من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً)

وعدم العدالة قد يكون بالاهتمام بزوجة وترك الاخريات كالمعلقات لا يحظين بحقوق الزوجية الجنسية والاقتصادية والاجتماعية ، ولا هن مطلقات حتى يتزوجن غيره.

ومن الناس من يتزوج أرملة بهدف التهام أموالها ثم يتركها تعاني الأمرين ، ولقد حذّر القرآن من ذلك وأمر هؤلاء بالاقتصار على زوجة واحدة.

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)

أي التسري بالإماء بهدف تفريغ الشهوة الجنسية ، والامتناع عن الفساد ، وهذا جانب من واقعية التشريع الاسلامي الذي يمنع بشدة الفوضى الجنسية ، ومن جانب آخر يفتح طريق اللذة الحلال بالزواج أو الملك.

(ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا)

فالاكتفاء بزوجة واحدة ، أو بالتسري بالإماء ، يمنع الميل عن الحق الى الباطل ، بينما تعدد الزوجات قد يتسبب في الظلم والفقر والمسكنة.

المهر حق المرأة :

[٤] بعد الحديث عن اليتيم جاء دور حقوق المرأة ، وأبرزها المهر ، لأنه مال ثابت تمتلكه أغلب النساء. فأمر الإسلام بإعطاء المهر للنساء ، وبيّن بذلك ان المرأة تمتلك تماما كالرجل ، سواء كانت متزوجة أم عانسا ، وقد كانت الانظمة البشرية تنفي حق المرأة في الامتلاك خصوصا المتزوجة ، وقريبا جدا استطاعت المرأة الغربية ان تحافظ على حريتها في التملك بعد الزواج ، بالرغم من ان

٢١

الإسلام أعطاها هذا الحق منذ اليوم الاول.

والواقع ان الجاهلية لا تستطيع إلّا ان تظلم الضعفاء ، والمرأة هي العضو الضعيف في المجتمع ، ولا يزال العالم الغربي يظلمها في شخصيتها وحقوقها العامة.

ويسمي القرآن المهر صداقا ليبيّن فلسفته التي هي : المصادقة على عهد الزوجية ، ذلك ان الرجل يغري فتاة بحلم الزواج ، وعند ما يقضي ووطره منها يتركها للفحشاء ، فكان عليه ان يقدم دليلا على صدق حبه لها ، وحسن نيته في ادعاء الزواج ، وذلك الدليل هو المهر ، من هنا قال ربنا :

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)

النحلة هي : العطاء ، أي قدموا لهن المهر عطاء لا رجعة فيه ، والهنيء ما يسبب الراحة النفسية ، والمريء ما يسبب الراحة الجسدية.

ولا ريب ان المال الحلال الذي يأكله الإنسان براحة نفسية يعطي الجسد راحة جسمية أيضا لطبيعة العلاقة بين النفس والجسم.

البعد الاجتماعي في الحق المالي :

[٥] المال حق من حقوق الفرد ، ولكنه ملك لجميع الناس ، وللناس أن يفرضوا الرقابة عليه لئلا يصبح أداة فساد ، ولذلك فان السفهاء يحرمون من حق التصرف في أموالهم ، لان تلك الأموال هي أموال المجتمع قبل أن تكون للسفهاء.

ولأن المال وضع ليؤدي دور المنظم لا نشطة المجتمع ، والحافظ لجهود الناس ،

٢٢

فاذا استغله صاحبه في الفوضى والفساد والسلبية والسرف فانه يفقد دوره ويصيب الضرر جميع أبناء المجتمع ، ولنتصور سفيها بدأ يشتري البضاعة بأضعاف ثمنها ، انه سوف ينشر الخلل في موازين السوق ، وبالتالي يصاب الكثيرون من المحتاجين الى تلك البضاعة بالضرر الفادح.

