من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

وسألوا عن بعض الوسائل التي يحصلون بها على الطيبات ، فأجاب القرآن عن وسيلتين إحداهما : نموذج لوسائل الحيازة والاستفادة من الطبيعة ، ولكنه نموذج يثير الشك ويدعو الى التساؤل إذ أنه غريب على الطبيعة وهو صيد الكلب.

فهل يمكن استخدام الحيوانات في حيازة المباحات ، والكلب بالذات حيوان نجس ومكروه في الدين فهل تحل ذبيحته؟

وحين أجاب القرآن عن هذا التساؤل بالإيجاب تبين أن الطرق الاخرى التي قد تستخدم في حيازة المباحات طرق مشروعة (كاستخدام اليد أو الآلات الحادة كالسكين أو الحيوانات المحببة الاليفة وما أشبه)

والثانية : وسيلة من وسائل التعاون في الحياة ، وتبادل المنافع والتجارات وهي أيضا وسيلة قد يثأر حولها بعض التساؤلات :

هل يجوز التعامل التجاري مع أهل الكتاب أم لا؟

فلما أجاب القرآن بالإباحة تبيّن بالطبع حرية التجارة مع كافة المسلمين. هكذا خصصت هذه الآيات عن ضرورة التخلص من الرهبنة ، واتخاذ كل شيء حراما ، بل بالعكس كل شيء حلال ، حتى يتلى فيه نص صريح.

(وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ)

فهذا إرشاد بان تعليم الجوارح ليس فقط مباحا ، بل ومستحبا أيضا ، لأنه يساعد على رفاه الإنسان.

(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ)

٣٠١

بأن يذكر الصياد اسم الله حين يبعث كلبه.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)

[٥] وإذا كانت الطيبات أو بعضها محرمة على بعض أهل الكتاب بسبب سوء أفعالهم ، وظلمهم لأنفسهم فانها قد أحلت لكم حيث انتهى السبب الداعي الى التحريم.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)

والوسيلة التجارية التي تحصلون بها على الطيبات محللة لكم هي الاخرى حتى ولو كانت التجارة مع غير ملتكم مثل (أهل الكتاب).

(وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ)

وبالرغم من ان الطعام يعم الحبوب والفواكه ويشمل الذبيحة والمطبوخات الجاهزة للأكل ، بالرغم من ذلك فان سياق الآية يدل على التبادل التجاري ، والتبادل التجاري لا يكون عادة الا في المأكولات غير الجاهزة مثل الحبوب والبهائم غير المذبوحة ، اما المأكولات الجاهزة فهي قليلة التداول خصوصا في ذلك الوقت.

والمحصنات من أهل الكتاب :

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)

اي يجوز لكم التمتع بهن في عقد دائم أو عقد مؤقت والجنس ليس خسة أو خبثا ، أو حالة بهيمية عند البشر ، كلا ان الجنس لذة طيبة هيأها الله للإنسان.

٣٠٢

ولكن يجب ان يكون التمتع بالجنس في حدود الشرع المقدس.

فأولاد : يجب ان تكون المرأة محصنة (أي عفيفة ، أحصنت فرجها ، وصانت كرامتها) ومن جانب ثان : أحصنها زوجها أي جعلها في حصن اللذة المشروعة حتى لا تفتش عن لذة حرام.

ثانيا : أن يلتزم الزوج بأداء حقوقها ، وبالذات مهرها الذي هو أجر حصانتها وإخلاصها للزوج ، وتمكينها للزوج انى دعته إليها حاجة جنسية.

ثالثا : الا يهدف الزوج من وراء العلاقة مع المرأة السفاح ، وضياع ماء الحياء ، والتلذذ بالمقاربة الجنسية لفترة محدودة ، بل يكون هدفه بناء حصن الزوجية الرصينة حيث يحافظ كل واحد على حقوق الثاني وحرماته.

رابعا : الا يكون الهدف من وراء العلاقة الصداقة المائعة ، حيث يوفر كل واحد لصديقه الجنس مقابل توفير الثاني له ذلك من دون التزامات قانونية محدودة ـ كلا ـ يجب ان يكون تراضي الطرفين على أساس الأحكام الشرعية وبالتعهد على الالتزام بها.

