من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

الهروب الى التوبة أسلم :

[٣٤] ويفتح الله امام المفسدين في الأرض باب التوبة لكي يرجعوا الى رشدهم ولا يهرقوا دماء أبناء الامة ، ويقول سبحانه :

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

وأمر قبول توبة هؤلاء أو ردها انما هو الى الامام الذي يمثل القائد الأعلى للدولة ، لأنه قد لا تكون التوبة الا تكتيكا مؤقتا لجمع السلاح والأموال للعودة الى القتال ، وكلمة اخيرة : ان هذه الفئة تشمل قطاع الطرق والمتمردين ضد النظام الاسلامي بالسلاح ، كما تشمل القوات المسلحة التي تدعم انظمة الطاغوت المستبدة بمصير الشعوب ، والمفسدة في الأرض لذلك لو انتصرت الثورة الاسلامية ، سيكون لها الحق في ملاحقة هؤلاء جميعا بتهمة الفساد في الأرض ، ومحاربة الله ورسوله ، والنظام الاسلامي الصالح ، وبالتالي إنزال أشد العقوبات عليهم ، ومثل القوات المسلحة ، كل أركان النظام الطاغوتي مثل كبار رجال الأمن ، والاعلام ، والوزراء العاملين في بالفساد.

٣٦١

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)

____________________

٣٥ الوسيلة : الوصلة والقربة.

٣٦٢

الحسرة الكبرى

هدى من الآيات :

ان النظام الاسلامي الذي يصلح الأرض وما فيها بحاجة الى التعهد والالتزام والتقوى ، وبحاجة الى النشاط في سبيل الله بهدف الوصول الى رضوانه ، والى الكمال الرفيع الذي هو فيه سبحانه ، وبحاجة الى الجهاد ومقاومة العقبات البشرية والطبيعية التي تعترض طريق تطبيق النظام ، هذه الشروط لو توفرت لأثمرت بالفلاح والحياة السعيدة.

اما الذين لا يطبقون هذا النظام الصالح ، ويكفرون به ، فان عذاب الله ينتظرهم ولا مناص لهم حتى لو دفعوا كل أموالهم فدية ليتخلصوا منه ، انهم يحاولون عبثا بصورة مستمرة التخلص منه ، ولكن عذاب الله مقيم دائم.

بينات من الآيات :

حقيقة النظام الاسلامي :

[٣٥] النظام الاسلامي الذي يعبر عن وحي الفطرة وسنن الحياة ، لا يمكن

٣٦٣

تطبيقه بالقوة ، بل بالالتزام الذاتي (وهو التقوى) فبالحذر من عذاب الله يتجنب الفرد المزالق التي تؤدي به الى الهلاك.

الكمال المنشود :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ)

والتقوى يجب الا تكون طريقا الى الجمود والسكون ، بل وسيلة للتحرك المستمر للوصول الى الكمال الأرفع ، الذي هو عند الله سبحانه ، فلله الأسماء الحسنى ، والكون كله يسعى من أجل الكمال الذي لا يبلغه الا عند ربه ، ولذلك نجد موكب الوجود متصاعدا الى ذلك الرفيق الأعلى ، والإنسان لا يشذ عن هذه الحركة لو سلمت فطرته الاولية ، فهو بفطرته يسعى من أجل العلم والقدرة والمحبة والجمال وسائر الأسماء الحسنى التي هي لله وحده.

وعلى البشر الا يترك طريقه يمكن ان تصل به الى تلك الأسماء الا اتبعها وسار فيها دون اي توان أو كسل ، لان ذلك هو الهدف الأسمى له في الحياة ، ان النشاط المكثف والحركة الدائمة في طريق الله وبلوغ أسمائه الحسنى هو الكفيل بتكامل البشر وتصاعده ، لذلك قال ربنا :

(وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)

الوسيلة الى الله :

ترك السياق كلمة الوسيلة عامة مطلقة تشمل كل الوسائل الحقيقية التي تؤدي بناء الى الله ، والى أسمائه الحسنى من العلم والقدرة والمحبة والجمال.

٣٦٤

وغيرها ، فالصلاة والصيام والحج والزكاة والصدقة والفداء وسيلة ، والتأليف والخطابة والتوجيه الى الله وسيلة ، وهكذا.

وكما تتنوع الوسائل الى الله تختلف مواهب الإنسان التي يجب على كل شخص ان يفجرها جميعا والا يدخر منها شيئا ... فان الموهبة التي تدخرها تبلى وتفنى ، والطاقة التي لا تصرفها اليوم لا تستطيع ان تصرفها غدا لأنها فنيت ، لذلك يجب الجهاد ومقاومة كل العقبات النفسية التي تعترض طريق الإنسان الصاعد الى الله ... الى الرفيق الأعلى.

(وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

لا للفداء :

[٣٦] ان هذه الطاقات والامكانات التي نملكها اليوم ، انما هي وقود مسيرتنا المتصاعدة الى ربنا العزيز ، فلو بخلنا بها فلنعلم انها لا تخلد لنا ولا تبقى ، ونبقى نحن وذنوبنا التي نود غدا ـ في يوم البعث ـ ان ينقذنا منها الله ، حتى ولو كان ذلك بإعطاء كل ما نملك ، ولكن هل نملك في ذلك اليوم شيئا؟!

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

اذن دعنا نستخدم ما خوله الله لنا من طاقات وامكانات في سبيل الوصول الى الله ، ونجعلها وسيلة التصاعد ، ولا نجعلها ـ كما يفعل الكفار ـ حجابا بيننا وبين ربنا العزيز.

[٣٧] من شدة الألم في عذاب يوم القيامة ، لا ينفك الكفار المعذبون هناك

٣٦٥

من محاولاتهم اليائسة للخلاص من العذاب ، وتلك المحاولات التي لو بذلوا شيئا بسيطا منها في الدنيا ، لأنقذهم الله بها في هذا اليوم.

(يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)

مستمر وغير منقوص.

٣٦٦

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)

٣٦٧

كيف نحقق الأمن الاجتماعي

هدى من الآيات :

في سياق ذكر الجرائم وعقوبتها ، التي بدأها القرآن في الدروس السابقة ، يبين القرآن جريمة السرقة التي هي اعتداء غير مسلح على أمن المجتمع ، فيحكم بضرورة قطع اليد جزاء لما ارتكبت من جريمة ، نكالا من الله.

ولكن لا يعني إنزال هذه العقوبة الشديدة على السارق الغاء شخصه من قائمة المجتمع ، بل إذا تاب وأصلح ماضيه فان الله غفور رحيم ، وكذلك ليست العقوبات في الإسلام تشفيا وانتقاما.

ومغفرة الله تتناسب مع مقدرته وملكوته ، وان له ما في السموات والأرض لذلك يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء ولذلك يجب ان لا يبخل البشر في كرم ربه الواسع.

بينات من الآيات :

[٣٨] حين تمتد يد خائنة الى ملك الآخرين فانها تمتد الى الأمن في البلد

٣٦٨

وتجعل كل فرد قلقا على مصير جهوده التي حصل بها على هذا المال ، بالضبط كما ان قتل نفس واحدة بمثابة قتل الناس جميعا ، لأنه يهدد امن المجتمع كله ، وحين ينعدم الأمن في البلد لا يجد الناس ذلك الدافع القوي نحو بناء وطنهم ، وتفجير طاقاتهم ، وتخزين ثروتهم للمستقبل ـ من هنا كان جزاء السارق شديدا في الإسلام ـ بالرغم من انه لا يبلغ قساوة العقوبات التي فرضتها بعض الانظمة بقتل السارق ، انما يوجب قطع يد السارق لتكون جزاء وعبرة.

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

حد القطع :

ويقول الفقهاء انه تقطع أصابع اليد اليمنى فيما لو كانت السرقة من حرز ، ويبدو لي ان العقوبة يجب ان تقتصر على أقل قدر ممكن ، وأقل ما في اليد الأصابع كما ان السرقة من غير حرز قد لا تعتبر سرقة في مفهوم العرف.

والدولة الاسلامية مظهر لعزة الله وقوته وقدرته وحاكميته ، كما هي مظهر لحكمة الله وهداه وصلاح نظامه وتشريعه.

الهروب إلى التوبة أسلم :

[٣٩] في كل جريمة ، الهدف الاساسي للإسلام تزكية المجتمع منها ومن آثارها ، وليس الهدف الانتقام من الفاعلين من هنا يفتح الله امام المجرمين باب التوبة ، ولكن يشترط عليهم الا تكون توبتهم لفظية ، بل توبة نصوحا تتجلى في

٣٦٩

إصلاح الفساد الذي عملوه بجريمتهم.

(فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

حقيقة التوبة :

اما من ترك السرقة ولم يدفع الأموال المسروقة الى أصحابها ، أو ترك السرقة لصعوبتها واشتغل بالاحتيال والرشوة والفسق فان توبته ليست حقيقية ، ولا تسعه رحمة الله التي وسعت كل شيء والله غفور يطهر قلب الإنسان ووجدان المجتمع ، وصحيفة الأعمال ، يطهر كل ذلك من اثار الذنب الذي ارتكبه الفرد حتى كأنه لم يرتكب ذنبا ، والله رحيم يتفضل على التائب الذي تستقيم سيرته بالنعم والرخاء والسعادة التي زعم انه يجدها في ارتكاب المعصية.

[٤٠] والله لا يخشى الناس ، ولذلك لا يتعامل معهم بظلم أو بقسوة ، والدولة الاسلامية يجب ان تكون كذلك لا تندفع نحو الإرهاب خشية الناس ، وخوفا من قيامهم ضدها. كلا. بل يجب عليها ان تتوب عليهم إذا أصلحوا ، وتعتمد على قدرة الله الواسعة.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

ولان قدرة الله واسعة وملكه عظيم ، فعلى الإنسان ان يرهب جانبه ويتقيه ولا يستهين بأوامره وتعاليمه سبحانه ، كما ان عليه ان يتوكل على الله في اكتساب المعاش دون خوف من فشل أو انتكاس.

وبكلمة ، ان معرفة أسماء الله الحسنى ومن أبرزها .. رحمته وقدرته ، تنعكس

٣٧٠

على السلوك البشري في صورة صفات مثلي. لذلك يذكرنا القرآن بها قبل وبعد بيان الأحكام ، وعلينا ان نتذكرها كلما أردنا تربية أنفسنا أو مجتمعنا على السلوك الحسن.

٣٧١

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ

____________________

٤٣ (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) : قابلون له يقال لا تستمع من فلان قوله اي لا تقبل ومنه سمع الله لمن حمده اي تقبل الله منه.

٣٧٢

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)

____________________

للسحت : أصل السحت الاستنصال يقال سحته وأسحته اي استأصله ويقال للعالق أسحت اي استؤصل

٣٧٣

حواجز تطبيق الشريعة

هدى من الآيات :

في سياق الحديث عن الأحكام الاسلامية يبيّن القرآن الحكيم طائفة من الحواجز النفسية والاجتماعية التي تقف في طريق تنفيذ هذه الأحكام وهي كالتالي :

أولا : النفاق وانعدام الإيمان الحقيقي الذي يجعل صاحبه يسارع في خرق القوانين ، والعمل بأنظمة الكفر.

ثانيا : الكفر الذي يبديه بعض أهل الكتاب مثل اليهود الذين يسمعون أبدا الكذب ، ويستلهمون أفكارهم من الأجانب. الذين يحرفون الكلم بعد ان وضعت مواضعها الصحيحة يخططون لهؤلاء ويأمرونهم باتباع أفكار معينة.

وهؤلاء أراد الله فتنتهم وإضلالهم لأنهم سلفا اختاروا ذلك ، فلا ينفع معهم

٣٧٤

الكلام ، والسبب أن قلوبهم مريضة غير نظيفة ، ولهؤلاء خزي وذلة في الدنيا ، وعذاب مؤلم في الاخرة.

ثالثا : ومن صفات هذه الفئة أنهم يرتاحون للكذب ويأكلون السحت ، وعلى الرسول الا يهادنهم فأما يحكم بينهم بالحق أو يعرض عنهم دون ان يرهب جانبهم ، والله يحب المقسطين الذين يحكمون بالعدل.

ومن الواضح ان مجيء هؤلاء الى الرسول ليس قربة الى الله ، بل لكي يجدوا مهربا من الأحكام الموجودة في التوراة.

بينات من الآيات :

(لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) :

[٤١] حين يكون الإسلام مجرد لقلقة لسان نجد الكثيرين يدّعون الإسلام ، ولكن إذا حانت مرحلة العمل تجد الكثيرين منهم يسارعون في الكفر ، ويخالفون تعاليم السماء ، ويتبعون الأنظمة الطاغوتية الفاسدة ، وعلى القيادة الا تشعر بوهن بسبب مسارعة هؤلاء في الكفر لان ذلك لا يدل على ان جهتها قد ضعفت الآن ، بل على انها كانت هكذا بسبب وجود هذه الفئة المنافقة فيها.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)

والكفر في هذه الاية هو الكفر في الآية ٤٤ حسبما يدل عليه السياق ، والذين يسارعون في الكفر قد يكونون من المنافقين ، أو من الذين هادوا (الطابور الخامس في المجتمع الاسلامي) وهؤلاء يستلهمون افكارهم ومناهجهم من

٣٧٥

الأجانب غير الحاضرين في الساحة.

