من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

اعمل تشفّع :

[٨٥] وتحريض الرسول هو شفاعته عند الله ، فبقدر استجابة الناس للرسول يكون قدر سيرهم في طريق الرسول المؤدي الى الله ، واعتصامهم بحبل الله ، وبهذا القدر يشفع الرسول لهم عند الله.

أما الرسول فانه سوف يحصل على الأجر من عند الله ، وكل شخص يحصل على أجر معين كلما شفع شفاعة حسنة ، بأن حرّض الناس على العمل الصالح ، وبذلك شفع لهم عند الله ، أما لو دل على العمل السيء وحرض عليه ، فعليه من الوزر بقدر عمل الناس بذلك الوزر كاملا غير منقوص ، لأن الكلمة السلبية أشد خطرا وأكثر ضررا مما قد يعطيه الكلام الايجابي من منافع ، فجزاء ذلك أكبر من جزاء هذا ، وذلك بالقياس الى الفعل الذي ينتهيان اليه.

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها)

والله يحسب بالضبط مقدار عمل هذا أو ذاك.

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً)

قد أحرض أنا على عمل الخير بكلام ، ويذهب كلامي عبر الأقطار ينتقل من اذن لأذن ، حتى يتناقله الملايين ويعملون به ، ويكتب الله لي نصيبا مقدرا من عمل هؤلاء جميعا ، دون ان اعرف ذلك أو أستطيع ان احصى قدر الثواب الذي يحصيه الله ويكتبه.

كن محسنا :

[٨٦] والكلام الطيب من البشر لا بد ان يرد بكلام طيب ، والشفاعة الحسنة

١٤١

يجب ان تقبل بالاستجابة لها ، والله يحسب على الناس كلامهم الطيب وجوابهم الأحسن أو لا أقل المناسب.

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً)

فالسلام مستحب ، والجواب فرض ، ورد التحية ليس في الكلام فقط بل في الرسالة أيضا ، فمن احترمك ببعث رسالة إليك فعليك ان تردها أو بأحسن منها ، وكذلك لو قدم لك أحدهم خدمة فعليك ان تردها بأحسن منها أو بمثلها.

[٨٧] وعلينا ان نتحذر من تجاوز حقوق الناس المفروضة علينا ابتداء من أكبر حق وحتى حق رد التحية ، لاننا سنقف جميعا امام الله للحساب في يوم لا ريب فيه ، وعدا على الله لا يخلفه ، وهل اصدق من الله حديثا

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً)

ولقد عبر القرآن هنا بكلمة الى يوم القيامة ربما للدلالة على معنى انه يجمعكم ويسوقكم الى ذلك اليوم ، ليجعلنا نتصور ذلك اليوم المهيب الذي يساق الناس فيه جميعا الى محكمة العدل ليجازي فيها المحسنين والمسيئين بأعمالهم.

ضرورة الالتزام :

[٨٨] وعاد القرآن الى الحديث عن ضرورة الالتزام بتوجيهات الرسالة في اتخاذ المواقف الاجتماعية ، فبالنسبة الى المنافقين علينا الا نختلف فيهم ، بل نتخذ موقفا واحدا منطلقا من مبادئنا ، ذلك الموقف هو قتال المنافقين بكل حزم ،

١٤٢

وعدم التعاون معهم بأي شكل من إشكال التعاون ، ما داموا ملعونين عند الله ، غارقين في أوحال الكفر بسبب ما فعلوه من السيئات.

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ)

أي لماذا انقسمتم الى طائفتين في موضوع المنافقين؟!

(وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا)

أي ان الله اركسهم في الضلالة بفعل أعمالهم السابقة.

ومن السفه التفكير بأن التقارب مع المنافقين يسبب هدايتهم ، إذ ان الله أضل هؤلاء حين ابتعدوا عن الرسالة ، وأصبحت نفوسهم معقدة تجاه الرسالة ، فلا يمكن إصلاحهم بل يجب تصفيتهم جسديا.

(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً).

الهجرة انفصال والتحاق :

[٨٩] ليس هذا فقط ، بل ان هؤلاء يحاولون اضلالكم أيضا ، ويحولونكم الى جبهة النفاق لتكونوا تماما مثلهم.