من هنا يخط الإسلام خطا وسطا بين الرأسمالية والشيوعية ، فيحفظ للفرد حقوقه ، ويعطيه دوافع للإنتاج ومجالا للاختيار والتحرك ، كما يحفظ للمجتمع حقوقه في الرقابة على نشاطات الفرد ، وتوجيهها حسب مصلحة الجميع ومن أجل البناء والازدهار.

من هنا تجد التعبير القرآني يؤكد على ان المال ملك للجميع بالرغم من ان السفيه مختص به أكثر من غيره ، وبين فلسفة ذلك بقوله :

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً)

هذا الغني الذي يصرف أموال المجتمع على متاعه الخاصة ، بينما كان عليه ان يصرفها في بناء المشاريع العمرانية والانسانية ، وهذا المستكبر الذي يستثمر ثروته في محاربة الرسالة ومقاومة اصلاحاتها ، وهذا المترف الذي يشجع الفاحشة ويبني دور اللهو والبغاء والمخدرات ، وهذا المفسد الذي يحتكر التجارة لذاته ، ويعمل بطريقة انانية تضر بمصلحة سائر التجار والجماهير ، انهم جميعا يتجاوزون حدّهم ، ويتصرفون في أموال المجتمع بما يخالف النظام الذي يستقيم بالمال ، ويضارون بالناس. وهنا عليهم ان يقفوا ضدهم ويحجروا على أموالهم ولا يعني ذلك مصادرة أموالهم حتى لا يعطي ذلك مبررا لبعض المنتفعين بالحكومات ان يتهموا الناس ببعض هذه التهم لمصادرة أموالهم : كلا ... بل يعني وضع أموالهم تحت رقابة هيئة مخلصة تقوم هي باستثمارها في الصالح العام ، وتضع الأرباح في

٢٣

حسابهم ، بعد أن تأخذ من أموالهم قدرا معروفا لقاء أتعابها.

وتقوم الهيئة بتوجيه هؤلاء نفسيا ، وتحاول تربيتهم على الأفكار التجارية السليمة تمهيدا لإصلاحهم ، واعادة أموالهم إليهم.

لذلك تجد القرآن يستخدم كلمة (في) ويقول :

(وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ)

بينما كان من المنتظر ان يستعمل كلمة (من) وهذا التغيير جاء للدلالة على ضرورة صرف هذه الأموال في مصلحة السفهاء ، والرزق هو مثل للحاجة الطبيعية ، بينما الكسوة مثل للحاجة الكمالية (الاجتماعية).

ثم قال ربنا عن الجانب التربوي لهؤلاء :

(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)

حتى لا تتحطم نفسيتهم ، ولا يعودوا يصلحون للحياة أبدا.

يبقى ان نقول : ان السفيه هو الذي يخالف مصالحه الحقيقية حسب رؤية الشرع ، ومقياس العرف الصالح. والقيام استخدم في القرآن بمعنى النظام ، أو ما به استمرار الشيء وبقاؤه.

المراهقة الفكرية جذر السفه ...

[٦] السفه قد يكون بسبب آفة عقلية أو نفسية تطرأ على صاحبه ، وقد يكون بسبب المراهقة ، وعن هذه الثانية تتحدث الآية :

٢٤

( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ )

فانما يعاد لليتيم أمواله بعد أن يختبر ، ليكشف بلوغه سن النكاح ، وتمتعه بالرشد الكافي للتصرف في أمواله بما يخدم مصلحته ومصلحة مجتمعة.

ويؤكد القرآن هنا مرة اخرى ضرورة المحافظة على حقوق اليتامى ويقول :

(وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا)

ذلك ان الذي يأكل أموال اليتيم يسرف فيها ، ويسابق الزمن في التهامها قبل ان يكبر اليتيم فيطالبه بالأموال ، بدارا : أي مبادرة قبل ان يكبر اليتيم.

ولكن مع ذلك يبقى لولي اليتيم الحق في أخذ أجرته في المحافظة عليه وعلى أمواله ان كان فقيرا أو محتاجا الى ذلك.

