من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً(٣٣)

٦١

الإنسان ومنطلقات العمل

هدى من الآيات :

الحلقة الاولى في المجتمع الاسلامي هي الاسرة التي تحدثت عنها الآيات السابقة ، حيث بينت حقوقها وأنظمتها ، أما الحلقة الثانية فهي المرتبطة بسائر أبناء المجتمع الذين نظم القرآن علاقات بعضهم ببعض عبر كثير من سور القرآن ، ولكن أشار الى بعضها هنا لتكتمل الصورة ، ولكي لا يقتصر الحديث عن الحقوق في اطار الاسرة الصغيرة ، بل تتعداها الى الاسرة الكبرى وهي المجتمع.

والحقوق الاجتماعية هي :

حرمة المال ، حرمة الدم ، والوفاء بالعقود ، وتكافؤ الفرض ، واحترام الميزات ...

وتحدث القرآن أولا عن حرمة المال (احترام الملكية الخاصة) ثم عن الدم ، لان الاعتداء على المال هو السبب المباشر للاعتداء على النفس غالبا.

٦٢

وبيّن القرآن ان المحرمات الاجتماعية هي أهم وأكبر ذنب من المحرمات الاخرى ، وأن الذي يتجنبها يكفر الله عنه سيئاته الاخرى ، ذلك لان الالتزام بهذا الجانب من الدين أصعب كثيرا من الالتزام بالجوانب الشخصية ، ولذلك تجد الكثير من الناس يفرغون الدين من محتوياته الاجتماعية تماما ، فاختص التحذير من قبل الله بهم ...

وفي الآية الاخيرة ذكّرنا الله بالإرث ، باعتباره سببا من أسباب التفاضل في المجتمع المسلم ...

بينات من الآيات :

حرمة المال والنفس :

[٢٩] الإنسان محترم ، ويحترم كل ما يمت بصلة اليه ، والمال جزء من جهد الإنسان ، وبالتالي جزء من الإنسان والاعتداء عليه حرام لأنه اعتداء على كرامته ، ومن يعتد على كرامة الناس فلا بد ان يستعد لاعتداء الآخرين عليه.

لذلك تجد التعبير القرآني يوجه الخطاب للجميع ويأمرهم باحترام حقوق بعضهم ويقول :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)

لأنه لو لم تحكم قيمة الاحترام المالي أوساط المجتمع ، فان كل فرد سوف يعاني من الاعتداء في يوم من الأيام ، إذن لندع أكل الأموال بالطرق الباطلة ...

والطرق الباطلة هي كل ما ترفضه قيم الدين ، ولا تكون خاضعة للتجارة المتراضى عليها ، فأكل الأموال أما بالقمار أو بيع الخمر والمخدرات ، أو بالاحتيال

٦٣

والسرقة والنهب باطل وحرام ، والاستثناء الوحيد هو التجارة بتراض وتعني أمرين :

الاول : أن تكون تجارة ، أي تدويرا للمال بالطرق المشروعة (البيع ، الايجار ، الرهن) فلا يجوز أكل الأموال غصبا أو احتيالا.

الثاني : أن تكون هذه التجارة بعيدة عن الإكراه ، والجبر ، أو الغش والخداع ، لان ذلك يفقد شرط التراضي ....

وهذه القاعدة توضح ان كل العقود التجارية التي يتراضى عليها الطرفان صحيحة حسب الرؤية الاسلامية ، إلّا إذا خالفت شرطا أكيدا من الشروط المبينة في الدين (كالتجارة بالحرام) مما يعطي التشريع الاسلامي مرونة كافية لمواكبة تطور الحاجات الاجتماعية.

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)

وبعد المال يأتي دور النفس ، التي تبقى مصونة إذا حافظنا على الحقوق المالية المتبادلة ، فالغني الذي يحافظ على حقوق الفقراء لا تتعرض حياته للخطر لأنه لا يدع سببا لثورة الفقير وتمرده.

(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)

ان الإنسان لا يصل الى درك الاعتداء على الأنفس إلّا إذا هبط اليه شيئا فشيئا بسبب الاعتداء على الأموال ، حيث يخلق في ذاته الكراهية والقلق وحب الجريمة ، وكثيرا ما ينساق الى جريمة الاعتداء على النفس لتعبيد الطريق أمام اعتدائه على المال.

٦٤

(إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)

فحرم عليكم الاعتداء على المال والنفس ليرحمكم ، وينجيكم من عذاب بعضكم.

