من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)

٣٤١

قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)

____________________

٢٦ يتيهون : أصل التيه التحير الذي لا يهتدى لأجله للخروج عن الطريق الى الغرض المقصود.

٣٤٢

بنو إسرائيل في التيه

هدى من الآيات :

لقد استخدم القران أسلوب الترغيب في الدرس السابق ، لتشجيع بني إسرائيل على اتباع رسالة الإسلام.

اما في هذا الدرس ، فقد استعمل التهديد المبطن ، وقال : لو لم يلتف بنو إسرائيل حول الرسالة ، فان أخطارا كبيرة تهددهم ، وسوف يندمون من دون جدوى.

وضرب لهم مثلا من تاريخهم ، كيف أصابهم السوء بسبب عصيانهم أمرا من أوامر الله ، وها هم اليوم يخالفون رسالة بكاملها فما ذا ينتظرون؟

لقد أمرهم الله على لسان موسى بن عمران بأن يتذكروا نعم الله عليهم ، ويلتزموا بتعهداتهم تجاه هذه النعم ، ويدخلوا الأرض المقدسة سلما أو حربا ، ولكنهم أبوا القتال ، وخافوا من بطش الذين كانوا يسكنون فيها ، وطالبوا نبيهم

٣٤٣

بان يقوم هو وربه بالقتال نيابة عنهم ، بيد أن الله حرم المدينة عليهم ، وجعلهم يتيهون في الصحراء أربعين سنة.

وهكذا تكون عاقبة الذين يخالفون أوامر الله ، وهكذا تكون عاقبة من لا يؤمن برسالاته.

بينات من الآيات :

استمرارية الرسالات :

[١٩] الرسالة السماوية مستمرة سواء في شخص الرسول أو في أوصيائه ، وحملة علمه وهديه ، وبالتالي فانها لا تنقطع في أي زمان ، بيد انها قد تغتر ، وتتباطأ خطواتها وتقدمها في الحياة ، وحينئذ يختار الله من عباده رسولا جديدا يعطي دفعا لمسيرة الرسالة ، ويزيل عنها فترتها وتباطؤها.

وقد جاء الرسول (ص) وفقا لهذه السنة الإلهية ، والهدف من بعثته توضيح المسيرة للناس بعد ان طمست التحريفات معالمها.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)

والرسالة نعمة إضافية للإنسان ، فقد زود الله البشر بالعقل والعلم ، وعليه أن يتجنب المهالك بهما.

ولكنه مع ذلك من عليه بالرسالة إتماما لنعمته ، وتكميلا لفضله ، لكي لا يأتي غدا ويلقي بمسؤولية هلاكه على الله سبحانه ويقول مثلا : يا رب لماذا لم تبعث رسلا فقد كنا غافلين جهلة وها هو الله قد بعث الرسل.

٣٤٤

(أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ)

وإذا اشهدوا على أنفسكم أن لو هلكتم فانما بسبب عملكم وسوء اختياركم.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

فهو قادر على ان يعذبكم متى شاء إذا خالفتم الرسل ، كما هو قادر على ان يبعث عليكم رسلا بالغيب وبصورة مخالفة لطبيعة الأشياء.

دور الأنبياء ومسئوليتهم :

ما هو دور الأنبياء وما هي مسئولية الأمة تجاههم؟

[٢٠] دور الأنبياء هو توجيه البشر الى ما فيه خيرهم ، أما مسئولية الأمة فهي العمل بذلك التوجيه ، ومن دون التوجيه لا توجد فرصة امام الناس للعمل ، ومن دون العمل لا يكفي التوجيه وحده وهذه قصة بني إسرائيل مع رسلهم.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)

الأنبياء جاءوا بتوصيات اتبعها الناس ، فأصبحوا بسببها ملوكا في الأرض ، فلما أصبحوا ملوكا دبت فيهم آثار الرخاء فظنوا ان وصولهم الى الملك إنما هو من أنفسهم أو من الله ، ولكن بسبب ان الله فضل عنصرهم على غيرهم تفضيلا عبثا وبدون حكمة ، لذلك أوصاهم موسى بتذكر نعمة النبوة وانها لو أهملت فان الملك سوف ينزاح عنهم إلى غيرهم.

(وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)

٣٤٥

ليس عبثا! بل بسبب اتباعكم للرسل الذين جعل الله فيكم.

