من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

وحدة الرسالات الالهية

هدى من الآيات :

في سياق الحديث التوجيهي الذي بدأه الدرس السابق حول أهمية الالتزام بأحكام الشريعة ، يذكرنا الله بكتاب التوراة ، الذي أنزله الله هدى الى الصراط المستقيم ، ونورا يطهر القلوب ويجلي البصائر وبالتالي قيما يحكم وفقها النبيون عليهم السلام الذين أسلموا لله وخضعوا كليا لرسالاته ، وجعلت احكام الله امانة في أعناقهم يراقبون تطبيقها ولا يخشون أحدا وهم يطبقونها ولا يساومون عليها أبدا.

وفي مقابل هؤلاء هناك فئة لا تحكم بما انزل الله ، بل تخضع للقوى أو للضغوط أو للاغراء.

ومن بين ابرز الأحكام الموجودة في التوراة القصاص : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ،

٣٨١

(وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ). دون اي علاقة بانتماءات الشخص وطبيعته وعنصره وقومه. بلى يمكن ان يتصدق صاحب الحق على الجاني وهذه الصدقة تعتبر كفارة لذنوبه ، اما أولئك الذين يخالفون حكم القصاص ، ولا يقاصون من الاشراف للضعفاء فإنهم ظالمون ، وجاء بعد موسى عليه السلام عيسى بن مريم يصدق ما سبقه من التوراة ويحمل معه الإنجيل الذي كان هدى ونورا ، وكان على خط التوراة تماما فيه هدى ومواعظ للمتقين ، بيد ان فريقا من الناس لم يطبقوا الإنجيل ، وهم الفاسقون.

بينات من الآيات :

التوراة نور وهدى :

[٤٤] لماذا انزل الله التوراة وماذا كان فيها؟ ومن الذي حمل امانتها بصدق؟

اولا : لقد انزل ربنا التوراة للهداية الى الصراط القويم ، وللتزود برؤى وبصائر ومناهج وتوجيهات يتمكن الإنسان إذا استوعبها ان يرى الحقائق بنفسه ، لا ان يهتدي إليها فقط وهكذا كانت التوراة هدى ونورا.

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ)

ولذلك يجب احترام التوراة واحترام من يعمل بها حقيقة.

ثانيا : كان النبيون عليهم صلوات الله يحكمون بالتوراة ، ويشرعون الأحكام الدائمة والتوجيهات اليومية انطلاقا من قيم التوراة ، وانما أوتي النبيون الحكومة والقيادة لأنهم أسلموا لله وكانوا معصومين عن الخطأ والزلل.

٣٨٢

ثالثا : الذين كانوا يخضعون للتوراة هم الذين هادوا ، والحكم انما كان لمصلحة هده الفئة وليس في ضررهم.

رابعا : بعد النبيين كان الأولياء والعلماء يحكمون الناس وفق التوراة.

الائمة والعلماء :

(يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ)

والربانيون ـ حسبما يبدو لي ـ هم أولياء الله الذين ينسبون الى الرب ، لأنهم كانوا في منتهى الإخلاص والتضحية ، وكانوا يجسدون روح الرسالة كأمثال الائمة عليهم السلام ، والحواريين في التاريخ ، والصفة الظاهرة لهؤلاء هي قيامهم لله ، وتمحضهم في ذات الله ، بالرغم من انهم كانوا علماء بالدين أيضا ، وقد جاء في حديث مأثور عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية الكريمة :

(ان مما استحق به الامامة التطهير والطهارة من الذنوب والمعاصي الموبقة. التي توجب النار ، ثم العلم المنور (وفي نسخة المكنون) بجميع ما تحتاج اليه الامة من حلالها وحرامها والعلم بكتابها خاصة وعامة ، والمحكم والمتشابه ، ودقائق علمه ، وغرائب تأويله ، وناسخه ومنسوخه).

(يقول راوي الحديث) قلت : وما الحجة بان الامام لا يكون الا عالما بهذه الأشياء التي ذكرت؟ قال :

قول الله فيمن اذن الله لهم في الحكومة وجعلهم أهلها :

٣٨٣

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ)

فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربون الناس بعلمهم ، واما الأحبار فهم العلماء دون الربانيين ، اما الأحبار فهم الفقهاء العدول الذين كانوا دون الربانيين درجة لكن وجب على الناس اتباعهم في غياب من الربانيين.