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)

الهجرة في سبيل الله طريق الانفصال عن مجتمع النفاق ، والالتحاق بمجتمع الرسالة والذوبان فيه ، ولكن لو لم يهاجروا فلا حقوهم في كل واد حتى تقضوا عليهم ، لأنهم سوف يشنون عليكم غارات مفاجئة ، وعليكم ألا تتعاونوا معهم

١٤٣

بأية صورة.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)

من نسالم

؟ [٩٠] وهناك بعض فئات المنافقين لا يشملهم هذا الحكم وأولهم : المتحالفون معكم ، فاذا كان المنافق من طائفة تربطهم بكم صلة الميثاق ، فانه لا يقتل احتراما للميثاق.

والثاني : الذين لا يريدون الاعتداء عليكم بسبب ضعفهم وجبنهم ، وهؤلاء لا يجوز الاعتداء عليهم.

(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ)

ولكن الله القى في قلوبهم الرعب فاسترهبوكم وجبنوا عن القتال ، وقد عبر القرآن عن الجبن بكلمة حصرت صدورهم ، وهو تعبير أنيق وعميق حيث ان من يشتد به الخوف تتسارع نبضات قلبه ، فتضيق نفسه وكأن قلبه محصور ، وهؤلاء ما داموا بعيدين عن قتالكم اتركوهم لشأنهم.

(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً)

جزاء المخادعين :

[٩١] ولكن من المفروض الا يكون سلم هؤلاء خداعا ، فلو كان كذلك لوجب تعقبهم واخضاعهم للقانون.

١٤٤

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها)

ان هؤلاء يشاركون أولئك في الجبن ، بيد انهم حاقدون يتحينون الفرص ، بينما أولئك يائسون مستسلمون لواقعهم الضعيف.

(فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)

وبالتالي لو لم يصبح هؤلاء مثل الفئة السابقة في إنهاء حالة العداء ، وحبك المؤامرات ضد سلامة الامة ، فلا بد من قتالهم.

(وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً)

السلطان المبين هو : الحجة الدامغة أو القوة القاهرة ، ذلك لأن هؤلاء المنافقين يعتبرون متآمرين على سلامة الامة عابثين بأمنها.

إن هذه الآيات تبين لنا حكم الطوائف المختلفة التي تشكل خطرا على أمن الدولة الاسلامية ، وهي عادة الفئات الموتورة والمعقدة التي تساهم في الإخلال بالأمن في البلاد ، وهي لا تطبق على الفئات الثائرة ضد الانظمة الطاغوتية الحاكمة ، لأنها لا تتمتع بشرعية الرسالة كالنظام الاسلامي القائم على أساس الحق ، والعدل ، والحرية.

١٤٥

وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣) يا أَيُّهَا

____________________

٩٢ [فتحرير] : التحرير تفعيل من الحرية ، وهو إخراج العبد من الرق الى الحرية.

[دية] : الدية من ودي يدو ، اي اعطى المال المقابل للدم.

١٤٦

الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)

____________________

٩٤ [عرض] : يقال لكل متاع الدنيا عرض ، ويقال لكل شيء يقل لبثه عرض.

١٤٧

الأمن الشخصي

هدى من الآيات :

استمرارا للحديث عن الأمن في المجتمع الاسلامي ، تتحدث الآيات هذه عن أمن الإنسان ذاته في داخل المجتمع ، وجريمة الاعتداء على النفس خطأ أو عمدا ، ووجوب دفع الدية الباهظة والتكفير بالصيام لمن قتل نفسا بالخطإ ، اما من قتل نفسا متعمدا فان جزاءه جهنم خالدا فيها.

ولا يجوز الاستخفاف بقضية الدم ، بل حتى في العمليات العسكرية يجب التأكد قبل الهجوم على طائفة ، ولا تجوز الاغارة على الناس الآمنين بهدف الحصول على مكاسب مادية منهم بصورة غنائم ، إن هذه كانت عادة الجاهلية السوداء.

وان النفس البشرية محترمة في القانون الاسلامي ، ولا يجوز التفريط فيها أبدا ، والمجتمع المسلم لا بد ان يسوده الا من ، حتى يتحسس كل فرد بالاطمئنان فيندفع في البناء والاعمار.

١٤٨

بينات من الآيات :

قتل الخطأ بين الجواز والكفارة :

[٩٢] لا يحق للمؤمن ان يعتدي على نفس مؤمنة الا عن طريق الخطأ ، كأن يريد اصابة طير فأصاب مؤمنا فارداه قتيلا.

