من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

أي جاءتهم الوفاة حين كانوا يظلمون أنفسهم ، اما بعدم الرد على ظلم الظالمين لهم ، أو باقترافهم السيئات تحت ضغط الظالمين.

(قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ)

أي كيف كنتم تعيشون وفي اية حالة؟! بالطبع لم يكونوا يعيشون في حالة رضا ، ولا في حالة طاعة لله لأنهم كانوا في ظل حكم غاشم ، ولكنهم لم يبينوا حالتهم ، بل بينوا فقط عذرهم الذي سرعان ما ردّ في وجوههم.

(قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ)

قالوا : مستضعفين ولم يقولوا ضعفاء ، لان الله لم يخلق أحدا ضعيفا ، بل الناس هم الذين يساهمون في أضعاف أنفسهم ، أو إضعاف بعضهم لبعض.

(قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)

ما دامت الأرض لله ، وما دام الإنسان عبدا له ، فلما ذا يستمر في ارض واحدة؟ لماذا يعبد اقرانه حتى ولو كان عليه الظلم والكبت؟ أفليس خير البلاد ما حمل الإنسان؟! كما قال الامام علي (ع).

إن جزاء هؤلاء هو اشراكهم في ظلم الظالمين لهم ، بالاضافة الى جزاء سيئات أعمالهم التي لا يبررها الضغط عليهم من قبل الظالمين ، ما داموا قادرين على الهجرة عن ارض الظلم.

(فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً)

المستضعفون وواجب الهجرة :

[٩٨] بلى هناك طائفة من المستضعفين لا يستطيعون الهجرة ، فأولئك قد

١٦١

يعفيهم الله من جزاء بقائهم في ارض الظلم.

(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً)

فهؤلاء قد يكونون رجالا أو نساء أو شبابا ، وهذا يعني ان الهجرة مفروضة على كل الرجال القادرين ، وكل النساء القادرات ، وكل الشباب القادرين ، وليس من الصحيح بقاء المرأة القادرة على الهجرة لان زوجها غير قادر ، أو بقاء الشاب لان والديه لا يستطيعان الهجرة.

ذلك لان الله سوف يحاسب كل واحد منا على عمله بشكل انفرادي ، ولا ينام اثنان في قبر واحد.

وانما يعفى هؤلاء عن جزاء الهجرة إذا لم يكونوا قادرين على دفع الظلم ، ولا على الهجرة من ارض الظلم ، فهم لا يستطيعون حيلة لمنع الظلم عن أنفسهم ، ولا يهتدون سبيلا للخروج من بلد الظالمين.

[٩٩] ولا يسقط واجب الهجرة عن هؤلاء بمجرد عدم الهجرة ، بل عليهم ان يهيئوا لأنفسهم وسائل القوة حتى يهاجروا ، أو يمنعوا الظلم عن أنفسهم ، ولذلك عبر القرآن عن سقوط واجب الهجرة عن هؤلاء بقوله (عسى) للدلالة على الاحتمال القوي دون التأكيد ، حتى لا ينام المظلومون على الظلم تحت تأثير مخدر الياس ، وتبرير عدم القدرة على الهجرة أو الثورة.

كلا فان الإنسان غير القادر عند نفسه ، قد يكون قادرا في الواقع لو تحرك متوكلا على الله ... قال الله تعالى :

(فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً)

١٦٢

ان صفة العفو الكاملة عند الله هي وراء العفو عن هؤلاء ، والا فهم مسئولون أيضا عن عواقب سكوتهم وبقائهم مع الظالمين.

ماذا تعني الهجرة

؟ [١٠٠] والهجرة لا تعني الاستغناء عن الوطن ، بل معناها الانتقال من الوطن الصغير الى الوطن الكبير ، من الأفق الأضيق الى الأفق الارحب ، الى حيث الرخاء والحرية.

فهناك أراض واسعة خلقها الله ، والمهاجر سيجدها امامه إذا لم يدركه الموت في الطريق ، اما إذا أدركه فانه سيجد امامه رحمة الله والجنة.

