من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

عليه من ربه.

مع ذلك يقلدونهم وقد توفرت لهم فرصتا العلم والهدى.

الإنسان بين الهداية وتحدي المجتمع :

[١٠٥] وتقليد المجتمع هو الاخر يقف امام تطور الإنسان وتقدمه وكم من الناس كانوا يكتشفون طرقا جديدة لحياتهم تركوها خشية المجتمع أو حتى حياء من الناس.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)

ان الذي يضل الطريق يجب ان يخشى على نفسه السباع ، كما ان عليه ان يقلد الذي اهتدى الى الطريق وليس العكس.

ان المهتدي يسير وفق حركة الحق ، ووفق سنة الله في الكون وبالتالي فهو الذي سيصل عاجلا أم آجلا الى اهدافه ، وعندئذ يخسر الضالون ويندمون على تفريطهم في مصالحهم.

ثم ان نهاية حركة الإنسان هي الى الله مالك السموات والأرض حيث يبين لنا من ضل ومن اهتدى ، وذلك من خلال جزائه العادل ، وفيعاقب من ضل ، ويثيب من اهتدى.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

قد يصل الإنسان الى جزائه دون ان يعرف ان هذا هو جزاء عمله.

٤٨١

فمثلا : يشرب الماء الملوث فيصاب بمرض دون ان يعرف ان سبب مرضه هو ذلك الشراب ، بيد ان الله لا يدع الإنسان يضل أو يهتدى حتى ينبئه ويخبره به يقينا ، أنه كان على ضلال وان ما يعانيه من عقاب هو ثمن ضلالته أو انه كان على هدى وان ما اكتسبه من الثواب هو جزاء هداه.

اننا كبشر نخشى لوم الناس ، فاذا سخر منا أحد انهزمنا نفسيا امام سخريته وقد نفقد الثقة بأنفسنا ونفقد الاطمئنان الى ديننا لمجرد ان أحدا سخر منا.

وقد يترك البعض طريق الهدى لمجرد ان الناس يقولون له ان هذا ضلالة.

والقرآن يبيّن لنا هنا بان المستقبل كفيل ببيان صاحب الحق وصاحب الباطل ، فلما ذا ننظر الى أقوال الناس ، ولماذا لا نثق بعقولنا وبما نكشفه بأنفسنا من حقائق ، ولماذا لا نهتدي الى الصواب بحجة ان الآخرين لم يهتدوا اليه؟! دع الآخرين يتبعونك لأنك أنت وليسوا هم على صواب ولا تخش أقوالهم لان الحقائق ستظهر قريبا.

٤٨٢

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)

٤٨٣

الاشهاد والتوثيق

هدى من الآيات :

بمناسبة الحديث عن المسؤولية وعن دور العلم فيها (إذ العلم لا ينفصل عن المسؤولية) جاء الحديث في الآيات هذه ، عن الشهادة التي ليست بعلم ، ولكنها قائمة مقامها في إيجاد المسؤولية الدينية ، وحسب منهج القرآن ، الذي لا يتحدث عن حقيقة إلّا عبر الحديث عن واقعة خارجية متصلة بالحياة مباشرة ، وبالتالي يعطي مثلا حيا للأحكام وللحقائق.

حسب هذا المنهج تحدث القرآن هنا عن الشهادة بعد الموت ، حيث ينبغي ان يشهد الشخص إذا اقترب الموت منه ، شخصين عادلين ، وينقل إليهم مسئولية الشهادة بعد الموت ، وإذا كانا موضع تهمة فعليهما ان يحلفا بالله بعد أداء الفريضة قسما بأنهما لا يكذبان في الشهادة.

وإذا تبين كذبهما فلا يمكن الحكم بكذبهما الا إذا حلف اثنان من المعارضين المدعين عليهما الإثم يحلفان على التهمة الموجهة للشاهدين ، كما

٤٨٤

يحلفان على انهما ليسا بظالمين في توجيه التهمة الى هذين الشخصين.

إن هذا العمل أفضل طريقة لصدق الشهادة وعدم رد الأيمان.

