من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

نزلت على موسى في التوراة ، أو على عيسى في الإنجيل ، أو على محمد في الكتاب المهيمن على التوراة والإنجيل.

ويسوق القرآن الكريم من تاريخ بني إسرائيل كيف ان مخالفتهم لأوامر السماء جعلتهم يتيهون في الأرض أربعين سنة ، ثم يبين حكم القتل بعد بيان قصة ابني آدم حيث وقعت أول جريمة قتل (الآيات ١٥).

ومن القتل ينتقل القرآن الى حكم الفساد في الأرض (قطاع الطرق) ومنه الى جريمة السرقة ، ومنها الى جريمة التجسس مما يرتبط جميعا بقضية الأمن الاجتماعي. (الآيات ٣٣).

ويبّين ضرورة الالتزام برسالات السماء انى كانت وأن من يخالفها كافر أو ظالم أو فاسق حسب طبيعة المخالفة ، ويسوق أمثالا لهذه المخالفات الثلاث .. (الآيات ٤٣).

بيد انه ليس من الضروري لاقامة الدولة الاسلامية أتباعهم لان القيادة والهيمنة تكون للإسلام ، حيث لا يجوز للقائد اتباع أهوائهم لأنها جاهلية (الآيات ٤٨).

والولاء السياسي داخل المجتمع المسلم يجب ان يكون خالصا للقيادة الاسلامية (الآيات ٥١).

وبعد ان بيّن القرآن طبيعة الولاء السياسي داخل المجتمع المسلم ، والذي سماه بحزب الله (الآيات ٥٤) عاد وحذر من ازدواجية الولاء ، وبيّن بعضا من مساوئ أهل الكتاب ، ومن أبرزها حقدهم على المسلمين ، ومسارعتهم في الإثم والعدوان ، وقولهم يد الله مغلولة وفسادهم في الأرض

٢٨١

(الآيات ٥٧).

وماذا يستفيد الناس من تطبيق شريعة الله؟ يجيب القرآن : بأنهم سوف يأكلون من فوقهم ومن تحت أرجلهم إذا طبقوا كتب الله ، هذا في الدنيا ، اما في الاخرة : فسوف يرزقهم الله جنة النعيم (الآيات ٦٥).

وعلى الرسول ان يبلغ رسالة الله في كل الشؤون (ومن أبرزها قضية القيادة الاسلامية) ولا يخشى أحدا (الآية ٦٧).

ذلك أن رسالة الله هي خير للناس وان الأمة لا تساوي شيئا لو لم تطبق هذه الرسالة بالكامل ومن دون زيادة فيها (الآية ٦٨).

وان قيمة الايمان والعمل الصالح هي القيمة الاساسية التي يقاس بها الأشخاص في المجتمع الاسلامي على اختلاف انتماءاتهم (الآية ٦٩).

ولكن حرّف أهل الكتاب دينهم ، واتبعوا أهواءهم حتى انه لو جاءهم نبي يخالف أهواءهم كذبوه أو قتلوه ، وزعموا انهم بقتله ضمنوا لأنفسهم حياة هانئة ، ولكن كانت النتيجة بالعكس من ذلك تماما (الآية ٧١).

اما النصارى فقد اتخذوا المسيح إلها بينما كان المسيح يدعو الى الله ، وينهى عن الشرك به ومنهم من قال : ان هناك آلهة ثلاث ، المسيح واحد منهم ، وهؤلاء كفار سوف ينالون جزاءهم إذا لم يستغفروا ربهم.

إذا ، لم يكن المسيح سوى رسول مثل سائر رسل الله ، وأن امه صديقة ، وان اي شخص يعبد من دون الله لا يملك ضرا ولا نفعا فهو الأخر عبد لله ، وإنما تسربت فكرة تعدد الألهة الى الرسالات السماوية من أفكار الجاهلية ، وقد

٢٨٢

حاربها كل أنبياء الله ومن بينهم ـ المسيح بذاته (الآية ٧٨).

وهؤلاء الذين أدخلوا هذه الأفكار الكافرة في الرسالات هم كفار وبعيدون عن روح الرسالة ، وابسط دليل على ذلك انهم لا يتناهون عن المنكرات ، وان كثيرا منهم يتخذون الكفار قادتهم وأولياءهم ، وهذه صفة الكفر ، إذ لو كانوا يؤمنون بالله حقا ، لما اتخذوا الكفار أولياء ، بيد ان بعضا من علماء النصارى لا يزالون متمسكين برسالة الله ، وان لهم جزاء حسنا. وبهذا السرد أراد القرآن فصل قيادة المجتمع الاسلامي عن اليهود والنصارى ، ثم عاد يتحدث عن : تنظيم الحياة الاجتماعية وضرورة الانتفاع بالطيبات في اطار مراعاة حقوق الناس.