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً)

سيجد ترابا كثيرا ، والتراب يشكل نصف حضارة الإنسان ، لأنه موقع السكن والزراعة والسياحة ، ونصفها الاخر الحرية التي عبر عنها القرآن ب (سعة) ، حيث يمكن للبشر في ظل الحرية ان يستثمر طاقات التراب ، ويعيش حياة هانئة.

(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ)

لأنه هاجر بهدف دعم قضية الرسالة المتمثلة في تطبيق مناهج الله وتحرير عباد الله.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)

وكلمة اخيرة : ان نظرة واحدة الى التاريخ تعطينا فكرة واضحة عن دور الهجرة الاساسي في تأسيس كل الحضارات الكبرى ، وفي أغلب الحركات

١٦٣

الاصلاحية والتحررية في العالم عبر العصور ، واهمية الإسلام انه يجعل الهجرة واجبا دينيا مقدسا ، وقاعدة اساسية في حياة المؤمنين ، وبذلك يضمن للحركة الاصلاحية البقاء ، والتوسع ، والقدرة على تجاوز القوى الطاغوتية ، كما يجعل لها افقا عالميا يساعد على تركيع الطغاة بفضل تعاون الشعوب الساعية نحو التحرير والتقدم والتطوير.

وليت القوى التحررية الاسلامية عرفت اليوم هذا الدور الاساسي للهجرة ، وركزت جهودها في ارض حرة ، ثم انطلقت منها لتحرير الشعوب.

١٦٤

وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى

١٦٥

جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤)

١٦٦

صلاة الخوف

هدى من الآيات :

الآيات الثلاث الاولى بينت بعض ما يرتبط بالهجرة والقتال من احكام الصلاة (كالقصر في الصلاة حين السفر ، وحين الخوف ، وصلاة الخوف جماعة ، وواجب التسلح حين اقامة صلاة الخوف).

وجاءت هذه الأحكام لتبيّن عدة حقائق :

أولا : ان للهجرة أو القتال اهدافا اساسية ومقدسة تتلخص في رضا الرب ، واقامة حكمه في الأرض ، وعلينا الا ننسى هذه الاهداف ، ونحن نعيش صعوبة الحياة أثناء الهجرة أو القتال ، وذلك بإقامة الصلاة أثناء الهجرة أو القتال ، والقرآن يريد بناء مجتمع متوازن ومتكامل البناء بما يحقق جميع جوانب الإسلام المادية والروحية.

ثانيا : ان على المسلم الا يزعم ان العبادات هي اهداف ، وانها لا تتغير ، بل انها ـ بالرغم من اهميتها ـ وسائل في اطار الاهداف الكبرى للمسلم ، ولذلك

١٦٧

فهي تتطور وفق مقتضيات تحقيق تلك الاهداف ، مثل ظروف الحرب أو الهجرة ، فالصلاة وهي أهم العبادات تختصر بسبب الهجرة أو الخوف.

ثالثا : على المسلم الا ينشغل بالصلاة عن باقي واجبات الاستعداد المادي ، فعليه ان يكون حذرا مسلحا سريعا ونشيطا ، فاذا كان الاستعداد واجبا حتى حين الصلاة ، فكيف به في غير هذه الحالة؟!

بهذا يريد القرآن أن يبيّن لنا مدى الضرورة في تحقيق الشروط الموضوعية للنصر على العدو وعدم التكاسل عن واحد منها ، بتبرير أننا مسلمون وقضيتنا قضية حقة.

والآية الرابعة والاخيرة تبين هذه الحقيقة بصفة اخرى ، إذ تحذرنا من مخاطر الحرب وآلام الهجرة ، وتبين لنا ضرورة الاستعداد النفسي لتحملها ، والا نتصور ان الحرب لعب ، أو ان الهجرة سياحة ، إذ ان هذا التصور قد يؤدي بنا الى الوهن والارتخاء ، والتقاعس عن متابعة المراحل النهائية للحرب ، والاكتفاء فقط بإسقاط الواجب.

بينات من الآيات :

القصر وصلاة الخوف :

[١٠١] في حالة السفر والخوف من العدو ، كما إذا كان المهاجر يتعقبه الكفار ليردوه الى معتقل الكبت والإرهاب ، هنالك لا بأس عليه ان يصلي قصرا ، فيحذف من كل صلاة رباعية ركعتين ، بالرغم من ان الصلاة عبادة موقوتة ، وعلى المسلم أن يؤديها كما هي دون نقيصة ، فانه بسبب السفر أو الخوف يسقط نصف هذه العبادة.