[٣٠] ومن يعتدي على حقوق الناس (أموالهم وأنفسهم) اعتداء مع سبق الإصرار ، ويقوم فعلا في اغتصاب حقوق الآخرين ، فان الله يعذبه عذابا أليما ...

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)

اجتناب الظلم غفران الذنب :

[٣١] إن الظلم الاجتماعي أشد الظلم ، وان اجتناب هذا الظلم يشفع للإنسان في سائر سيئاته ، فمن لا يصلي ولكنه لا يعتدي على الناس في أموالهم وأنفسهم قد يشفع له التزامه بحقوق الناس في غفران ذنبه ، لان الهدف الأسمى من الصلاة زيادة الايمان واحترام حقوق الناس ، أما من يصلي ويأكل أموال الناس أو يقتلهم فان صلاته لن تنفعه ولن تشفع له ..

ان عمل الإنسان الصالح يشفع له في عمله السيء ، ولكن بشرط أن يكون العمل الصالح أكبر من السيئة ، قال الله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ).

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ)

مثل الشرك بالله ، وظلم الناس ، وقتل النفس المحترمة و... و... إلخ ...

(نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)

٦٥

أي نسترها. بعملكم الصالح ، حتى لا تحاسبوا عليها تماما كما يكفر الفلاح البذرة في الأرض ويجعلها تحت التراب ....

(وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)

ذلك المدخل الكريم هو الفلاح في الدنيا ، والسعادة في الآخرة ، ذلك ان الإنسان الذي يسيطر على أهوائه في الذنوب الصغيرة يوفقه الله للسيطرة على ذاته في الذنوب الكبيرة فتكون حياته كريمة ، والحياة الكريمة هي التي تتوفر فيها الحاجات الجسدية والنفسية معا ، وهذه الحياة سوف تساعد صاحبها على بلوغ الجنة.

والمدخل : الباب الذي يدخل الله عباده منه.

لا تحسد الآخرين :

[٣٢] من عوامل الشقاء البشرى الحسد ، وهو صفة نفسية نابعة من قصر الرؤية وضيق الصدر ، حيث يزعم الإنسان ان نعم الله محدودة ، وان فرص الحياة قد انتهت ...

ولذلك فهو يتمنى لو يفقد الآخرون النعم ليحصل هو عليها ، بينما المفروض أن يفكر في الحصول عليها كما حصل أولئك عليها بالطرق المشروعة ...

وبالطبع يسبب الحسد عقدا نفسية مؤلمة تنعكس على السلوك فاذا بصاحبها يحاول مع الآخرين من التقدم والاستمتاع بالحياة.

ان التاجر المحتكر ، والسلطان الديكتاتور ، والرئيس المستبد ، والعالم العنيد ،

٦٦

والفقير الكسول الذي لا يفتر عن اجترار الآهات ، انهم جميعا حسّاد يريدون استلاب ما في أيدي الناس.

ويضع الله لهؤلاء علاجا نفسيا عبر النقاط التالية :

إن الله هو الذي فضل الناس بعضهم على بعض ، والله عادل لا يظلم ولا يسأل عما يفعل.

ان الله لم يفضل أحدا إلا بما اكتسبه بجهده ، سواء كان رجلا أو امرأة ، وأنت إذا أجهدت حصلت على ذلك الفضل مثله.

فبدلا من تمني ما عند الناس لماذا لا تتمنى ما عند الله ، وتتحرك أنت أيضا كما تحرك أولئك الذين فضلهم الله وتجهد نفسك ، والله يعلم جهدك ويعطيك مثلما أعطاهم.

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)

وإذا استطاع المجتمع أن ينطلق من قاعدة تكافؤ الفرص ، والاعتقاد ، بأن كل من يعمل يحصل على نصيبه فان تناحره وتباغضه يتحول الى تنافس بناء يخدم الجميع.

الإرث عامل تفاضلي :

[٣٣] وقد لا يكون الفرد قد اكتسب شيئا بنفسه ، ولكنه ورث والده الذي حصل على المال بجهده ، وقد فضل الله الابن على الآخرين في الرزق كرامة لأبيه ، وتشجيعا له وللآخرين أن يعملوا وينشطوا في الانتاج.

٦٧

من هنا عاد القرآن وذكر الإرث باعتباره من عوامل التفاضل الاجتماعي وقال :

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ)

أي أورثنا كل إنسان مواليه الذين هم اولى الناس به ، وتشجيعا له على العمل وبذلك أعطينا تركة الوالدين والأقربين لألصق الناس بهم.