ومن الحقوق مراعاة اليمين الذي ينظم جانبا من حياة المجتمع.

والمجتمع الاسلامي متماسك لأنه بعيد عن الطيش (هو سبب من أسباب النزاعات الجاهلية) فلا خمر ولا ميسر ولا أنصاب ، ولا أزلام داخله.

ولا يعني ذلك ان كل لذة حرام في هذا المجتمع. كلّا إذ أن كل شيء حلال في حدود القانون الذي تحصنه التقوى والإحسان (الاية ٩٢).

فمثلا : كل الطعام حلال إلا بعض الصيد ، الذي جاءت حرمته امتحانا وتربية للناس وذلك هو الصيد وقت الإحرام ، ويختص ذلك بصيد البر اما صيد البحر فهو حلال حتى في وقت الإحرام وتكميلا للصورة .. تحدث القرآن قليلا عن الكعبة ، وانها تخدم النظام الاجتماعي. فلو حرّم الله الصيد خلال رحلة الحج فلأن ذلك سوف ينتهي الى تنظيم الحياة الاجتماعية الآية : (٩٧).

وبعد ان تحدث القرآن عن ضرورة الالتزام بتعاليم السماء ، بينّ سخافة

٢٨٣

بعض ما ألصق بالدين من خرافات وأساطير.

وبالتالي بيّن : ان الزيادة في الدين هي بمثابة النقيصة فيه. لا تصلح الحياة به (الآية ١٠٣) وانها جاءت نتيجة التقاليد الجاهلية ، وان على الامة أن تتحصن ضد هذه التقاليد ولا تأبه بها (الآية ١٠٥).

وتنظيما للحياة الاجتماعية يأتي دور الشهادة حيث انها تحصن المجتمع من الاستهتار بالحقوق ، ويبين الله احكام الشهادة هنا بايجاز ضمن مثل حي (الآية ١٠٨).

ثم يعود الى الحديث عن الرسل ودورهم الذي لا يتعدى البلاغ ، وانهم حتى لو فعلوا المعجزات فانما بإذن الله ، وبما أتاهم من قوة وعلم ، وان الرفاه الاجتماعي الذي يعقب الرسالات السماوية ، انما هو من الله كما انزل الله مائدة من السماء على الحواريين ، فان نزول المائدة لا يدل على ان عيسى كان إلها ولذلك فهو يسأل يوم القيامة عن مقالة الناس فيه ولكنه ينتصل فورا عن فعله اتباعه لان الملك لله وحده (الآية ١٢٠).

٢٨٤

سورة المائدة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ

____________________

١ [بالعقود] : عقود جمع عقد وهو كل التزام وميثاق بين جانبين.

[بهيمة] : البهيمة من الإبهام ، ويراد بها كل دابة ، وسميت بهيمة لأنها أبهمت.

٢ [شعائر] : الشعائر جميع شعيرة ، وهي أعلام الحج واعماله واشتقاقها من قولهم :

شعر فلان بهذا الأمر إذا علم به.

[القلائد] : جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي ، والتقليد في البدن أن يعلّق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي.

٢٨٥

الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)

____________________

[شنأن] : بغضاء وعداوة.

٣ [أهل] : اي ما ذكر عليه غير اسم الله ، وهو ما كان يذبح لأجل الأصنام.

[تستقسموا] : الاستقسام طلب القسمة.

[الأزلام] : جمع زلم وهو القدح اي السهام التي كانوا يجيلونها للقمار [مخمصة] : شدة ضمور البطن.

[متجانف] : المتمايل للاثم ، المنحرف اليه.

٢٨٦

ركائز المجتمع المؤمن

هدى من الآيات :

لتأمين الحد الأدنى من الحضارة تحتاج البشرية الى تبادل موارد الرزق ، فيعطي كل إنسان الفائض من غذائه للآخر بدلا من اخذه الفائض من غذاء الآخرين.

وقد بدأ القرآن سورة المائدة التي خصصت لتنظيم الحياة الاجتماعية العامة بتقرير مبدأ الوفاء بالعقود حيث انها تنظم علاقات الأفراد الضرورية لتعاونهم في التجارة.

