من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

ثانية.

وإذا سقطت المرأة في أحضان الفاحشة فان عقوبتها التي ذكرها القرآن في هذه الآية هي حجزها في البيت ، لماذا؟

لأنها تجاوزت حدود البيت حين منحت الحرية ، فمن الطبيعي ان تعاد الى هذه الحدود جبرا ، ولأنها إذا تركت حرة بين الناس فان رجالا كثيرين قد يسقطون في أحضان الجريمة ولا يجدون دافعا قويا للزواج ، وبالتالي فان نساء كثيرات يحرمن من نعمة الزواج ، وأسر كثيرة تتحطم على صخرة الفاحشة.

من هنا فان الوسيلة الجيدة هي حجز المرأة الزانية في البيت.

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً)

والتعبير القرآني يستخدم كلمتين (يأتين) و (استشهدوا) للدلالة على ان المرأة التي تعمل الفاحشة فعلا ، والتي تتعاطى في المجتمع هذه الجريمة على عين السلطة وسمعها ، انها مع ذلك لا تعاقب بمجرد وجود أدلة خفية على جرمها بل يجب ان تكون هناك أدلة ظاهرة ، فيستشهد عليها أربعة من المؤمنين أي يطلب منهم الأدلاء بشهاداتهم ليكون العقاب بعد حجة ظاهرة.

وهذا يفسر ضرورة توفر شهادة أربعة من الرجال في هذه الجريمة التي تعتبر عادة من الجرائم الخفية ـ خصوصا في أجواء المجتمع الاسلامي ، حيث ان شهادة هؤلاء انما هي ممكنة بحق المرأة المعلنة بالفاحشة ، واما التي تسقط مرة ثم تتوب فلا يمكن عادة ان يلاحظها أربعة من الشهود.

والسبيل الذي أشار اليه القرآن في نهاية الآية : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) : هو

٤١

اقامة الحد عليها واطلاق سراحها كبديل عن حجزها في البيت.

حرمة القذف :

[١٦] ولكي يعطي القرآن حصانة للأسرة وللمرأة بالذات ، ولكي يستر على السقطات الجنسية التي قد تتعرض لها نساء شريفات ، ولكي يقضي على الشائعات الجنسية التي يتسلى بها خبثاء النفوس في سهراتهم الليلية ويستعرضون بها عن حرمانهم الجنسي أو عقدهم الاجتماعية.

لكل ذلك حرّم وعاقب على القذف بالزنا ما لم يصل الى مستوى شهادة أربعة من الرجال وقال :

(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً)

الأذى قد يكون بأشهارهما أمام الناس ، أو بضربهما بالسياط ، أو حتى بسجنهما أو تقريعهما من قبل الحاكم وهكذا.

لمن التوبة؟ وكيف؟

[١٧] ولان القذف والتهمة بالسقطات الجنسية تكثر في المجتمع ، ويمارسها كثير من الناس في بعض فترات حياتهم ، لذلك فقد استعمال القرآن المؤمنين ودعاهم الى التوبة وقال :

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)

٤٢

ثم قال :

[١٨] (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) فهناك صنفان من الناس : صنف يتوب بسبب روحه الايمانية ، وتذكره عذاب الله وخوفه وتقواه ، وصنف لا يتوب إلّا بعد اضطراره الى التوبة ، والتوبة تقبل فقط من الصنف الاول.

وليس هناك صنف ثالث ، ذلك لان الذين يسوّفون التوبة ويؤجلونها من يوم لآخر ، انهم لا يضمنون حياتهم حتى يتوبوا قبل موتهم بأيام مثلا ، كلا بل لا يصدقون بالموت إلّا حين يحضرهم فعلا وهناك لا تنفعهم التوبة.