انك قادر على تبادل الهدايا مع اصدقائك أو أقاربك لأن ذلك التبادل لا يؤدي إلى الخلاف والنزاع ، ولا يضعضع علاقاتك الاجتماعية الأخرى ، ولكن لا يجوز لك أن تبادل امرأة اجنبية الحب والجنس كهدية متقابلة لان الجنس قضية هامة في حياة البشر ، وركن اساسي من أركان التعاون الاجتماعي فلو سمح لنا القانون بان يكون الجنس حسب أهواء الطرفين ، ومن دون الضوابط القانونية لكانت نهايته تفكيك عروة من العرى الاجتماعية ولتزلزلت أرسخ قاعدة من قواعد التماسك الاجتماعي ، من هنا فرض الإسلام أحكاما في العلاقة الجنسية ، وأمر

٣٠٣

بان يكون ترابط الطرفين بينهما على أساس هذه الأحكام ، وليس لمجرد الصداقة واتخاذ العلاقة كهدايا متبادلة.

(إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ)

واعتبر القرآن الخروج عن هذه الانظمة بمثابة الخروج عن الدين ، إذ أن الفكر ليس قولا انما هو عمل وسلوك.

الايمان قول وعمل :

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)

اي من يكفر بعد ان كان مؤمنا ، أو مع التظاهر بالايمان فان اعماله الصالحة غير مقبولة عند الله بل تحبط وتقذف في وجهه ، ولا تنفعه شيئا.

(وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)

فلا يظن أحد ان بإمكانه الجمع بين العقيدة الصحيحة ، والعمل الفاسد ، إذ أنه سوف يؤخذ بعمله ولا يؤبه بعقيدته التي يدعي أنه يلتزم بها فكريا.

٣٠٤

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)

٣٠٥

التطهر واجب اسلامي

بينات من الآيات :

[٦] تأتي آية التطهر في إطار الحديث عن المجتمع الاسلامي للدلالة على الجانب الاجتماعي في الطهارة ، ولبيان العلاقة بين طهارة القلب وطهارة الجسد ، وقد رأينا في سورة النساء كيف جاءت اية التطهر (٤٣) بعد ايات النهي عن البخل والرياء ، وقبل ايات النهي عن تحريف الدين.

وهنا جاءت هذه الآية في سياق النهي عن طائفة اخرى من المنكرات بينها الزنا ، فكان الحديث عن الوضوء والغسل مناسبا لطبيعة العلاقة بين حرمة الزنا وحرمة الميتة والدم و. و.. وتنظيم العلاقة الجنسية مما يرتبط بصحة الجسم ، وبين الطهارة التي تتصل هي الأخرى بالصحة ، اضافة الى العلاقة بين طهارة الظاهر التي تجسده واجبات الوضوء والغسل ، وطهارة الباطن التي يمثلها الابتعاد عن المحرمات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)

٣٠٦

الوضوء :

ان الشرط المسبق للتحدث مع الله في مراسم العبادة ، هو التطهر وذلك بغسل الوجه مما يصدق عليه الوجه عرفا ، وقد حدده الفقهاء بأنه من منابت الشعر الى نهاية الذقن طولا ، وبما يشمل عليه الإبهام والوسطى عرضا.

اما اليد فانها تطلق عادة على اي جزء من العضو المشهور.

ولذلك حدد القرآن مقدار المغسول منها بالمرفق على ان يكون المرفق جزء منه.

الغسل :

وقد سكت القرآن عن بيان طريقة الغسل وما يغسل به ، ولكن بما ان القرآن يتحدث الى الناس الذين يمارسون الغسل طبيعيا ، ويعرفون كيفياته ، فان ذلك يكفينا دليلا عن كافة التفاصيل.

شرائط الغسل :

فأولا : الغسل يكون بالماء وليس باي سائل آخر (فلا يجوز بعصير البرتقال أو بالكحول مثلا)

ثانيا : ان الغسل يكون عادة من الأعلى الى الأسفل لان الهدف منه ان يحمل الماء الوسخ في جريانه ، وبالطبع فالماء لا يجري الى الأعلى بل يجري الى الأسفل.

من هنا يجب ان نصب الماء اولا على الجبهة ومن ثم ينحدر على الوجه ،

٣٠٧

كذلك يجب ان نصبه على المرفق ومن ثم ينحدر الى الذراع والكفين.

كيفية الغسل :

وأتصور ان التفسير الذي يجعل كلمة (الى) في هذه الاية بمعنى (نهاية عملية الغسل) ويزعم ان بدايتها الكفان وان الغسل ينبغي ان يكون من تحت الى الأعلى ، أتصور انه تفسير ساذج لا يتفق مع بلاغة القرآن ، كما انه يخالف العرف العام ... أو ليس إذا قال الأب لابنه اغسل يدك الى الرسغ ، هل يفهم من ذلك ان الغسل يبدأ من الرسغ ، فلا يتصور الا بن ان والده امره بان يقلب كفيه حين يغسل؟ أو ليس إذا أمرت الصبّاغ بان يصبغ غرفتك الى السقف ، أو لست تضحك عليه إذا رايته يأخذ بالصبغ من أسفل الغرفة صاعدا الى السقف ، بل قد تنهاه عن ذلك لأنه يسبب تشوية الغرفة ، فاذا قال لك أنت امرتني بان اصبغ الى السقف ، أو ترد عليه باني انما أردت ان يكون نهاية المقدار المصبوغ عند السقف؟! ولم أرد ان يكون أسلوب الصباغة من تحت الى فوق ... إذ ان الأسلوب شأنك أنت وليس من شأني .. وأنت تعرفه جيدا.