وقد تعيش مجموعة من الناس بغير مناهج ـ اقتصادية ، اجتماعية ، سياسية ، خلقية ـ ، ولكنهم كمجموعة يكاد لا يجتمعون بدون تبادل تجاري.

ولكن مبدأ الوفاء بالعقود يجب ان يكون في اطار النظام الاقتصادي العام للإسلام.

٢٨٧

لذلك تحدث القرآن عن المباحات والمحرمات فور حديثه عن العقود وقال ان بهيمة الانعام حلال والصيد في الإحرام حرام ، كما يحرم شعائر الله والشهر الحرام ، والهدي والقلائد ، ويحرم إيذاء من يقصد البيت الحرام لغرض التجارة أو الحج ، وكذلك الاعتداء على الآخرين حتى ولو كانوا هم البادئين.

ثم يبين بالمناسبة ضرورة التعاون لتحقيق الخير للمجتمع ولتطبيق نظام الله الذي فيه السعادة.

وعاد الى الحديث عن بعض المحرمات مثل الميتة والدم ولحم الخنزير ، وبين ان من الضروري تجنب العادات الجاهلية دون خوف ، لان الدين كامل لا نقص فيه ، وفي حالة الضرورة يجوز الانتفاع بالمحرمات ، ولكن بقدر الضرورة ومن دون الانحراف الى المحرم ولو نفسيا.

بينات من الآيات :

الوفاء بالعقود :

[١] يجب الوفاء بالعقد أي تطبيقه تطبيقا تاما ، حسب ما تراضى عليه وتعاهدا به الطرفان والعقد : هو العهد والميثاق أو هو الالتزام المتبادل حيث يلتزم كل طرف بشيء في مقابل التزام الطرف الثاني بما يقابله.

ومبدأ وجوب الوفاء بالعقد وجوبا شرعيا ، لأنه يلزم صاحبه حقا من حقوق المجتمع. ان هذا المبدأ يجعل كل عقد مشروعا سواء كان تجاريا أو غيره ، وسواء كان عقدا معروفا بين الناس في عهد الإسلام الاول أم لا ، كما يجعل هذا المبدأ التشريع الاسلامي يواكب تطورات الزمن.

٢٨٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)

ولعلنا لا نجد في كتب القانون والفقه كلمة موجزة كهذه الكلمة تفيض بعشرات الأحكام والقوانين العامة ، وربما جاء التعبير ب «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا».

للايحاء بأن الوفاء بالعقود يدخل ضمن ركائز المجتمع المؤمن ، وكأنه يقول : ايها المجتمع المؤمن عليك الوفاء بالعقود.

ومبدأ الوفاء بالعقود يوحي بحرية التجارة الا ان بقية الاية تحدد هذه الحرية باطار التشريع الاسلامي العام الذي يحل أشياء ، ويحرم اخرى.

(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ)

أي الانعام التي لا تفهم شيئا ، هي حلال عموما إلا بعض المستثنيات.

(إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ)

ومن هذه الاستثناءات :

(غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)

اي الاصطياد في حالة الإحرام ، اما الصيد في غيرها فهو جائز ويوجب الملكية.

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ)

وعلينا الا نتصور أننا أحرار في شؤوننا نختار النظم التي تعجبنا .. كلا. فالحاكم هو الله وحده.

٢٨٩

إذا هناك حرية وانطلاق في الإسلام في حرية التعامل التجاري وحيازة المباحات ، ولكن في حدود الارادة العليا لخالق الكون ، والمصلحة العليا للانسانية وفي الآيات تفصيل مبين لهذه القضايا.

أنواع الأحكام :

[٢] ما هو الحكم الذي يفرضه الله حسبما يريد؟

يضرب الله لنا مثلا واقعيا لهذا الحكم فيقول : ان احكام الله الاجتماعية نوعان :

الف / هناك احكام تحافظ على أمن الناس ، وتصون حريتهم ، وتعطي لكل إنسان فرصة للانطلاق وذلك مثل اقامة أماكن حرة تنحسر عنها الاعتداءات باي مبرر كان فلقد جعل الله ـ الكعبة البيت الحرام ـ وفرض فيه السلام والأمن ، واعطى الحرمة والحصانة لكل من دخله لكي يستطيع القادمون من تبادل التجارة وتداول الأفكار والتعارف على بعضهم ، وبالتالي التعاون في سبيل الخير.

ان الهدف من هذا النوع من الأحكام هو حفظ الناس من شرور بعضهم وفسح المجال أمام كل الطاقات ان يساهم في بناء المجتمع.