اليهود وصناعة الأفكار :

(وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ)

كلمة (السماع) تدل على حالة نفسية تدفعهم الى البحث عن الكذب لتقبله ، وذلك بسبب انحرافهم النفسي من الحقيقة ، ووراء هذه الفئة مجموعة اخرى هم كبارهم واسيادهم وأولئك يضعون لهؤلاء ثقافة منحرفة ، ويأمرونهم بان يتخذوها مقياسا لهم. فان كانت الأفكار التي يسمعونها من الرسول (ص) تتفق وإياها ، فليأخذوها والا فليرفضوها.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ)

اي بعد ان استقرت الكلمة في مستقرها. مثل ان تكون الكلمة قد توضح معناها ، ثم يحرفونها أو تكون الكلمة قد حرف مصاديقها الواضحة ، ثم ابتدعوا لها مصاديق اخرى غير صحيحة.

(يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا)

ويبقى سؤال لماذا لم يستفد هؤلاء شيئا من الرسالة الجديدة ، أليست الرسالة هدى ونور؟! لأن قلوب هؤلاء مملوءة بثقافات غريبة وبعيدة عن الحقيقة قد اختاروها لأنفسهم ولتحقيق اطماعهم وشهواتهم ، لذلك اختار الله لهم الضلالة ، ومن اختار الله تضليله فان الناس لا يمكنهم هدايته.

(وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ

٣٧٦

يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)

وتوحي هذه الآية بأن تطهير القلب شرط مسبق لهداية الله.

[٤٢] والفئة الضالة التي تفسد آراء الناس ، هم كبار الأحبار الفساق ، ورجال البلاط وكبار الاقطاعيين ومن أشبه. وهم بؤرة الفساد التي تتجمع فيها ضلالات الأولين والآخرين ، لأنهم يبحثون عنها ليجعلوا منها حجابا بينهم وبين الرسالة فهم :

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ)

لأنهم يعرفون ان الرسالة تحمل هدى ونورا وبالتالي تعطي الناس ثقافة غنية سليمة ، والناس لا يمكنهم ان يعيشوا في الفراغ ، ولذلك لا بد من خلق ثقافة باطلة أو استيراد ثقافة باطلة لتملأ فراغ الناس الفكري ، وليزعم الناس : انهم وصاحب الرسالة سواء في الفكر والعمل ، حتى لا يستهوي علم صاحب الرسالة وهداه جماهيرهم ، وحين يريد الطاغوت صناعة ثقافة باطلة ليجعل أمام كل حق رسالي باطلا من نفسه ، فانه يبحث عن الكذابين والدجالين في كل مكان حتى يستخدمهم في هذه المهمة القذرة. من هنا يصبح سماعا للكذب.

وانما يهدف من وراء ذلك الوصول الى اهدافه الرخيصة في بعض المتاع الذي يسميه القرآن بالسحت فيقول :

(أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)

السحت لغويا : القشرة العفنة المنفصلة عن الجسد ، المليئة بالجراثيم الفاسدة ، وما يأكله هؤلاء من أموال المستضعفين. هو ذلك السحت الذي يفرزه الوضع

٣٧٧

الفاسد ، والذي لا يزيد صاحبه الا تبارا.

واجب الرسول :

ويأتي هؤلاء الى الرسول لا لكي يستفيدوا بل ليجدوا عنده ما يبرر لهم ترك دينهم ، ورفض احكامه السليمة.

(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)

وامام هؤلاء يتخذ الرسول (ص) والقيادة الاسلامية موقفا حازما ، فاما يعرض عنهم دون خوف من هجره لهم واستهانته بهم ، أو يحكم بينهم بالقسط الذي هو محض العدالة.

[٤٣] ودليل كذب هؤلاء وريائهم حين يجيئون الرسول (ص) دليل ذلك انهم يتركون كتابهم المقدس (التوراة) التي فيها حكم الله والتي لم تكن قد حرفت ذلك اليوم ، ولكنهم يرفضون الاحتكام إليها ويأتون لينافقوا مع الرسول (ص).

(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)

لأنهم لا يطبقون كتابهم المقدس حين يخالف آراءهم وأهواءهم.

٣٧٨

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)

____________________

٤٤ [الأحبار] : الأحبار جمع حبر وهو العالم ، مشتقة من التحبير وهو التحسين ، فالعالم يحسّن الحسن ويقبّح القبيح.

٣٧٩

وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)

____________________

٤٦ [وقفينا] : القفو اتباع الأثر ، وانما سميت قافية الشعر قافية لأنها تتبع الوزن

٣٨٠