ان هذه الصورة الوحيدة التي من الممكن ان يقتل فيها مؤمن مؤمنا ، أما سائر التبريرات التي كان الإنسان الجاهلي يبرر فيها اعتداءه على الناس ، فانها مردودة على صاحبها ، وحتى في حالة الخطأ وضع الإسلام على القاتل كفارة فيها ، بالرغم من ان الخطأ هو من مسقطات التكليف التي رفع القلم عنها كما جاء في حديث النبي (ص) الشهير ، ذلك لكي يتحذر الإنسان كثيرا في أعماله حتى لا يصيب أحدا من المؤمنين بسوء ، فمثلا لا يصطاد الطير في منطقة يمكن أن يصيب منها بدل الطير رجلا مؤمنا خطأ ، ولا يصف دواء بطريقة عجولة فيموت بدوائه مؤمن وهكذا ، وتكون الكفارة المفروضة على قتل الخطأ سببا لمزيد من التورع ، والاحتياط في الدماء ، ومراعاة شروط السلامة فيما يرتبط بحياة المؤمنين.

ويبقى السؤال : ما هي كفارة قتل الخطأ؟

يجيب القرآن الكريم : إنها على نوعين :

الأول : عتق رقبة مؤمن فقط ، وذلك عند ما يكون أهل المقتول كفارا ذلك لأنه لا يسلم المسلم دية للكافر الا في حالة واحدة وهي إذا كان الكافر حليفا مع المسلمين ، فيجب دفع الدية له وفاء بالحلف.

الثاني : عتق رقبة ودية تسلم الى أهل المقتول ، وذلك حين يكونون مسلمين أو

١٤٩

حلفاء للمسلمين.

وإذا لم يقدر القاتل على عتق رقبة سواء كان فقيرا ، أو لانعدام الرقبة المستعبدة كما هو الوضع في عصرنا الحاضر ، فتتحول الكفارة الى صيام.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا)

أي أن يعفو أهل القتيل عن الدية تقربا الى الله ، وتصديقا بوعده بثواب العافين عن الناس.

(فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ)

إذا كان القتيل مؤمنا ، بيد أن قومه كانوا أعداء محاربين لكم ، فهنا تسقط الدية وتبقى الكفارة فقط.

(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ، فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)

لان الميثاق محترم في الشريعة الاسلامية حتى إذا كان طرفه كافرا.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)

يضع انظمته بعدالة تامة فمثلا : الاعتداء على النفس يجب ان يقابل بتحرير نفس من العبودية ، ذلك ان الحرية تطلق طاقات العبد المؤمن ، وتجعله يعوض ما فاته في الحياة الاجتماعية عن القتيل الذي خسره المجتمع.

أما الصيام فانه يأتي بالدرجة الثانية ، ليربي صاحبه على الالتزام الأشد في تصرفاته ، حتى لا يخطئ مرة ثانية فيقتل مؤمنا آخر خطأ.

١٥٠

إن القتل خطأ يقع اليوم كثيرا بسبب التهور في السياقة ، وعدم الالتزام بقوانين المرور بدقة ، فلو طبقنا نظام الإسلام ، وفرضنا على القتلة الدية والكفارة ، إذا لأزداد التزام الناس بتعاليم السياقة ، ولقلت الحوادث.

كما ان هناك أطباء يقتلون الناس خطأ ، فلو طبقنا عليهم نظام الدية والكفارة لكانوا أكثر التزاما بتعاليم الطب ، واهتماما بروح المريض.

جزاء القتل العمد :

[٩٣] ان الاعتداء على النفس البشرية يجازي بالخلود الدائم في النار ، بسبب ان القتل إنهاء لحياة القتيل في الدنيا ، فيجازى بانهاء فرص الحياة في الآخرة.

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها)

اما جزاؤه في الدنيا فانه سوف لا يفلح ، وسوف يبعد من رحمة الله ونعمه الواسعة.

(وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً)

والقتل هو القتل بالرغم من ان اساليبه تختلف ، فهناك من يقتل الناس مباشرة ، وهناك من يحكم عليهم بالقتل ، وهناك من يساهم في قتلهم بأفكاره الهدامة ، وكل أولئك يلقون في جهنم خالدين فيها.

والمجتمع الذي تجري فيه جريمة القتل كسنّة لهو مجتمع شقي بعيد عن رحمة الله ، بعيد عن الحياة الهانئة ، بعيد عن القيم الرفيعة ، قريب الى الهاوية.

