من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

____________________

١٧١ [لا تغلوا] : أصل الغلو مجاوزة الحد.

١٧٢ ـ [يستنكف] : الاستنكاف الأنفة من الشيء وأصله من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك من خدك.

٢٦١

فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)

٢٦٢

لا تغلوا في دينكم

هدى من الآيات :

تكميلا للحديث عن ضرورة الوحي ، وتوضيحا لمواصفات الطبقة المؤمنة ، حتى لا تختلط بالطبقات المتظاهرة بالايمان ، جاءت هذه الآية لتتحدث عن زيف فكرة انصاف الآلهة التي ابتدعت في مذاهب النصارى ، فزعموا : ان نبيهم عيسى بن مريم كان ابنا لله. كلا ، عيسى وجميع الأنبياء انما هم بشر ، وصفتهم المميزة التي جعلهم الله بها أنبياء ، واختارهم للوحي تلك الصفة هي عبوديتهم التامة لله وخضوعهم الكامل له.

ونهت الآية الأولى عن الغلو في الدين ، والافتراء على الله غير الحق بأن عيسى ثالث ثلاثة ، يشكلون بالمجموع قيادة موحدة لادارة الكون ، بينما المسيح (كما تقول الآية الثانية) لا يتكبر عن عبودية الله ، ولا يرى نفسه أكبر من هذه العبودية ، وهذا سر عظمته ، أما المتكبرون عن عبادة الله فان جزاءهم عذاب أليم.

بهذا نقّت الآيات فكرة الرسالة عما لصق بها من رواسب الشرك

٢٦٣

الجاهلية ، وجعلها مقبولة للعقل البشري.

والواقع ان كثيرا من الذين ينكرون الحقائق الدينية انما ينكرون ما لصق بها من خرافات وأوهام ، ولو صفّيت الحقائق عن تلك الخرافات والأوهام ، فان أكثرهم سيعود الى الرشد ، ويؤمن بالحقائق.

لذلك تعتبر تصفية فكرة الرسالة من رواسب الشرك بمثابة دليل على صدق الرسالة لأنه يفتح الطريق أمام الايمان بها.

بينات من الآيات :

الغلو :

[١٧١] الغلو في الدين بمثابة الإنكار للدين. ذلك لان إضرار الغلو لا تقل عن إضرار الجحود أو الانتقاص من الدين ، وقد يكون الغلو في الدين سببا لكفر كثير من الناس الآخرين الذين ترفض فطرتهم النقية شوائب الغلو ، فينكرون ما ارتبط بها من حقائق الدين أيضا.

وقد كان غلو النصارى في عيسى سببا لهروب المثقفين منهم وإنكارهم الرسالة رأسا لأنهم وجدوا بفطرتهم الصافية ان الايمان بألوهية بشر مثلهم سخافة ، فآثروا الكفر بالدين رأسا ، ولم يجهدوا أنفسهم بالفصل بين الخرافة والحقيقة في الدين.

لذلك تجد القرآن الحكيم يعامل المغالين في الدين بذات العنف والقسوة التي يعامل بها الكفار والجاحدين.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ

٢٦٤

مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ)

وليس إلها في مستوى الله سبحانه ، وليست ولادته الخارقة الا دليلا على قدرة الله وعظمته ، وليس فيها اى دلالة على ألوهية عيسى.

(وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)

وكلمة الله يعني مشيئته التي تتجسد في كلمة «كن» التي تتحقق بها الأشياء ، كذلك خلق الله السموات والأرض. وكذلك خلق الله عيسى. قال الله : كن ، فكان في رحم أمه مريم ، ولذلك عبر الله عن ذلك ب (ألقاها الى مريم) أي تلك الكلمة التي أنزلها الله على مريم ، فكوّن بها عيسى عليه السلام.

ذلك لان جبرئيل هو الذي نفخ في جيب مريم متمثلا في رجل سوي ، وبذلك النفخ خلق الله عيسى.

