من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ)

بل يداه مبسوطتان :

[٦٤] من الأفكار الخرافية الفاسدة التي شاعت في مثل هذا المجتمع كما عند اليهود انهم يقولون : يد الله مغلولة وانه خلق الخلق ثم تركه دون قدرة على تغيير أو تطوير ، وبهذه الفكرة ألغوا دور الدين في الحياة ، ودور الايمان بالله والتوكل عليه في بناء الحضارات.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ)

ولان اليهود زعموا بان قدرة الله محدودة فإنهم جمدوا وتخلفوا ، لان الايمان بقدرة الله الواسعة تنعكس على البشر انطلاقا وتقدما ، لأنه يستتبع الايمان بلا محدودية الامكانات عند البشر المؤمن المتصل ببحر قدرة الله التي لا تحد ولذلك قال ربنا :

(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)

فالذي يتصور الحياة بصورة جامدة لا تتطور الى الأفضل ، والذي لا يؤمن بقدرة الله على إنقاذه من ويلاته هو مغلول اليدين ، والذي لا يتوكل على الله هو الاخر مغلول اليدين يعيش أبدا في أو حال الرجعية والتخلف.

وأكثر من هذا فان اليهود ملعونون مطرودون من رحمة الله وغير قادرين على الانتفاع بالامكانات الحاضرة لديهم ، لذلك قال ربنا :

(وَلُعِنُوا بِما قالُوا)

٤٢١

اي لعنوا وابعدوا من بركات الله بسبب قولهم الفاسد ، اما ربنا سبحانه فان قدرته لا محدودة ، وهو ينفق من هذه القدرة حسبما تقتضيه حكمته البالغة.

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ)

ان رؤية اليهود الجامدة الى الرسالة الجديدة والى كل جديد ، وكفرهم بامكانية التجديد أصبح حجابا بينهم وبين نور الرسالة لذلك كلما تليت عليهم ايات الرسالة ازدادوا طغيانا.

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً)

لأنهم كانوا يزعمون أنّ كل جديد بدعة يجب محاربته ، فلذلك كانوا يتوغلون أكثر فأكثر في خرافاتهم القديمة.

وربما بسبب الرؤية الجامدة والثابتة الى الحياة ، واعتقادهم الراسخ بان الله لا يطور الحياة ارتبطوا بألفاظ وقوالب معينة جمدوا عليها واختلفوا فيها ، واستمرت الخلافات هذه بينهم الى يوم القيامة ، ولم يدفعهم تطور الحياة الى العودة الى جوهر رسالتهم وترك القوالب الجامدة التي تشبث كل فريق بجانب منها وتعصب لها ، لذلك أعقب القرآن الحكيم على السلبيات السابقة سلبية الخلافات الداخلية وقال :

(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ)

وإطفاء الله لنيران الحرب التي أوقدوها دليل على التدبير المباشر لربنا لشؤون الحياة ، كما ان كل خطة محكمة تفشل بما يسمى بالصدفة ، وكل رأي سديد ينقض بسبب ما يقال : بأنه الدهر والليل والنهار ، وكل تقدم وانتصار يتحقق

٤٢٢

ينسب الى الحظ ، كل ذلك دليل على التدبير المباشر لربنا في الحياة ولذلك جاء في حديث الامام علي عليه السلام :

«عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم»

(وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)

وفسادهم في الأرض نتيجة واضحة لرؤيتهم الباطلة والجامدة تجاه الحياة ، فهم لا يؤمنون بضرورة العمل لمستقبل أفضل حتى يصلحوا الحياة ، كما لا يؤمنون بان فسادهم سوف يتسبب في دمار الحياة وتحول عيشهم الى جحيم لا يطاق حتى يرتدعوا عن الفساد.

والواقع ان فكرتهم باطلة ، ذلك لان الله لا يحب المفسدين ، فهو يجازيهم شرا بفسادهم.

[٦٥] ان كل تلك السلبيات التي تواترت على اليهود لم تكن بسبب رسالات الله الهابطة عليهم في الكتب ، بل بسبب عدم عملهم بتلك الرسالات.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ)

وذلك في الاخرة ، والتقوى هو الالتزام بما يوجبه الايمان من العمل الصالح والسلوك الحسن.

[٦٦] كما ان تطبيق تعاليم السماء سوف ينشر عليهم الرفاه والرخاء.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ)

٤٢٣

كالقرآن الحكيم ، حتى لا يكون تطبيقهم للتوراة والإنجيل تعصبا بل لأنه نازل من ربهم.

(لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)

حيث تنزل السماء بركات عليهم ، وتنبت الأرض خيراتها ، وسلطاتهم ستكون عادلة ، وكبار القوم يرحمون صغارهم ، والصغار يوقرون كبارهم ولم تكن تشيع بينهم الطبقية المقيتة ، ولا ينمو في مجتمعهم الطغيان بيد ان أهل الكتاب لم يطبق كلهم كتاب الله بل.

(مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ)

معتدلون في تنفيذ الأوامر غير سباقين فيها ولا مقصرين.

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)

فلا ينفذون واجبات ربهم ، وعاقبتهم هي تلك التي أشار إليها ربنا في الآيات السابقة.

٤٢٤

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما

____________________

٦٨ [فلا تأس] : فلا تحزن

٤٢٥

لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)

٤٢٦

الولاية ذروة الأيمان

هدى من الآيات :

بعد ان امر القرآن الحكيم المسلمين بالولاية التامة للمجتمع الاسلامي ، ونهاهم بشدة عن قبول ولاية الكفار والمشركين ، وبين سبب ذلك في الدرس السابق ، جاء في هذا الدرس يؤكد للرسول ، وعموما لكل من تحمل تبليغ رسالات الله ، كالربانيين والأحبار بالّا يهادنوا أحدا ، ولا يساوموا أحدا في تبليغ الرسالة عموما ، ومن الطبيعي ان يكون سياق الحديث في هذا الموضوع الولاية أو القيادة لأنها هي التي قد يخشى الرسول من تبليغها خوف ارتداد الناس ، ذلك ان القيادة أهم ما تطمح إليها القوى الاجتماعية.

وأكد ربنا سبحانه على ان التقصير في هذا الجانب يكون بمعنى عدم تبليغ الرسالة رأسا ، ووعد المبلغين لرسالات الله ، وحفظهم من شر الناس ، وانه لا يهدي القوم الكافرين.

ثم حذر أهل الكتاب من انكم لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل والقرآن ، ثم بين ان الرسالة الجديدة سوف تزيد الكفار طغيانا وكفرا فلا تحزن عليهم.

٤٢٧

ولكن ذلك كله لا يعني ان اليهود والنصارى أو الصابئين يدخلون النار ، لأنهم أصحاب كتب. كلا. بل انهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا عملا صالحا فانه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

بينات من الآيات :

وهل الدين الا الولاية

؟ [٦٧] السياسة في اي نظام اجتماعي هي القمة ، والقيادة في السياسة هي سنام القمة ومن دون سياسة صالحة فان سائر الانظمة الاجتماعية لا تعني أكثر من حبر على ورق ، كما انه من دون القيادة الصالحة فان السياسة لا تعني شيئا لذلك فان الله سبحانه يذكر نبيه ـ هنا ـ بان اي تقصير في امر تبليغ اي بند من بنود الرسالة يعتبر وكأنه لم يبلغ الرسالة أساسا. يقول ربنا :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ)

وهنا يطرح سؤالان : الاول : لما ذا جاء هذا التحذير في هذا السياق؟

الثاني : لما ذا ارتبط تبليغ رسالة جزء مما انزل بسائر الاجزاء ..؟

للاجابة على السؤال الأخير لا بد ان نعرف : ان تقصير الرسول أو اي مبلغ لرسالات الله انما يكون بدافع اجتماعي. مثل الخوف من ذوي البطش ومراكز القوى أو الطمع في جذب الناس وعموما لا يكون ذلك الا في القضايا الحساسة مثل القيادة أو مخالفة عادات راسخة أو ما أشبه ، وإذا لم يبلغ الرسول رسالة ربه في مثل هذه القضايا فان الرسالة لن تحقق هدفها إذ ان هدف الرسالة هو مقاومة السلبيات الاساسية في المجتمع ، اما القضايا البسيطة فان إصلاحها لا يغير من

٤٢٨

واقع المجتمع شيئا.

ثم ان الرسالة التي تعجز عن مقاومة سلبيات المجتمع ، أو معالجة القضايا الاساسية فيه لا تنفع شيئا لان كل ظاهرة تخالفها الرسالة قد تصبح في يوم من الأيام ذات حساسية في المجتمع ولا تستطيع الرسالة انئذ من مخالفتها ... حتى الصلاة قد تصبح ذات يوم قضية تستتبع الخوف والاستهزاء فعلى الرسالة التنازل عنها؟!