[٢١] بعد ان بيّن موسى لقومه دور الأنبياء ومسئولية الأمة تلقاء الأنبياء ، وبعد ان ذكرهم بأن في اتباع الأنبياء يصبح بنو إسرائيل ملوكا في الأرض ، أمرهم بدخول الأرض المقدسة (فلسطين) بعد ان قادهم من مصر عبر البحر الى تلك الأرض ، وكان امر موسى حازما يشبه الأوامر العسكرية إذ قال :

(يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ)

إن الله كتب لبني إسرائيل آنئذ بدخول فلسطين ، لأنهم كانوا يمثلون الأمة المؤمنة الوحيدة ولأن حكام فلسطين كانوا قوما جبارين يفسدون في الأرض.

ثم حذرهم موسى من ان رجوعهم يسبب لهم الخسارة.

التبرير افيون الحضارة :

[٢٢] أما رد بني إسرائيل فكان جبانا بما فيه الكفاية وفوق ذلك وعلى أساس ايدلوجي فهو خاطئ ، وهو أن على الأنبياء ان يهيئوا غيبا كل وسائل التقدم المادي بعيدا عن جهد البشر ولذلك قال بنو إسرائيل وبلا خجل :

(قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ)

وانما كرروا كلمة موسى استعطافا وتذكيرا بدوره الغيبي في عبور البحر ، وهلاك فرعون ، ولذلك شبهوا حكام فلسطين بحاكم مصر السابق ، وان كليهما كان جبارا.

٣٤٦

(وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ)

وكأن دخولهم المدينة بعد خروج الجبارين منة منهم على الله ، أو انها طاعة يبتغون من ورائها ثوابا منه.

والواقع ان هذا تفكير موجود عند كثير من الناس انهم يتبعون الأنبياء فقط فيما يخدم شهواتهم العاجلة ، ثم يعتبرون ذلك عملا عظيما.

[٢٣] بعد جوابهم الفاتر لأمر موسى سكت عنهم ، وتولى مهمة إقناعهم بعض الحواريين من أصحابه.

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ)

إذ انكم أنتم أصحاب الحق وانكم تتبعون آنئذ خطة المبادرة بالهجوم ، وتملكون ناصية الموقف بالاقدام ، ثم انكم تهدفون من وراء الحرب تحرير شعب هذه المدينة من ايدي الجبارين ، وبذلك تنتصرون عليهم ، بتعاون الشعوب معكم ضد الجبارين.

(وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

ذلك ان التوكل على الله يزيدكم ثقة وروحا معنوية عالية.

القيادة مشعل هداية لا واقع تبرير :

[٢٤] لقد كان هذا الرأي موقف رجلين فقط منهم ، حيث حاولا اقناع الآخرين بضرورة إتباع أوامر الرسول ، اما الأكثرية الساحقة فقد خالفت انطلاقا

٣٤٧

من فكرة سلبية متخلفة ، حيث زعموا ان على الله ان يوفر لهم النصر ويقدمه إليهم في طبق من ذهب.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها)

واستخدموا أنواعا من التأكيد اللفظي في رفض دخولهم المدينة لقتال الجبارين فيها فقالوا : (لن) الدالة على نفي الأبد ، وأضافوا إليها كلمة أبدا للدلالة على ان كل المحاولات المبذولة لإقناعهم بضرورة الجهاد ، ستذهب سدى ، وان الحل الوحيد هو صنع النصر واعطاؤهم إياه جاهزا.

(فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)

ان نظرة الناس الى الدين تختلف اختلافا يكاد يكون متناقضا فبينما يؤمن البعض بالدين ليجدوا فيه برنامجا للعمل الصادق ، وأسلوبا للتضحية السخية ، وقيادة رشيدة للجهاد من أجل التحرر والتطوير ، نجد آخرين يؤمنون بالدين وبالقيادة الدينية لتحمل عنهم مشاكل الحياة وتقوم بدلا عنهم بالعمل من أجل حلها.

وإذا لم تحلّ مشاكلهم بالدّين صبوا عليه جام غضبهم ، وكفروا به وبقيادته كما يفعل المسلمون اليوم الذين نبذوا الدين لأنه لم يمنحهم التقدم ، بينما السبب في تخلفهم انما هو تقاعسهم عن العمل الصادق.

النصارى الذين زعموا ان المسيح يفديهم بنفسه ويخلصهم من شرور أنفسهم ، ومن سيئات أعمالهم كانوا من هذا النوع ، واليهود الذين وكلوا الله عنهم في الحرب كانوا هكذا أيضا من أصحاب هذه الفكرة.