ومثل هؤلاء مثل الكفار الذين يؤمنون قبل موتهم بلحظات ، ولذلك ساقهم القرآن بعصا واحدة مع الكفار فقال :

(وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)

من حقوق المرأة الزوجية :

[١٩] في حصن الأسرة يجب ان تسود العدالة ، لأنها لو سادت في الاسرة استطاعت ان تسود في المجتمع كله وأبرز مظاهر العدالة المحافظة على حقوق المرأة في حياتها وبعد موتها ، فلا يمكن خلط حسابها مع حسابه حتى يلتهم أموالها بعد موتها ، انه لا يرث إلّا جزءا من مالها قد لا يتجاوز الربع ، فلا يجوز أن يأكلها جميعا.

كما لا يجوز الضغط على المرأة حتى تتنازل عن بعض حقوقها أو كلها في

٤٣

سبيل إنقاذ نفسها من إرهاب الزوج الوحشي (هناك قانون في الطلاق يسمى بالخلع ويكون ذلك بعد تنازل المرأة عن مهرها لقاء فك سراحها) كما لا يجوز له أيضا أن يرث نكاح النساء كما هو المعمول في الجاهلية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ)

يبدو لي ان التعبير (لتذهبوا ببعض) يوحي بالطلاق ، لان كلمة الذهاب به يدل على الابتعاد مع الشيء مثل ذهب السارق بالمال.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)

هنالك يحق للزوج ان يضغط على زوجته حتى تتنازل عن بعض مهرها ويطلقها ، وذلك جزاء خيانتها به.

ومن الحقوق الثابتة للمرأة أن تعاشر بالمعروف ، فتعطى لها الحقوق التي يراها العرف وبالقدر الذي يحكم به ، والا تخضع حقوق المرأة للانفعالات المؤقتة.

(وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)

إن النظام الاسلامي يعتمد في كثير من تفصيلات تشريعه على العرف العام بعد أن يضع إطارا عاما له معتمدا على القيم الرسالية ، وفي عشرة الزوجة وحقوقها اعتمد التشريع الاسلامي على العرف ليحدد ما هي المعاشرة السليمة.

[٢٠] الصداق الذي يقدمه الزوج هل هو رهن في يد الزوجة مقابل استمرار عقد الزواج فاذا أرادت الزوجة أو الزوج فسخ العلاقة الزوجية يستعيد الزوج

٤٤

الصداق؟!

كلا ... بل هو تصديق على صدق الزوج في ادعاء الزواج ، وبناء الاسرة وعليه فان المهر يصبح ملكا كاملا للزوجة بمجرد الدخول بها ، ولا ولا يحق للزوج أن يسترجع المهر أنى كان كثيرا إذا أراد أن يطلقها.

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)

[٢١] (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً)

أي كيف يحق لكم أخذه بعد إتمام العملية الزوجية بالدخول التي كانت مقابل المهر في العقد ، واتخذ عليه الميثاق.

٤٥

وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ

____________________

٢٣ [ربائبكم] : الربائب جمع ربيبة وهي بنت زوجة الرجل من غيره وسميت بذلك لتربيته إياها.

[حلائل] : الحلائل جمع الحليلة وهي بمعنى المحللة مشتقة من الحلال.

٤٦

مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ

____________________

٢٥ [المحصنات] : من حصنت المرأة فرجها من الفجور والسفاح يقال أحصن الرجل زوجته ، أي حفظها من الفجور ..

[مسافحات] : من السفاح وهو الزنا وأصله من السفح وهو صب الماء

٤٧

أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)

____________________

لأنه يصب الماء باطلا.

[طولا] : الطول الغنى وهو مأخوذ من الطول خلاف القصر شبه الغنى به لأنه ينال به معالي الأمور.

[أخدان] : جمع خدن وهو الصديق.

[العنت] : الجهد والشدة من جهة ترك الزواج.

٤٨

المحرمات الزوجية ومفهوم الزواج

هدى من الآيات :

في هذا الدرس ينظم التشريع القرآني الحكيم العلاقة الزوجية بين الذكر والأنثى ، فيبيّن النساء المحرمات ابتداء بزوجة الأب وانتهاء بالجمع بين الأختين ، أو التفكير في الزواج من امرأة ذات بعل.

