من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

يُظْلَمُونَ نَقِيراً)

أي لا يظلمون حتى بقدر ما في الحفرة الصغيرة الموجودة في طرف نواة التمرة ، أو بمقدار موقع نقر الناقر.

وشعور الإنسان بأن كل أعماله حسنة محفوظة له ، وهو مجزي بها عن قريب ، هذا الشعور يدفعه الى التسارع في الأعمال الحسنة ، ومحاولة مضاعفتها يوما بعد يوم ، وساعة بعد ساعة.

ولكي يدفع الشيطان البشر الى التكاسل يوحي اليه : أن سيئاته تغفر له بشفاعة فلان وعلّان ، وان حسناته لا تقبل منه ، لذلك نجد القرآن يؤكد عبر هاتين الآيتين أن للحسنات والسيئات جزاءها العادل من دون نقصان.

خط إبراهيم :

[١٢٥] ليس التوجه الى الأصنام ، والتنافس في عبادتها ، وتفاخر كلّ فريق بصنمه ، ليس ذلك هو الدين الحسن إنما الدين الحسن هو ما فعله إبراهيم حين أعرض عن كل رموز الشرك والضلالة ، وكل أصنام الظلم والعبودية ، وتوجه الى الله وحده ، وأخلص العبودية له ، وأسلم وجهه له. أي بوجهه كاملا اليه ، فلم يهدف شيئا غير وجه الله سبحانه ، ثم تزود بالصالحات فلم يكتف بالواجب منها فقط. بل أكثر منها حتى أصبح محسنا.

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)

أي مشى على طريقة إبراهيم في رفضه الأصنام والرموز الحجرية والبشرية.

(وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً)

فانتفع إبراهيم برفضه العبودية للأصنام والشركاء نفعا عظيما ، حيث قربه

٢٠١

الله اليه ، وجعله خليلا له.

[١٢٦] ان الذين يتخذون من دون الله أربابا لا يقدّرون الله حق قدره. بل لا يعرفون الله إطلاقا ، فلو عرفوا الله وعلموا أنه بسط قدرته على كل شيء في السماء والأرض إذا لصغرت في أعينهم الأحجار الصماء التي تنحت بأيديهم ، وتتخذ آلهة من دون الله ، ولتضاءل الأشخاص الذين زعموا بأنهم شركاء لله ، ان معرفة قدرة الله من النظرة الفاحصة في السماء والأرض ، واكتشاف آثار قدرته. انها معالجة جذرية لمشكلة الشرك في الإنسان ، ولذلك ذكرنا الله هنا بهذه القدرة :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً)

احاطة علم وقدرة. فليس هناك شيء يتطاول على قدرة الله ، أو يخفى على علمه سبحانه ، وإذا ثبتت قدرة الله ، وعرفنا ألّا ملجأ منه إلا إليه فان من الطبيعي أن نسلم وجوهنا له ، ونتبع ملة إبراهيم حنفاء.

٢٠٢

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا

____________________

١٢٧ [يستفتونك] : الفتيا والفتوى الجواب عما يشكل من الأحكام ، ويقال : استفتيته فأفتى بكذا والاستفتاء السؤال عن الحكم.

١٢٨ [الشح] : افراط في الحرص على الشيء ويكون بالمال وبغيره من الاعراض ويقال الشح البخل وعدم التنازل عن الحقوق.

٢٠٣

بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)

٢٠٤

العدالة في العلاقات الأسرية

هدى من الآيات :

العدالة أساس العلاقات الاجتماعية ، وعلى المسلم أن ينشر بذور العدالة في أسرته. فلا يظلم زوجته التي هي في بيته ، وتحت رعايته ، ولا يأكل عليها مهرها خصوصا إذا كانت يتيمة.

وبعد الزوجة يأتي دور الأطفال الصغار الذين لا يستطيعون دفاعا عن حقوقهم ، واليتامى. حيث يجب تطبيق العدالة في علاقة الشخص بهم.

وعلى الزوجة أن تحاول من جانبها اقامة علاقاتها مع الرجل على أساس المصالحة لا المطالبة بكل ذرة من حقوقها.

ذلك ان علاقات المصلحة الذاتية ، وبالتالي المطالبة التامة بكل الحقوق تسبب الشقاق بسبب طبيعة البخل المرتكزة في نفس البشر ، ولذلك فالأفضل دائما اقامة علاقة التقوى والإحسان والمسامحة بدلا من العلاقات الحدية حيث يطالب كل جانب بكل حقوقه.