ان لغة الدم هي لغة يتفاهم بها بعض الناس ، وهي ألّعّن لغة تستخدمها البهائم في الغابات ، وهي لا تفصح عن صلاح أبدا ، ومن المؤسف ان يكون

١٥١

المجتمع الاسلامي قد تعلم هذه اللغة اللعينة.

تشريعات واقية للدماء :

[٩٤] والدم البشري محاط في الشريعة الاسلامية بسياج منيع من الانظمة الواقية من ان يراق بغير حق ، ومن تلك الانظمة ضرورة التأكد قبل الهجوم الحربي على طائفة ، من أن هؤلاء مسلمون أم يريدون الحرب أو السلم ، وقبل أن يتثبت المسلمون من ارادة الاعتداء أو المقاومة الدموية في خصومهم لا يجوز لهم البدء بإطلاق النار.

ان الامة الاسلامية تؤسس جهاز مخابرات حربية ، لا من أجل كشف العدو فقط ، بل ومن أجل معرفة هل ان الحرب هي الطريق الوحيد امام الامة ولا مناص لهم منها ، أم ان هناك طرقا أخرى للصراع.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ)

أي أخذتم بالتحرك الجغرافي في سبيل تحقيق أهداف الإسلام المتمثلة في تحرير الشعوب واقامة العدل.

(فَتَبَيَّنُوا)

لتعرفوا أعداءكم بالضبط فتأخذوهم ، ولا تأخذوا كل الناس بتهمة العداوة ، ومن الواضح ان هذه التوجيهات تنفع الامة في تحقيق اهدافها ، إذ أنها تجنبها من إضرار الاعتداء على الأبرياء ، واستعدائهم ضد الامة وضد اهدافها المقدسة.

فاذا تبين المسلم فعرف خصمه ، واكتشف انه لا ينوي الاعتداء عليه ، بل هو مسالم فحرام إذ ذاك الهجوم عليه بهدف الحصول على مكاسب مادية أو ميدانية.

١٥٢

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا)

إذ رب عرض أعقب خسارة ، ذلك لان استعداء الشعوب ، وانتهاب ثرواتهم ظلما ، سوف ينفع الأعداء الحقيقيين للامة ، وتجعلهم موضع عطف الشعوب المقهورة ، وسوف تتعاون معهم ، بينما لو تركت هذه الشعوب على وضعها فسوف تنتصر الامة على اعدائها ، وتحقق فوائد النصر المضاعفة ، لذلك قال الله تعالى :

(فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ)

هي مغانم الانتصار على العدو الحقيقي ، ومغانم المصالحة مع الشعوب المسالمة ، ومغانم السمعة الطيبة عند الأمم ، بالاضافة الى مغانم الآخرة! هذه الوصية جاءت لتغيير هدف الحرب وقيمها من الجاهلية الى الإسلام ، ففي الجاهلية كان الناس يحاربون من أجل الحصول على مكاسب مادية مؤقتة (يسميها القرآن هنا ب ـ عرض ـ للدلالة على انها مؤقتة وتزول) بينما الحرب في الإسلام تهدف اشاعة العدل ، وتحقيق الحرية ، واقامة السلام ، وهذه القيم لا تتحقق الا بصعوبة ، وبعدم شن الحرب لاهداف مادية.

(كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ)

بالإسلام .. وإنكم ترون ما في الإسلام من فوائد ملموسة أمامكم ، منها شعور كل شخص بالأمن الذاتي ، فعليكم إذا باتباع وصايا الإسلام للإبقاء على هذه الفوائد ، ومن تلك الوصايا التبين قبل أي هجوم.

(فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)

١٥٣

لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩)

____________________

٩٥ [الضرر] : النقصان وهو كل ما يصرك من عسر ومرض وعلة.

٩٦ [درجات] : جمع درجة وهي المنزلة.

١٥٤

وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً(١٠٠)

____________________

١٠٠ [يهاجر] : المهاجرة المفارقة.

[مراغما] : المراغم المضطرب في البلاد والمذاهب ، وأصله من الرغام وهو التراب.

١٥٥

أهداف الجهاد

هدى من الآيات :

بعد الحديث عن الأمن الاجتماعي الذي جاء بدوره في أعقاب الحديث عن الطبقات الاجتماعية ، يأتي الحديث عن بعض اهداف القتال في الإسلام بمناسبة الحديث عن طبقة اجتماعية هي طبقة المهاجرين داخل الامة.