وعلى الإنسان إذا أراد أن يصل الى الحقيقة ، وبالذات على القاضي ، إذا أراد أن يتوصل الى الحق فعليه أن يقوم بأمرين :

الف : تقوى الله وإتباع أوامره.

باء : أن يستمع الى كلّ الآراء.

وأما إذا افتقد القاضي التقوى ، فانه لا ينتفع بالسماع أبدا.

بينات من الآيات :

الشهادة والشهود :

[١٠٦] كيف يثبت الحكم الشرعي؟

اولا : بالعلم البعيد عن تقليد الآباء ، أو تقليد المجتمع ، أو استعجال الأحكام الشرعية ، وهذا ما تحدثت به الآيات السابقة.

ثانيا : بالشهادة وهي تختص بالعدل من المؤمنين ، وهو الرجل المستقيم الذي ينفذ تعاليم ربه ، ولا يكفي في العادل (كما توحي به كلمة العدل ذاتها) أن يكون مؤمنا أو حتى متقيا ، بل عليه أن يكون مستقيما في تفكيره وسلوكه ، فلو كان الشخص سريع الاقتناع بسيطا في فهم الحقائق مما يضر بالشهادة فان شهادته غير مقبولة.

٤٨٥

ومن أبرز موارد الشهادة. الشهادة على الوصية حيث ينبغي أن يستشهد المرء حين تحضره الوفاة رجلين عادلين على وصيته ، والأفضل أن يكونا من المسلمين وان لم يكن فيكفي أن يكونا عادلين.

إثبات الشهادة :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)

أما إذا وجهت تهمة الى هذين الشاهدين كما إدا حصلت الوفاة في السفر ، فجاء الشاهدان من غير المسلمين من رفاق الميت في الطريق وشهدا على وصية معينة ، فهنا تطرح عادة علامة استفهام إذ قد تكون الوصية ملفقة رأسا فهنا لا نكتفي بالعدالة الظاهرة (الشهادة) بل نطلب منهما أن يحلفا عقيب الفريضة أنهما صادقان :

(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ)

وجاء اثنان من غير المسلمين فهنا :

(تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ)

إذا كانت طريقة إدلائهم بالشهادة أو حتى ملابسات الوفاة التي يتحدثون عنها إذا كانت مثيرة للشك ، ولأنه ليس هناك أي دليل عيني على أنهما كاذبان ، وبما أنهما ينكران التهمة الموجهة ضدهما ، فعليكم ان تستحلفوهما حلفا مغلظا بعد الصلاة ويكون مضمون الحلف هو اننا :

(لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى)

٤٨٦

أيّ حتى ولو كان الأمر في صالح بعض أقاربنا فانا لا نكذب للحصول على بعض المال ليس ذلك فقط بل :

(وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ)

إذ قد لا يكذب الشخص بالكلام ، بل قد يكذب بالصمت كأن يسكت عن الحقيقة التي يعرفها وبسكوته لا يدع الحقيقة تظهر ، وبذلك يرتكب إثما مبينا.

(إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ)

فآخران يقومان مقامهما.

[١٠٧] فاذا تبين ان هذين الشخصين قد ارتكبا إثما ، فهناك لا يمكن إثبات الإثم هذا الا إذا شهد رجلان ضدهما ، وفي مصلحة أصحاب الحق المهضوم.

(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما)

أي يقفان على منصة الشهادة ، ويشهدان لمصلحة صاحب الحق أن عثر على دليل خيانتهما.

(مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ)

أي من أصحاب الدم أو أولى الناس به من ناحية القرابة.

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما)

أي يجب أن يحلفا قبل الشهادة بصدقهما ويشهرا على أن الشاهدين غير صادقين في الشهادة.

٤٨٧

(وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)

اي ما ارتكبنا عدوانا ، وإذا كنا قد ارتكبنا عدوانا أو تجاوزنا الحد فان ذلك يثبت علينا صفة الظلم ونحن سوف نستعد لمواجهة العقوبة المفروضة على الظالم.