اما الروح فانها حسبما ـ يبدو لي ـ روح القدس الذي أيد الله به عيسى ، فعلم الغيب وأحيا الموتى وعمل المعجزات.

وبذلك لم تكن معجزات عيسى دليلا على انه اله من دون الله ، بل انه مزوّد بروح من الله.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ)

سواء كان خلقهم بغير أب أم لا ... وسواء أحيوا الموتى أم لا ... إذ أن المهم ان يكون الشخص رسولا من قبل الله ، وليس المهم سائر الميزات المتوافرة عند هذا أو ذاك.

(وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ

٢٦٥

لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)

وهل من المعقول : ان يتخذ رب السموات والأرض واحدا من البشر بمثابة ابن له .. وما قيمة معجزات عيسى بالنسبة الى قدرة الله الهائلة المتمثلة في ملكوت السموات والأرض.

وهل يتناسب ان يكون عيسى البشر المحدود الضعيف ابنا لذلك الرب العظيم .. القادر.

وبدلا من ان يتخذ الواحد منا عيسى إلها ، أفلا يكون من الأفضل أن يتخذ الله إلهه؟!. أفليس الله يغنيه عن عيسى وغير عيسى من البشر ، أفلا يكفيه وليا ونصيرا وقائدا؟!

العبادة لله هي الامتياز :

[١٧٢] أبسط دليل على ان عيسى لم يكن سوى بشر عبادته لله وطاعته لمناهجه ، تلك العبادة والطاعة التي أتقنها وأكملها المسيح ، كما أتقنها سائر الرسل. مما دل على أنهم ـ كما نحن ـ عباد الله علينا جميعا ان نطيعه.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ)

اي لا يرى ذلك غير مناسب لشخصيته ، أو غير لائق لعظمته كرسول.

(وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)

أولئك الذين تصور بعضهم انهم يشاركون الله في الالوهية سبحانه ، هم بدورهم لا يرون العبادة غير لائقة بهم .. كلا بل هي من صميم وجودهم الناقص

٢٦٦

الضعيف.

(وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ)

أي من يرى نفسه أعلى من العبادة تكبرا وكذبا ، فلا بد أن يعرف انه ليس سوى بشر ضعيف ، وآية ضعفة انه سوف يحشر الى الله بكل خضوع.

(فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً)

[١٧٣] وهناك ينقسم الناس فريقين :

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا)

ودفعهم استنكافهم الى الكفر.

(وَاسْتَكْبَرُوا)

ودفعهم استكبارهم الى ترك الأعمال الصالحة.

(فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)

فلا ينفعهم أولئك الذين اتخذوهم انصاف الهة ليخلصوهم من عذاب الله.

٢٦٧

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)

____________________

١٧٤ [برهان] : البرهان الشاهد بالحق وقيل البرهان البيان يقال برهن قوله أي بين حجته.

٢٦٨

حكم الإرث

هدى من الآيات :

بعد ان ساق القرآن الحجة بعد الحجة على صدق الرسالات السماوية ـ عموما ـ اختص الحديث عن رسالة النبي محمد (ص) وبين انها تحتوي على ذات المواصفات الموجودة في أية رسالة سماوية.

فهي برهان من الله يشهد عليه الله سبحانه بما فيها من قيم صادقة ، وهي نور مبين ينير للإنسان كافة جوانب حياته ، وهي خير لمن اتبعها واعتصم بها. سعادة ورفاه وهدى.

وختم القرآن سورة النساء بما بدأ السورة من بيان حكم اجتماعي يتجلى فيه حكم الإسلام العادل الذي يعطي كل ذي حق حقه.

بينات من الآيات :

القرآن نور وهدى :

[١٧٤] القرآن برهان من الله ، وبذلك يكون هدى لحياتنا فيه كل الجوانب

٢٦٩

العامة من قيم الخير ، وهو نور من الله ، وبذلك يكون توضيحا لتفاصيل خطوط الحياة.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً).