صفات العلماء :

وقد كانت قيادة هذه الفئة للناس على أساس وجود صفات الفقه والعدالة والتصدي فيهم اما الفقه والعدالة فتدل عليهما كلمة :

(بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ)

اي بسبب انهم كانوا أمناء على كتاب الله ، وأيضا بقدر حفظهم لكتاب الله دراسة وتطبيقا فكلما كان الشخص أوسع فقها وأشد تقوى كانت قيادته أكبر وأوسع مدى ، واما التصدي للقيادة فيدل عليها قوله سبحانه :

(وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ)

اي شهداء على تطبيقه ورقباء على الناس في مدى تنفيذهم له ، ولكن لا يمكن ان يبلغ العلماء هذا المستوى الأرفع الا إذا تجاوزوا عقبتين الاولى : خشية الناس والثانية : اغراءات الدنيا.

(فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً)

٣٨٤

شيئا عاليا جدا.

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)

اي أولئك العلماء الذين يستسلمون لاغراءات الدنيا ، أو خشية الناس فلا يحكمون بما أنزل الله ، فهم الكافرون ، لأنهم يهلكون ويهلكون الناس.

التشريعات التوراتية :

[٤٥] ما هي احكام الله التي أنزلها في التوراة هل هي مجرد الصلاة والصيام ـ كلا ـ انها شرائع ، وانظمة للحياة مثل القصاص الذي تتجلى في تطبيقه سائر الأحكام الاجتماعية مثل المساواة والعدالة ، ذلك لان المجتمع الطبقي لا يقتص للفقير من الغني ، والمجتمع العنصري لا يقتص للدني من الشريف وللأسود من الأبيض ، والمجتمع الحزبي لا يقتص للفرد من الكادر وهكذا ، اما إذا أجرى المجتمع حكم القصاص فهو دليل على ايمانه بالعدالة ، وترفعه عن سلبيات التمايز باي نوع كان.

ولذلك فان بني إسرائيل فسدوا ليس بسبب عدم صلاتهم أو صيامهم ، بل بسبب عدم تطبيقهم الكامل لحكم القصاص ، حتى إذا قتل الشريف وضيعا لم يقتصوا منه (١) لذلك جاء في الآية الكريمة :

__________________

(١) : جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر عليه السلام ان امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من اشرافهم ، وهما محصنان فكرهوا رحمهما. فأرسلوا الى يهود المدينة وكتبوا إليهم ان يسألوا النبي عن ذلك طمعا في ان يأتي لهم برخصة فانطلق قوم منهم. كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، وشعبة بن عمرو ، ومالك بن صيف ، وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم فقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا احصنا ما حدهما؟ فقال : وهل ترضون بقضائي في ذلك قالوا : نعم فنزل جبرائيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا ان يأخذوا به».

٣٨٥

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)

دون ان يؤخذ في الاعتبار الطبقة أو شرفها أو علمها أو ما أشبه.

(وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ)

فكل جرح يمكن تقديره يجب القصاص له.

والقصاص حق من حقوق المجني عليهم ، ويجوز لهم العفو عنه تقربا الى الله وتصديقا بوعده ولمن عفا عن أخيه مغفرة وكفارة لذنوبه.

(فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

حقيقة التبديل :

يبدو لي ان تبديل حكم مثل القصاص في المجتمع يعتبر ظلما اجتماعيا ، لأنه يقضي على العدالة والمساواة في المجتمع ، ولكن هذا التبديل إذا كان في مستوى التشريع وقام به العلماء والأمراء فهو كفر كما سبق في الآية السابقة ، بينما إذا كان تبديل حكم مثل الصدق والوفاء والامانة وسائر المواعظ الموجودة في الإنجيل ، فهو فسق كما ياتي في الآيات التالية.

الإنجيل صنو التوراة

[٤٦] وأرسل الله عيسى بن مريم عليه السلام بتبع آثار النبيين السابقين في خط الهي واحد لا ينحرف وصدق عيسى برسالات الأنبياء ، وجاء بالمزيد منها ،

٣٨٦

فمثلا في الإنجيل الذي كان فيه ـ كما في التوراة ـ هدى يهدي الناس الى سبل السلام كما كان فيه نور يثير دفينة العقل ، ويستجلى غبار الضمير ، ويبلور قيم الفطرة ، حتى يرى الناس بأنفسهم السبل التي هداهم إليها الله برسالاته.

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)

اي جعلناه يقفو ويتبع أثر الأنبياء ..

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ)

وهذا يدل على وحدة الرسالة الالهية ، وتكاملها مع الأنبياء وضرورة احترام أهل الكتاب وكان الإنجيل يحمل بين دفتيه تصديقا بما تقدمه من كتب وفيما بينها التوراة ، ويضرب الأمثال الواقعية ليتذكر الناس وليتعظوا وليعتبروا.