(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ)

وهذه الفئة هي التي تمت للعائلة بصلة عن طريق عقد التحالف ، فأمر القرآن أن يعطى لهم نصيب من الإرث حسب التعاقد. وتسمى هذه الفئة ب (ضامن الجريرة) وهي ترث وتورث حسب الاتفاق.

وفي الوطن الاسلامي الكبير حيث ينفصل الكثير من الناس عن مواطنهم الاصلية ، فيحتاجون الى اسرة ينتمون إليها ويتبادلون معها الحب والتعاون في شؤون الحياة ، هنالك شرع الإسلام قانون التحالف ، وتحدث هنا عن جانبه الاقتصادي حيث يصبح الفرد كواحد من أبناء الاسرة يرثها ويورثها ويضاعف هذا القانون من قوة التحالف والتماسك ، ويجعل للافراد مأوى اجتماعي يلجأون اليه في مواجهة صعوبات الحياة.

ولكن بما ان بعض الناس يمكن أن يخونوا تحالفهم مع هؤلاء الضعفاء لذلك حذر القرآن من ذلك وقال :

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)

فلا تفكروا في نقض الميثاق ، ونكث الحلف.

٦٨

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥) وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ

____________________

٣٤ [نشوزهن] : النشوز الترفع على الزوج.

[اهجروهن] : اتركوهن.

[المضاجع] : جمع مضجع وهو محل النوم وفراشه وأصل الضجوع الاستلقاء.

٣٥ [شقاق] : خلاف.

٦٩

إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ

____________________

٣٦ [الجار ذي القربى] : القريب.

[الجار الجنب] : بالغريب.

[مختالا] : أصل المختال من التخيل وهو التصور لأنه يتخيل بحالة مرح البطر والمختال الصلف التياه.

٧٠

أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢)

٧١

الحقوق الاجتماعية في القرآن

هدى من الآيات :

في هذا الدرس يبين القرآن الحقوق والواجبات الاجتماعية ، ابتداء من الحقوق المتبادلة بين الزوجين ، ومرورا بحق الأقارب والمحرومين ، وانتهاء بحق المجتمع في ثروة الأغنياء.

وفي الدرس القادم يتابع القرآن الحديث عن حق العلم وواجب رجال العلم عموما ، ورجال العلم الديني خصوصا ، تجاه العلم وتجاه المجتمع.

وخلال حديثه عن حقوق هؤلاء يوصينا القرآن بضرورة تحديدها في اطار القيم الاسلامية ، حتى لا يتحول أي واحد منهم الى طاغوت اجتماعي يطاع من دون الله.

للزوج حقوقه ولكن في اطار طاعة الله ، وطاعة رسوله ، واولي الأمر ممن أمر الله بطاعتهم ، وإذا أراد الزوج تجاوز هذا الإطار ، فعلى الزوجة أن ترد عليه وتطرده بالقوة ، والّا فانها تصبح مشركة وعابدة للطاغوت ، لأن كل من أطيع من دون الله فهو طاغوت.

٧٢

وكذلك للوالدين حقوقهم بشرط الّا يتبعهم المسلم في كل ما زعموه ، أو فعلوا من أفكار أو أعمال ، والّا فان الإحسان الى الوالدين يتحول الى عبادة ممقوتة لهما وشرك واضح.

وهكذا رجال المال لهم احترامهم ، ولكن إذا بخلوا بأموالهم فهم أسوأ الناس ، وعلى المجتمع ان يسقطهم من عينه ، حتى لا يصبح هؤلاء طبقة تستعبد الناس طغيانا وظلما.

وهكذا رجال العلم والدين لهم حقوقهم ، ولكن دون أن يصبح هؤلاء طبقة طاغية تعبد من دون الله.

بينات من الآيات :

لماذا قيمومة الرجل

؟ [٣٤] لا بد للمجتمع من التنظيم ، ولا بد للتنظيم من قيم تحكمه ، وتحد من طغيانه وتجاوزه ، ويبدأ التنظيم في الاسرة وبالذات في العلاقة بين الزوج والزوجة من يقود الآخر؟

ان اللاقيادة فوضى يرفضها الإسلام ، كما ترفضها الطبيعة ، حيث أن الله خلق الذكر بحيث جبل على حب القيادة ، بينما خلق الأنثى وفطرها على الانسجام والطاعة.