٢٠٥

وعلى الرجل ألا يحرص في تعدد الزوجات إذ أن من الصعب عليه اقامة العدل بينهن ، فيضطر الى ترك واحدة منهن أو أكثر كالمعلقة فلا هي زوجته ولا هي مطلقة.

وفي حالة وصول العلاقة الزوجية الى حالة من الجمود والتنافر فالأفضل الانفصال دون أي خوف من الفقر لأن الله هو الرزاق.

ان علاقة الزوجين ببعضهما تشكل جانبا هامّا من علاقات المجتمع بعضه مع بعض. كما وانها تنعكس على هذه العلاقات سلبا أو إيجابا ، وكثير من الذنوب تنشأ مباشرة أو غير مباشرة من العلاقة السّيئة بين الزوجين.

ولذلك أعاد القرآن هنا الحديث عن العلاقات الزوجية بعد ما تحدث عنها في بداية السورة ، وذلك في اطار الحديث عن الذنوب وطبقة المذنبين الذين يختانون أنفسهم أو يخونون الناس ، لتكون الذنوب التي ترتكب في المحيط العائلي مثلا للذنوب التي ترتكب خارجه.

بينات من الآيات :

حقوق المرأة :

[١٢٧] بسبب النظرة الجاهلية المقيتة الى النساء ، واعتبارهن العنصر الأقل كفاءة وحقوقا من الرجل ، فان الجاهليين كانوا يسألون الرسول كثيرا عن تجاوز حقوق النساء ، هل فيه اثم؟ خصوصا إذا كانت المرأة زوجة في بيت الرجل لأنها في هذه الحالة تعتبر في ظن الجاهليين ملحقة بالرجل ، وليس لها أي استقلال عنه.

فأجاب القرآن هنا عن سؤال الجاهليين حول النساء ، وبين أن علينا أداء حقوقهن كاملة كما جاء في الشريعة الاسلامية. متمثلة في الكتاب خصوصا إذا كانت المرأة يتيمة فعلنا أداء حقها كاملا إذا أردنا الزواج منها.

٢٠٦

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ)

وكذلك حقوق المستضعفين من صغار العمر واليتامى. كل تلك الحقوق يحب أن تراعى رعاية تامة.

(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ)

وعلى المؤمن أن يزيد على أداء الحقوق بالإحسان الى هذه الطبقات ويعلم أن كل عمل يعمله خير مكتوب عند الله.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً)

الصلح في العلاقات الأسرية :

[١٢٨] كما يجب على الرجل أن يوفي حقوق المرأة فعليها أن تتسامح بدورها عن بعض حقوقها خصوصا إذا رأت في زوجها ميلا الى عدم أداء حقوقها ، أو حتى الاعراض التام عنها.

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)

فالإسلام وضع حدودا ثابتة في العلاقات الاجتماعية ، وكلف الناس بتطبيقها كلما اختلفوا فيها ، ولكنّه وضع قانون التراضي والصلح لاضفاء المرونة الواقعية على تلك الحقوق ، فمثلا : المهر حق من حقوق المرأة وعلى الرجل ألا يتزوج بلا مهر ، ولكن هناك نساء أغنياء يتزوجن لسبب أو آخر من رجال فقراء. أفلا يمكن أن يتنازلن عن صدقاتهن للأزواج؟

بلى. لأن ذلك يتفق مع واقعية التشريع وكذلك بالنسبة لسائر حقوق

٢٠٧

الزوجة ، فقد لا تكون من مصلحتها المطالبة بها تماما ، ولعدة أسباب محتملة.

١ / فقد تكون الزوجة لا تستحق تلك الحقوق ، حسب ملابسات حياتها ، فتكون مثلا امرأة كبيرة في السن دميمة في المنظر ، وضيعة في الشرف ، عاقرة جاهلة ، وقد تزوجت ببعل يعاكسها في كل تلك الصفات ، فالأفضل لها أن تتجاوز عن بعض حقوقها للمحافظة على ودّ زوجها.

٢ / وقد تكون ظروف الزوج صعبة ، وإذا ضغطت عليه الزوجة للحصول على كل حقوقها آنئذ يضطر الى الطلاق فخير لها أن تسكت عن بعض التجاوزات بانتظار ظروف أفضل.