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)

إذا اتقى الفرد أو لا أقل أراد ان يكون بعيدا عن الشر استمع الى الموعظة واستفاد منها ، اما الشقي فانه يصم عن المواعظ.

[٤٧] وإذا كانت رسالات السماء واحدة مع اختلاف بسيط في التفاصيل التي بالرغم من اهميتها من الناحية التشريعية ، إلا أن الأحكام اللاحقة تنسخ الأحكام السابقة لأنها اولى بالظروف المتجددة وهي بالرغم من ذلك غير هامة ، إذا لا حظنا محتوى الرسالات وروحها التوحيدية ، واهدافها السامية من الاطارات والطقوس ، وكذلك إذا لا حظنا هذه الحقيقة وهي ان خضوع البشر لرسالات السماء يجعله يقترب شيئا فشيئا الى الايمان بها جميعا ، فمن امن واقعا

٣٨٧

بروح رسالة الله الهابطة على موسى وعيسى عليهما السلام لا يمكنه الكفر برسالة محمد صلى الله عليه واله ، لأنهما تصدران من منطلق واحد وتشعان من مشكاة واحدة ، لذلك امر الله أهل الكتاب باتباع رسالاتهم.

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)

٣٨٨

وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ

____________________

٤٨ [مهيمنا] : الهيمنة السيطرة [شرعة] : الشرعة ابتداء الطريق.

[منهاجا] : المنهاج الطريق المستقيم.

٣٨٩

بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)

٣٩٠

فاستبقوا الخيرات

هدى من الآيات :

أنزل الله القرآن ليبين ذات الرسالة الالهية الواحدة التي هبطت على موسى وعيسى والنبيين عليهم السلام ، وليكشف الحق القائم في واقع الحياة ، وفي ذات الوقت الذي يصدق القرآن بالكتب السابقة فهو يكملها ويهيمن عليها ويحمل من القيم والشرائع أكثر وأفضل منها ولذلك يجب إتباعه ورفض أهواء الناس التي تخالف الحق.

ولقد جعل الله لكل امة شريعة ومنهاجا وطريقا يصلون عبره الى الحق ، وكان من الممكن ان يجعل الناس في صورة امة واحدة ، ولكن لاختلاف إنما هو من أجل ابتلاء الناس وبهذا الاختلاف الذي لو استغل حسب سنة الله ، لأصبح وسيلة للتنافس البناء ، وتسارع الجميع نحو الخيرات ، وغدا عند الله يعرف كل فرد هل كان على حق أو باطل.

٣٩١

وعلينا جميعا إتباع أحكام الله دون أهواء هذا أو ذاك من الذين يحاولون تضليل البشر ، أما أولئك الذين يتولون عن الرسالة ، فان سبب ذلك ذنوبهم التي رانت على قلوبهم ، حتى حجبتها عن الحقيقة ، وأنهم فاسقون.

إنهم يريدون تطبيق أحكام الجاهلية التي هي انعكاس عن التخلف والرجعية والظلم ، ويتركون أحكام الله تعتمد على العلم والايمان وبالتالي اليقين.

بينات من الآيات :

الكتاب الحق :

[٤٨] كما أنزل الله التوراة والإنجيل ولنفس الأهداف ، أنزل الكتاب (القرآن) الذي يتصل بالحق اتصالا عضويا ، فهو حق يتطابق وسنن الحياة وأنظمة الكون وفطرة الإنسان ، ووسيلته الحق وهو العمل الصالح والايمان والفداء ، وهدفه الحق وهو فلاح البشر وسعادته ، وربما كانت لفظة (الباء) دالة على هذا التفاعل بل الوحدة التامة بين الكتاب والحق ، لأنه حق أصلا ووسيلة وهدفا.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ)

والكتاب يصدق ما أنزل في الكتب السابقة ، مما يدل على وحدتها سلفا ، ولكنه يهيمن عليها ، ويكمل ما سبق منها ويسيطر عليها.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)

فاذا كان الإنجيل غامضا فيما يتصل بمنهج ما ، فان تفصيله في القرآن.

٣٩٢

لما ذا الاختلاف؟!

ويبدو لي : أن القرآن الكريم أخذ يعالج مسألة الخلافات البشرية بصفة عامة هنا ، بمناسبة الاختلاف القائم بين كتب السماء ، وأتباع الديانات السماوية ، وأجاب على هذا السؤال لماذا يختلف الناس في ممارساتهم؟!

بإجابة واضحة نفصلها في عدة نقاط :

ألف : إنّ كل أمة تتميز بممارسات حياتية مادية ومعنوية خاصة ، فاقتصاد كل امة واجتماعياتها وسلوكياتها الفردية (وسائر ما تسمى بالشرعة) تختلف عن غيرها ، كما أن لغتها وثقافتها وتطلعاتها (وسائر ما يسمى بالمنهاج) تختلف عن غيرها.