[١٠٨] ان هذا النوع من الاستشهاد سيكون أفضل أنواع الشهادة. لأنها تستنهض ضمير الشاهد وتثير فيه وازعه الديني.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها)

أي أقرب الى الشهادة المأتية على الوجه الصحيح.

وفي ذات الوقت سيكون ذلك سببا لاطمئنان الناس بالشهادة إذ أن الشهادة تتأكد بالحلف.

(أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ)

أي يخشوا من عاقبة ردّ اليمين على الورثة بعد شهادة الشاهدين فيفتضح أمرهما. وعلى العموم ، الشهادة طريق الإنسان الى العلم ، ولكنها بحاجة الى التقوى والسماع من قبل المستمع للشهادة ، إذ أن التقوى ستمنع المستمع من الحكم المسبق على الشاهد أو في القضية من دون دليل ، وستمنعه من الميل نحو أحد طرفي القضية لان صاحبه من أقارب الميت ، أو لأن مصلحته ستكون في ذلك أو لمجرد الاستعجال في الحكم من دون معرفة ان ذلك يخالف روح التقوى.

أما السماع فانه الشرط المادي لمعرفة الحقائق بعد توفر الشرط النفسي والعقلي وهو التقوى لذلك قال ربنا :

٤٨٨

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا)

ثم أكدّ القرآن على أهمية التقوى في فهم الحقائق وقال :

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)

فاذا كان الإنسان ظالما لحقوق الناس فان ظلمهم سيكون حجابا أمام عينه فلا يرى الحق حقا لأنه يحاول دائما أن يبرر ظلمه أمام الناس ، وليتخلص من وخز الضمير الذي يقضّ مضجعه.

٤٨٩

يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ

٤٩٠

يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)

____________________

١٤ [عيدا] : العيد اسم لما عاد إليك من شيء في وقت معلوم حتى قالوا للخيال عيد ، ولما يعود إليك من الحزن عيد.

٤٩١

الأنبياء في حضرة الله

هدى من الآيات :

أنى كانت نتيجة المحاكمات على وجه الأرض في الدنيا في صالح أصحاب الحق أم في صالح أصحاب الباطل فان هناك محكمة اخرى تعدل ولا تجور وهي محكمة الله في الآخرة.

وهناك لا يهدي الله القوم الفاسقين ، وهناك يجمع الله جميع الناس وفيما بينهم رسل الله ، فيسألهم ما ذا كان جواب الناس لكم (وبذلك لا مناص من المحكمة حتى لأنبياء الله) فهذا النبي العظيم عيسى بن مريم عليه السلام يسأله الله هناك هل انه قال للناس اعبدوني من دون الله بالرغم من ان الله عالم بأن عيسى لم يقل ذلك أبدا.

ولكن قبل أن يسأله الله يذكره ويذكر الناس بالنعم التي أنعم بها عليه وعلى أمه. حيث انه أيده بروح القدس ، وعلمه الكتاب والحكمة ، واجرى بيده المعاجز مثل إحياء الموتى ، وحفظه من كيد بني إسرائيل.

٤٩٢

وأمر الناس بالايمان به ، ودعم موقف عيسى في بني إسرائيل بأن أنزل عليهم مائدة من السماء بطلب من بني إسرائيل وهكذا.

والهدف من سرد القصة هذه في نهاية سورة المائدة ، ليس فقط بيان مسئولية العالم الشاهد الذي عليه ـ حين إدلائه بالشهادة ـ أن يتصور موقفه أمام الله ، ليس هذا هو الهدف ، بل إنّه مجرد مناسبة للحديث.

أما الهدف فهو أعمّ منه ، وهو بيان مسئولية الإنسان في الحياة ، ولعله يشعر بتلك المسؤولية التي تتجسد يوم القيامة في محكمة العدل الالهية.

بينات من الآيات :

الرسل بين يدي الرحمن :

[١٠٩] يوم القيامة تظهر حقائق الأمور فهناك حقائق موجودة وثابتة ولا تنتفي بمجرد نفيها أو بالسكوت عنها ، إنها حقائق إن سكتنا عنها تزداد قوة ورسوخا ، وبالتالي تحيط بنا وتدمرنا.