ولذلك حدثت تجاوزات من قبل الذكر في حقوق الأنثى ، وجاءت رسالات السماء لتحد من هذه التجاوزات ، ولتضع حدودا حاسمة لقيادة الذكر للأنثى.

من هنا نستطيع أن نؤكّد أن إعطاء الإسلام حق القيادة للرجل داخل

٧٣

الاسرة ، ليس سوى تقرير للوضع القائم فطريا ، فهو لم يبدع حقيقة بل أقرّبها تمهيدا لتنظيم القيادة ، وتحديد اطار مناسب لها يمنع الزوج من تجاوزه.

القرآن يسمي النظام ب (القيام) ، ويسمي المنظم ب (القيم) و (القائم بالأمر) ، والقائم يبالغ فيه ويقال قوام (مثل ضارب ، ضراب ، صائم ، صوام ، وهكذا) وقد استخدم القرآن هنا كلمة قوام للتعبير عن تحمل الرجال لتنظيم شؤون نسائهم بشكل مستمر ، ويحمل هذا اللفظ معنى المسؤولية التامة عن شؤونهم.

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ)

ويجيب القرآن على ذلك فيقول بسببين :

(١) بالجهد الذي يبذله هؤلاء ، ذلك الجهد الذي يجعل بعض الرجال أفضل من بعض في المراتب الاجتماعية ، فبعضهم يصبح غنيا ، والبعض فقيرا ، وبعضهم يصبح مفكرا ، والبعض عاملا ... وهكذا وكذلك الرجال أكثر جهدا وأصعب عملا من النساء. ولذلك تحملوا المسؤولية دون النساء.

ولأننا نقبل تفاضل الرجال فيما بينهم بسبب الجهد الذي يبذله البعض دون الآخر ، فلا بد أن نقبل أفضلية الرجال على النساء لذات السبب.

(٢) بالعطاء فعلى الرجال أن ينفقوا على النساء ، بل أن طبيعة الرجال وفطرتهم الصافية تدفعهم الى الإنفاق على النساء ، وقد بين التشريع السماوي هذه الطبيعة ، وفرض على الرجال الإنفاق على النساء.

وبكلمة : المسؤول (والقائد والمنظم) يجب أن يكون الأكثر جهدا والأكثر إنفاقا من النساء ، ولذلك فهم المسؤولون الطبيعيون عن الاسرة ، وسوف يفقدون هذه المسؤولية بقدر توانيهم عن العمل أو العطاء.

٧٤

وإذا كانت القيادة للرجال ، فعلى النساء الطاعة ، فالمرأة الصالحة هي الأكثر طاعة لله ولزوجها ، والأكثر حفظا لفرجها الذي اختص به الزوج ، ولقد زوّد الله المرأة بالحياء الفطري والعلاقة الرقيقة بالزوج ، وأمرها بأن تحفظ نفسها عن التعلق بغير الزوج وقال :

(فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ)

حافظات للغيب : أي تحفظ نفسها عن الزنا في غياب الزوج.

اما إذا تجاوزت المرأة حدها ، ولم تطع الزوج في حقوقه ، بل بدأت تنظر فيما وراء حصن الزوجية ، هنالك يعطي الإسلام الحق للزوج بأن يفرض النظام على مملكته داخل البيت بالقوة المتدرجة ، فيبدأ بالنصيحة ، ثم يبتعد عنها في الفراش ليشعرها بالوحدة ، ثم يضربها ضربا خفيفا (وقد جاء في الحديث يضربها بالمسواك) كل ذلك ليعبر عن انزعاجه وغضبه من تصرفاتها. ويبدو أن المرأة العادية تستجيب لهذه العقوبات ، وعليه فلا بد للزوج أن يقتصر عليها ، ولا يستخدم العقوبات في فرض الظلم في البيت ، بل فقط في فرض الحقوق ، وليعلم الزوج أن الله أكبر منه ، وأنه لو ظلم الزوجة فان الله سوف ينتصر لها.

(وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً)

متى تبدأ مسئولية المجتمع

[٣٥] متى تنتهي حدود القيادة التي منحت للزوج ، وتبدأ مسئولية المجتمع حين يكون الخلاف بينهما حادا وجذريا ، فلم يكن الخلاف في بضعة حقوق تقصر فيها الزوجة ، بل تهم متبادلة وحقوق ضائعة ، هنا لا يجوز للزوج أن

٧٥

يفرض وجهة نظره على البيت ، ويضيع حقوق الزوجة.