ثم تتحدث الآيات عن العلاقة المشروعة بين الذكر والأنثى التي تتم عن طريق الزواج كعقد يتراضى عليه الطرفان ، وان من الضروري الالتزام بكافة بنوده ، وليست الزوجية امتلاكا للأنثى من قبل الذكر كما كان يتصوره الجاهليون.

وتتحدث عن الزواج من الإماء ، وكيف يجب ان تنظم العلاقة معهن حتى لا تتحول الامة الى باغية بحكم حاجتها الى المال والى الحماية الاجتماعية بسبب انها امرأة غريبة عن المجتمع المسلم.

ويشدد الإسلام على ذلك في الآيات الثلاث الاخيرة من الدرس حين يقول :

٤٩

ان هذه التشريعات هي عماد حضارتكم ، وان الاستهانة بها يهدد كيانكم بالدمار كما فعل بالذين كانوا من قبلكم.

ويبين ان التشريع الاسلامي تشريع واقعي يلاحظ ضعف الإنسان ، وحدود قدراته على الضبط ، وانه لو لا واقعية هذا التشريع لانهار كثير من الناس في بؤرة الفساد واتباع الشهوات.

بينات من الآيات :

النساء المحرمات ...

[٢٢] كانت العادات الجاهلية تقضي بتوريث زوجة الأب لأكبر أبنائه ، وكأنها سلعة من السلع ، فجاءت الآية الأولى من آيات تنظيم العلاقة الزوجية في هذا المجال :

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ)

اي ما سلف منكم في الجاهلية ، فانه بالرغم من حرمته يعتبر نكاحا في ذلك العرف ولا يوصم أبناء هذا النكاح بأنهم أولاد زنا ، أما الآن فيجب الفراق والابانة بين الزوجين.

وبيّن القرآن ان هذا النكاح عمل جنسي حرام (فاحشة) وانه يجلب الذل والهوان (مقت) وانه ليس السبيل السوي في العلاقة الزوجية.

(إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً)

ان الحاجة الجنسية تجري في الإنسان كالسيل تكاد تتدفق من جوانبه ، فلو لا وجود قنوات تمتصها وتنظم مسيرتها لفاضت في كل اتجاه ، ونشأت منها

٥٠

الصراعات والخلافات وهدمت الاسرة الواحدة.

وقد جعل الله في الإنسان وفي موازاة الحاجة الجنسية الهائلة جعل حواجز الحياء الفطري لتمنع الفوضى الجنسية ، ولكي يدعم الحياء الفطري وضع قوانين شرعية منظمة لهذه الحاجة ، وحرمة زوجة الأب على الابن من تلك القوانين ، ذلك لأنها ترفع الزوجة الى درجة الام ، وتجعلها مصونة من حاجات الأولاد الجنسية ، وبالتالي من صراعاتهم عليها ، ومن معاملتهم لها كسلعة تورث.

ومن هنا قال الله انه مقت يورث الهوان ، لأنه تحطيم لكرامة المرأة ، وهدر لحق الأب.

فلسفة التحريم :

[٢٣] ويسرد القرآن المحرمات من النساء وهن : القريبات في الطبقة الاولى والثانية ، وفلسفة الحرمة ان ذلك الزواج يهدد الاسرة بالخلافات الداخلية ، ويسبب شيوع علاقات فاحشة بين الأقارب في الاسرة الواحدة ، ويسبب نقل الأمراض الوارثية بشكل فظيع الى الأجيال التالية ، ويسبب بالتالي ضعف النسل البشري الى درجة خطيرة ، وتحول نظرة الأقارب في الاسرة الواحدة من نظرة تعاون بنّاء الى نظرة جنسية شاذة وهكذا .. قال ربنا :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ)

بنت زوجة الإنسان (من غيره) محرمة عليه إذا دخل بأمها ، فلا يحق له ان

٥١

يستعيض زوجته بابنتها من أب غيره بعد ان تكبر وتكون صالحة للزواج.

