من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

(فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)

انها تستعر وتلتهم علماء السوء ، الذين كفروا بالأنبياء حسدا ، وصدوا الناس عن رسالاتهم.

[٥٦] وجزاء هذا الفريق ومن اتبعهم من الكفار نار تصليهم وتؤلمهم.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً)

لان الجلود الطرية أكثر ألما من الجلود المحترقة ، وهؤلاء علماء السوء بدّلوا جلودهم في الدنيا فاختاروا الكفر بعد الايمان طلبا للذة الحياة ، وعليهم أن يستعدوا لتبديل الجلود في الآخرة ، حيث يصيبهم ألم العذاب جزاء ردتهم.

[٥٧] ولكن بالرغم من صعوبة مقاومة الحسد ، واتباع صاحب الحق حتى ولو كان غريما ، فان على الإنسان ان يتحملها حتى يحصل على جزاء الله في الجنان.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً)

ان ثمن ابتعادهم عن خيرات الظالمين ، ورضاهم بشظف العيش في ظل الحق ، هو الحصول على خيرات الجنان ، وأنس الأزواج الطاهرة ، وظل الله الظليل ، وكذلك لا يضيع الله أجر من أحسن عملا.

١٠١

إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما

١٠٢

قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ

١٠٣

مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠)

١٠٤

طاعة القيادة الرسالية

واجب وضرورة

هدى من الآيات :

بعد الحديث عن مسئولية المال والعلم الاجتماعية ، ودورهما في إصلاح أو إفساد المجتمع ، وبعد ضرب القرآن لقيمة العلم والمال ، إلّا إذا حققا هدف الرسالة ، وتحولا الى أداتين في خدمة المجتمع ، بعدئذ يتناول القرآن مسئولية السلطة ، فهي الاخرى ليست قيمة بذاتها إنما هي وسيلة لتحقيق العدالة ، التي تعني حصول كل شخص على حقه كاملا غير منقوص.

وهذه القيمة يحققها سلطان الله في الأرض المتمثل في قيادة الرسول (ص) ، وأولي الأمر من بعده الذين يجسدون رسالته ، وقد كانوا هم أهل بيته ، أما الآن فهم حملة رسالة الله في الأرض بكل معنى الكلمة.

والسلطات الاخرى تمثل الطاغوت الذي يدعمه الشيطان وقد أمرنا بالكفر به والتمرد عليه.

١٠٥

ومخالفة الرسول وأولي الأمر من بعده هي من عمل المنافقين ، الذين سوف يكتشفون ان قيادة الرسول أفضل لهم ، وذلك حين تنزل عليهم المصائب بسبب انتمائهم الى سلطات الطاغوت ، وعلى الرسول أن يستغل الفرصة ويعظهم.

كل رسل الله جاؤوا ليتسلموا قيادة الناس ، وإذا عاد الناس الى قيادة الرسل وصححوا مسيرتهم ، لأصلح الله حياتهم ، وغفر لهم سيئاتهم.

أما الذين يخالفون رسل الله ، فإنهم ليسوا بمؤمنين ، لأنهم يخالفون بذلك هدف الرسالة أساسا ، وقيادة الرسول ليست محصورة بالصلاة والصيام ، بل في كل الشؤون ، وعلى المسلم الا يفرق بين الموضوعات ، ويتبع الرسول في القضايا البسيطة فقط ، بل حتى ولو أمره الله بأن يقتل نفسه فعليه أن يطيعه ، لأنه ذلك خير له وأقوم.

خير له لأنه سوف يحصل بسببه على أجر عظيم ، وأقوم له لأنه سوف يهتدي الى الصراط المستقيم ، وسوف يحشر عند الله مع الصفوة من خلقه ، وهم النبيّون والصديقون والشهداء والصالحون وهذا هو التطلع الأسمى الذي يجب أن يسعى من أجله الإنسان.

ان هذه الآيات أوضحت لنا ضرورة الطاعة للرسول لتحقيق المسؤولية الاجتماعية وهي : العدالة.

بينات من الآيات :

بين الرقابة الذاتية والاجتماعية

[٥٨] يجب أن يكون كل شخص واعظا لنفسه ، رقيبا عليها. فلا يفرط في

١٠٦

أموال الناس عند ما تكون عنده بل يرجعها إليهم متى تسلمها. وعلى كل مسلم ان يكون واعظا للناس ، رقيبا عليهم فيسعى من أجل اعادة حقوقهم إليهم بالعدل.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً)

ان هناك صلة وثيقة بين أداء الامانة واقامة العدل لان من لا يؤدي حقوق الناس ، كيف يمكنه أم يساعد الآخرين على أداء الحقوق؟! وبالتالي كيف يمكن أن يصبح رقيبا على العدالة في المجتمع؟!.