بينما المسلمون الصادقون استجابوا للرسول عند ما ناقشهم في الحرب (في

٣٤٨

بدر) فقال له المقداد : نحن لا نقول لك مثل ما قالت اليهود لنبيهم (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) بل نحن نقول : لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد.

[٢٥] ان اتباع القيادة بصدق هو هذا الاتباع لا ذاك ، لذلك تبرأ موسى من قومه ، وقال :

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)

ان اخطر بلاء ينزل على الأمة اللامسؤولة التي تلقي بأعبائها على كاهل قيادتها وتتقاعس عن العمل هو : حرمانها من تلك القيادة ، حيث ينفصل عنها قادتها المصلحون بعد التأكيد من أن لا رجاء في إصلاحهم.

لقد تبرأ موسى من قومه وانفصل عنهم ورماهم بالفسق.

[٢٦] اما الجزاء الثاني : فهو البقاء في التخلف لان هذه الامة لم ترض بدفع ضريبة التقدم وهي الجهاد ، لذلك كان جزاء بني إسرائيل عند ما تقاعسوا عن حرب الجبارين أن بقوا في التيه ، كما أن جزاء كل أمة لا تتبع قيادتها الرسالية ، هو بقاؤها في مستنقع الضلالة والتخلف حتى تعرف أهمية القيادة ، وتعود الى رشدها.

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)

ان موسى تبرأ من قومه وطلب من ربه بأن يفرق بينهم وبينه ، وقد استجاب له الله وطلب منه ان ينسى هموم قومه ، ولا يأسف على ما يصل إليهم.

٣٤٩

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي

____________________

٢٧ [قربانا] : القربان ما يقصد به القرب من رحمة الله من اعمال البر.

٢٨ [بسطت] : البسط : المد وهو ضد القبض.

٢٩ [تبوء] : تبوء ترجع «وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ» اي رجعوا ، والبوء الرجوع بالقود.

٣٠ [فطوعت] : انقادت له وسولت.

٣١ [يواري] : يقال واريت كذا إذا سترته ، وتوارى استتر.

٣٥٠

سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)

____________________

[سوءة أخي] : جيفته أو عورته.

٣٥١

دوافع الصراع وآثاره النفسية

بينات من الآيات :

الاستعلاء في قصة الاعتداء الاول :

[٢٧] قصة ابني آدم تحتوي على عبر حقه ، فبالاضافة الى انها بذاتها قصة واقعية ، فان الهدف منها واقعي وحق ، وهو تحقيق السلام بين أبناء أدم.

وكما لا نرضى ان يعتدي أخ على أخيه وكلاهما ابنا لآدم ، كذلك علينا ان لا نرض اعتداء بشر على بشر ، لأنهما من أبناء آدم وهما بالتالي أخوان.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً)

وضحيا بأضحية في سبيل الله.

(فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ)

ان الدافع الذي بعث قابيل الى ارتكاب أول جريمة قتل في تاريخ البشرية هو

٣٥٢

دافع الحسد ، وهي غريزة الحرص على التفوق والاستعلاء.

إن البشرية بإمكانها ان تتقاسم بينها خيرات الأرض دون الحاجة الى الاقتتال ، إذ أن الله وفر للبشرية ضرورات حياتها فهي لا تحتاج الى الصراع مع بعضها من أجل الحصول على هذه الضرورات.

ولكن الحروب انما كانت من ثورة غريزة الاستعلاء الشيطانية التي يجب لجمها وتحديدها.

ان قابيل لم يقتل أخاه من أجل الصراع على البقاء كما يزعم المذهب الدار ويني ، ولا من أجل الحصول على بنت أجمل كما يزعم المذهب الفرويدي ، ولا من أجل سوء التربية وضغوط الاجتماع ، أو الصراع الطبقي أو غيرها مما تزعمها المذاهب الاجتماعية المختلفة ، كلا ، ولكنه قتله لحب الاستعلاء والحسد ، وإذا سيطرت البشرية على غريزة الاستعلاء في ذاتها فقد وفقت للعيش بسلام مع بعضها وانتزعت من نفسها فتيل الحروب.

لقد كان موقف هابيل أمام التهديد بالاعتداء موقف المسالم.

(قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)

عبرتان :

الاولى : ان كثيرا من الحروب تقع بدافع الخوف من الاعتداء فمثلا : تخشى دولة معينة من اعتداء جارتها عليها ، فتتسلح ، وحين ترى جارتها عملية التسلح تخشى هي بدورها فتتسلح هي الاخرى فتخشى إحداهما من مبادرة الاخرى بالهجوم فتهجم ، فتدافع الاخرى عن ذاتها ، وبالتالي تجد ان كلتا الدولتين

٣٥٣

أقحمت في اتون الحرب من دون ارادة مسبقة لها ، بل استسلاما لدافع الخوف.

من هنا توحي إلينا قصة ابني آدم بأن الخوف من الاعتداء ، ليس سببا معقولا للاعتداء حيث ان هابيل (القتيل) أجاب على التهديد بالقتل بكلام تربوي ، وصرح بعدئذ (في الاية التالية) بأنه لن يمد يده لقتل أخيه.

الثانية : ان الاستعلاء ليس طريقا للعلو فمن يريد الصعود الى الجبل لا يكفيه ان يقف على السفح ويمني نفسه بالصعود ، أو يعارض من يصعد ، بل عليه ان يحرك نفسه ويعمل على تغيير ذاته حتى يصعد. والله لا يتقبل عمل أحد ، وبالتالي لا يباركه ، ولا يوفقه للنجاح إذا لم يغير ذاته ويتق الله.

فمن يعمل من أجل تحصيل العلم ثم لا يصل اليه ، ويرى الآخرين أصبحوا علماء فليس الطريق الأفضل له ان يعارض العلماء ويناصبهم العداء ، بل من الأفضل والأنفع له أن يراجع نفسه ليجد ان فيها خللا ما منعه عن الوصول الى العلم ، فيصححه وهكذا إذا يكون منطلق التقدم هو هذا المبدأ (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) إذ انهم وحدهم الذين يصلحون أنفسهم فيساعدهم الله على ذلك.

[٢٨] (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ)

وبذلك صرح القرآن بأن التهديد ليس مسوغا للمبادرة بالجريمة ، وإذا استطاع الإنسان ان يقاوم إغراء التهديد فلا يقتل الناس ولا يشن الحروب الابتدائية ضد الآخرين ، لأن نصف الحروب تصبح بلا مبرر وبلا دافع إليها.

إذا فما الذي يساعدنا على ضبط الشعور بالخوف من الآخرين ، وبالتالي تحديد غريزة المبادرة بعد التهديد؟

الجواب : هو الخوف من الله فهو خوف يقاوم الخوف من البشر ، فلأنك تخشى

٣٥٤

الناس تريد ان تشن الحرب عليهم ولكنك من جهة اخرى تخاف الله فتحجم عن شن الحرب على عبادة ، ولذلك قال هابيل :

(إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ)

ولان الله هو رب العباد فهو يحبهم ، ولا يرضى لواحد ان يعتدى عليهم.

وكلمة اخيرة ان هذا الموقف من هابيل لا يدل على الاستسلام للظلم فالإسلام يأمر بكل وضوح وجدية بضرورة مقاومة الظالمين ، ولكن بعد ان يبدؤا فعلا في ظلمهم أو فيما يؤدي اليه بالتاكيد.

وهابيل لم يكن يصدق ان قابيل قاتله ، بل ربما كان يظن ان كلامه كان مجرد تهديد أو لا أقل كان يحتمل ذلك ، وقد قتل غيلة.

[٢٩] ثم قال هابيل الذي لم يشأ ان يصبح المجرم. حتى ولو كان ذلك يؤدي به الى ان يصبح الضحية :

(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ)

حيث ان القاتل بغير حق سيتحمل أوزار القتيل يوم القيامة ، بينما يغفر الله للقتيل ذنوبه رحمة به.

(فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ)

حيث يتضاعف اثمهم بسبب ظلمهم للناس.

[٣٠] النفس الامارة بالسوء تهون في عين الإنسان الجرائم الكبيرة إرضاء للشهوات العاجلة ، وقابيل كان يستعظم في البدء الاعتداء على حياة أخيه ، حيث

٣٥٥

أودع الله في فطرة الإنسان احترام الحياة وتكريم الآخرين ، بيد ان نفسه طوعت له ، وذللت هذه الجريمة.

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ)

خسر فطرته النقية ، وخسر أخاه الكريم ، وخسر حياته الهادئة ، وخسر مستقبله في الآخرة.