باء / وهناك نوع من الأحكام تنظم علاقة الإنسان بالطبيعة والهدف منها صيانة البشر من أضرار الطبيعة ، وذلك مثل حرمة الميتة والدم ولحم الخنزير وما أشبه.

وعن النوع الاول يحدثنا الله سبحانه قائلا :

٢٩٠

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ)

اي لا تجعلوا الشعيرة التي جعلها الله حراما ، إحلالا والشعيرة هي البهائم التي تساق الى بيت الله يحرم الاعتداء عليها بالسرقة أو النهب ، أو انها الحج نفسه وفيما يلي توضيح ذلك

(وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ)

اي لا يعتدي بعضكم على بعض في الشهر الحرام ، ولا يسرق أو ينهب أحدكم الهدي الذي اختص بالكعبة ، ولا تأكلوا البهائم التي تقلد برقابها قلادة للدلالة على انها تساق الى بيت الله.

غرض كل هذه الأحكام هو تبيين حرمة الكعبة على الناس ، وهي مقدمة لفرض جو من السلام على ربوع تلك البلاد المقدسة ، وعلى الطرق المؤدية إليها من كل أفق بعيد ، لذلك قال الله بعدئذ :

(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ)

اي الذين يقصدون زيارة البيت الحرام ، فلا تعتدوا عليهم ولا تحلوا حرمتهم ذلك لأنهم يهدفون رزق الله ورضاه.

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً)

اي انهم لا يريدون سلب أموال الناس ولا الاعتداء على حقوقهم ، بل يريدون الحصول على رحمة الله المتمثلة في حيازة المباحات ، أو التبادل التجاري ، كما أنهم لا يهدفون الخروج على الانظمة الاسلامية بالحصول على مكاسب غير مشروعة بل يبتغون رضوانا من الله ، من هنا نعرف ان الذين يقصدون من وراء

٢٩١

الحج أكل أموال الناس بالباطل أو مخالفة احكام الله فإنهم لا حرمة لهم.

ان الطبيعة واسعة وبإمكان الجميع ان ينتفعوا بها دون مزاحمة الآخرين ، وإذا استل من قلوب الناس الأحقاد وروح الاعتداء ، استطاع الجميع الاستفادة من نعم الله. بيد ان هذه الأحقاد تأتي عادة بسبب ردة الفعل ، فكل طرف يتصور انه ليس هو المبتدء بالاعتداء وانما يقتصّ ممن أعتدوا عليه باعتداء مماثل وهذا هو الذي يقف حاجزا امام تعاون الجميع.

وعلى الجميع ألّا يدفعهم الاعتداء على مضاعفة الرد (الصاع بصاعين) ، ولا ان يخرجهم من حدود العدالة ، وانئذ فقط يمكن للجميع أن يتعاونوا.

(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)

ان الله جاء بهذا التمهيد لتوجيه الإنسان الى نعم الله الواسعة ، وإبعادهم عن النظر إلى أموال بعضهم ولذلك لم يلبث ان قال :

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا)

اي لا يحتم عليكم اعتداء الآخرين عليكم مقابلتهم بالمثل ، وذلك بأن تعتدوا عليهم قصاصا على أنهم منعوكم عن المسجد الحرام ردحا من الزمن. كلا ... ان شنآن هؤلاء وعداوتهم لكم يجب الا تخرجكم عن اطار العدل بل العكس من ذلك. عليكم ان تهدفوا تحقيق التعاون.

التكتّل الايماني :

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)

٢٩٢

هنالك تكتلات عدوانية الهدف منها ظلم الناس واستغلالهم مثل تكتل التجار المحتكرين ضد المستهلكين ، وتعاون الانظمة الجائرة ضد الشعوب المستضعفة ، وهذه لعنة سوداء ..

وهناك تكتلات تهدف إشاعة الخير ، وتطبيق النظام. أما إشاعة الخير ـ فهي البر ـ وليس البر أن تسعد على حساب غيرك ، بل أن تسعد ويسعد الجميع معك.

وأما النظام وتطبيقه فهو التقوى إذ هو الحذر من الله ، واتقاء بلائه ، وهو لا يكون إلا بتطبيق نظامه الذي أوحى به إلى رسله ، ومراعاة سننه التي أركزها في الطبيعة ، وبتعبير أخر يجب أن يكون الهدف من التعاون اشاعة الخير ومقاومة الشر أنى كان مصدرهما.