٣ / وقد يكون الزوج رجلا منحرفا. يخون زوجته في حقوقها ، ولكن البقاء معه بانتظار صلاحه المرتقب أفضل من التمرد عليه وإنهاء العلاقة الزوجية. مما قد يسبب الضّرر لهما معا.

إذا هناك ظروف استثنائية يجب على المرأة أن تتنازل بطوع ارادتها عن بعض حقوقها ، وتصطلح مع الزوج ، وتشريع الصلح هنا وفي سائر العلاقات يعطي مرونة واقعية للتشريع الاسلامي. حيث يضع للملابسات الخارجية دورا في الأحكام الشرعية.

(وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ)

أي ارتكزت صفة الشح والبخل والفردية في النفوس ، ولذلك يحاول كل جانب أن يجر النار الى قرصة ، وعلينا أن نعتبر أن إقامة العلاقة الاجتماعية خير من فضّها فنحاول مقاومة صفة الشح ، ونتسلح بالتسامح والصلح.

(وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)

٢٠٨

أي حين أداء حقوق الآخرين تزيدون عليها الى درجة الإخلاص ، وحين أخذ الحقوق منهم تتقون الله فلا تأخذون إلا ما علمتم أنه من حقكم.

تعدد الزوجات :

[١٢٩] على الرجل ألا يحرص في الزواج بأكثر من امرأة واحدة لأن الواجب الشرعي عليه يقضي آنئذ أن يعدل بينهما ، وبما أن ميل الشخص سيكون بالطبع الى الحسنى منهما ، فلذلك من الصعب أن يقيم العدل في التعامل معهما ، وسيؤدي ذلك بطبيعة الحال الى ترك واحدة منهما وإهمالها. حتى تصبح كالمعلقة فلا هي زوجة تتمتع بحقوق الزوجية ولا هي مطلقة فتكيّف حياتها حسب ارادتها.

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ)

الى الزواج بل اجعلوا الزواج من الثانية حسب المصلحة أو الضرورة فقط.

فمثلا : إذا وجدتم أرملة تحتاج الى كنف الزوجية ، وليس لها من يتكفل بها فتزوّجوا منها ، أو إذا كان عدد النساء أكبر بكثير من الرجال لسبب أو لآخر ، مما يشكل مشكلة اجتماعية ـ لو لا تعدد الزوجات ـ وإذا كانت الزوجة الأولى عقيمة أو مريضة أو مسنة بحيث لا تستطيع الوفاء بحقوق الزوجية وهكذا.

أما في الحالات العادية التي يكون الزواج بالثانية شهوة جنسية بحتة أو تفنّنا في المتعة المجردة ، فان العاقبة المنتظرة هي إهمال إحداهما مما يشكل خرقا لحقوقها.

(فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)

أي أن الزواج بالثانية ليس حراما حتى ولو كان لمجرد المتعة أو الشهوة الجنسية ، ولكن بشرط الإصلاح الدائم للعلاقة بين الاثنتين معا ، وبشرط التقوى

٢٠٩

والتحذر من سحق حقوق واحدة منهما تحت ضغط العاطفة.

فمن كانت إرادته قوية وقادرة على ضبط عواطفه ، وكان تقواه يحجزه عن الحاق الأخرى بواحدة منهما فلا بأس عليه حتى ولو صدرت منه هفوات من غير تعمد وإصرار. فان الله غفور رحيم.

وان يتفرقا :

[١٣٠] إذا أهمل الزوج عقيلته فعليها أن تطالب بالطلاق ولا تخشى من الفقر. إذ انه هو بالتالي علاج. بيد انه يأتي في آخر القائمة. كذلك الطلاق علاج ناجح لظرف صعب لا ينفعه علاج آخر. ذلك ان البقاء على وضع شاذ ، ومحاولة الصبر عليه تضييع للطاقات وإفساد للضمير ، وهدر للحقوق.

(وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً)

صحيح ان الله لا يرزق أحدا من دون بذل سعي جدي لطلب الرزق لأنه سبحانه حكيم ، ولكن أبواب الرزق ليست محصورة في الزواج حتى إذا طلق المرء زوجته خافت من الفقر. كلا فان الله قادر على أن يفتح عليها أبوابا جديدة للرزق لأنه واسع .. وعلينا أن الا نحدد أنفسنا ضمن مجالات ضيقة للرزق ، بل ننطلق في رحاب الحياة ونفتش أبدا عن آفاق جديدة في هذه الأرض الواسعة. ذات الامكانات غير المحدودة.