ان ذلك يشكل اهانة بحق الزوجة حيث ان الزوج ، يريد منها ان تكون فقط اداة لإشباع غرائزه وحين استنفذ حاجته منها استبدلها ببنتها المولودة من غيره.

اما قبل ان يدخل بها فان ذلك يجوز لأن هذه الفلسفة لا تحكم فيه.

ولا يجوز ان يتزوج الإنسان من زوجات ابنائه لأنهن يصبحن بحكم بناته ، ولا يجوز ان ينظر الأب إليهن نظرة جنسية حتى لا تنمو الكراهية في الاسرة الواحدة ، وتؤدي الى الصراعات العائلية.

(وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ)

أما الابن المتبنى فانه يجوز لأبيه (بالتبني) ان يتزوج زوجته بعد طلاقها ، خلافا للاعراف الجاهلية التي نسخها القرآن الحكيم في قصة «زيد» ابن رسول الله بالتبني ، حيث طلق زوجته زينب فزوجها الله لرسوله.

(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ)

لما في ذلك من إثارة للصراعات في الأسرة الواحدة بسبب تنافس الضرتين في ود الزوج ، ويتحول التنافس الى خلاف بينهما ينعكس بالتالي على اسرتهما.

(إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ)

في الجاهلية.

(إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)

[٢٤] لا يجوز للإنسان ان ينظر بريبة الى زوجات الناس اللاتي دخلن في

٥٢

حصن الزواج وحريم البيت ، فان ذلك يهدد البناء الاسري للمجتمع ، ويجر اليه رياح الفوضى والخلاف.

ان الرجل الذي يعتز بماله وجماله ويحاول ان يخدع نساء الآخرين لا بد ان يعرف ان في المجتمع من هو أكثر مالا وأروع جمالا ، وارفع شهرة منه ، وانه من الممكن ان يطمع في زوجته فهل يرضى؟

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ)

ان كتاب الله يشهد عليكم لو انكم تجاوزتم حدود الله في المحرمات من النساء ، حيث لا يجوز مباشرتهن الا في حدود احكام الله بالعقد أو بملك اليمين.

(وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ)

اي يحل لكم إنشاء علاقات جنسية بهدف تكوين اسرة ، والدخول في حصن الزوجية ، وفي حصانة العلاقة الجنسية المستقرة ، لا بهدف السفاح والهبوط الى مستوى البهائم ، وسفح ماء الحياة في كل ارض صالحة أو طالحة.

ان الهدف من اي عمل هو الذي يحدد طبيعته وصبغته ، وحسنه وقبحه ، وحرمته وحلّيته ، والعلاقة بهدف تكوين الاسرة هي علاقة جيدة ، حتى ولو كانت مؤقتة مثل المتعة التي استدل طائفة من المفسرين جوازها انطلاقا من هذه الآية.

شرعية الزواج المؤقت

الزواج المؤقت (المتعة) يختلف عن الزنا في انه ذو هدف شريف ، وهو أشبه شيء بالزواج والطلاق بعد فترة لظروف طارئة. بيد ان المتعة تأخذ تلك الظروف

٥٣

بعين الاعتبار وتقصر فترة العقد منذ البداية ، مثل ان يكون الرجل مسافرا (للدراسة أو للعمل) الى بلد بعيد ولا يستطيع ان يجلب اليه زوجته كما لا يريد ان يستوطن ذلك البلد الى الأبد ، فاذا أراد البقاء هناك لمدة خمس سنوات مثلا فالأفضل له ان يتزوج خلال الفترة زواجا بهدف بناء الاسرة ، وانجاب وتربية الأولاد ، ولكن محدد بفترة معينة.

وبدلا من ان يلعب على المرأة ويوعدها بالزواج الدائم ثم يفترق عنها بسبب قهر الظروف فانه منذ البدء يصارحها بالحقيقة حتى تكون على بيّنة من أمرها.