ويضع القرآن في مقابل البر الإثم ، وفي مقابل التقوى العدوان فالإثم هو الحصول على أموال الناس بالخديعة (الغش ـ السرقة ـ الاحتكار ـ التعاون مع السلطات الجائزة ـ الحلف الكاذب).

بينما العدوان : هو الاستيلاء على حقوق الناس بالقوة ، وبلا أي غطاء.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)

ومن أنواع عقابه الشديد أن يضرب بعضكم ، بعضا ، ويشعل بعضكم نار حرب بعض على بعض فيحترق الجميع.

أو إنكم بتحالفاتكم العدوانية يخشى بعضكم بعضا ، فيتوجه الجميع الى صناعة السلاح ويضع الميزانيات الرهيبة لغرض التدمير ، فتمتص ميزانيات التسلح ثرواتكم وتحرق جذور السعادة والرفاه ، فتصبحون على ما فعلتم نادمين.

٢٩٣

أو ليس هذا بعض ما يعيش فيه العالم؟!

أفلا يرجعون الى هدى الله؟! والى متى؟!

[٣] لكي يسعد المجتمع لا بد ان تنظم علاقاته ببعضه على أساس ثابت من العدل والتعاون ، كما لا بد أن تنظم علاقته بالطبيعة بحيث لا تضره شرورها. وقد بين القرآن في هذه الاية جانبا من تنظيم علاقة الإنسان بالطبيعة ، وبالذات جانبا من العادات المحرمة التي كانت شائعة في المجتمع الجاهلي انئذ فقال :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ)

لأنها كلها تضر بصحة الإنسان.

(وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ)

اي كل ذبيحة ذبحت على غير اسم الله.

(وَالْمُنْخَنِقَةُ)

الذبيحة التي قتلت خنقا وليس ذبحا.

(وَالْمَوْقُوذَةُ)

وهي التي ضربت بآلة غير حادة حتى ماتت (كأن ضربت بصخرة).

(وَالْمُتَرَدِّيَةُ)

التي وقعت من عال فماتت.

(وَالنَّطِيحَةُ)

٢٩٤

التي نطحتها البهائم حتى ماتت.

(وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)

وما تبقى من فضلاته الا إذا جرحها السبع وقبل ان تموت استطعتم ذبحها بالطريقة الشرعية.

(وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)

من أجل إرضاء الأصنام التي لا تضر ولا تنفع فعليكم اجتنابه لأنه يمتزج بعبادة الأصنام ، وبالتالي بالشرك.

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ)

تلك العادة التي كانت في الجاهلية حيث كان يجتمع طائفة من الناس ويساهمون في شراء شاة ثم يقسمونها بينهم لا حسب سهامهم بل حسب الأزلام حيث توضع أخشاب مختلفة في كيس أو في بطن صنم ثم يسحب كل واحد نصيبه ، فاذا خرجت له خشبة معينة يأخذ نصف الذبيحة ، وإذا خرجت اخرى لا يأخذ منها شيئا ، أو يأخذ الرأس فقط ، وهذا نوع من أنواع القمار المحرم.

ان الذبيحة تحرم في هذه الحالة إذا كانت قد ذبحت باسم الصنم الذي يقترع في بطنه على نصيب كل واحد من المشركين.

(ذلِكُمْ فِسْقٌ)

وعمل محرم يخرج الإنسان عن حدود التقوى ، بل عن حدود الايمان إذا كان بهدف التقرب الى الأصنام ، وبالتالي إذا كان العمل ذا خلفية شركية.

٢٩٥

وإذا كان الجاهليون قد تعودوا على هذه العادات السيئة فعلينا مقاومتهم وإياها ، وعدم التنازل لهم فيها ، ذلك لأن خطا واضحا قد رسم بيننا وبينهم فقد يئسوا منا ونحن بدورنا لا يجب أن نداهنهم ، ولا نتنازل عن بعض واجباتنا استسلاما لهم.

علينا ان نعرف ان ديننا كامل لا نقص فيه ، فلما ذا نرجع للعادات الجاهلية للاخذ منها.

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)

الإسلام هنا بمعناه اللغوي الذي استخدمه القرآن في سائر الآيات بمعنى التسليم لله ولمناهجه وانه دين الله الذي ارتضاه لنا ويتجسد في تقوى الله ، واتباع مناهجه ، وفي طاعة رسول الله وأولي الأمر من بعده الذين يشكلون الامتداد الرسالي والطبيعي لخط الله والرسول.