(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)

اى ان الأهم من الاشهاد هو الوازع النفسي الذي يرى الله عليه حسيبا ، فيمنعه عن أكل مال اليتيم.

الإرث لماذا؟ لمن؟ كيف؟

[٧] من مظاهر الاقتصاد الموجه الذي يؤمن به الإسلام هي حقوق الإرث ، والتي تشجع الإفراد على العمل والانتاج باثارة غريزة حب الأبناء لديهم ، حتى إذا كان الفرد غنيا عن المال بالنسبة الى حاجاته الخاصة ، عمل من أجل إسعاد

٢٥

ابنائه بعد موته.

ثم ان الإنسان معرض للموت في أية لحظة ، وقد تراوده فكرة خبيثة فيفكر : لما ذا اعمل ولمن؟

وبالرغم من بعض العادات والانظمة الجاهلية التي منعت الإرث عن النساء ، يؤكد القرآن هنا على مخالفة تلك العادات والانظمة ويقول :

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً)

أي لكل رجل أو امرأة حق مفروض في تركة الميت القريب منهما في الرحم.

[٨] وللمجتمع حق معلوم في تركة الميت ..

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى)

ممن لا تربطهم بالميت صلة قرابة تقتضي توريثهم.

(وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)

والقول المعروف هنا وفي كل مناسبة تشبه الإرث يعني : ضرورة العمل من أجل رفع مستوى الطبقات المحرومة نفسيا وتر بويا حتى لا يشعروا بالذل والمهانة ، بل ولكي يساعدهم مستواهم الرفيع على محاربة واقعهم ، والعمل الجاد على إصلاحه وتطويره.

فهذا اليتيم الذي اضطرته الحاجة المؤقتة الى ان يحضر قسمة الإرث ، يرمق ببصرة تركة الأموات ، انه سيصبح غدا شابا قويا قادرا على العمل البناء ، لو لم

٢٦

تحطم نفسيته أيام فقره وحاجته ، ولو لم تحطم سمعته امام الناس وينظر اليه كطبقة هابطة ومنبوذة في المجتمع ، وكذلك المسكين العاطل عن العمل اليوم قد يجد غدا عملا يناسبه ، فيصبح عضوا فعالا في جسم المجتمع ان لم يشعره المجتمع أيام مسكنته بأنه من طبقة منبوذة.

من هنا يركز القرآن على ضرورة إعطاء الطبقات المحرومة جرعات روحية بالاضافة الى توفير الحاجات المادية لهم ، لتساعدهم تلك الجرعات على مقاومة واقعهم بأنفسهم ، أو لا أقل لكي يحظوا بالسعادة من تقدير المجتمع لهم ، وعدم النظر الى وضعهم الاقتصادي المنحط.

كما تدين تدان :

[٩] وبمناسبة الحديث عن الإرث بيّن القرآن مرة أخرى حكم اليتيم باعتبار ان كثيرا من الأموات يتركون ذرية صغارا من ورائهم ويتعرض هؤلاء لطمع الجشعين ، وأخذ القرآن يحرك فينا خوفنا الفطري من الموت ، وضياع ذريتنا من ورائنا وقال لو لم يحترم المجتمع حقوق اليتامى فكل فرد مهدد ان تغتصب حقوق يتاماه غدا كما يغتصب هو حق اليتامى اليوم. إذا ... فان لم يكن لله فلأنفسنا نحافظ على حقوق اليتامى.

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ)

اذن فلا يظلمون ذرية الناس ما داموا هم أصحاب ذرية يخشون عليهم لو ماتوا ... أفلا يعرفون ان من طرق باب الناس طرق بابه.

(فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)

٢٧

فلا يخالطون في حساب الإرث ويقسمونه بحيث يظلمون حق اليتامى.