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)

١٦٨

ويبقى سؤال : هل القصر واجب في هذه الحالة؟

الجواب :

بلى .. والسبب ان تعريض المسلم ذاته للخطر حرام ، فاذا كانت الصلاة الواجبة فقط ركعتين ، فاضافة ركعتين أخريين في ظروف الخوف حرام.

من هنا اكتفى القرآن بكلمة (لا جناح) أي (لا بأس) لبيان سقوط الوجوب عن الركعتين الاضافيتين.

أما حرمة إقامتهما فقد سكت عنها لوضوح الأمر من خلال معرفة ظروف الخوف التي أسقطت قسما من الصلاة ، فلا يجوز التفريط فيها بحياة المسلم.

(إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)

أي ان يخدعوكم بمكيدة ، ويعودوا بكم الى ارض الطاغوت ، أو يقتلوكم أثناء الصلاة.

(إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً)

فعليكم التحذر منهم حذرا شديدا.

الحرب وصلاة الجماعة :

[١٠٢] أما في حالة الحرب فان الصلاة تقام جماعة ، حيث ينقسم المسلمون الى طائفتين : طائفة يقيمون الصلاة ، وأخرى يواجهون العدو.

اما القائد فهو يصلي بكلتا الطائفتين ، حيث انه يقف امامهم ووراءه الطائفة المصلية يصلون معه ، وفي الركعة الاولى ينتظر الامام وهو جالس بينما يسارع

١٦٩

المأمومون بالقيام والركوع والسجود ، وحين سجود هذه الطائفة تعود الطائفة الثانية التي لا تزال غير مصلية حتى يصيروا وراء المصلين ، وبمجرد انتهاء صلاتهم وزحفهم نحو العدو ، يكون هؤلاء قد استقروا في مكانهم ، حيث يقف الامام ويتابع صلاته ، وتأتم به هذه الطائفة بحيث تصبح الركعة الثانية للإمام مساوية للركعة الاولى للمأمومين (وهم هنا الطائفة الثانية) فاذا جلس الامام للتشهد قام هؤلاء وأضافوا ركعة ثانية وانهوا صلاتهم.

فيكون المحصل ان الامام صلى ركعتين كل ركعة بطائفة ، وتكون كل طائفة قد صلت ركعة مع الامام وركعة منفردة.

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ)

وعلى المحاربين أن يكونوا في حالة الصلاة مسلحين ، ولا تشغلهم الصلاة عن الحرب بما فيها من الاهتمام بالسلاح والعتاد والحذر.

إذ ان العدو ينتظر هذه الفرصة لينقض على المسلمين ويبيدهم ، وفي حالة واحدة فقط يسمح بوضع السلاح وهي حالة الضرورة ، مثل ان يكون المطر مانعا من الاهتمام بالصلاة والسلاح معا ، أو يكون الشخص مريضا لا يستطيع ان يقوم ويقعد ويسجد وهو مثقل بالحديد.

(وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ)

أمتعة الحرب هي العتاد أو الزاد وكلها ضرورية للنصر.

(فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ

١٧٠

كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)

وبالطبع يكون الحر الشديد ، أو الرياح العاتية وما أشبه من الظروف التي يصبح حمل الاسلحة فيها حرجا يكون بمثابة المطر.

ذكر الله بصيرة المؤمن :

[١٠٣] فاذا انتهت الصلاة ، وعاد المقاتلون الى الحرب ، فعليهم ان لا ينسوا ذكر الله في مختلف الحالات.

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ)

أي وأنتم مستلقون.

وربما جاء الأمر بذكر الله بعد صلاة الخوف لتكميل النقص فيها ، حيث يستحب ان يذكر المصلي قصرا ربه خلال فترة من الزمن ، تساوي فترة صلاة الركعتين اللتين سقطتا عنه ، ولكن لا يجب ان يكون ذلك في هيئة الصلاة ، بل أثناء قيامه بالأعمال العادية.