وبما ان سورة المائدة جاءت بعد سور القرآن كلها ، فان قضية تكميل الدين طرحت فيها ، وبالطبع تكون قضية القيادة الاسلامية هي أبرز وأهم القضايا المعلقة التي كمل بها الدين بعد نزول سورة المائدة ، وعرف الناس ان الائمة المعصومين عليهم السلام هم القادة الرساليون للأمة سواء حكموا البلاد سياسيا أم لا ... وسواء قاموا بمصالح الأمة العليا أم لم يقوموا.

بيد أن القيادة لا تعني شيئا في منطق الإسلام لو لم تنفصل عن رواسب الجاهلية ، بل لو لم تتحد الجاهلية بشجاعة ومن دون خشية ، وتطبق تعاليم الإسلام.

٢٩٦

لذلك جاءت الاشارة الى القيادة ضمن الحديث عن طائفة من عادات الجاهلية التي نسفها الإسلام ليعطي للقيادة بعدها الرسالي بحيث يجعلها لا تنفصل عن مناهج الدين ، فلا يعترف الإسلام بقيادة لا تطبق هذه المناهج وان اختفت تحت غطاء كثيف من الكلمات الدينية والشعارات الرسالية.

(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

أي إن الحالة الواحدة التي يجوز فيها الاكل من البهائم الميتة المحرمة هي حالة الاضطرار ، حين تعم المجاعة البلاد ، فيجوز الاكل منها بقدر الاضطرار بحيث لا يجوز ان يميل الى أكل الميتة ميلا نفسيا ، بل يظل يعرف ان الاضطرار هو السبب في أكل الميتة فمتى رفع الاضطرار استطاع بسهولة ان يقلع عن أكلها الميتة ، لأنه لم يتعود (لا أقل نفسيا) عليها.

٢٩٧

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)

٢٩٨

الضوابط القانونية في العقود

هدى من الآيات :

في ذات الوقت الذي يحرم الإسلام طائفة من الأشياء ، لا يريد ان يكبل البشر بهاجس الحرمة ، فيجمد عن الانطلاق والعمل ، لذلك يسد عليه أبواب الحرام ، ثم يفتح أبوابا اخرى ويدفعهم الى ولوجها ففي هذا الدرس يحلل الإسلام الطيبات بوجه عام فالقاعدة الأساسية هي حلية الطيبات الا ما استثني مما جاء فيه نص.

والأدوات التي تستخدم في الحصول على الطيبات هي الاخرى يجب أن تكون حلالا الا ما يتلى ومنها : أدوات الحيازة كالكلاب ووسائل التجارة ، أو كالتجارة مع أهل الكتاب ، فكلاب الصيد يجوز أكل ما أمسكن به من الأحياء بشرط أن يذكر الصياد اسم الله عليه.

كما يجوز التبادل التجاري مع أهل الكتاب للحصول على منافع مشتركة ، ليس هذا فقط بل حتى المتعة الجنسية غير المحرمة ، إلا في حدود معينة فيجوز

٢٩٩

التمتع بالنساء العفيفات سواء كن من المؤمنات أو من أهل الكتاب بشرط أن يلتزم كل طرف بواجباته ، فالزوجة تحصن نفسها ولا يتبعها لقاء ذلك أجر ، والزوج يؤدي أجورها بالكامل.

إذا فدين الله ليس دين الجمود ، ولا دين الكبت والإرهاب ، بل هو دين النظافة والتوجيه.

بينات من الآيات :

كل شيء طّيب الّا :

[٤] الجهل يدعو صاحبه الى التطرف يمنة أو يسره ، كما إذا ، ضل شخص في الصحراء وجهل الطريق فانه ينحرف عنه ذات اليمين وذات الشمال.

وليس بامكانه من دون العلم ان يلتزم بالطريق المستقيم ، ولقد كانت الجاهلية تعيش بين خطي الفوضى المطلقة ، حيث لا شيء حرام عندهم ، كما كانت الحال عند عرب الجزيرة غالبا حيث خط (الجمود المطلق) فهم يحرمون على أنفسهم طيبات الدنيا (كما كانت الحال عند بعض المسيحيين والمترهبين من العرب) وجاء الإسلام بالقول الفصل ، فحرم ما يضر البشر صحيا أو خلقيا أو اجتماعيا ، وحلل الطيبات وجعل القاعدة الأساسية أن كل شيء طيب حلال حتى تعلم حرمته بالذات.

وسائل الكسب :

والطيب هو كلما يستطيبه العقل السليم.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)

٣٠٠