[١٠] ثم هدد القرآن الحكيم الذين يأكلون أموال اليتامى وقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)

ما هذه النار التي يأكلونها؟ هل هي هذه المواد الحرام التي تتحول ـ بقدرة الله ـ الى نار لاهبة في يوم القيامة؟ أم انها الآلام النفسية ومن ثم الجسدية التي تلاحقهم بسبب ظلمهم اليتامى؟ أم انها الانحرافات الاجتماعية التي سوف تحرق حضارتهم وتخرب عمرانهم عاجلا أم آجلا؟

المهم انها نار في الدنيا وسعير في الآخرة ... وكفى بذلك رادعا عن الاقتراب من حق الضعفاء.

٢٨

يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ

٢٩

فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)

____________________

١٢ [كلالة] : أصل الكلالة الاحاطة ومنه الإكليل لاحاطته بالرأس ومنه.

الكل لاحاطته بالعدد فالكلالة تحيط بأصل النسب الذي هو الولد والوالد.

٣٠

الإرث بين الاهداف والالتزام

هدى من الآيات :

في الآيات هذه بعض احكام الإرث ، والتي تكشف ما وراءها من النظرة الاسلامية في الطبقات المتدرجة للتنظيم الأسرى ، وللحقوق المتبادلة فيها.

والإرث عموما رابطة وثيقة تشد أبناء الاسرة ببعضها ، كما انه في الاقتصاد الاسلامي طريقة لتوزيع الثروة في المجتمع.

وأهم حكم يعكسه أحكام الإرث في هذه الآيات وأشده إثارة للجدل هو : تفضيل الذكر على الأنثى في أغلب موارد الإرث ، إذ ان الإسلام يعطي الذكر دورا قياديا أكبر في الاسرة ، وتحميله نفقات العائلة دون الأنثى فيضاعف نصيبه من الإرث ومع ذلك فانه عند التعمق نجد ان المرأة تشارك الرجل في ارثه ، دون ان يشاركها الرجل فيتعادلان ، أو تميل كفة المرأة قليلا فتحصل على قدر أكبر من الإرث.

وتتحدث الآية الاولى عن ارث أبناء العائلة التي تتكون من الوالدين والأبناء

٣١

والاخوة.

بينما تتحدث الآية الثانية عن العلاقة الزوجية وكيفية تبادل الزوجين الإرث من بعضهما.

اما الآيتان الثالثة والرابعة ، فهي تبين ضرورة الالتزام الدقيق بأحكام الله التي يسميها القرآن بالحدود ، ويوعد من تجاوزها بأشد العذاب.

بينات من الآيات :

حكمة الإرث :

[١١] انطلاقا من طبيعة الدور الذي يكلف الذكر به في الحياة العامة وفي الحياة الزوجية وهو دور الإنفاق والتوجيه الأشد صعوبة والأكثر جهدا ، فقد حدد القرآن للذكر ضعفي نصيب الأنثى من الإرث ، وعبر عن ذلك بقوله تعالى :

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)

ويبدو هذا التعبير رؤية حياتية أكثر من ان يكون قاعدة قانونية.

فالذكر في طبيعة ودوره الفطري الذي خلق له ، هو ان يصبح له مثل حظ الأنثيين في المجال الاقتصادي ، كما ان الأنثى تملك مثل حظ الذكرين في المجالات الاخرى العاطفية والجاذبية ، والقدرة على التربية.

واستعاض الله (بالوصية) عن صيغة الأمر فقال (يوصيكم) للدلالة على ان في ذلك فائدة كبيرة لكم قبل ان تكون امرا عليكم.

هذا إذا كانوا أولادا مختلطين من ذكور وإناث ، اما لو كن إناثا فقط فإنهن يقتسمن ثلثي التركة بينهن بالسوية.

٣٢

(فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)

اما بقية المال : فان كان للميت أبوان فإنهما يرثان الثلث فيما إذا كانتا اثنتين وأكثر ، وترث الام السدس ويرث الأب البقية فيما إذا كانت واحدة فلها النصف ، وكذلك يشاركهما الزوجان حسب التفصيل القادم.

اما إذا لم يكن للميت أبوان ولا زوج فان بقية المال يرد على البنات أو البنت بطريقة الرد.

(وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ)

اما الأب فنصيبه غير محدود فهو يأخذ البقية الباقية أنّى كانت قلّت أم كثرت ، فمثلا. إذا ماتت البنت فللأم الثلث أن كان للميت أم من دون أولاد وللأب الثلثان الباقيان ، اما لو كان الميت امرأة فلزوجها النصف مما تركت ، ولأمها الثلث ، ويبقى لأبيها السدس فقط.

(فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)

لان اخوة الميت يحجبون الأم عن سدس إرثها ، كل هذه التفاصيل والفروضات تحسب ...

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها)

الميت يتصرف في حدود ثلث المبلغ الذي خلفه لا أكثر ، الا إذا رضي الورثة بالزيادة فتعطى لمن وصى به حقه ، ثم تقسم التركة كذلك بعد الدين.

(أَوْ دَيْنٍ)

٣٣

فالدين المتعلق بالميت مقدم على الوصية ، وعلى الورثة حتى ولو غطى التركة كلها.

ان الإنسان يجب ان يرث أبناؤه كل ثروته دون أبويه ، وهما على شفا الموت بينهما أبناؤه يستقبلون الحياة الحافلة بالمشاكل والصعوبات ، من هنا يتساءل : لماذا وضع الله نصيبا مفروضا للأبوين؟ ويجب القرآن الكريم على ذلك :

(آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً)

فربما يكون الآباء هم أقرب الى نفعكم من الأبناء ، فلو لا جهود أولئك ومساعيهم ، ولو لا رعايتهم ولو لا خبرتهم لكانت حياتكم جحيما ، فلا بد ان تكون لهم مكافأة رمزية.

(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً).

موارد الإرث :

[١٢] بعد الحديث عن القرابة «الرحمية» جاء دور القرابة الزوجية «السببية» وبين القرآن ان الزوج يرث نصف تركة الزوجة ان لم يكن لها ولد ، والا فالربع ، اما الزوجة فترث الربع ان لم يكن له ولد ، والا فالثمن.

وأكدت الآية أكثر من مرة ضرورة أداء دين الميت واحترام وصيته ، وأكدتها هنا أكثر من الآية السابقة باعتبار ان العلاقة الزوجية لا تكون قوية فيستأثر الوارث منها بالمال دون ان يعير وصية الميت انتباها.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ

٣٤

الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ)

اما ارث الاخوة الذين يسميهم القرآن كلالة ، لأنهم في طبقته يشكلون زينته كالاكاليل فان اخوة الإنسان من الام يرثون هكذا : إذا كان أخ الميت واحدا فانه يورث سدس التركة ، اما إذا كان له أخوان أو ثلاثة فان ثلث المال يخصص لهم فيتقاسمونه بينهم بالسوية ، لا فرق بين الذكر والأنثى (اي بين الاخت والأخ).

لذلك قال ربنا :

(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ)

اي ان كان ميت يرثه أقاربه على طريقة الكلالة سواء كان الميت رجلا[أو امرأة]

وهناك مثل لارث الكلالة هو ان يكون للميت وارث واحد.

(وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ).

اما إذا كان له أكثر من ذلك اى اثنان فزائد فالحكم يختلف :

(فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ)

انما قدمت الوصية على الدين لان أكثر الناس يوصون بينما قد لا يكون الأمر كذلك بالنسبة الى الدين.

والا فان الدين مقدم على الوصية لان الدين يتعلق بحقوق الناس.

ولكن الوصية يجب ان لا تكون بقصد الإضرار بالورثة ، وفي هذه الحالة تلغى

٣٥

الوصية بسبب قانون «الضرار».

كما ان من كتب على نفسه دينا كاذبا بهدف الإضرار بورثته فان اعترافه هذا لا يؤخذ به ، ويتحقق القاضي في الأمر ليرى هل هو مديون فعلا أم لا؟ ...

(وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ)

عليم بما يفعله العباد ببعضهم من الظلم ، لكنه يحلم عنهم لفترة دون ان ينساهم ، إذ سيأتي يوم يؤخذ فيه المسيء بأشد الجزاء.

