من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)

____________________

٩٦ [للسيارة] : السيارة المسافرون.

٤٦١

الصيد في الحج

هدى من الآيات :

الطعام يجب ان يكون بهدف العمل الصالح والايمان والإحسان الى الناس ولذلك يحرم من الطعام ما يخالف هذا الهدف مثل الخمر.

وقد يكون الطعام وسيلة لدعم اهدافه بصورة النفي مثل ترك الطعام في الصيام. حيث انه يقوى التقوى والاحساس بالمسؤولية ، وبالتالي الإحسان والعمل الصالح وكذلك ترك الطعام في الحج.

فحرمة الصيد في الحرم أو خلال القيام بمراسم الإحرام لا تعني أن في الطعام جرثومة ، بل تعني ان الطعام ذاته أصبح مادة لاختبار ارادة الإنسان ولدعم قدرتها على ضبط الشهوات.

في هذه المجموعة من الآيات يبيّن الله فلسفة حرمة الصيد في الحج.

ويضع مجموعة من الروادع المادية لمن يصطاد في الحج أو في الحرم حيث يجب

٤٦٢

عليه ان يكفر عن ذنبه بمثل ما اصطاد من الحيوان ، وبالتالي يجب عليه ان يقهر شهواته التي حاولت الاستفادة من الحياة بالعطاء لها مجددا حتى يعرف ان اتباع الشهوات يؤدي الى الوبال.

وفي الوقت الذي حرم صيد البر ، أحل الله صيد البحر في حالة الإحرام لان الهدف هو تنمية الارادة وتربية روح التقوى ، وليس الهدف تجويع الإنسان.

بينات من الآيات :

الصيد وامتحان الإرادات :

[٩٤] بالرغم من ان عملية الاصطياد في الحج تتم بصورة مشروعة وليست استثمارا لجهد الآخرين ، إذ ان صاحب الصيد هو صاحب العمل ، بالرغم من ذلك فقد حرم الله هذا الصيد لا لأنه استثمار لجهد الناس (كما في حرمة الربا) ولا لأنه يضر بعقل الإنسان ، ولا لأنه يضر بجسمه (كما في حرمة لحم الخنزير) ، ولكنه لمجرد اختبار ارادة الإنسان وتنمية روح التقوى فيه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ)

إذا ، فهو امتحان ، والهدف منه معرفة الذي يخشى الله بالغيب ، وهو ذلك الذي استفاد من نور عقله في اكتشاف عاقبة عمله ولم يحدد رؤيته بما يراه امام عينه ، بل نظر بعيدا بعيدا. نظر الى الله الذي يراقب عمله ، ويحصي عليه ذنوبه ، فيجازيه عليها فخشيه.

(فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)

٤٦٣

من اعتدى على حرمات الله بعد ان بينها ربنا فانه يستحق عذابا أليما.

اهداف الحرمة :

[٩٥] الحكم الذي جعله الله مقياسا للامتحان هو : حرمة قتل الصيد في حالة الإحرام ، أو في منطقة الحرم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)

لماذا هذا الحكم؟

لان الإحرام يهدف التجرد عن الذات ، وتنمية روح التقوى. ولا تتناسب هذه الحالة مع الانتشار في الأرض طلبا للصيد بما يحمل ذلك من اهتمامات بين الوافدين من مختلف بقاع الأرض من أجل أداء فريضة الحج فلو اهتموا ـ وهم يسيرون الى مكة بالصيد إذا لازدادت احتمالات الصراع بينهم على الصيد ، وبالتالي تناقض ذلك مع هدف الحج الذي هو توحيد الامة الاسلامية.

كفارة الصيد :

(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)

ذلك لان لكل حيوان وحشي يصاد مثيلا من الحيوانات الآهلة ونظيرا له في الحجم والشكل والفصيلة.

من هنا يجب دفع الكفارة حسب حجم الحيوان وشباهته ، فمثلا الغزال نظير الشاة في الحجم.

٤٦٤

والمرجع القانوني لتمييز المثيل المناسب للصيد هو الناس أنفسهم (العرف العام) الذي يعبر عنه اثنان من العدول.

(يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)

ويصرف هذا الجزاء للكعبة وزوارها الحجاج إليها.

(هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ)

وبإمكان الشخص ان يؤدي التعويض المادي وذلك بإطعام المساكين ، حسب الصيد ، وبعدد ما يشبع الصيد أو كفارته (من الناس) فلو كان الصيد يشبع عشرة اطعم عشرة مساكين.

(أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ)

وباستطاعته ان يصوم بقدر الأيام التي يشبعها الصيد فمثلا : بدل ان يقدم شاة تشبع عشرة رجال ، أو يطعم عشرة رجال مساكين ، بدل هذا وذاك ، باستطاعته ان يصوم عشرة أيام كفارة لصيد الغزال الذي يعادل الشاة.

(أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ)

وخلاصة القول : ان على الإنسان ان يعوض عن صيده بقدر ما استفاده من ذلك.

اما إذا كان الصيد قبل الحكم بحرمته ، أو قبل العلم بهذا الحكم فانه يعفى عنه.

(عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ)

٤٦٥

بيد ان من اصطاد ، ثم كفّر ، ثم اصطاد بصورة متعهدة فان الكفارة لا تزيل ذنبه بل يبقى مذنبا حتى يلاقي ربه فيجازيه على ذنبه.

(وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)

أحل لكم صيد البحر :

[٩٦] ليس الهدف من حرمة صيد البر تجويع الوافدين الى البيت الحرام ، بل تنمية إرادتهم وتقواهم ، ومنع التشاجر بينهم من هنا أحل لهم صيد البحر لأنه لا يسبب عداء عادة.

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ)

اي متاعا لكم أنتم المقيمون في الحرم ، وللسيارة المسافرين الى الحرام.

(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

٤٦٦

جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)

____________________

٩٧ [الهدي والقلائد] : الهدي ما يهدى من الأنعام الى الكعبة ، والقلائد ما يقلد به الهدي علامة له.

٤٦٧

الحج أيام الحرية

هدى من الآيات

كان القران الكريم يبين لنا طائفة من الأحكام المرتبطة بتنظيم الحياة الاجتماعية وطائفة من المحرمات التي استهدفت المحافظة على وحدة الناس.

ومنها ضرورة الالتزام بالايمان وحرمة نقضها ، وحرمة الخمر والميسر باعتبارهما معولي هدم للمجتمع ، وحرمة الصيد في الحج.

في هذه المجموعة من الآيات يبيّن لنا :

اولا : الهدف من الحج الذي يلخصه في أمرين يلتقيان بالتالي ليصبحا امرا واحدا وهما : اقامة حياة الناس ، وتنظيمها تنظيما صالحا.

ثانيا : إيجاد وازع داخلي لدى الناس يأمرهم باتباع هدى الله وقبول أوامره ، ذلك الوازع هو العلم بالحقائق التالية :

٤٦٨

اولا : بان الله رقيب عليهم ويعلم ما يجري عندهم.

ثانيا : الرسول ليس مسئولا عن أعمالهم بل هم المسؤولون اولا وأخيرا ، وما على الرسول الا أداء الرسالة إليهم.

ثالثا : بأن هناك طيبا في الحياة وخبيثا ، وانهما لا يستويان. فليس الإنسان طيبا بذاته وخبيثا بذاته بل قد يكون طيبا وقد يكون خبيثا ، وعليه ان يختار لنفسه. وعلى الإنسان ان يستخدم عقله ويختار لنفسه اما باتجاه الطيب أو الخبيث.

وبمناسبة الحديث عن هذا الوازع يحدثنا القران في الدرس القادم عن العلم بالاحكام الشرعية حسبما نأتي الى ذكره :

بينات من الآيات :

رموز الحرية :

[٩٧] لماذا الكعبة ولماذا الحج إليها ، هل الكعبة مقام عبادة يتقرب بها الناس الى ربهم أم هي مدرسة تزكي النفس البشرية .. أم هي أكثر من ذلك (مركز تجمع للامة الاسلامية) تنظم حياتهم على الأرض وتعدهم لدخول الجنة في الاخرة؟ هي في الواقع كل ذلك.

يقول الله عن الكعبة :

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ)

هذه المناسك تجعل الكعبة كمنطقة حرة ، والشهر الحرام أيام الحرية ، والهدي

٤٦٩

والقلائد كاشياء مادية محترمة (اي محررة لله لا لعباد الله).