[٣١] قتل أخاه وتورط في الأمر ، ماذا يفعل بجسد أخيه .. بهذه العلامة الواضحة لجريمته؟! وهنا بعث الله غرابا ، يثير الأرض بمنقاره فانهار كبرياء قابيل الكاذب ، وتهاوى صرح غروره ، وعادت اليه فطرته ، وقد خمدت جذوة الغضب السابقة التي كانت قد حجبت عنه عقله ، وقال لنفسه : كم انا عاجز وكم كنت مغرورا بنفسي فهذا الغراب عرفني كيف ادفن جسد اخي!!!

(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)

[٣٢] أرايت كيف قضى قابيل على حياة أخيه ، وكيف ندم على فعلته دون ان ينفعه الندم أرأيت كم هي عظيمة ومؤلمة جريمة القتل ، لذلك احترمت الشرائع السماوية حياة الإنسان وجعلت حياة كل فرد مساوية لحياة الناس جميعا.

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ)

حيث يجوز القتل قصاصا أو لمنع الفساد كما يبينه الدرس القادم ، اما في غير ذلك فان قتل نفس واحدة ، تكون بمثابة قتل النفوس جميعا ....

٣٥٦

(فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)

ان احترام الحياة عند الشرائع السماوية ، والإسلام بالذات ، لا تعود الى حياة هذا الشخص أو ذاك ، بل الى الحياة كحياة أيا كانت خصائصها وميزاتها ، لا فرق بين الطفل الرضيع ، ورئيس البلاد ، أو بين المؤمن الصالح أو الإنسان العادي ، أو بين عدوي وصديقي ، المهم ان الحياة محترمة ، ولو استهان المجتمع بحياة واحد منهم فان الحياة كلها في خطر.

(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)

يتجاوزون حدودهم ، حتى ينتهي ذلك بهم الى الجريمة الفاحشة.

٣٥٧

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)

____________________

٣٣ [ينفوا] : النفي والطرد.

[خزي] : الخزي الفضيحة.

٣٥٨

جزاء المحارب

هدى من الآيات :

في الآيات السابقة تحدث القران الحكيم عن القتل الذي يقع بسبب الفساد في الأرض ، وفي هذا الدرس يفصل الحديث ويبين ضرورة قتل هذه الفئة المفسدة أو صلبهم أو إخراجهم من الأرض ، الا ان الله يذكرنا بأن العقوبة لا تكفي وحدها في ردع المجرمين ، بل لا بد ان يعرف المجرم ان جزاء عمله الحقيقي هو عذاب الله في يوم القيامة ، ثم يفتح الله باب رحمته حين يلغي العقوبة لأولئك الذين يتوبون قبل ان يقدر عليهم النظام الاسلامي ، وهذا بدوره طريق لردع المجرمين عن التمادي في فسادهم.

بينات من الآيات :

الجريمة والعقاب :

[٣٣] (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً)

٣٥٩

ما هي محاربة الله ورسوله؟

ان محاربة الله ليست بشهر السلاح ضده سبحانه ، كما ان محاربة الرسول ليست دائما بشهر السلاح ضده ، انما المحاربة الحقيقية هي : مقاومة النظام الاسلامي الذي يقوده الرسول أو خلفاؤه مقاومة مسلحة ، مما يسبب الفساد في الأرض وتغييرا في النظام الذي يصلح الأشياء.

ان فساد المجتمع هو : تغيير نظامه القائم ، واشاعة الفوضى فيه ، وتعكير صفو الأمن ، وإفساد الزراعة بتغيير نظام الري والمساقاة فيها ، وعدم تطبيق واجبات الزراعة من تسميد وتشذيب ، واختيار الموسم المناسب.

ومثل الزراعة الصناعة والتجارة وغيرها من حقول الحياة المختلفة ، وجزاء من يشيع الفساد بمقاومة الانظمة الطبيعية أو التشريعية التي وضعها الله سبحانه هو واحد من الأمور التالية : اما القتل بالسيف أو الصلب أو قطع الايدي والأرجل من اليمين واليسار ، وإما إخراجهم من الأرض.

(أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا)

وهؤلاء الذين يقاومون النظام الصالح بالقوة انما يطغون طمعا في العزة ، وهذه العقوبات تسبب لهم خزيا وذلة وصغارا ..

(وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)

فان لم يرتدعوا بالعقوبة الدنيوية أو يزعموا انهم يفلتون من يد العدالة في الدنيا ، فان الاخرة قريبة ، وعذاب الله العظيم ينتظرهم.

٣٦٠