بل لا بد أن يتدخل المجتمع قبل أن ينتهي الأمر الى الطلاق ، وذلك بأن يبعث أهل الزوج وأهل الزوجة حكمين يتفاوضان في الأمر ، فاذا توصلا الى حل فرضاه على الزوجين ، وعلى هذين الحكمين أن يخلصا نيّتهما حتى يجمع الله بهما بين الزوجين مرة أخرى ، وإخلاص النية هو إرادة الإصلاح حقيقة.

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً)

كيف تكون علاقاتك الاجتماعية

؟ [٣٦] المجتمع الاسلامي يبنى على قاعدة التوحيد والتحرر ، فهو لا يؤمن الّا بالله ، ولا يسلم الّا لمنهجه ، ولا يعترف بأية قوة ضاغطة أو عقبة في طريق تطبيق شرائع الله.

عبادة الله هي التسليم له ، وتفجير كل الطاقات وتوجيهها في قنوات منهجه.

والشرك بالله هو الخضوع لأية قيادة أخرى أو أية قوة اجتماعية من دون الله.

فالتسليم للوالدين بصفة مطلقة واتباعهما بلا قيد أو شرط ، شرك وعبودية لغير الله ، وعقبة في طريق تقدم الانسانية وتطورها.

والتسليم للاسرة مثل التسليم للوالدين شرك وعبودية ، والتسليم للأغنياء شرك وعبودية وعقبة ، والتسليم لرجال الكهنوت ، أو رجال العلم شرك وعبودية وعقبة.

والمجتمع المسلم متحرر من كل ذلك التسليم ، ومسلم وجهه لله الواحد

٧٦

القهار ، ويردد مع إبراهيم ـ الأب الروحي لكل المجتمعات التوحيدية الخالصة ـ يردد : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وفي هذه الآيات والآيات التي تأتي يبيّن القرآن نوع العلاقة التي يجب أن تحكم علاقتك بالناس ، ابتداء من أقاربك وانتهاء برجال الدين ، ومرورا بالمحرومين والأغنياء.

ويبدأ القرآن حديثه بالنهي عن علاقة الشرك ، التي تعني التسليم المطلق ، والأمر ـ بديلا عنه ـ بعلاقة الإحسان فما هي هذه العلاقة؟

انها علاقة العطاء من اليد العليا ، لا العطاء وأنت صاغر مكره ، والفارق بينهما : أنك في حالة العطاء باليد العليا لم تفقد شخصيتك ، ولم تتنازل عن عقلك وأرادتك واستقلالك وحريتك ، أما في الصورة الثانية فانك قد هبطت الى درك العبودية.

ان الذين يطيعون آباءهم بعلّة انهم آباؤهم سواء كان هؤلاء مهتدين أو ضالين لا يعقلون شيئا ، وهؤلاء ينطلقون في عبادتهم من الضعف والهزيمة ، وبالتالي يفقدون صفة الإنسان ، ويتحولون الى آلة صماء تتحرك بلا ارادة.

أما الذين يحسنون لآبائهم دون أن يطيعوهم طاعة عمياء ، وينفقون عليهم دون ان يتنازلوا عن حريتهم ، فهم ينطلقون من موقع القوة ، ويحققون أصالتهم ، ويثبتون حريتهم واستقلالهم بذلك.

من هنا جاءت الكلمة الاولى في هذه الآية تقارن بين العبادة والإحسان فقالت :

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)

٧٧

فالعبادة لله والطاعة له ، وللوالدين وسائر أبناء المجتمع الإحسان.

(وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ)

ذو القربى هم رحمك الذين تشترك معهم في الأسرة أو العشيرة الواحدة ، فعليك أن تحسن إليهم سواء كانوا أغنياء أو فقراء ولكن دون أن تعبدهم ، وهذا يعني انه لا يجوز لكأن تربط مصيرك بمصيرهم دون استقلال فكري لأنه جاهلية وشرك ، ودون أن تخالف النظام الاسلامي في تأييدك للأقارب ، ولا أن تنصرهم ضد المظلومين ، وتجادل عنهم في الباطل ، كما يفعل الجاهليون الجدد اليوم في مجتمعاتنا الفاسدة.

ان النظام العشائري مطلوب في المجتمع الاسلامي ، بشرط أن يكون اطارا للتعاون البناء ، والتفاعل الفكري والاجتماعي ، دون ان يكون وسيلة للعصبية ، وسحن حقوق الناس ، وتجاوز قيم الرسالة.