[١٣] يسمي القرآن احكام الدين ب (الحدود) تعبيرا عن الدقة المتناهية التي تتميز بها هذه الأحكام ، والتي من الضروري ان يراعيها المؤمن فليس من الصحيح الزيادة أو النقيصة فيها باجتهادات خاصة أو حسب مصالح مؤقتة ، لأن أية زيادة أو نقيصة تحمل في طياتها عقوبة تجاوزها.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

[١٤] (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ)

ان الاستخفاف بحدود الله ينتهي الى الهوان في الآخرة ، ولأنه في الواقع يصل الى درجة معصية الله والتهاون به.

٣٦

وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ

____________________

١٩ [تعضلوهن] : العضل التضييق بالمنع من التزويج وأصله الامتناع.

٣٧

لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)

____________________

٢٠ ـ [قنطارا] : المال الكثير.

[بهتانا] : كذبا.

٢١ [أفضى] : الإفضاء الى شيء هو الوصول اليه بالملامسة.

٣٨

المرأة والمجتمع حقوق وعلاقات

هدى من الآيات :

من الحقوق الثابتة للمرأة الحصانة عن القذف والتهمة ، ذلك أن رأسمال المرأة سمعتها وعفتها ونظافة حصنها ، ولا بد أن تبقى هذه السمعة مصونة من ألسنة العابثين.

الا إذا اخترقت حجاب العفة ، ومارست الفاحشة علنا ، وبصورة جلبت أنظار أربعة شهود من المؤمنين آنئذ يجب ان تحجز بعيدة عن أصحاب الشهوات الذين يتخذونها سلعة ومتاعا رخيصا.

وابعاد المرأة عن ممارسة الفحشاء ، وتوفير حاجاتها من بيت المال ، حق آخر من حقوقها على المجتمع.

وبمناسبة الحديث عن القذف ، ولأنه جريمة تشتهر في المجتمعات الجاهلية ، ويستهين بأبعادها الناس ، فقد ذكر القرآن التوبة ، وبين ان باب التوبة مفتوح لمن أراد أن يدخله ، ولكن بشرط أن يسارع اليه قبل ان يحضره الموت ، فاذا حضره

٣٩

فان التوبة لن تقبل.

بعد حق الحصانة الاجتماعية بيّن القرآن مرة اخرى حق المرأة في الملكية وحرمة أكل إرثها جبرا ، أو الضغط عليها لتتنازل عن بعض مهرها للزوج كما بين حق العشرة المعروفة معها بالرغم من سلبياتها.

وعاد وبيّن حق المرأة في المهر بمجرد الزوجية ، وانه لا يحق للزوج استرجاع المهر ان أراد أن يطلقها.

وعموما : يتحدث هذا الدرس عن جانب من حقوق المرأة بالنسبة الى علاقتها الزوجية والاجتماعية.

بينات من الآيات :

التشريعات حصن المجتمع :

[١٥] اهتمام الإسلام بالاسرة يفوق اهتمامه بأية روابط اجتماعية (غير المبدئية) ، لأنها الإطار الطبيعي المتين للتعارف والتعاون والتفاعل من أجل بناء حضارة الإنسان ، ولكي يحافظ الإسلام على الاسرة حصّنها بسور منيع من الانظمة والتعليمات ، ومن أهمها تحريم الفاحشة والقذف.

فلا يحق للمرأة في أي وجه من الوجوه أن تتجاوز حدود الاسرة ، وبينها هو بين الزوج في علاقاتها الجنسية أو العاطفية.

وإذا امتنعت الأنثى عن تعاطي الجنس اللامشروع ، فان الرجل يضطر الى أن يبحث عن الزواج المشروع ، وان يقدم في سبيله الكثير من التنازلات ، وبالتالي أن يحافظ على كرامة المرأة من جهة ، وعلى متانة الاسرة وقوتها وتماسكها من جهة

٤٠