كذلك في العرف يعرف كيف تغسل الأشياء ، ولكن على الشريعة ان تحدد لهم فقط المقادير.

كيفية المسح :

(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)

اي امسحوا بجزء من رؤوسكم فتدل الباء هنا على ضرورة مسح جزء من الرأس ، اما الرجل فبالرغم من أنها هي الأخرى يمسح عليها ولكن القران جعل

٣٠٨

الكلمة منصوبة من ناحية الاعراب (أرجلكم) بفتح اللام لماذا؟ لأنه لو جعلها مجرورة (أرجلكم) بكسر اللام إذا لكان تقديره (بأرجلكم) ومن الطبيعي ان هناك اختلافا كبيرا بين المسح بالرجل والمسح بالرأس ، فالمسح بالرجل يعني عند العرف جعل الرجل اداة للمسح كأن تقول امسح برجلك الأرض فقد قال الله تعالى :

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ)

بيد ان الرأس لا يصبح أداة للمسح فلا يتصور ان يكون معنى امسح برأسك اي اجعل رأسك اداة للمسح بشيء أخر ، بل يتبادر إلينا معنى (البعضية) اي امسح ببعض رأسك.

من هنا كان من البلاغة ان يفتح كلمة الرّجل ليكون المعنى (وامسحوا أرجلكم) فيجعل لفظ أرجلكم معطوفا على محل (برؤسكم) وليس على لفظه ، أو يقدر له كلمة امسحوا بدلالة السياق.

ولو قال القران امسحوا بأرجلكم لكنا نتساءل اي شيء نمسحه بأرجلنا ، وكأن الأرجل اداة للمسح والكعبان هما قبتا الرجل.

التّيمم :

(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)

اي اغتسلوا.

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)

٣٠٩

أي توجهوا الى تراب طاهرا وارض طاهرة لتتطهروا بها تيمما.

(فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)

بان تضربوا أيديكم على التراب ، فاذا علقت به عالقة من التراب فامسحوا بها بعضا من وجوهكم ، وبعضا من أيديكم ، اما الوجه فهو الجبين والجبهة الى بداية الأنف ، أما اليدان فتمسح الكفان منهما ابتداء من الرسغ حتى رؤوس الأصابع.

إن حكم التطهير ليس الهدف منه ابتلاء المؤمنين بعمل شاق ، بل الهدف منه تطهيرهم من النجاسات الظاهرة والباطنة.

الحرج :

(ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)

ان اي حكم شرعي يصل في صعوبته الى درجة الحرج (وهي الصعوبة الشديدة التي لا تحتمل) فانه يلغى أو يبدل بما هو أخف منه فالحج والصوم والصلاة و. و. إذا كانت تحتوي على صعوبات جسدية لا يحتملها ولا يطيقها الشخص فانها تخفف فيسقط بعض واجبات الحج ويبقى البعض فقط ، وكذلك تصبح الصلاة عن جلوس بدل القيام ، أو بالإيماء بدل الحركات ، أو انها تحذف فيما إذا كان الواجب لا يتحرز .. مثل الصوم ، فانه يحذف مرة واحدة إذا كان ذا صعوبة بالغة لا يطيقها الفرد.

وقد ضرب الله مثلا لهذه القاعدة الفقهية التي تسمى بقاعدة (الحرج) من واقع التيمم الذي جاء بديلا عن الوضوء والغسل في أوقات الحرج مثل المرض أو

٣١٠

البرد القارص ، أو قلة الوقت لعجلة السفر ، أو فقدان الماء ، أو الخوف من عدو قاهر ..

ونستطيع ان نستأنس بهذه الأمثال التي ساقها القرآن الحكيم هنا في تفصيلات قاعدة الحرج وتعميماتها على الأحكام الجزئية الأخرى.