وبعد انتهاء الخوف وعودة الحياة الطبيعية ، تعود الصلاة كما كانت اربع ركعات.

(فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)

أي أمرا ثابتا ، ومقدرا في أوقات محددة ، والشيء لا يكون ثابتا إلا لأهميته ، كما لا يكون محددا تحديدا دقيقا إلا لأهميته أيضا.

[١٠٤] إذا كان أداء الصلاة في الحرب يختلف عنه في السلم ، إذا يجب ان

١٧١

يكون قصرا ، ويتسلح المصلي خلالها ويتحذر ، فان ذلك يهدينا الى مدى اهمية التسلح والتحذر في الحروب ، وبالتالي الاستعداد لمواجهة كافة الاحتمالات ، وهذا شرط ضروري لنصر الله.

ومن الاستعداد التهيؤ النفسي للقتال ، والشجاعة في الاقدام من دون خوف أو تردد ، وهذا ما تبينه هذه الاية :

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ)

لا تضعفوا في متابعة الأعداء ، ومهاجمة معاقلهم ، والتفتيش عنهم ، وبتعبير آخر : كونوا دائما المبادرين بالهجوم على العدو ، ولا تخافوا من عواقب الهجوم ، ذلك لان العدو بشر مثلكم ، وهو يألم وينهار بالصعوبات ، كما تألمون أنتم ولكنكم لا تنهارون ، لأنكم ترجون الله سبحانه.

(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)

فهو بعلمه المحيط بكم يعلم مقدار تضحياتكم ، وبحكمته يعطيكم النصر على قدرها ، بعد الصبر عليها ، وليس عبثا وبلا سبب.

١٧٢

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠)

____________________

١٠٧ [يختانون] : يخونون.

١٠٨ [يستخفون] : يستترون ويتوارون.

١٧٣

المذنبون بين التوبة والعصيان

هدى من الآيات :

في سياق الحديث العام عن طبقات المجتمع الاسلامي في هذه السورة ، تتحدث هذه الآيات عن طبقة المذنبين ، وهم الذين يخونون أمانات الناس فيأكلون أموالهم بالباطل ، أو يخونون أمانة الله فيرتكبون الخطايا التي تعود على أجسامهم أو عقولهم بالضرر ، وهذه الطبقة تحاول أن تستميل القيادة الى جنبها حتى تعمل ما تشاء ، لذلك أمر الله رسوله الا يجادل عنهم والا يحميهم ، ذلك لأن الرسول عليه أن يتبع الحق الذي أنزل عليه في الكتاب ، ويتخذه مقياسا لحكمه على الناس ، واتخاذه المواقف منهم.

وهذه الطبقة تخشى من افتضاح أمرها عند القيادة والجماهير ، ولا تعرف أنها أحق بالخشية من عذاب الله ، ولذلك فحتى إذا انحرفت القيادة وهادنتهم زورا ، وحتى إذا ضللت الجماهير ، فهي لا تبتعد عن عقاب الله سبحانه وتعالى غدا.

١٧٤

وأمام هذه الطبقة طريق واحد للتخلص من واقعها وهو التوبة ، فاذا تابوا وعادوا الى الايمان أصبحوا وكأنهم لا سوابق سيئه لهم.

بينات من الآيات :

المبدئية في القيادة الاسلامية :

[١٠٥] القيادة الاسلامية قيادة مبدئية وليست قيادة مصلحية ، ولذلك فهي لا تنظر الى بعد الناس أو قربهم إليها ، بقدر ما تنظر الى بعدهم أو قربهم عن الله سبحانه.

ومن هنا فهي لا تمالئ طبقة الكبراء أو المفسدين لمجرد قوتهم ، أو من أجل دعمهم المحدود للقيادة. كلا .. بل تنابذهم العداء حتى يتوبوا الى الله ، فالقوي العزيز عند القائد الاسلامي ذليل ضعيف حتى يؤخذ الحق منه ، والضعيف الذليل قوي عزيز حتى يؤخذ الحق له ، كما قال الامام علي (ع).

ان الكتاب هو المقياس في الحكم على الناس وليست المصالح أو الأهواء.