باء : إنّ هذا الاختلاف فطري نابع من خلقة البشر ، وطبيعة اختلاف الحياة ، وانعكاس هذا الاختلاف على كيان البشر ، والا فان الله قادر على أن يجعل البشر ـ كما الطيور والأسماك وما أشبه ـ أمة واحدة دون اختلاف يذكر فيما بينهم.

جيم : والاختلاف نافع للحياة البشرية لأنه يدعو الى التنافس والتسارع الى الخيرات ، إذ كلّ طائفة تسعى من أجل معرفة أفضل بأنظمة الحياة ، ووسائل أفضل لتسخير إمكاناتها بهدف تحقيق التقدم على الطوائف الاخرى ، ولذلك نجد الحضارات الكبرى في التاريخ إنما نشأت بسبب تصارع الطوائف مع بعضها ، تصارعا خفيا لا يدعو الى التدمير داخل الامة الواحدة.

دال : إن هذا الاختلاف ينبغي ألا يجعل عدوا رئيسيا يستهدف كلّ فريق

٣٩٣

القضاء عليه بالقضاء على صاحبه أو بالجدليات الكلامية كلا. بل ينبغي ان يترك الحكم على عاقبة الاختلاف ونهاية الصراع أن يكون لهذا أو لذلك يترك ذلك الى الله واليوم الاخر حتى لا توجه هذه الطاقة البنّاءة (طاقة الصراع والتنافس) الى الدمار والهلاك ، فيصبح هدف كل فريق القضاء على مكاسب الفريق الآخر كلا. بل ليكن هم كلّ فريق الحصول على مكاسب أكبر من صاحبه في ميدان الحياة الرحيب الذي يسع الجميع دون تضايق.

إنّ حكمة الله في إيجاد الناس مختلفين هي اختيارهم في مدى القوى الذاتية ، والامكانات الطبيعية التي وفرها لهم لكي يعلم أيّ الفريقين أكثر معرفة وعلما بالحياة ، وأفضل تسخيرا لها وبالتالي أكثر إيمانا ، وأفضل عملا صالحا.

(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ)

ويجعل العلم في القرآن في مقابل الهوى لأن الأهواء هي الحجب الكثيفة التي تمنع الإنسان من الوصول الى الحق.

(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً)

بالرغم من ان الشرعة والمنهاج بمعنى واحد وهو الطريقة حتى قالوا : بأنهما مترادفان بالرغم من ذلك فان المنهاج هو : الطريق المستقيم ، بينما الشريعة هي : الطريق العريض الواضح ، فيتبادر ان المراد بالمنهاج هو ما يخص الأمور المعنوية (والتي نسميها بالثقافة) باعتبارها لحاظ الاستقامة في الحكمة ، بينما المراد من الشريعة هو الأمور المادية والله اعلم.

الأهداف البعيدة للاختلاف :

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ)

٣٩٤

ليخرج طاقاتكم وطبائعكم الكامنة ، ومدى استقامتكم.

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)

وهذا هو هدف الاختلاف البعيد وهو : التنافس البناء من أجل الوصول الى الخيرات ، اما الخلافات فلان :

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)

لذلك دعوها جانبا ، ولا تتعبوا أنفسكم في محاولة إنهائها أو إثبات كلّ فريق بأنه أحق من غيره.

[٤٩] ولا يعني السلام مع سائر الأمم وفق هذه الرؤية الرسالية البناءة ، التنازل لاهوائهم وانحرافهم أو الخضوع لضغوطهم بل يعني المزيد من الالتزام بالاحكام والتطبيق العملي لاستباق الخيرات والتنافس البناء.

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ)

تسريب الثقافة الباطلة :

إن المنافسين والأعداء يسعون من أجل تسريب أفكارهم وثقافاتهم الى الامة الاسلامية في حالات السلم القائمة بينهم وبين المسلمين ، لذلك فان القرآن يوصي بضرورة اتخاذ جانب الحذر حتى لا يتأثر المسلمون بتلك الأفكار.