انهم أناس يتطهرون :

(وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

الهدف من الغسل والوضوء أو التيمم هو طهارة الجسد ، وطهارة الروح ، والجسد يطهره الماء والتراب اما الروح فانها تتمرغ في أو حال الشهوات فتحتاج الى ان تتطهر بتجدد الايمان ، وعمليات التطهير هي رمز هذا التجدد. كيف؟

الرجل ينام ويلبي بالنوم حاجة جسدية ملحة ، ولكن روحه وغير راضية عن ذلك ، إن الروح تتطلع الى عمل دائب ، وجهد مستمر لتحقيق مزيد من أهدافها في فرصة العمر لذلك فحين يقوم المرء من النوم يجد روحه كسولة غير راضية ، فيذهب الى الماء ويتطهر استعدادا للصلاة بهدف تحقيق مرضاة الله في العمل بواجبات الدين ، وبالتالي في تحقيق اهداف الروح ، فيرفع الكسل عن روحه بذلك ، ويجد أن روحه بدأت تسير في الاتجاه الصحيح.

ان قيمة التطهر الروحية آتية من انه مقدمة وتمهيد للواجبات واستعداد نفسي لها.

والله حين يبين حكم التطهر فانما يكمل الدين بذلك ، ولا يدع الدين مرتبطا بالجوانب المعنوية فقط ، بل بكل الجوانب وهذا من تمام نعمة الله على الإنسان ،

٣١١

ولكن هل يشكر البشر ربه بهذه النعمة التامة المتجسدة في دين كامل أنزله اليه ، وهل يعمل به حتى يسعد في الدارين. هذا السؤال؟! ومنك الاجابة.

٣١٢

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ

____________________

٨ [ولا يجرمنكم] : جرمت وأجرمت بمعنى واحد لا يجرمنكم : لا يدخلنكم في الجرم ، كما يقال آثمته اي أدخلته في الإثم.

٣١٣

فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)

٣١٤

الميثاق

هدى من الآيات :

بين الرب والعبد :

بين الإنسان المسلم وبين الله ميثاق اجتماعي عليه ان يلتزم به لأنه سبب مباشر لنعمة الله عليه ، ونصره له ، والالتزام يجب ان يكون نابعا من القلب فلا يداخله تردد أو نفاق.

اما بنود هذا الميثاق فهو :

اولا : العمل الدائب من أجل الله من دون كلل أو كسل.

ثانيا : الشهادة بالقسط لا بالزور ولا من أجل مصالح خاصة.

ثالثا : اقامة العدل في المجتمع حتى مع الأعداء.

رابعا : التقوى في تطبيق هذه البنود وغيرها من فرائض الدين.

٣١٥

وبالالتزام بهذه البنود يمنح الله المؤمنين مغفرة منه تمحي ذنوبهم السابقة ، وتعرض عن تخلفهم وتكاسلهم في الماضي ، وتفتح لهم آفاق التقدم والرفاه ، بينما العكس يورد الجحيم.

تطبيق الميثاق :

ولكي نطبق الميثاق بدافع قوي علينا ان نتذكر أبدا أن تطبيق هذا الميثاق في السابق هو الذي خلصنا من براثن العدو بعد ان امتدت إلينا ، وفي المستقبل سيكون الوضع كذلك لو آمنا بالله ، وتوكلنا عليه ، ولم نخضع لأية ضغوط جاهلية تمنعنا عن تطبيق مناهج الدين وفي طليعتها الميثاق المقدس.

بينات من الآيات :

الرسالة :

[٧] أكبر نعم الله على الإنسان نعمة الرسالة ، إذ أنها الاداة التي تمكن البشر من الانتفاع بسائر نعم الله عليه ، فمن دون مناهج الدين لا ينتفع البشر من نعمة الصحة ، بل يفسدها بارتكاب الموبقات ولا ينتفع بنعمة العقل ، بل يدسه في تراب الشهوات ، ولا ينتفع بنعمة الحرية بل يكبلها بأغلال الشرك ، وعبودية الجبت والطاغوت.

من هنا يذكرنا الله بالنعمة الكبرى (نعمة الرسالة) التي وفرّت لنا فرص الانتفاع بنعم الحياة ، يذكرنا بها مرة بعد مرة فيقول :

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ)

٣١٦

بيد ان هذه النعمة بحاجة الى ما يكرسها وهو الميثاق الذي تعهدنا مع الله في العمل به فمن دون الالتزام بالميثاق لا نقدر على الاستفادة من نعمة الرسالة.

(وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا)

لا بد ان نتذكر يوم الميثاق حتى لا نتصور أن نعمة الرسالة وما وراءها من نعم الحياة سوف تبقى لنا أزلية ، كلا ... انما تبقى لنا ما دمنا ملتزمين ـ نحن بدورنا ـ بالميثاق وذلك هو التقوى.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

فأيّة نية لنقض الميثاق ترصد من قبل الله ، ويؤآخذ صاحبها عليه أخذا شديدا.