٢١٠

وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ

____________________

١٣٥ [بالقسط] : القسط العدل.

[تلووا] : من لوى يلوي ، بمعنى الانحراف واللّي الانحراف اليسير.

[تعرضوا] : الاعراض الانحراف مطلقا.

٢١١

وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥)

٢١٢

المسؤولية الاجتماعية

هدى من الآيات :

حين يتحسس البشر بقدرة الله الهائلة التي تتجلّى في ملكوت السموات والأرض ، وتحيط به في كل شيء. حين يتحسس بذلك تجري في عروقه قشعريرة وارتعاشة تدفعه أبدا الى الحذر ، وتبعده أبدا عن الطيش والغفلة.

وكلما زادت معرفة البشر بالقدرة الكبيرة التي تحيط به. كلما زاد تقواه ، وبالتالي انضبطت أعماله ، واتجهت في مسير سليم ، ونمى في روعه ضمير واع يردعه من اقتراف الخيانة أو ارتكاب الجريمة ، ويدفعه الى اقامة العدل ، وأداء الشهادة لله.

وفي هذا الدرس ينهي القرآن الحكيم حديثه عن طبقة الخائنين والمختانين بمعالجة جذرية لمشكلة الذنب. تلك هي : ازدياد تقوى البشر النابع بدوره من معرفة قدرة الله ، ولذلك يبدأ هذا الدرس بالتذكير بملكوت الله ، وان الله غني لا يضره كفر الناس ، وانه يملك ما في السموات والأرض ، وأنه قادر على تبديل

٢١٣

الناس بآخرين.

ثم يعطي أملا للإنسان بثواب الله ، وينهي الدرس بما يعتبر علاجا آخر لمشكلة الذنب (الخيانة ـ المعصية) هو :

أن يقوم الناس جميعا بالعدل ، وأن يشهدوا لله بعيدين عن أي اعتبارات أخرى ، وطبيعي أن يقل الذنب في مجتمع قوام بالقسط شاهد على الحق لله.

بينات من الآيات :

مشكلة الخوف عند الإنسان :

[١٣١] من الدوافع الأساسية لارتكاب الذنب هو الخوف ، فلو لا خوف الشعوب المستضعفة من الطغاة إذا ما سكتوا على الظلم ، ولو لا خوف الفرد من مجتمعة المنحرف إذا ما استمر في ضلالات ذلك المجتمع ، ولو لا الخوف من الفقر لما بخل الأغنياء ، ولو لا الخوف من الموت لما تخلف الجبناء عن الحرب.

وبالرغم من تجذر مشكلة الخوف عند البشر فان لها حلا يقتلع جذورها اقتلاعا هو : الايمان بالله ، وانه يملك ما في السموات والأرض ، ويأمر بالعدل والإحسان ، ويدعم من يعمل بهما ، ويخلّصه من عوامل الخوف بقدرته الكبيرة.

فما دام الله يملك كل ما نخاف منه فلما ذا لا نخاف من الله. بل ولماذا نخاف شيئا ما دام الله ، وهو رب كل شيء لم يغضب علينا.

ان هذه المعادلة الواضحة تجعلنا نقاوم الضغوط التي تدفعنا الى الذنب.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ)

هذه وصية وليست أمرا فقط لأن الأمر قد يكون في ضرر المأمور ، بيد أن

٢١٤

الوصية هي دائما في مصلحة من يسمعها ، ثم هي وصية مشتركة بين كل أجيال الرسالة لأنها من القيم العامة التي لا تتغير بالزمان.

ان التقوى في مصلحة الإنسان وليس في مصلحة الله فهو لا يتأثر شيئا بتقواكم أو بكفركم.

(وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً)

فهو غني بامتلاكه لما في السموات والأرض ، وحميد لأنه لا يستخدم قدرته في الحاق الضرر بالخلق سبحانه. بل في اللطف بهم والتفضل عليهم.

الاستعانة بالله من الخوف :

[١٣٢] من استعان بالله وقاوم ضغوط الحياة ، ولم يستجب لهاجس الخوف الذي يدفعه الى الذنب فانه سيجد وراءه ركنا شديدا يعتمد عليه.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)

ومدافعا لمن استعان به ، ولم يخش عباده اعتمادا عليه.