ومن هنا نعرف الاجابة على السؤال الاول ، إذ ان السياق القرآني يحدثنا عن الولاية ، والولاية قضية حساسة بل هي أهم قضية حساسة لذلك أكد القرآن على هذا الحكم في هذا السياق بالذات ... لذلك جاء في الحديث المروي عن الامام الباقر عليه السلام.

(ان الله اوحى الى نبيه (ص) ان يستخلف عليا (ع) فكان يخاف ان يشق ذلك على جماعة من أصحابه ، فانزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له على القيام بما امره الله بأدائه)

والمعنى : ان تركت تبليغ ما انزل إليك وكتمته كنت كأنك لم تبلغ شيئا من رسالات ربك في استحقاق العقوبة.

(وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)

موقف أهل الكتاب من الولاية :

[٦٨] والقضية لا تخص المسلمين فقط ، إذ ان على جميع أهل الكتب

٤٢٩

السماوية ان يطبقوا كل تعاليم الرسالات السماوية والا فان مثلهم مثل الذي لا يملك رسالة أبدا ولا فرق بينهم وبين الكفار.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)

بينما أهل الكتاب أصبحوا يتخذون موقفا معاديا من رسالات ربهم لذلك فهم يزدادون بها طغيانا وكفرا.

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)

اي لا تحزن عليهم.

[٦٩] وإذا طبق أهل الكتاب كل ما انزل عليهم من ربهم فان رحمة الله واسعة ... وفضله عظيم فهو يدخلهم جناته كالمسلمين.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

[٧٠] لقد أمر بنو إسرائيل ، وكل أهل الكتاب ان يؤمنوا بالحق أنّى كان ، واين كان ، ومن دون تجزئته ، ولكنهم لم يطبقوا ذلك وخانوا عهدهم.

فأخذوا يبعضون ايمانهم بالرسل حسب أهوائهم المصلحية ، أو حسب تصنيفاتهم العنصرية فاذا جاءهم رسول يخالف مصالحهم ، أو من غير عنصرهم ، كفروا به مما يدل على أنّهم لم يؤمنوا أساسا بالحق ، بل آمنوا بالأهواء والعنصرية.

٤٣٠

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)

عملية التكذيب للرسول هي قتل له لان أهم شيء عنده هي رسالته فلو أنها كذبت فكأنه قد قتل قتلا.

[٧١] وكان يزعم هؤلاء : أنّ قتل الأنبياء أو تكذيبهم سوف لا يخلف اثارا سلبيه عليهم ، فاندفعوا الى ذلك دون ان يبصروا الحقائق بأنفسهم أو يسمعوها من ذوي النصيحة.

(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)

ان الدعاة والمصلحين هم عيون الامة فاذا قتلوهم ، فكأنهم أعموا أعينهم ، وأذا أعمى الإنسان عينه ، فهل يعني ذلك ان الحقائق تزول ، أو تتغير لمجرد أنه لا يراها. كلا ، بل يعني انه سوف يتناقض معها ويدفع الثمن غالبا أمامك صخرة تراها عينك وتخبرك بذلك ولكنك بدل ان تصدق عينك وتنحرف عن الصخرة تغرز بمسمار في عينك فتعميها جزاء نصيحتها لك بما لا يرضاه غرورك وتكبرك وطغيانك ثم ماذا ، هل تنتهي المشكلة ـ كلا بل بالعكس بعد لحظات تجد نفسك وقد ارتطمت بالصخرة وتكسرت ساقك وتحطم رأسك ، كذلك فعل أهل الكتاب بأنبياء الله الذين أسروا إليهم النصح فقتلوا الناصحين ، وزعموا انّ ذلك يخلصهم ، مما يحذرهم الناصحون منه ، فاذا بهم يجدونها امامهم ، هنالك تاب فريق منهم ، ولكن توبة أكثرهم كانت وقتية ، إذ أنهم ما لبثوا أن عادوا الى عنادهم مرة اخرى.

ان هذا بعض اثار الكفر بالحق ، الذي مارسه اليهود ، وعلينا الا نتولى اليهود لهذا السبب.

٤٣١

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ

____________________

٧٥ [صديقة] : الصديقة المبالغة في الصدق كما يقال رجل سكبت أى مبالغ في سكوته.