فما دامت القيم هي هدف الحروب الاسلامية ، فان اولى هذه القيم هي : عدم الاعتداء على الشعوب تحت شعار أو آخر.

والثانية هي : القتال من أجل الله ، وان يجعل المقاتلون في سبيل الله في درجة عالية داخل المجتمع.

والثالثة هي : تحرير الشعوب المستضعفة ، وهذا التحرير يرتبط بالامة الاسلامية كما يرتبط بالشعوب ذاتها ، فعلى كل شعب ان يقوم بتحرير ذاته من الطواغيت ، ولو كان بالهجرة التي تهدف تقوية الذات من أجل شن حرب ضد الجبابرة والمتسلطين.

١٥٦

والأمر بالهجرة من قبل الإسلام يفرّغ جبهات العدو من العناصر الخيرة التي اضطرت لمقاومة المسلمين الذين جاؤوا لتحريرهم ، كما ويدعم الجبهة الاسلامية بالعناصر الجيدة ، كما ان الإسلام بأمره بالهجرة يتم حجته على المقاومين لحركة الفتح الاسلامي ، فلا يستطيعون تبرير مواقفهم بأنهم كانوا مضطرين الى ذلك.

بينات من الآيات :

مواقف المجتمع من الجهاد :

[٩٥] بالنسبة الى الجهاد في سبيل الله ، يختلف الناس فيه الى ثلاث فئات : فئة مجاهدة ، وفئة لا تجاهد ولا تستطيع عليه ، وفئة تقعد عن الجهاد وهي قادرة عليه ، والفئتان الاوليتان أفضل عند الله من الفئة الثالثة ، وبالتالي أفضل داخل المجتمع الاسلامي ، ولهما حقوق ليست لسائر أبناء المجتمع.

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ـ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ـ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً)

وهذه الدرجة هي : ان المجاهدين تتخصص لهم اموال الامة قبل القاعدين ، وان لهم التأثير في حياة الامة الاجتماعية أكثر من القاعدين ، وفي الاخرة تعتبر أعمالهم أثوب عند الله ، وتقبل صدقاتهم قبل ان تقبل من القاعدين.

ان صلاة المجاهدين في سبيل الله ترفع الى الله بسرعة البرق ، لان صاحبها قرن القول بالعمل ، اما صلاة القاعد فانها قد ترفع أو لا ترفع ، وإذا رفعت فانما ترفع بشروط قاسية ، ومثل الصلاة سائر العبادات والممارسات ، ذلك ان الجهاد في سبيل الله يفتح عقل صاحبه ، ويعطيه الهدى والمعرفة والايمان ، والمجاهد في سبيل الله يزوده الله ببصيرة واضحة في الحياة ، لأنه اقتحم عقبة الذات ولم يعد بينه وبين الحقائق الكونية حاجز من الهلع والخوف والطمع والتردد والشك ، فاذا به

١٥٧

تنكشف أمامه حقائق الكون بوضوح ، ويزداد ايمانه بالله وبالقيم قوة وثباتا.

والمجاهد في سبيل الله لا يعيش نفاقا في ذاته ، ولا تناقضا بين الدنيا والاخرة ، انه قد باع الدنيا بالآخرة ، واشترى بنفسه جنة عرضها السموات والأرض ، فهو مطمئن من نفسه ، واثق من طريقته ومنهجه.

ولكن لا يعني هذا ان القاعدين كفار ، بل هم مدينون عليهم أن يهيئوا مصالح العباد ، فالفلاح في حقله ، والعامل في مصنعه ، والكاتب في مكتبه ، والكاسب والتاجر و.. و.. لكل واحد من هؤلاء واجب ، ومسئولية ودور يؤديه في الحياة ، وعليه ان يؤدي دوره تماما ودون غش فيه.

ان المدنيين في المجتمع الاسلامي يشكلون صفوف الجهاد في سبيل الله ، فلو لا زيادة الانتاج الزراعي ، ولو لا جودة الصناعة الاسلامية ، ولو لا سلامة وصدق البحوث العلمية المؤدية الى الكشوف والاختراعات ، ولو لا تداور الثروة بين التاجر والكاسب و.. و.. إلخ ، لو لا كل ذلك لا يتمكن الجندي المسلم ان يؤدي دوره بالكامل ، ولذلك بيّن القرآن هنا : ان افضلية المجاهد لا تعني أبدا ان القاعد (العامل بوظائفه المدنية) قد غمط حقه ، وجهل قدره وقيمته وقال :

(وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى)

بإيمانه واتباعه لمناهج الله في الحياة ، وعاد القرآن وأكد اهمية الجهاد وفضل المجاهدين وقال :

(وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً)

ذلك لكي يبين ان المجاهد رفعه الله درجة في الدنيا ، وأعطاه اجرا عظيما في الدنيا والاخرة.