والاحساس بوجود الحقيقة وظهورها في يوم من الأيام يدفع صاحب العلم بان يكون شاهد صدق لعلمه ، ولا يكتم من العلم ما يخالف مصالحه.

إن أبرز العلماء هم الرسل ، الذين حملهم الله رسالاته ، وعلمه وحكمته ، وهؤلاء سوف يسألون عن نتائج عملهم ، بالرغم من عظمتهم :

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ)

إن الله بعث الرسل بهداية الناس ، وبتبليغ دعوته إليهم ، والآن يسألهم عن

٤٩٣

نتيجة أعمالهم؟ ولكن بما ان عمر الرسل قصير في الحياة ، وربما أن علمهم ببواطن الناس كان في حدود تعليم الله لهم لذلك :

(قالُوا لا عِلْمَ لَنا)

أي إن علمنا ليس كاملا بالجواب الحقيقي الذي تلقيناه من الناس.

(إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)

إذا : لو خدعنا الرسل ـ فرضا ـ ولو تظاهرنا أمامهم بالايمان كذبا ونفاقا ، فسكتوا عنا ، يجب الا نتصور أننا طمسنا الحقيقة .. كلا. فالله هو علام الغيوب وسوف يحاكمنا.

[١١٠] وهذه قصة عيسى مع الله انظروا كيف يسأله الله باعتباره الشاهد على قومه ، وكيف يكشف زيف دعاوي أتباعه : بأن قال لهم اعبدوني من دون الله.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً)

كلّ تلك نعم الله سبحانه على عيسى التي من دونها لم يكن عيسى شيئا.

إن روح القدس ، وهو الروح الذي يعصم صاحبه من المعصية ، والذي يؤيد به الرسل والائمة فقط ـ عليهم جميعا صلوات الله ـ إنه أهم نعمة يزود الله بها عبدا من عباده ، وحينئذ لا يرتكب خطيئة فيزعم الجاهلون : انه ابن الله أو ابن فيه روح من ذات الله سبحانه .. كلا.

إن الله هو الذي أيد عيسى (ع) بهذه الروح ، ولولاه إذا لهبط في الزلات ، كما

٤٩٤

يهبط غيره من الناس ، إنّ الله أو كل يونس بن متّى لحظات الى نفسه (لحكمة بالغة) فدعا على قومه ، فسجنه الله في بطن الحوت جزاء لزلته (التي لم تصل ـ بالطبع ـ الى مستوى الذنب) وكذلك معجزة عيسى الظاهرة وهي كلامه في المهد لم تكن دليلا على ألوهيته ، بل على عبوديته لله ، وكذلك علمه وحكمته :

(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)

يبدو ان الكتاب هو الدستور التشريعي المتمثل في التوراة ، بينما الحكمة هي المواعظ السلوكية المتمثلة في الإنجيل.

(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي)

لقد كرر القرآن الحكيم كلمة بإذني للدلالة على أن عيسى عليه السلام إنما كان عبدا لله.

(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)

لقد حاول بنو إسرائيل محاربة عيسى عليه السلام بكل طريقة ممكنة ، وكان عيسى كأي شخص عاجزا عن مقاومة ذلك لو لا أن الله أيده ، إذا فليس عيسى إلها كما يزعم النصارى.

معجزة المائدة بين الايمان بالغيب والشهود :

[١١١] وأهم من ذلك أنّ الله اعتمده اعتمادا وجعله رسولا.

٤٩٥

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ)

[١١٢] ودعم الله موقف عيسى (ع) بان استجاب دعاءه حين طلب منه بنو إسرائيل بأن يأتيهم بالمعجزة البينة ، وذلك للدلالة على أنه نبي فعلا.

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

أمرهم عيسى عليه السلام بالتقوى ، لأن التقوى ، تزيد الإنسان يقينا ، وايمانا وصدقا وإذا زكى الإنسان نفسه استطاع أن يفهم الحقائق بدون معاجز إضافية.

