرسالة. ذكرهم بأن هناك سلسلة طويلة من الأنبياء على فترات من التاريخ ، إذا فليس الرسول بدعا من الرسل ، ولا هو عجيب من امر الله الذي بعث الأنبياء السابقين.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)

بعد نوح جاء أنبياء كثيرون لا يعرف عنهم التاريخ شيئا ، ولذلك أشار القرآن هنا الى ذكرهم أشارة ، كما لا يعرف بالضبط الفترة الفاصلة بين نوح وإبراهيم.

(وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً)

٢٥٥

وبالرغم من ان الزبور لم يكن كتاب تشريع ، بل كتاب دعاء وابتهال ، فانه أوحي الى داود وحيا ، مما يدل على ان الله أوحى الى بعض رسله حتى الادعية والابتهالات.

[١٦٤] هؤلاء بعض رسل الله. وهناك آخرون لا يعرفهم الناس فمن قال لكم : إن الرسالة مخالفة لسنة الله ، أو لطبيعة الحياة كلا انها جزء من هذه الطبيعة ، وتلك السنة ، وان ابسط دليل على ذلك هو وقوعها بشكل مكرر.

اننا نعرف ان المطر جزء من سنة الحياة لأننا نرى وقوعه مكررا ، وان الزلازل جزء من طبيعة الأرض ، لأنها تقع بشكل مكرر وكذلك الرسالات ما دامت توحي بشكل مكرر فانها جزء من سنن الحياة ..

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)

وهناك أكثر من مجرد الوحي ، بل كان هناك تكليم مباشر من قبل الله مع الإنسان ، وبالطبع دلالة الحديث المباشر أقوى من الوحي من وراء حجاب.

(وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً)

التبشير والتحذير وظيفتا الرسل :

[١٦٥] كانت الغاية من بعث الرسل هي : التبشير بحياة أفضل ، والتحذير من الهلاك ، حتى لا يقول الناس غدا : ربنا لم لم تبعث إلينا الرسل حتى لا نضل ولا نقع في الهلاك ، ان هذا الهدف العقلاني لدليل على ان الله قد بعث الرسل بالتأكيد ، ثم لأن الله قادر على بعث الرسل لا ريب في ذلك ولأنه حكيم ، فهو

٢٥٦

لا يعذب البشر قبل ان يقطع عليهم الحجج ، ويسوق إليهم بالاعذار.

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)

فلو لم يبعث الرسل بالبشارة والإنذار ، ثم عذاب من عذب ونعم من نعم ، إذا لكان ذلك مناقضا لعزته وحكمته ، وبالتالي دليلا على انه أما أن يكون غير قادر ، أو غير عارف بالمصالح وبظرف العمل سبحانه عن ذلك.

شهادة الله دليل صدق الرسالة :

[١٦٦] والدليل الثاني على صدق الرسالات شهادة الله الذي انزل الوحي بعلمه ، ولكن كيف يشهد الله؟

ان الله زود الإنسان بعقل ، وان عقله يهديه الى معرفة الله من خلال التفكر في آيات الوجود ، بل ويهديه الى معرفة صفات الله الحسنى ، والى طائفة كبيرة من تعاليمه وقيمه.

ان نظرة واحدة الى الكون تهدينا الى ان الله عادل ، وأنه رحيم يحب الخير والإحسان ، وانه يكره الفسوق والظلم والفاحشة ، ونحن نعرف ذلك من خلال العدالة المنتشرة في أرجاء الكون ، ومن خلال الرحمة التي تتمثل في نعم الله على الحياة ، ومن خلال وصول كل فرد الى جزاء عمله ، وهكذا يعرف العقل قيم الله التي تطابق الرسالات السماوية التي يوحي الله بها الى الأنبياء ، فبنظرة واحدة الى برنامج الرسالات يكتشف الفرد صدق هذه الرسالة وارتباطها بالله ، وانها تتفق وقيم العدالة والخير والرحمة ، وانها بالتالي أنزلت بعلم الله.