هذه الأمور كلها رموز الحرية جعلها الله للناس قياما اي تنظيما لحياتهم إذ ان الحرية هي أساس تنظيم الحياة الاجتماعية ففي المنطقة الحرة تجتمع الجماهير لتعبر كل طائفة عن رأيها الصريح ، ويتفق الناس فيما بينهم حول ما يشاءون ، ويتعاونون من أجل بناء حياتهم الكريمة ، ويتحدون من أجل مقاومة الطاغوت.

اما الشهر الحرام فهو الوقت الذي يحرم فيه التجاوز على الآخرين ، ويجب ان يسمح لكل الفئات خلاله بالمسير الى الحج ، ولا يتعرض أحد ، لهم بسوء انى كانت الدوافع الى هذا التعرض.

اما الهدي والقلائد فهذه الأشياء لا يجوز لأحد الاعتداء عليها لأنها ليست لأحد بل هي لله وللجميع ، اي لكل الوافدين الى الحج. انها رمز الملكية الجماهيرية ، انها رمز التعاون في الاستفادة من أشياء هذه الأرض من أجل رفاه الناس جميعا.

الحرية بين الفوضى والتحرك :

ويبقى سؤال : كيف تصبح الحرية سببا لقيام المجتمع ونحن نعلم ان الحرية قد تسبب الفوضى؟

الجواب :

اولا : ان الحرية تعني ان كل الناس أحرار ولا يعني بالطبع ان تكون طائفة واحدة أو شخص واحد فقط هو الحر. وإذا طبقنا هذه القيمة (اي الحرية للمجتمع) فان ذلك يعني انضباط الجميع في نفس الوقت. إذ لا يجوز لا حد ان

٤٧٠

يسلب حرية الآخرين بل عليه ان يحترمها.

وهذا الاحترام المتبادل لحقوق الآخرين هو أكثر ما يوفر الانضباط والتقيد.

من هنا تصبح الحرية نظاما عادلا ومستقرا.

معنى الحرية :

ثانيا : سمى القران الحرية هنا بالإحرام والحرمة (البيت الحرام الشهر الحرام) وهذا يعني ان الحرية هي : الكف عن الاعتداء قبل ان يكون المطالبة بالحق.

فأنت حر إذا لم تتجاوز على حقوق غيرك ، والحقوق هذه يحددها الله ففي الحرم انظمة جعلها الله ، وعلى الجميع ان يلتزموا بها حتى تتوفر لهم جميعا الحرية الكافية.

هذا هدف من اهداف الحج ، ولكنه ليس كل اهدافه ، إذ ان هناك قضية تزكية الذات التي لا يمكن أن تحدث الا عن طريق وجود وازع في القلب ، وهذا الوازع ياتي عن طريق احساس كل فرد انه مراقب من قبل الله رقابة شاملة ، وبذلك يزداد شعورا بالمسؤولية وبالتالي التزاما بها ، من هنا يقول ربنا :

(ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

[٩٨] والله لا يراقب الناس فقط بل ويجازيهم بشدة ، أو يرحمهم برحمته الواسعة ، فالعبد بين ان يسقط الى الحضيض مرة واحدة أو يحلق في السماء عاليا.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

٤٧١

وهذه المعادلة تجعل النفس تندفع بسرعة هائلة الى الامام. إذ تجد انها بين قطبين متضادين بقوة ، فاما عقاب شديد واما مغفرة ورحمة فيصبح الإنسان وكأنه في معركة حاسمة تؤدي اما الى نصر مؤزر وإما الى هزيمة نكراء.

فكيف يكون اندفاع هذا الشخص وحذره وتحسسه بمسؤولياته وبالتالي تقواه؟!

من المسؤول :

[٩٩] وليس من الممكن ان يلقي الإنسان بمسؤولياته على الآخرين ، فمثلا يقول : ان الله ورسوله هو المسؤول عني ، وعن تربيتي وتزكيتي وهدايتي. كلا ، ان المسؤول الاول هو الإنسان نفسه ، اما الرسول فهو مسئول في حدود الدعوة فقط.