٤٣٢

انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)

____________________

[يؤفكون] : يقال أفكه يأفكه إفكا إذا صرفه ، والافك الكذب لأنه صرف عن الحق. وكل مصروف عن شيء مأفوك عنه. وقد افكت الأرض إذا صرف عنها المطر.

٤٣٣

انحرافات النصارى شرك وغلو

هدى من الآيات :

الأمة الاسلامية طليعية المتمثلة في حزب الله هي امة طليعة مستقيمة على الحق وعليها ان تبقى كذلك ، وتتجنب المزالق ، ولا تتولى اليهود أو النصارى ، الذين انحرفوا عن الحق ، كل باتجاه ، ولكن ما دمت منحرفا عن الطريق فلا فرق أن تكون يمينا أو يسارا.

لقد رأينا في الدرس السابق كيف أن اليهود أصيبوا بالجمود باسم المحافظة على التقاليد ، وتحدوا الحق الجديد وطغوا عليه وكفروا به.

وها هم النصارى نراهم في هذا الدرس يخالفون الحق بصورة أخرى ، حيث أنهم يؤمنون بالأساطير ويميعون الحق ، فهم يشركون بالله ، ويرفعون مستوى المسيح الى مستوى الربوبية ، تقليدا للكفار الذين ضلوا الطريق من قبلهم انهم انفتاحيون ولكن دون مقياس صحيح واصيل.

والقرآن يندد بهذه الفكرة ويقول بأنها شرك تسبب حرمان الجنة ، ثم أنها

٤٣٤

تؤدي الى الكفر بالله رأسا. ولماذا نشرك بالله ، هل لكي نجد من يخلصنا من عذاب الله؟ أو ليس من الأفضل ان نعود الى الله لنجد عنده المغفرة الواسعة ، اما المسيح فلن يغني شيئا عن الله. انه بشر مثلنا يأكل الطعام ، وهو لا يضر ولا ينفع من دون الله ، والواقع ان تأليه المسيح جاء نتيجة تقليد الأساطير الكافرة : وهو غلو مرفوض في الدين.

بينات من الآيات :

دوافع الشرك بالله لدى النصارى :

[٧٢] لماذا انحرف النصارى عن المسيحية الصحيحة ، ولماذا قالوا : ان الله هو المسيح ، هل لأنهم لم يفهموا حقيقة الايمان بالغيب؟ ولم يرتفعوا الى مستوى هذا الايمان فحسبوا ان الله هو المسيح؟ ، أو لأنهم أرادوا ان يتمسكوا بالدين تمسكا شديدا فغالوا فيه فضلوا فلكي يرفعوا منزلة المسيح اشركوه بالله سبحانه؟ أو لأنهم انفتحوا على الثقافات المشركة ـ خصوصا ـ الثقافة اليونانية ، التي عشعشت في الاسكندرية ، وتسربت منها الى المسيحية؟ أو لأنهم تصوروا عظمة الله ، وشدة بأسه وصرامة احكامه فلكي يجدوا لأنفسهم مخلصا يسمحوا لأنفسهم به فعل الذنوب قالوا : ان الله أكثر من واحد ، وانه إذا أراد أحدهم عقابنا فسوف يخلصنا الثاني؟

كل هذه الدوافع قد تكون وراء الشرك عموما ، وشرك النصارى خصوصا ، وقد لا يكون الشرك نوعا واحدا ، إذ ان الضلالة والانحراف قد تكون عبر آلاف الطرق ، اما صراط الحق فلن يكون سوى صراط واحد.

وفي الآيات التالية إشارات إلى كل هذه الدوافع التحريفية التي علينا ان

٤٣٥

نتحذر منها عند ما نريد ان نبني أمتنا.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)

كيف ينهي الله عن عبادة نفسه؟فاذا كان المسيح هو الله فكيف أمرنا بعبادة غيره؟

كلا. انه داعية اليه قالها بكل صراحة : (اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ثم حذر من الشرك بالله ، وبين جزاء المشرك ، وأكد بأنه لا هو ولا غيره قادرين على مقاومة إرادته الله في نصرة الظالم ، وإنقاذه من النار.

ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ :

[٧٣] إن المسيحية المنحرفة ، انقسمت على نفسها في أن الله هو المسيح أو أنه شريك للمسيح ، وذلك انطلاقا من اختلاف الأفكار الجاهلية القديمة ، التي قالت حينا بوحدة الوجود ، وحينا بتعدد الوجود ، وسواء كان قولهم الأول أو الثاني فهو كفر.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ)

إذ ان الله يعني الأحدية المطلقة التي لو أنكرها الفرد فقد أنكر الالوهية ذاتها.