والقانون الاسلامي الذي شرع الطلاق لا يمكنه ان يشرع الزواج المؤقت لأنه في المحتوى يتشابه مع الزواج ثم الطلاق لذلك قال الله تعالى :

(فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً)

حيث شرع المتعة بهذه الآية حسب تفسير ابن عباس والسري وابن سعيد وجماعة من التابعين والصحابة ، ولكنه اشترط فيها شرطين ،

الأول : ارادة الزواج وليس السفاح وبتعبير آخر : ان يكون التزاما ببناء اسرة.

الثاني : ان يدفع الرجل كامل المهر للزوجة ، وان يضع لها مهرا واجبا عليه. نعم إذا تنازلت المرأة عن مهرها طواعية جاز لها ذلك.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)

فلسفة الرق :

[٢٥] قانون الرق في الإسلام يختلف عنه في التشريعات الجاهلية اختلافا

٥٤

كبيرا ، وابرز نقاط الخلاف ان القانون الاسلامي يحرم الاسترقاق القسري أو الطوعي للأحرار الا في حالة واحدة هي اسرى الحرب الذين وضع الإسلام امامهم طريق الاسترقاق لتذويبهم في المجتمع المسلم بصورة تدريجية ، ومن دون وجود مضاعفات سلبية.

ان الأسير الذي يفترض ان يكون معتديا على امن الوطن الاسلامي ، ومحاربا سابقا ضد الامة المسلمة لا يمكن ان يطلق سراحه في البلاد الاسلامية ليعيث فيها فسادا ، بل لا بد ان يمر بدورة تربوية تؤهله ليصبح مواطنا صالحا للبلاد الاسلامية ، وعضوا بنّاء في المجتمع المسلم.

اين توجد هذه الدورة التربوية؟ هل تستطيع الدولة الاسلامية ان تؤسس آلاف المعسكرات (وبتعبير آخر المعتقلات) وتحتفظ فيها بهؤلاء الأسرى؟ وهل ينجح هذا الأسلوب لو فعلت؟ كلا .. ان الدورة الجيدة هي إعطاء الأسير جزءا من حريته ، وربطه بواحد من المسلمين وإعطاء حق التوجيه لذلك المسلم وتشجيعه على ان يصبح عضوا جيدا لإعادة كامل حريته اليه ، وأخيرا تزويد مولاه بالوصايا المؤكدة لرعاية حقوقه ، بل بالأوامر المشددة تحت طائلة العقوبة القانونية.

وبهذه الطريقة استطاعت الامة الاسلامية استقطاب الشعوب التي فتحت بلادها في فترات متعاقبة ، بالرغم من ان تلك الشعوب كانت أضعاف عدد الامة ، وتحولت في فترة وجيزة الى جزء من الامة حملت رسالتها الى آفاق جديدة.

ان المقاتل العدو الذي أسر في هذا العام مثلا كان يتحول في العام المقبل الى قائد اسلامي لموجة جديدة من الفتوحات ، وربما في بلاده هو وضد رفاق السلاح ، كيف كان ذلك ممكنا لو لم تكن هناك دورات تربوية داخل كل بيت وكل

٥٥

اسرة يتأثر الأسير بها فيتحول الى مؤمن صادق.

وبالطبع لا تفلح التربية الا بإشراف المربي ، وهذا هو هدف الإسلام من إعطاء حقوق معينة للمولى على العبد ومن تلك الحقوق حق زواج الامة ممن يراه المولى صالحا.

ولكن من جهة اخرى يفرض قيودا على الزوج ، ويهدد علاقته الزوجية وبنائه الاسري للخطر.

لذلك نصح الإسلام عدم الزواج من الإماء الا في حالة الاضطرار وقال :

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ)

ليس من الصحيح تصور ان الاسيرة لم تصبح مؤمنة ايمانا حقيقيا ، بل ايمانا ظاهرا بسبب مغريات الايمان ، ويقول القرآن ليس هذا التصور صحيحا : إذ ان الله هو العالم بحقيقة الايمان.