بنود الميثاق :

[٨] لهذا الميثاق بنود ثلاث :

الأول : العمل النشيط من أجل الله ، فعلينا ألا نتوانى عن تنفيذ واجباتنا الدينية ، أو مسئولياتنا الاجتماعية.

ان الله لا يحب الامة الكسولة المتخلفة التي لا تنشط في الحياة ، كما لا يحب الأمة التي تنشط لا من أجل الله بل من أجل مصالحها العدوانية. إن الله يريد منا ان نكون مجتمعا دائم الحركة والفعالية ولكن باتجاه الأهداف السامية ، وهذا معنى أن نكون كما قال الله :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ)

٣١٧

أي أن نبالغ في القيام من أجل تحقيق أهداف الرسالة المتجسدة في عمارة الأرض ، وإشاعة الخير في أرجائها.

الثاني : أن تكون الأمة واعية لذاتها ، ولما يجري حولها ، وتمتلك موقفا سليما ، وتعلن عن هذا الموقف بإصرار.

فالأمة التي يلفها الجهل والغيبة عن الحياة ، والأمة التي لا تملك المقياس الصحيح لتقييم أحداث الحياة ، والأمة التي لا تعلن عن مواقفها السليمة. انها ليست الامة التي يريدها الله والتي يقول عنها :

(شُهَداءَ بِالْقِسْطِ)

ذلك لان الشهادة لا تكون إلا بعد العلم بالحقيقة وبعد الاستعداد لإعلان الموقف منها.

الثالث : يجب ان تكون الأمة عادلة حتى مع اعدائها ، ولا تنمو فيها الحساسيات العدائية ضد هذا أو ذاك ، ولا تنجر وراء هذه الحساسيات في سلب حرية الأمم الأخرى ونهب خيراتها.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)

العدل هو أقرب وسيلة لتحقيق مرضاة الله ، واتقاء عذابه ، أما الظلم فهو أقرب طريق الى النار.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)

٣١٨

مكتسبات تنفيذ الميثاق :

[٩] وبسبب تنفيذ بنود الميثاق تجازى الامة بجائزتين.

الاولى : إصلاح ماضيها السيء ، وتصفية رواسب هذا الماضي.

الثانية : ضمان مستقبلها الحافل بالخيرات في الحياة الدنيا وفي الاخرة.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)

والله لا يخلف وعده وقد جاءت كلمة (لهم) تأكيدا على أن الله قرر هذا الجزاء لهؤلاء قرارا نهائيا لا رجعة فيه.

[١٠] اما من خالف هذه الصفة فبدلا من الايمان الكفر ، وبدلا من تطبيق مناهج الإسلام بالعمل الصالح التكذيب بهذه المناهج المنزلة في آيات القرآن وبذلك فانه من المقيمين في الجحيم.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)

[١١] ان نعمة الايمان تستقطب سائر النعم وفي طليعتها نعمة العزة والمنعة ، ولقد كانت العرب في الجاهلية أذلاء يطمع فيهم كل دنيء ورديء فجاء الايمان ونفخ فيهم روح الشجاعة والوحدة ، فانتصروا على أعدائهم.

اننا يجب أن نتذكر دائما كيف كنا قبل الايمان أذلاء وكيف أصبحنا أعزة ، ذلك لان هذا التذكر يجعلنا نعرف أكثر فأكثر قيمة الايمان ، ونندفع الى العمل بواجباته وفروضه ، ومن أبرزها العمل ببنود الميثاق الآنف الذكر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ

٣١٩

أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ)

لان الله قذف في قلوبهم الرعب فتولوا هاربين.

سبيل الانتصار :

(وَاتَّقُوا اللهَ)

بتطبيق مناهجه ، وتنفيذ الميثاق الذي بينكم وبينه.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)

فلا يخشون القوى الاجتماعية المناهضة ان تنحرف بهم عن العمل بمسؤولياتهم كأمة رسالية ، بل يستمروا على طريق الحق برغم ضغوط الأعداء.

ان العامل الاساسي الذي سوف يحسم الصراع القائم بين الجاهلية والإسلام هو الخوف ، فاذا استرهب الجاهليون جانب المسلمين انهزموا ، وهذا ما كان يحدث دائما اما إذا تمكن الخوف من قلوب المؤمنين فان العدو سيهزمهم ، وتقوى الله (بتنفيذ برامجه) والتوكل عليه (بالشجاعة والاقدام) هما اللذان يطردان الخوف من الامة ويقذفان به في قلوب العدو.

٣٢٠