[١٧٥] ولأن القرآن برهان من الله فهو يربط البشر بربه وعلى البشر ان يستجيب لهذا الربط بالايمان ، ولأنه من جهة اخرى ـ نور ـ فعلى البشر ان يستضيء به ، ويتبعه ويعتصم ويتمسك بحبله.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ)

حيث جاءهم برهان من الله.

(وَاعْتَصَمُوا بِهِ)

حيث جاءهم نور من الله.

(فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ)

متمثلة في حياة سعيدة تتوافر فيها حاجات الجسد والروح والفرد والمجتمع وبكل طبقاته وعناصره.

(وَفَضْلٍ)

متجسد في الرفاه المادي ، والتطلع الروحي. ذلك ان السعادة هي الدرجة الاولى من الخير ، وقد يكون الفرد سعيدا ولكنه لا يكون ذا رفاه عظيم ، بيد ان الفضل هو الدرجة العليا في سلم الخير ، وهو الذي يوفره الايمان واتباع الإسلام.

(وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً)

٢٧٠

فيكون تحقيق الخير والفضل في الدنيا مقدمة لسعادة ورفاه أكبر في الآخرة ، كما يكون تحقيق هذه جميعا بأقل قدر ممكن من الجهد لأنه يتبع صراطا مستقيما وهو أقرب الطرق الى الهدف.

كيف ترث الطبقة الثانية :

[١٧٦] وكمثل على ذلك منتزع من حكم الإسلام في القضايا الاجتماعية التي ابتدأت سورة النساء بها ، وتختتم بها أيضا ، كمثل على ذلك يبيّن القرآن حكم الإرث الذي هو من جهة رابط اجتماعي بين أجنحة الاسرة الواحدة ، ومن جهة ثانية : طريق سليم لتوزيع الثروة ومحاربة تكريسها ، ومن جهة ثالثة : احترام لحقوق الفرد (الميت) الذي بذل جهودا كبيرة للحصول على المال ، فمن حقه ان يقسم هذا المال بعد موته على أقرب الناس اليه ، وذلك بعد أداء ديونه وتنفيذ وصاياه.

في الإرث طبقات ثلاث متدرجة لا ترث الطبقة الثانية فيها الّا بعد ان ينعدم أي شخص في الطبقة الاولى ، والطبقة الثالثة لا ترث شيئا الا في حالة عدم وجود أحد من أبناء الطبقة الثانية والاولى.

والأخوات هن في الطبقة الثانية (بعد الأبوين والأولاد) وفي حالة وجود أخت واحدة للميت ترث نصف التركة ، وإذا كانت له اختان فإنهما تتقاسمان ثلثي المال ، أما إذا كانوا أكثر من ذلك ، بل مختلطين ، أي كان للميت اخوة وأخوات فهم يتقاسمون المال على أساس نصيبين للذكر ونصيب للأنثى.

كل ذلك في حالة عدم وجود أحد من أبناء الطبقة الاولى ، أي الوالدين والأولاد.

٢٧١

(يَسْتَفْتُونَكَ)

أي يسألونك أن تصدر فتوى في قضية الكلالة.

(قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)

أي الاخوة والأخوات.

(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ)

ولا والد ، وانما أغفل القرآن ذكر الوالد لان الأغلب عدم وجود الوالد مع هلاك الشخص.

(وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ)

أما إذا ماتت هي وتركت أخا أو مات رجل وترك أخا لا غير ، فهو يرثها أو يرثه بالكامل.

(وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ)

أما إذا مات الرجل ، وخلف أختين فهما تتقاسمان ثلثي المال لكل واحدة الثلث.

(فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً)

فهم يرثون المال على أساس نصيب واحد للأنثى ، ونصيبين للذكر.

(فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

أي انما يبين الله احكامه لكم لكي لا تضلوا ولكي لا تبخسوا حقوق أحد

٢٧٢

لحساب الآخرين ، والله يعلم ما يناسب الصلات الرابطة بين أبناء المجتمع ، وأبسط الحقوق ، فيضع لها احكاما مناسبة. هل هناك من يعلمها الّا الله ، حاشا لله ..