[١١٣] ولكن بني إسرائيل ازدادوا إصرارا في طلبهم :

(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ)

انهم قالوا : اننا بحاجة الى اطمئنان القلب وليس غيره ، كما قال إبراهيم عليه السلام لربه : (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

ثم نريد ان تطمئن قلوبنا بصدق الرسالة وصدق الرسول قالوا : اننا نريد أن يكون موقفنا في الدعوة الى الله ، موقفا حاسما. إذ فرق بين أن يكون الإنسان مؤمنا بشيء إيمانا غيبيا وبين أن يكون إيمانه إيمانا بالشهود ، فآنئذ يستطيع أن يكون كلامه أكثر حسما وقاطعية إذ قليلا ما يشك الناس في صدق المؤمنين إذا ادّعوا بأنهم رأوا البراهين بعينهم ، بينما قد يتشككون في الايمان الغيبي وقد ينسبون ذلك الى صفاء النية ، وبساطة الفكر ، وسذاجة النفس.

[١١٤] (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا

٤٩٦

عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا)

أيّ يكون يوما مشهودا يتذكره الناس ويجددون ذكراه عاما بعد عام ، لتبقى ذكرى المائدة عالقة في أذهان الجميع ، وبالتالي تكون القصة عبرة لكل الأجيال.

(وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)

إنها آية تدل على معجزة الله ، ولكن عيسى عليه السلام طلب الرزق الدائم لقومه.

[١١٥] (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)

لأن هناك فرقا بين الكفر الصريح بعد الأيمان النابع من الشهود العيني ، وبين الكفر بعد الايمان الغيبي الذي قد لا يكون عميقا.

إن الله ينعم على عباده ليمتحن مدى شكرهم له عليها ، ومدى تقديرهم للنعم واستفادتهم منها فاذا كفروا بالنعمة فانه سبحانه لا يسلبها منهم فقط ، بل ويسلب منهم سائر النعم حتى يقولوا يا ليت الله لم ينعم علينا بهذه النعمة قطّ.

مثلا : النفط في بلادنا نعمة كبيرة من الله ، ورزق عظيم لشعوبنا ، فاذا شكرنا هذه النعمة بأداء حقوق المحرومين ، وتقسيم الثروة بين الناس بالقسط فسوف تستمر هذه النعمة وتزداد.

أما إذا كفرنا بهذه النعمة ، فاستأثر بها الكبار ، وحرم منها المستضعفون ، واترف فيها الأغنياء ، فانّ الله لا يسلب ثروة النفط منا فقط ، بل وأيضا يسلط بعضنا على بعض فينتشر بيننا الحقد والبغضاء فيقتل بعضنا بعضا ، حتى يأتي يوم

٤٩٧

نتبرأ فيه من النفط ومن ثرواته ونقول : يا ليتنا كنا مجتمعا زراعيا تسود فينا المحبة والوئام.

٤٩٨

وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)

٤٩٩

عيسى : اعبدوا الله ربي

بينات من الآيات :

[١١٦] في حواريين الله وبين عبده ورسوله عيسى بن مريم سأل الله عيسى : هل انه قال لأتباعه أن يعبدوه؟ والله يعلم أن عيسى (ع) لم يقل ذلك أبدا ، ولكنه يسأله ليبين لنا أن عيسى عليه السلام ليس بعيدا عن المسؤولية بالرغم من أنه عبد مخلص لله ، ولرسوله مبعوث الى خلقه.

فيكف بنا ونحن عباد الله المذنبون؟

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)

أنّ أولئك الذين اتخذوا عيسى وأمه الهين من دون الله ، انما أرادوا التهرب من مسئولية أعمالهم ، والادعاء : بأن عيسى وامه سوف ينقذ انهم من عذاب الله حتى ولو عملوا بالجرائم ، فأراد الله ان يبيّن لهم : ان هذين العبدين لا يمكنهما ، تحدي

٥٠٠