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ)

ولذلك فلا مكان للفساد الاداري في الحكم الاسلامي الصحيح ، ولا مكان للواسطة ، والرشوة ، والمحسوبيات على حساب حقوق الناس.

(وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)

أي لا تخاصم في مصلحة الخائنين ، ولا تجعل قوة السلطة في خدمة هؤلاء

١٧٥

الذين يخونون الناس ويأكلون حقوقهم ، وهؤلاء هم أصحاب مراكز القوى والعائلات الكبيرة ، وأصحاب الجاه العريض والثروة الطائلة.

حفظ الاستقلال مهمة القيادة

[١٠٦] المهمة الصعبة للقيادة هي : المحافظة على استقلالها امام الخائنين ، وترفعها عن اغراءاتهم ورشواتهم ومكائدهم ، وقدرتها بالتالي على أن تكون حاكمة بين الناس بالعدل.

ولصعوبة هذه المهمة أمر الله القيادة بالاستغفار ، إيحاء بأنها لو وقعت في شرك الخائنين «لا يسمح» فعليها أن تصحح مسيرتها بسرعة وتتوب الى الله.

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)

ان الاستغفار يعطي القيادة مناعة من الوقوع تحت تأثير مراكز القوى ، ويعطي القيادة شجاعة لتحدي الناس ، والخوف فقط من الله رب الناس أجمعين.

[١٠٧] (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ)

أي يخونون أنفسهم بارتكابهم الذنوب ، وعلى القيادة الرسالية ألا تهادن هؤلاء ولا تجمّل صورتهم القبيحة أمام الناس ، وتبرر للناس معاصيهم ، لأن الله لا يحب هؤلاء الذين لا يزالون يخونون أمانة الله الذي أمرهم بحفظ أجسامهم ، وعقولهم ، وكرامتهم من الإثم والخطيئة. فالزاني يخون الله في جسده ونسله وهما أمانتان لله على عاتقه ، وشارب الخمر يخون الله في جسده وعقله ، ولا عب القمار

١٧٦

يخون الله في جسده وماله ، وبالتالي كل مذنب يتصرف في نعم الله التي هي أمانات عنده بغير ما أمر الله.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً)

ازدواجية الشخصية

[١٠٨] هؤلاء يتكتمون على أنفسهم لكي لا يعرف الناس ارتكابهم للذنوب ، غافلين عن أن الله عارف بأمرهم ، وأنه هو الذي يجازيهم عليه.

فالخمر والزنا والقمار وكل الذنوب الأخرى تتبعها آثارها الضارة ، سواء عرف الناس أم جهلوا.

ثم إن الله يعرف هؤلاء قبل أن يرتكبوا الذنوب ، بل حين ينوون ذلك أو يتآمرون بينهم عليها في الليل ، إن الله معهم يسمعهم ، ويسجل عليهم أقوالهم ونياتهم ، أفلا يستحيون منه؟!!

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً)

فهو يعلم ما يقولون وقادر على منعهم متى يشاء!! كما هو قادر على أن يأخذهم حين يشاء أخذ عزيز مقتدر!

[١٠٩] ولنفرض أنكم بررتم مواقف هؤلاء المذنبين ، وجمّلتم صورهم أمام الناس هنا في الدنيا ، فمن ينقذهم هناك في الآخرة من الفضيحة أمام الخلق في يوم القيامة؟ ومن يخلصهم من حكم الله؟ ومن يحامي عنهم في محكمة العدل؟!

١٧٧

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)

[١١٠] ولهؤلاء باب واحد للخلاص هو التوبة حيث أنهم لو دخلوه أصبحوا مواطنين شرفاء يقبل الله توبتهم والمؤمنون.

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً)

١٧٨

وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ

____________________

١١٤ [نجواهم] : النجوى هي الأسرار ، والنجوى في الكلام ما ينفرد به الجماعة أو الاثنان ، سرا كان أو ظاهرا.

١٧٩

يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥)

____________________

١١٥ [يشاقق] : الشقاق الخلاف مع العداوة ، وشق العصا أي فارق الجماعة.

[نوله] : من الولي وهو القرب يقال الشيء يليه إذا قرب منه.

١٨٠