وعلى المسلمين ألّا ينبهروا بالحياة الآمنة التي يظهر وجودها عند الكفار أو الأمم الاخرى ، لان هذه الحياة سوف تتحول الى جحيم بسبب ذنوبهم ، ولذلك

٣٩٥

يجب التحصن ضد التأثر بهم ، وتقليد أفكارهم أو عاداتهم.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ)

تصدير الإسلام :

[٥٠] إنّ الامة الاسلامية تسعى من أجل تصدير برنامجها ورسالتها بالنموذج المتكامل الذي تصنعه حياتها الخاصة ، ولذلك فهي لا تحتاج دائما الى شنّ الحروب ضد الأمم الاخرى ولكن هذا التصدير غير ممكن من دون تحصن أبناء الامة عن تسرب أفكار وبرامج الآخرين الجاهلية إليها ، وذلك بان تعرف الامة ان حكم أولئك حكم جاهلي عفن قد أكل الدهر عليه وشرب وانه لا يمكن ان يستمع اليه المسلمون.

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)

يريدون الجاهلية ، والجاهلية هي الحكم الذي لا يستمد أصوله من العلم. والعلم بدوره نابع من أحد المصدرين العقل أو الوحي.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)

ايّ لأولئك الذين يبلغ بهم العلم درجة اليقين ، وهذا أرقى درجات العلم بالحقيقة ، فقد يكون هناك علم من دون يقين كأن تطمئن نفسك الى الحق بعيدا عن دواعي الشهوة والغضب.

والحكم المثالي في رؤية الإسلام هو : الحكم الذي تكون برامجه نابعة من العلم

٣٩٦

(الآتي بدوره من العقل أو الوحي) بشرط أن يكون تطبيق هذه البرامج من قبل الناس معتمدا على الالتزام الذاتي والواعي الذي يوفره اليقين ، لذلك أكدت الاية على أن أحسن أنواع الحكومة هو حكم الله بشرط أن يطبقه أهل الوعي واليقين لا أن يفرض على الناس فرضا ... أو يتبعه الناس تقليدا أعمى.

٣٩٧

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)

____________________

٥٢ [دائرة] : الدائرة هاهنا الدولة التي تتحول الى من كانت له عمّن في يده.

٣٩٨

الكفار بعضهم أولياء بعض

هدى من الآيات :

بالرغم من ضرورة إقامة السلام ، بين الفئات المؤمنة بالله ، على اختلاف مناهجهم وشرائعهم ـ كما أكده الدرس السابق ـ فان ذلك لا يعني الخضوع لهم ، واتخاذهم أولياء ، وهم لا يهتدون السبيل الأقوم لأنهم ظالمون لأنفسهم.

وأولئك الذين يسارعون الى اتخاذهم أولياء ، مبتلون بمرض قلبي ، وهو الخوف منهم لكي لا تصيبهم دائرة بسبب مخالفتهم لأولئك ، والسؤال هو : إذا جاء الله بالفتح ونصر المسلمين على أولئك أفليس يندم هؤلاء على ما كتموه؟

وقد يمكن أن يغلب أولئك فيخونوا بأتباعهم لأنهم لا يعتبرونهم منهم ، والذين آمنوا يشمتون بالمنافقين. كيف انهم وصلوا الى الطريق المسدود؟ فهؤلاء الكفار دارت عليهم الدائرة وحبطت أعمالهم وأصبحوا خاسرين ، خسروا الصراع كما خسروا أولياءهم.

٣٩٩

بينات من الآيات :

الولاء المنحرف :

[٥١] يزعم بعض ضعفاء الايمان من المسلمين انه يمكن ان يحتموا بقوة اجنبية لمقاومة قوة اجنبية اخرى. مثلا يعتمدون على النصارى لمقاومة اليهود ، وهذا زعم خاطئ لسببين :

الاول : أن الاجنبي أقرب الى الاجنبي في الواقع منك ، وان اليهود والنصارى سوف يتحالفان ضدك ، كما يتحالف الشرق مع الغرب ضد مصالح المستضعفين ، وبالنسبة إليك كمسلم تملك شريعة مختلفة عنهما ومنهاجا متضادا معهما فانه يتساوى اليهود والنصارى ، أو الشرق والغرب فهما معا بعيدان عنك ، وعن مجتمعك ... مخالفان لك.

الثاني : إنك حين تتحالف مع هؤلاء أو أولئك تصبح جزءا من مجتمعهم ، وامتدادا لوجودهم وهذا يفصلك عن مجتمعك المسلم ، لان أهم ما يحدد هوية الشخص هو ولاؤه فلا يجتمع ولاءان لفرد واحد لذلك قال ربنا :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)

وربما يزعم مثل هذا الرجل انه يتمكن من ربح الجهتين معا فهو في الظاهر من المسلمين ، وفي الباطن يوالي الاجنبي ، ولكنه خاطئ لأنه يظلم بفعله هذا مجتمعة ، ولذلك لا يهديه الله لان القلب المليء بالنفاق والغش والغلّ لا يشع فيه نور العقل.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

٤٠٠