[١٣٣] أما من خشي الناس ، وخاف من الطبيعة ، وأسخط الله لارضاء المجتمع أو لتجاوز أخطار الطبيعة ، فعليه أن يتحمل مسئولية عمله إذ أن الله قادر على تصفيته من الوجود رأسا ، ويأتي بآخرين يعيشون في الأرض مكانه.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً)

[١٣٤] ومن الناس من يدفعه الطمع الى اقتراف المعصية ، فيأكل أموال الناس طمعا ، ويتعاطى بيع الخمور ، وإشاعة الفاحشة طمعا .. فعلى هؤلاء أن يعرفوا أنهم لوا اتبعوا منهاج الله ، وابتعدوا عن معاصيه ، فسوف يغنيهم الله ،

٢١٥

ويعطيهم لا في الدنيا فقط بل وفي الآخرة أيضا.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً)

يسمع ويبصر أقوال وأعمال الناس الحسنة فلا يتركها من دون ثواب عاجل في الدنيا ، وثواب آجل في الآخرة.

خلاصة القول : ان كانت المعصية بدافع الخوف فلنعلم ان الله قادر على أن يدفع عنا ما نخشاه ، وهو أولى بالخوف من أي شيء آخر ، وان كانت المعصية بهدف الحصول على غنيمة ، فان عند الله غنائم أفضل.

المسؤولية الاجتماعية :

[١٣٥] لكي نحافظ على نظافة المجتمع لا بد أن يتوفر عاملان :

الأول : ضمير رادع عن المعصية عند كل شخص (التقوى).

الثاني : احساس الجميع بمسؤوليتهم عن المعصية ، ومحاسبتهم العامل بها أنّى كان ، وقد تحدثت الآيات السابقة عن العامل الأول.

وها هي الآية تتحدث عن العامل الثاني الذي يبرز دوره في الحقوق الاجتماعية ، فلو كان ضمير المجتمع حيا ، ويحس بمسؤوليته ، فانه يقتل الظلم وهو في المهد. إذ ما إن يظلم أحد من الناس حتى يردعه أقرب الناس إليه. من قراباته أو أصدقائه أو زملائه ، وبالتالي من أولئك الذين يرجو أن يدعموا موقفه الظالم. بل قبل أن يهم الظالم باغتصاب حق ، فانه عادة ما يستشير القريبين منه ، ويحاول تهيئة الأجواء لجريمته ، فاذا كان المجتمع واعيا فإنهم يمنعونه عن تنفيذ مخططه فيقتلون الظلم وهو نطفة قبل أن يولد.

٢١٦

وهناك مرحلتان متدرجتان لقيام المجتمع بمسؤوليته تجاه الظلم :

الأولى : منع الظلم ، واقامة العدل.

الثانية : في حالة وقوع الظلم التعاون على إزالته ، وذلك بالشهادة ضده ، ولمصلحة صاحب الحق ، وليس للإنسان أن يسكت عن إعلان موقفه من الظلم وذلك بالشهادة لصاحب الحق ، أنى كانت الظروف ، فلان صاحب الحق ضعيف أو غريب أو فاجر ، أو لأن الظالم له قوة أو من أقربائي أو أصدقائي أو .. أو. لا أستطيع لأي من هذه المبررات أن أسكت عن الشهادة. بل علي واجب أن أشهد لصاحب الحق.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)

أي اعملوا على تطبيق العدالة. لأن صرح العدل في المجتمع بحاجة الى جهد ضخم ليتم بناؤه.

(شُهَداءَ لِلَّهِ)

أي أقيموا الشهادة بهدف مرضاة الله لا خوفا أو طمعا من أحد حتى ولو كانت الشهادة ضد مصالحكم.

(وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما)

أي لا عليكم إذا كان من تشهدون له غنيا أو فقيرا ، بل هذا أمر يخص الله. أما أنتم فاشهدوا لله.

(فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا)

فلا يضلنكم حب المصلحة ، أو حب الأقارب من اقامة العدل بالشهادة أو بالتنفيذ.

٢١٧

(وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)

أي ان تنحرفوا قليلا أو كثيرا فان الله خبير بكم.

٢١٨

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ

____________________

١٣٩ [العزة] : أصل العزة الشدة والعزيز القوي المنيع بخلاف الذليل.

٢١٩

إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)

٢٢٠