٢٥٧

شهادة الملائكة :

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)

كيف تشهد الملائكة؟ هل ان شهادة الملائكة تعني ان حقائق الكون وقوى الطبيعة تتفق ورسالات السماء ، باعتبار ان الملائكة هي القوى العاقلة الموكلة من قبل الله بالطبيعة؟

ربما كان ذلك ، وربما ان الملائكة يشهدون بدعم جبهة الرسالة عمليا كما فعلوا في بعض حروب الرسول ، أو ان الملائكة هي تعبير عن نوازع الخير في قلب الإنسان ، تلك النوازع التي تدعمها الملائكة ، وتخالفها الشياطين ، وحين تتفق نوازع الخير ورسالات السماء نعرف ان الملائكة يشهدون على صدقها.

ألم يشر الرسول مرة الى قلب واحد من الاعراب وقال له : «ما قال لك هذا فافعله فانه الحق».

المهم أن الله وملائكته يشهدون بصدق الرسالة وبطرق شتى.

شهادة الكفار دليل حي :

[١٦٧] وهناك شهادة على صدق الرسالة تأتي من الطرف الثاني أي من الكفار أنفسهم ، حيث أن مقاومتهم لقيم الرسالة ومن أبرزها : الحرية والعدالة تجسد أمامنا الضلالة بكل ما فيها من قبح وبطلان.

إنك قد لا تشعر بمدى خطورة الكبت والقهر والظلم الا حين تراها مجسدة في نظام طاغوتي ، وترى كيف تسحق كرامة الناس ، وتغتصب حقوقهم ، وتصادر حرياتهم في ظل هذا النظام ، آنئذ تفهم مدى بطلان الايديولوجية التي يعتمد

٢٥٨

عليها هذا النظام ، كما تعرف صدق الفكرة التي تخالفه وتخالف ايديولوجيته.

إذا نظرة الى جبهة الكفر كافية للدلالة على صدق الرسالة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً)

وسبيل الله هو كل خير يدعو اليه الله وينتهي اليه.

[١٦٨] هؤلاء يصادرون حريات الناس ولا يدعونهم يتمتعون بنعم الحياة ، وبالتالي يصدونهم عن سبيل الله ، كما انهم يصادرون حقوق الناس وأموالهم ، فهل يمكن أن يكون هؤلاء على حق؟ ويكون الرسول على باطل؟ وهل يمكن ان يدخلهم الله الجنة ويدخل الرسول النار؟ كلا إن الرب الذي نعرفه من خلال نعمه السابقة ، ورحمته الواسعة ، وعدالته الشاملة ، وبالتالي من خلال أسمائه الحسنى في الكون ، إنه لا يرضى بالتاكيد عن الظلم ، وانه يخالف تلك الفكرة التي تدعو الى الظلم ، وبالمقابل يؤيد تلك الرسالة التي تدعو الى العدالة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً)

[١٦٩] (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)

فبالرغم مما يملك هؤلاء من عز وسلطان في الدنيا مما يعظم في أعين الناس ، فإنهم هناك في الاخرة منبوذون في النار خالدين فيها ، لان عزتهم وسلطانهم لا شيء عند قدرة الله وسلطانه.

الواقع دليل بارز

[١٧٠] ودليل أخر على صدق الرسالة دليل واقعي آت من تجربتها العملية ، حيث نكتشف من خلال التجربة ان تطبيق الرسالة يؤدي الى الخير (الرفاه ،

٢٥٩

والسعادة ، والحرية ، والعدالة) لأنها حق ، ومطابقة لواقعيات الحياة وسننها وقوانينها.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)

اي انه قادر غني عنكم وعن عبادتكم ، ولكنه لا يوفر لكم الخير الا بعد اتباعكم لرسالته ، لأنه حكيم ولأنه عالم بأعمالكم ، ويجازي عليها إن خيرا فخيرا وان شرا فشرا.

٢٦٠