ولا يجب ان يكون الحكم بين الناس بصورة السلطة الرسمية ، بل يكون في الأكثر في صورة التعاون الاجتماعي على حل المشاكل القائمة بين بعضهم البعض. قبل الرجوع الى المحاكم.

حينما يبدأ النزاع بين شريكين ، فأول ما يصنع كل واحد منهما هو عرض وجهة نظره على أصدقائه المقربين ، فاذا كان هؤلاء مؤمنين حقا أو ضحوا للخاطئ منهما طبيعة خطئه ، وأعطوا الحق لصاحبه ، وفيتراجع المخطئ قبل أن يرفع دعوى الى المحكمة أما إذا لم يلتزموا بواجبهم كمؤمنين في الحكم بالعدل ، فان كل فريق يؤيد صاحبه ويشجعه على مطالبه ، حقا كانت أم باطلا ، فترفع القضية الى المحاكم. وتبدأ سلسلة المشاكل وهنا نعرف دور الرقابة الاجتماعية على العدالة ومدى تأثيرها في أداء الحقوق.

السلطة وفصل القرار

[٥٩] ولكن الرقابة الاجتماعية لا تردع كثيرا من الناس من الاعتداء على

١٠٧

حقوق الآخرين ، وهي لا تستطيع أن تكون فيصلا حاسما في كثير من المشاكل المعقدة ، التي يظن كل طرف انه صاحب الحق فيها ، ويورد أدلة كثيرة على ظنه. هنالك نرى ضرورة وجود السلطة الشرعية القوية التي يلتزم الجميع بحكمها ، وهي متمثلة في النبي وأولي الأمر من بعده.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)

ان أولي الأمر هم الامتداد الطبيعي للرسول ، وهم أهل بيته من بعده ، والعلماء بالله ، الأمناء على حلاله وحرامه ، الأكفاء على القيام بأمره ، الصابرون المتقون ، وبالتالي هم أكثر الناس طاعة لله ، وأقربهم الى نهج رسوله ، ويتحقق اليوم في حملة رسالة الله في الأرض انى كانوا.

والهدف من هذه الطاعة هو فض الخلافات بردها الى حكم الله ، وقضاء رسوله أو اولي الأمر من بعده.

(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)

أي ان رفع الدعاوي الى الرسول خير لكم ، لأنه يساعد على فض النزاعات ، وهو أفضل عاقبة في المستقبل ، لأنه يعطيكم التلاحم والرصانة.

طاعة الطواغيت ضلال

[٦٠] والتحول عن قضاء الرسول الى قضاء حكام الجور من الطواغيت ضلال شيطاني ، إذ أن الله أمر المؤمنين بالكفر بالطاغوت والثورة على سلطانه ، فكيف يجوز التحاكم اليه ودعوته للتدخل في شؤون المؤمنين الداخلية؟!

١٠٨

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً)

أصحيح زعم هؤلاء بأنهم مؤمنون وهم يخالفون أبسط قواعد الايمان ، وهو الكفر بالطاغوت؟ ويذهبون اليه خاضعين أم انه ضلال بعيد؟

ان الله بعث رسله لكي يذكروا الناس بربهم ، ويعبدوه وحده ، ويتحرروا من عبادة الطاغوت ، فاذا عاد الناس الى الطاغوت انتهى كل شيء ، ولم يبق الّا قشور الايمان.

[٦١] في حالة الرخاء يبتعد هؤلاء عن قيادة الرسول ، ويبعدون عنها الناس بكل عناد ويلتجئون الى الطاغوت زاعمين انه أفضل لهم ، ولكن سرعان ما يكتشفون ان الطاغوت قد خدعهم وأراد استعبادهم. فيعودون الى الرسول وهم يبررون موقفهم السابق بأنه كان بنية طيبة حيث أرادوا خدمة الناس ، وحل الخلافات بينهم ، أو حل خلافات ناشئة من سوء الفهم وليست خلافات مبدئية؟ وبالطبع ان هذا التبرير باطل وسخيف ، ولكن على الرسول الا يطردهم ، بل ينصحهم بكلام ينفذ في أنفسهم عسى الله ان يهديهم الى الايمان الواقعي.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ)

أي عودوا الى كتاب الله وقيادة الرسول.

(رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً)

١٠٩

[٦٢] (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)

أي بالذنب الذي ارتكبوه وهو التحاكم الى الطاغوت.

(ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً)

أي ما كان هدفنا من التحاكم الى الطاغوت (السلطات الظالمة) الّا الإحسان الى الناس بسبب قربنا من مواقع السلطة ، والتوفيق بين الناس ، وفض خلافاتهم ، أو تلطيف الأجواء بين السلطات الظالمة وبين أنصار الرسالة المناوئين لهم.

[٦٣] (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)

أي لا تعاقبهم بالذي بدر منهم من التحاكم الى الطاغوت.

(وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)

نافذا من منطلق انهم سوف لا يحصدون من الطاغوت الّا الاستعباد والظلم والخيانة ، فعليهم ان يبتعدوا عن الطاغوت ان هم أحبوا أنفسهم.

ان المنافقين يريدون مصالحهم ، ولا بد للرسالي أن يوجههم من هذا المنطلق.

هدف بعث الأنبياء

[٦٤] ان الهدف من بعث الرسل ليس سوى تحرير الناس من قيادة الطاغوت ، وتوفير قيادة صالحة لهم ، ولذلك يجب على الناس أن يطيعوا الرسول ، إذ سيجدون مغفرة من الله وفضلا.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ

١١٠

فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)

ان الله يتوب على عباده ، وينشر رحمته عليهم ان هم تابوا اليه ، وأطاعوا ممثله في الأرض وهو الرسول ، وطاعة الرسول تشفع للبشر ذنوبهم الصغيرة ، إذ أن في ذلك طاعة لله في أعظم ما أمر به ، وان الحسنات الكبيرة تشفع في السيئات الصغيرة ، كما ان السيئات الكبيرة (كالشرك بالله وطاعة الطاغوت) تحبط الحسنات الصغيرة.

مفهوم الشفاعة في القرآن :

ان فكرة الشفاعة الصحيحة هي : ان الرسول يستغفر لمن يطيعه ، ويتوب اليه بإخلاص ، ولا يعني استغفار الرسول لأحد ان الله يغفر له حتما ، كما جاء في نص القرآن : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ))

وقد ردّ الله شفاعة نوح في ابنه واستغفار إبراهيم في أبيه.

وهذا هو الفارق بين فكرة الشفاعة الاسلامية ونظيراتها في الديانات الوثنية والمسيحية واليهودية المنحرفة ، ان الشفاعة الاسلامية لا تعرف الحتمية ، وما هي سوى دعاء الرسول ربه أن ينزل رحمته ، وبالرغم من أن الرسول مستجاب الدعاء ، فان ذلك لا يحتم على الله سبحانه أن يستجيب للرسول ، بل قد يرفضه رفضا لأنه هو الله الحكيم العليم.

اما فكرة الشفاعة أو الفداء عند الوثنية واليهودية والمسيحية ، فهي آتية من فكرة خاطئة اخرى هي : الزعم بتعدد الآلهة ، ووجود شركاء لله يتغالبون ويتنافسون في شؤون العباد ، وبتعبير آخر : الاعتقاد بفكرة وجود مراكز قوى

١١١

في سلطان الكون ، وان كل مركز يستطيع ان يعمل باتجاه معين ، ويجبر ذي العرش (وهو الله سبحانه) على فعل شيء.

هذه الفكرة مرفوضة في القرآن ، لأنها مخالفة لرؤية التوحيد وبصيرة الأحدية ، وأهمية الشفاعة الاجتماعية ، انها تعطي المجتمع الاسلامي مزيدا من التلاحم والصلابة ، إذ أن الرسول يصبح محورا يستقطب حوله جميع الطاقات ، ليس فقط بدوافع مادية ، بل وأيضا بدافع إيماني غيبي.

ومثل الرسول في ذلك أوصياؤه الائمة ، ومن بعدهم القادة الرساليون الذين يستمدون قدراتهم الاجتماعية من التفاف الناس حولهم طوعا لا كرها ، كل واحد منهم يأمل أن يشفع له القائد عند الله ، ويستغفر له ربه ، وهذا الالتفاف يخدم قضية الامة الاساسية ، وبذلك يستطيع القائد أن يطبق سائر الواجبات الدينية.

وتكون النتيجة وجود مرونة في التشريع الاسلامي ، بحيث تتقدم الاهداف الكبرى على الاهداف الجانبية ، ويكون الوصول الى تلك شفيعة في عدم الوصول الى هذه مؤقتا ، بل وطريقا إليها في المستقبل.