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ)

فاذا بلغ الدعوة الى الشخص فان مسئوليته قد انتهت ويبقى الإنسان مسئولا أمام الله.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)

[١٠٠] والناس فريقان ، طيب وخبيث ، وبينهما مسافة بعيدة وعلى المرءان يختار لنفسه أحد الفريقين ، ولكن ليعرف مسبقا ان الفريق الطيب هو الأفضل على رغم قلة ابنائه.

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ)

والتقوى هو زاد الإنسان للوصول الى مستوى الطيب فعلى الإنسان ان يتقي الله ويحتمل كل مسئولياته بوعي وحذر إذا كان عاقلا وإذا أراد السعادة.

٤٧٢

(فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

٤٧٣

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ

____________________

١٠٣ [بحيرة] : أصل الباب السّعة ، وسمّي البحر بحرا لسعته ، وفرس بحر واسع الجري وفي الحديث انه (ص) قال لفرس له وجدتها بحرا ، (الناقة إذا ولدت عشرة ابطن يشقون أذنها ويسيّبونها).

[السائبة] : السائبة فاعلة من ساب الماء إذا جرى على وجه الأرض ، ويقال سيّبت الدابة اي تركتها تسيب حيث شاءت ، وأصلها المخلاة وهي المسيّبة ، وأخذت من قولهم سابت الحبة وانسابت إذا مضت مستمرة (والسائبة هي التي تسيّبت في المرعى فلا تردّ عن حوض ولا علف إذا ولدت خمسة أبطن).

[وصيلة] : إذا وصلت بمعنى الموصولة كأنها وصلت بغيرها ويجوز ان يكون بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها وهذا أظهر في الآية (وهو ان يكون أحدهم كان إذا ولدت له شاته ذكرا أو أنثى قالوا وصلت أخاها فلا يصبح من أجلها).

٤٧٤

الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)

____________________

[حام] : هو العجل إذا ضرب عشرة ابطن يحمى ظهره فلا يركب.

٤٧٥

الجهل والتقليد آفة الصلاح

هدى من الآيات :

العلم بالحكم الشرعي يورث الإنسان مسئولية العمل به ، ولحكمة الله سبحانه فانه يتدرج في بيان الأحكام الشرعية حتى يستوعبها الناس بصورة مرحلية.

ولكن بعض الناس يستعجلون في الأمر فيحاولون معرفة الأحكام أو الحقائق مرة واحدة ، وقد لا يستوعبون فيكفرون بالحقائق أو لا يطبقون الأحكام فيكفرون بها.

انما على الإنسان ان ينتظر الوحي حتى يهبط بالحكم الشرعي أو بالحقيقة فيسأل عنها لان الله لا ينزل العلم الا في حينه ، وبقدر استيعاب الناس له.

وبسبب الاستعجال بالعلم بالاحكام ترى بعض الناس يصدرون احكاما من عند أنفسهم ثم ينسبونها الى الله ، أو يتقبلون التقاليد الجاهلية كأحكام ، ثم لا

٤٧٦

يتركونها بالرغم من مخالفتها لهدى العقل والعلم.

ان تقليد الآباء عقبة كأداء في طريق تحمل المسؤولية ، كذلك تقليد المجتمع حيث ان بعض الناس يتخذون من المجتمع عقبة لأعمالهم فيتركون بعض الواجبات لمجرد ان الناس لا يستحسنونها.

ان القران في هذه المجموعة من الآيات يقوم بتصفية العقبات النفسية من امام المسؤولية وهي العجلة وعدم المرحلية ، وتقليد الاباء ، واتباع المجتمع.

بينات من الآيات :

المرحلية في التشريع القرآني :

[١٠١] الاستعجال في فهم الحقائق سواء كانت مرتبطة بالاحكام الشرعية أو التقاليد الاجتماعية ، وقد لا يكون القلب مستعدا لتقبل تلك الحقائق فيسبب كراهية القلب لها أو قد يسبب كفر المسلم بها. لذلك نهى الله عن السؤال المبكر عن الحقائق قائلا

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)

انما علينا ان نسأل عن تلك الحقائق حين يحين موعدها اي حين تشاء ارادة الله بيانها وبما ان الله لا يريد ذلك الا حين تقتضي حكمة المرحلة : اي حين يستعد المجتمع لتقبل ذلك الحكم أو تلك الحقيقة العلمية ، فان وقت نزول القران يكون ملائما للسؤال.

(وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ)

٤٧٧

ثم ان القران لا يبين الحكم في مرحلة فحسب ، بل ويدعم ذلك بذكر الموعظة المناسبة للحكم ، والفلسفة التي استوجبته. كذلك يبين أن الله قد عفى عما سلف من الأعمال السيئة التي تأتي الأحكام الشرعية لا صلاحها وتزكية الإنسان منها.

(عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)

ومن ايات غفرانه .. عفوه عن سابق الذنوب ، ومن دلائل حلمه انه لا يبين الحقائق الا حسب المراحل.

الاستعجال طريق الكفر :

[١٠٢] ثم بين ربنا سبب نهيه عن السؤال المبكر وقال :

(قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ)

انهم كفروا بتلك الحقائق لأنها جاءت قبل موعدها ، وفوق مستواهم المرحلي لادراك تلك الحقيقة.

ان الله انزل الأحكام بصورة تدريجية حتى انه حرم الخمر عبر ثلاث مراحل ، ولم يشرع فريضة الزكاة الا متأخرا ولم يأذن بالجهاد الا بعد فترة حتى يكون المجتمع مهيأ نفسيا للحكم الشرعي.

تحريم الطيبات :

[١٠٣] ومن الامثلة التي كان الجاهليون لا يكفون عن السؤال عنها هي

٤٧٨

تلك النعم التي كانوا يحرمونها على أنفسهم بسبب من الأسباب ... مثل البحيرة والسائبة و.. وحيث انها كانت تنذر للالهة ، ثم بعد ان يذبحها أصحابها تترك في ارض الله لا يمسها أحد بسوء.

وقد بين القرآن الحكيم ان هذه النعم حلال على الناس ، وان الله لم يحرمها عليهم وذلك :

اولا : لان النذر للالهة حرام ، وحرام كل شيء يمت بعبادة الأصنام ، وحتى الذبيحة إذا كانت باسم الآلهة فانها تحرم حتى لو استوفت سائر شروط الذبح الاسلامية لمجرد انها ذبحت باسم الأصنام.

ثانيا : لان ذلك تشريع من دون اذن الله ، وهو بدعة وضلالة وشرك.

ثالثا : لان الله لا يحرم على البشر الطيبات وحتى الهدي والقلائد ليست محرمة على الناس بل هي للناس جميعا ، وفرق كبير بين التشريع الجاهلي الذي كان يذبح البهائم الحلال باسم الآلهة ، وبين التشريع الاسلامي الذي يأمر بذبحها من أجل استفادة جميع أبناء المجتمع منها.

الإسلام يحرر الطيبات من الملكية الخاصة ـ في بعض المناسبات ـ من أجل ان تكون فوائدها مشاعة ، اما الجاهلية فانها تحرمها على كل الناس وتدعها بلا فائدة على أحد :

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ)

لأنها جميعا تخالف سنة الله في الحياة التي تقضي بتسخير الأشياء لخدمة الإنسان.

٤٧٩

ولأنها تخالف تشريع الإسلام بالاستفادة من الطيبات.

(وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)

ودليل ذلك انهم يحرمون على أنفسهم الطيبات بلا سبب معقول.

رسالة السماء لا تقليد الآباء :

[١٠٤] ان الله يريد من الإنسان الاستفادة من موهبة العلم والعقل ولكن الكفر يغل قلب صاحبه ويدعه مغلقا لا يدخله نور العقل ، لذلك تجده لا يستفيد من عقله بل يروح يقلد من هم أقل عقلا منه وهدى.

والواقع ان التقليد سواء كان من المجتمع أو من الاباء فهو أكثر ما يصد البشر عن التقدم والرقي.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ)

هذا ما أنزله الله على رسوله الجديد يأتيكم نقيا صافيا.

(قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا)

انظر انهم يقولون حسبنا (اي نكتفي بما نجده عند الاباء) ان حركة الحياة قد توقفت في أنفسهم وأصبحوا يكتفون بالماضي دون أي إبداع أو تطوير.

(أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)

اي حتى لو أن آباءهم كانوا قد ضلوا الطريق بسبب غياب مصدري التقدم عن حياتهم وهما العلم : وهو ما يكتشفه الإنسان بنفسه ، والهدى : وهو ما ينزل

٤٨٠