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ)

٤٣٦

لذلك فمن أنكر التوحيد ، فقد أنكر الله ، إذ ليس هذا الذي يتقبل الشريك إلها. أإله هذا الذي لا يقدر على شريكه؟! أم إله هذا الذي يعجز عن بعض الأعمال من دون شريكه؟! وإذا ما الفرق بينه وبين خلقه؟! وإذا لماذا أساسا نؤمن بالإله؟!.

إننا حين نرى عجز الخلق عن بعض الأفعال ، نعرف أن هناك إلها لا يدخل في طبيعته العجز ، ولا تحد قدرته حدود.

وإذا رأينا الإله عاجزا أيضا ، فلا يبقى مبرر للايمان به.

(وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

تخصص العذاب بالكفار منهم بالرغم من ان هذه الفكرة تنسب الكفر لكل من يتقبلها ولكن تخصص العذاب ببعضهم. لان من يقول بهذا الكلام دون وعي كاف قد لا يحكم عليه بالكفر ، مثل بعض المتصوفة من المسلمين ، الذين بغالون في أوليائهم حتى مرتبة الألوهية من دون شعور منهم بحقيقة ما يقولون ، وإنه لكفر بالله العظيم.

عيسى ليس باله :

[٧٤] يزعم بعض النصارى أنهم يحتمون بعيسى (ابن الله) عن عذاب أبيه ، لأنه ارحم منه بنا ويفند الله سبحانه هذا الزعم بطريقتين :

الاولى : جذرية ، حيث يقول :

(أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

٤٣٧

ان لا يجد من هو أرحم به من الله وأكثر غفرانا. فلما ذا يتصور ان هناك من يخلصه من الله ما دام الله لم يسد عليه أبواب رحمته ... فليعد الى ربه ليجد في رحابه كل خير.

[٧٥] الثاني : ان المسيح ليس سوى بشر ، وهل البشر قادر على أن ينقذ الناس من غضب الله.

ان المسيح كان قد ولد من أم وهذا أول وأبرز أدلة عجزه ومحدوديته ، وبالتالي فهو مخلوق ، ثم انه كان يأكل الطعام ومن دون الطعام كان سيموت مما يدل أيضا على انه لم يكن سوى بشر ، وهل يقدر من يحتاج إلى الطعام ، أن يقاوم إرادة الله ، خالق الطعام ، والشراب ، ومالكهما.

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)

لذلك لا تصبح معاجزه أو علومه دليلا على أنه إله ، لأن كل الرسل أيضا مثله يملكون معاجز ويعلمون بعض الغيب.

(وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ)

فليس هو أو أمه من نوع الآلهة الذين لا بد ان يكونوا بغنى عن الطعام.

(انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)

[٧٦] ثم ماذا يغني عنكم المسيح ، ما دام لا يغني عن نفسه غائلة الجوع ، إلا بالجهد وبوسيلة مادية اي بالطعام.

(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

٤٣٨

وهل بامكانكم ان تحتموا به عن الله الذي يسمع ما تقولونه ظاهرا ويعلم ما في قلوبكم

الغلو محراب الشرك :

[٧٧] ان أهم الدوافع وراء تأليه المسيح عيسى بن مريم ، كان الغلو في الدين ، وبقدر ما تكون اللامبالاة بالدين خطرا فان الغلو خطر بقدره ، لأن هذا وذاك مخالفان للحق والحق هو محور الكون ويجب أن يكون محور حياة الإنسان أيضا.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ)

وحين أراد قادة الكنيسة دعم المبادئ الدينية توجهوا إلى الغلو في الدين سعيا وراء ترسيخ مبادئه في النفوس ، ولكن الغلو بحاجة الى إيديولوجية تدعمه لذلك اتجهوا إلى الثقافات الجاهلية ، وطعموا دينهم بها ، التي لم تكن سوى خرافات ، أملتها أهواء أهل الضلالة كمثل خرافات اليونانيين عن تعدد الآلهة ، ووجود قدرة غيبية لكل شيء هي وراء ما نرى في الطبيعة من تناقضات ، أو تفاعلات إن هذه الخرافات ، هي التي تسربت الى المسيحية ، فحولتها إلى دين المغالين.

والله نهى عن ذلك بشدة قائلا :

(وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)

٤٣٩

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)

٤٤٠