١٥٨

أجر المجاهدين :

[٩٦] المجاهد يتمتع بأجر عظيم فما هو ذلك الأجر؟

اولا : انه يرفع عند الله درجات بقدر جهاده وتضحيته ، وتنعكس هذه الدرجات في الدنيا أيضا مثلا : ان المجاهد يحسب عند الله عالما ويعطى درجة العلم ، لان الجهاد يفتح عقل صاحبه ، ويجعله يعرف كثيرا من الأشياء التي يجهلها الناس القاعدون.

فدرجة العلم ينالها المجاهد عند الله ، كما ينعكس ذلك في حياته في الدنيا أيضا حيث يصبح عالما فعلا ، وكذلك يعطي درجة الايمان والتقوى والشجاعة والطاعة والانضباط وطول العمر والصحة.

وكل تلك الآثار الخيرة للجهاد هي درجات ومكاسب في الاخرة تنعكس أيضا في الدنيا.

ثانيا : انه يمنح المغفرة والتوبة ، حيث ان الله سبحانه يمحو سيئاته السابقة ، ولا يجازيه بها في الاخرة ، كما انه في الدنيا يتخلص من آثارها السلبية على نفسه.

ان الحسود المعقد المنطوي على ذاته ، والضعيف الارادة ، والكثير القول ، القليل العمل ، التارك بإهماله كثيرا من الواجبات ، والمرتكب بضعف إرادته كثيرا من المحرمات ، انه إذا انخرط في الحياة العسكرية الاسلامية سوف تتغير عنده الصفات بفضل الخشونة والتعب ومواجهة الاخطار في العسكرية ، فيصبح الجهاد بالنسبة اليه مدرسة تربوية كاملة التأثير ، وهذه المغفرة التي ينالها المجاهد وهي : الصياغة الجديدة للشخصية ، وهي من خصائص الجهاد.

ثالثا : ان الله يعطي المجاهد الرحمة ، وهي تعني في الاخرة المعاملة الحسنة ،

١٥٩

وقبول اعماله الصالحة بلا تردد ، وعدم التدقيق في حسابه ، اما في الدنيا فتعني : فتح أبواب الحياة امامه ، لان الجهاد يربي صاحبه على التحكم في ذاته وفي الحياة ، ومن كان كذلك وفقه الله في الدنيا ، بالاضافة الى السمعة الطيبة التي يحصل عليها المجاهدون في المجتمع ، من هنا يصبحون موضع تقدير واحترام الجميع.

هذه هي مكاسب الجهاد درجات ومغفرة ورحمة ، لخصّها الله تعالى بقوله :

(دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)

واجب المستضعفين

[٩٧] على الشعوب المستضعفة التي يتحكم فيها الطغاة بالاستبداد والظلم ، ويسلبون حريتها بالقوة ، عليها ان تثور ضد الطغاة ، وإذا لم تستطع الانتصار لنفسها في أرضها فعليها الهجرة الى ارض اخرى ضمانا لحريتها ، وبالطبع في ظل الدولة الاسلامية ستكون الأرض المسلمة معقل الحرية ، ومأوى المهاجرين الأحرار ، وعن طريق هجرة هؤلاء إليها تدعم قضيتهم ، لان الامة الاسلامية تحمل على عاتقها رسالة تحرير الشعوب المستضعفة ، وهؤلاء الأحرار المهاجرون سوف يزيدون من قوة الامة ، ويعجلون عملية تحرير أراضيهم من نير الطغاة والمحتلين.

والذين لا يهاجرون في سبيل الله الى موطن آمن ، ويبررون ارتكابهم للسيئات ، ومساهمتهم في ظلم أنفسهم وعدم الرد على المعتدين عليهم ، هؤلاء سوف يساقون يوم القيامة الى جهنم ، ذلك لان الظالم والمظلوم في الذنب سواء ، إذ كان بإمكان المظلوم دفع الظلم عن نفسه ولم يفعل.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ)

١٦٠