وأما الناس فلو أرادوا ان يتعاملوا مع بعضهم بهذا المقياس ، إذا لسرى الشك الى كل إنسان ولا يمكنهم ان يتعاونوا أبدا ، انما علينا ان نلاحظ ظواهر الايمان ، كما انه ليس من الصحيح الاعتقاد بأن الاسيرة ذات عنصر أدنى من العنصر العربي ، لأن الله خلق الناس جميعا من نفس واحدة ، والناس بعضهم من بعض.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)

ولكن الزواج يجب ان يتم بإذن أهلها باعتبارها عبدة مملوكة لمولاها ، وباعتبار انها جديدة العهد بالتقاليد الاسلامية ، ولربما كانت في بلادها تمارس

٥٦

الفاحشة حسب تقاليدها ، ويخشى ان يتخذها المفسدون سلعة للهوى ، واشاعة الفاحشة في البلاد الاسلامية مستغلين ظروفها المعيشية ، وعاداتها الخلقية ، وحداثة عهدها بالقيم الاسلامية ، من هنا ركز الإسلام على هذه الحقيقة وقال :

(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ)

يحذر القرآن من تسيب الاسيرات وتحولهن الى بنات هوى في المجتمع الاسلامي ، ولكنه من جهة اخرى خفف العقاب عنهنّ لو فعلن الفاحشة ، لأنهن جديدات عهد بالقيم الاسلامية ، ولظروفهن المعيشية والاجتماعية الخاصة التي تساعد على الفاحشة ، وقال الله :

(فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ)

وعاد القرآن ليبين ان الزواج من الاسيرة محدود بظرف الاضطرار وقال :

(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

كيف ننظر الى التاريخ؟

[٢٦] هذه شرائع الله يبينها للناس لكي يفتحوا أعينهم ، ويبصروا دربهم بوضوح ، ذلك الدرب الذي مشى عليه السابقون الصالحون فبلغوا اهدافهم ، وتنكب عنهم الفاسقون فسقطوا في جهنم.

ان استخلاص تجارب التاريخ ، وإعطاء رؤية حياتية منبثقة من حقائق التاريخ هو من أهم ما يقوم به القرآن الذي فيه خبر من قبلنا كما يقول الرسول

٥٧

الأكرم محمد (ص).

وعلى المؤمن ان يتسلج بمنظار القرآن ، ثم ينظر الى احداث التاريخ ليعرف فلسفة أحكام الدين ، حتى يربي نفسه على الأعمال الصالحة ، ويتوب الى الله من سيئات اعماله.

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

[٢٧] هذا ما يريده الله ، أما ما يريده الغاوون الذين يتبعون أهواءهم ، ويسترسلون مع شهواتهم دون حكمة أو علم ، ولا ينظرون الى تجارب الأولين ليتخذوا منها العبرة والموعظة ، فإنهم يريدون ان يفرط الإنسان تفريطا ذات اليمين أو اليسار ، ويذهب بعيدا في انحرافه عن جادة الحق المستقيمة.

(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)

ميزات التشريع الاسلامي :

[٢٨] وإذا مال الإنسان الميل العظيم ، فانه سوف يحمل مآسي وويلات أكبر من طاقاته ، والإنسان ضعيف لا يحتمل الصعاب.

اما منهج الله فهو يحافظ على استقامة الإنسان على الطريق السوي حتى لا يكلف أكثر من طاقته.

(يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)

في هذه الآيات الثلاث بيّن الله ميزات التشريع الاسلامي بتلخيص وهي :

٥٨

أ/ انه تشريع واضح مبين.

ب / انه تشريع يعتمد على رصيد ضخم من التجربة التاريخية.

ج / انه يربي الإنسان ويخلصه من سلبياته.

د / انه متين ومستقيم وبعيد عن الانحرافات.

ه / انه تشريع واقعي يلاحظ طبيعة الإنسان الضعيف.

٥٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ

____________________

٣٣ [موالي] : أصل المولى من ولي الشيء يليه ولاية وهو اتصال الشيء بالشيء من غير فاصل.

٦٠