٢٧٣
٢٧٤

سورة المائدة

٢٧٥
٢٧٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الهداة الميامين.

فضل السورة

عن عيسى بن عبد الله ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي عليه السلام قال :

«كان القرآن ينسخ بعضه بعضا ، وإنما كان يؤخذ من أمر رسول الله (ص) بآخره ، فكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة ، نسخت ما قبلها ، ولم ينسخها شيء ، فلقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء ، وثقل عليه الوحي حتى وقعت وتدلّى بطنها حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض ، وأغمي على رسول الله (ص) حتى وضع يده على ذؤابة شيبة وهب الجمحي ، ثم رفع ذلك عن رسول الله (ص) فقرأ علينا سورة المائدة ، فعمل رسول الله (ص) وعلمناه»

٢٧٧
٢٧٨

الإطار العام

استوحى اسم السورة من قصة ذكرت في اخرها والعبرة فيها : أنّ الرفاه الاقتصادي نعمة تهبط على البشر من السماء بقدر التزامهم بمناهج الله وأحكامه.

وتتناسب هذه العبرة مع الإطار العام لأحاديث السورة ، التي تدور في محور التنظيم الاجتماعي وبصورة تكاد تكون قريبة الى اطار سورة النساء اللهم الا في نقطة واحدة. ان هذه السورة تعني في الأغلب بالروابط الاجتماعية العامة ، بينما كانت سورة النساء تركز على العلاقات الأسرية والحقوق المتبادلة فيها ، وبالذات قضايا الإرث ، وما أشبه.

تبتدء السورة بضرورة الوفاء بالعقود ، باعتبارها الرابطة الاعتبارية الأساسية التي تبني حضارة الإنسان ، ولكن القرآن يحدد العقود في حدود احكام لا يجوز أن تتجاوز.

٢٧٩

من ابرز هذه الأحكام ما بينّه القران ، في الأطعمة التي هي أول واهم ما تتناوله عقود البشر ، لأنها مرتبطة بأشد الحاجات ضرورة لهم.

وبعد بيان طائفة من أحكام الأطعمة التي فيما بينها حكم الصيد ، وحكم حرية التجارة ـ خصوصا في الأشهر الحرم ـ والتعاون على البر والتقوى وما أشبه ، مما يتصل من قريب بقضية الطعام (الآيات ١).

بعدئذ يتحدث عن طعام الذين أوتوا الكتاب حيث يحله القرآن للمسلمين ، ويشجع بذلك التجارة بين أهل الكتاب وبين المسلمين في الاطعمة (الاية).

ثم يبين القرآن بعض احكام الطهارة في الإسلام ، المتصل بالعلاقات الاجتماعية (حيث ان التطهر يحبب الناس بعضهم الى بعض ، وهو حق من حقوق المجتمع على الفرد) (الآية).

ويحدثنا القران (بعدئذ) عن ضرورة الوفاء بالمواثيق باعتبارها ركنا اساسيا للعلاقات الاجتماعية ، وإذا كانت العقود وسيلة للتبادل التجاري ، فإن المواثيق وسيلة للتعاون السياسي الاجتماعي ، الا ان المواثيق يجب ان تهدف تحقيق العدل في الحياة (الآيات ٧).

كما تحددت العقود بالاحكام الشرعية وبالتعاون على البر.

والميثاق السياسي للدولة الاسلامية هو أهم ما يجب على الأمة احترامه ، ويسوق القرآن قصصا تاريخية من واقع بني إسرائيل ليجسد لنا مدى ضرورة الالتزام بالمواثيق وكيف أن نقضها يورث الدمار واللعنة (الآيات ١٢).

ثم يحدثنا عن ضرورة تطبيق شريعة السماء في المجتمع. انها نور وهدى ، سواء

٢٨٠