وبعد الأقارب يأتي اليتيم ، وعلى أبناء المجتمع الّا يحسبوا اليتيم فقيرا أو مسكينا يحتاج الى دعمهم المادي فحسب ، بل عليهم أن يغدقوا عليه من حنانهم كما لو كان قريبا من أقاربهم ، ولذلك فضله القرآن عن المساكين.

وفي المرحلة الثالثة يأتي المسكين وهو الذي أسكنه الفقر ، ويجب أن تكون علاقتك بالمسكين هي علاقتك بالوالدين العطاء دون خضوع أو تسليم ، كما هي ذاتها علاقتك مع الأغنياء بلا فرق.

اما المرحلة الرابعة فيأتي دور الجار القريب ، والجار الملاصق ، وإذا كانت العلاقة بين الجيران (والذين كان تربطهم القرابة قديما في الغالب) علاقة الإحسان ، سهل التعاون بينهم ، وتحولوا الى قوة بناءة داخل المجتمع المسلم.

٧٨

ذلك ان المجتمع المسلم يستفيد من كل العلاقات الطبيعية كالقرابة والجوار وغيرهما من أجل تأصيل جذور المجتمع في أنفس الأفراد ، وتحويلهم الى كتلة صخرية تقاوم الانحرافات ولكن بعد أن يهذبها تهذيبا كاملا.

(وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ)

والجار الجنب : أي الملاصق.

ثم تأتي مرحلة الزمالة سواء كانت في الطريق ، أو في الدراسة ، أو في الشغل ، انها إطار جيد للتعاون البناء ، بيد أن المشكلة هي حب الذات والبخل والشح النفسي ، مما يشكل عقبة في طريق التعاون ، والإسلام يأمر بتصفية هذه العقبة عن طريق الإحسان.

فانك حين تحسن الى صاحبك بالجنب (زملك). فانك سوف تكسبه وتكسب ودّه وتمهد الطريق لتعاون بناء.

(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)

والغريب الذي فقد ماله علينا ان نضيّفه ونعينه حتى يعود الى بلده ، ومما ملكت أيدينا من أسراء الحرب علينا أن نحسن إليهم ، فلا نتعالى فوقهم بالباطل لمجرد أننا أرفع درجة منهم في المجتمع.

(وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً)

البخل مرض الأغنياء

[٣٧] الجبل الراسي ينحدر منه السيل بقوة واندفاع ، ولكن دون أن تتأثر صخوره الصلبة بأمواج السيل أو بهديره ، كذلك المؤمن ينحدر منه الإحسان الى

٧٩

كل جوانب الحياة ، ولكن دون أن يسبب الإحسان في ضعفه أو استسلامه.

المؤمن لا يتعالى على الفقراء ، وفي ذات الوقت لا يسمح أن يتعالى عليه الأغنياء ، ولا يخضع لرجال العلم ولكنه لا يمنع نفسه فضلهم ، بل يحسن إليهم كما يحسن الى الفقراء دون فرق.

اما الأغنياء الذين يريدون أن يفرضوا عليه سلطانهم ، فالمؤمن يثور عليهم ولا يخضع أبدا لما لهم ، ولا يخشى عقابهم.

ولكن بما ان أغلب الأغنياء يفرضون سلطانهم على الضعفاء بشكل أو آخر ، فان القرآن بدأ حديثه عن سلبيات هذه الطبقة الاسقاطها في أنظار الناس ، الّا إذا التزموا بشروط الطاعة لله والرسول والقيادة الاسلامية ، والإنفاق في سبيل الله بإخلاص تام ، وقال : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً)

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)

المختال : هو المغرور بثروته أو أي ميزة اخرى له ، والفخور هو المتظاهر بهذه الثروة والمتكبر بها على الناس ، وهذه الصفة النفسية ناشئة من الشعور بالضعف والنقص ، ومحاولة جبران هذا الشعور بالاختيال والفخر والتكبر.

ان الإنسان يختال بنعم الله عليه ، ويتطاول على الناس بها ، والطبقة الغنية هي الأكثر تعرضا لخطر هذه الصفة. أما الممارسات السلوكية التي تفرزها هذه الصفة السيئة فهي البخل ، لأن المختال بماله يخشى أن ينفلت المال من يديه فيفقد شخصيته ، ولذلك يحرص على المال حرصه على حياته وشخصيته وكرامته ، ويعتبر بالمال القيمة الوحيدة في حياته.

ولكن البخيل المختال بماله سرعان ما يكتشف ان الذين ينفقون أموالهم

٨٠