ولنتصور قائدا رساليا يخوض معركة مصيرية مع أعداء الامة ، ويجد شابا مندفعا يطيعه حتى الموت في هذه المعركة ، فلا ريب ان هذا الشاب يعتبر من الصالحين عند الله حتى ولو استخف بالصيام مثلا ، لان طاعته لإمامه ، وتضحيته في المعركة المصيرية التي تواجه الامة ، قد تشفعان له في ترك الصيام لان الانتصار في المعركة المصيرية سوف يساعد على اقامة الشعائر ومنها الصيام ولكن

١١٢

يجب الا يدفعنا ذلك الى الاستهانة بالواجبات بتبرير قيامنا بالواجبات الأهم ومنها الطاعة للإمام ، إذ أن هذه الواجبات قد لا تشفع في تلك ، وقد لا يستجيب الله دعاء الرسول ، فما ذا نصنع؟

ان رفض الإسلام لفكرة الحتمية في الشفاعة تنفع المسلم في عدم التوغل في الذنوب ، كما ان وجود الفكرة أساسا تساعده على الاهتمام بالواجبات الأهم حتى ولو كان على حساب الأقل أهمية.

ان الغموض الذي اكتنف فكرة الشفاعة والخلافات الكبيرة فيها دفعنا الى الحديث حولها في هذه الآية التي نراها تتحدث مباشرة عن هذه الفكرة ، وكما ترى فانها جاءت في سياق الآيات التي تبين ضرورة الطاعة للرسول ، مما يوحي بأن فكرة الشفاعة ذكرت أساسا لدعم الطاعة للقيادة الرسالية دعما غيبيا.

الطاعة دليل الايمان

[٦٥] وإذا لم تكن عند المؤمن صفة الطاعة للرسول فما ذا يبقى عنده من الايمان؟ أليس الايمان هو التسليم لله ، وماذا يعني التسليم لو لم تكن الطاعة للرسول؟ وما قيمة القيادة التي لا تستطيع فض الخلافات بين الناس؟!.

ان الايمان وقر في القلب ، يجعل صاحبه يسلم لله حتى فيما يصيبه من مصيبات ، أو يخالف مصالحه أو آراءه. فاذا لم يرض الفرد قلبيا بحكم الله المتمثل في قضاء الرسول في الخلافات الاجتماعية بينه وبين اخوته ، إذا لم يرض بذلك فليس هو بمؤمن أبدا.

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ

١١٣

حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)

فيما شجر : أي فيما يبرز بينهم من خلافات ، الحرج : الضيق ، وهو يتنافى مع الرضا الكامل ، والتسليم هو : التسليم القلبي والعملي.

الطاعة شاملة

[٦٦] وطاعة الرسول يجب أن تكون شاملة لكافة القضايا الصغيرة والكبيرة ، حتى ولو خالفت مصالح الإنسان الاساسية.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)

هذا القليل هم المؤمنون حقا ، وهم الذين يعملون بالخير والهداية.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً)

الطاعة بين التأثير والجزاء

[٦٧] كيف تكون الطاعة خيرا؟

انها خير لأن الله يعطي المطيعين أجرا عظيما متمثلا في الدنيا بالنصر ، والتقدم ، والرفاه ، وفي الآخرة بالجنان الخالدة.

(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً)

[٦٨]كيف تكون الطاعة أشد تثبيتا ، وبالتالي مؤثرة في دعم ايمان صاحبها وهداه؟

١١٤

الجواب : ان الانحراف يحدث عند الإنسان بسبب ضغط الشهوات ، فالخوف من الموت ، وحب الوطن والأولاد والراحة وما أشبه هو الذي يجعل الواحد منا يفكر بالمقلوب ، ويعكس الحقائق الكونية.

أما لو تجاوز الإنسان ذاته في سبيل أهدافه ، واستعد للتضحية ، فليس هناك أي سبب لانحرافه.

(وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً)

[٦٩] هذا الصراط المستقيم ينتهي بصاحبه الى الانتماء للصفوة المختارة من عباد الله ، وما أحسن هذا الانتماء!!.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً)

[٧٠] وهذه هي الدرجة الرفيعة التي لا يصل الشخص الى مستواها الّا بجهد بالغ ، وبتوفيق من الله ، وليس رخيصا ولا سهلا الحصول على بطاقة الانتماء الى حزب الله الغالب المنتصر.

(ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً)

يعلم سرائر الناس فيقبل انتماء خالصي النية فقط.

١١٥

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ

____________________

٧١ [انفروا] : أصله الفزع.

[ثبات] : جماعات في تفرقة وحدتها ثبة.

٧٢ [ليبطئن] : التبطئة التأخر عن الأمر.

١١٦

وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦)

١١٧

الجهاد مظهر الطاعة

ونجاة المستضعفين

هدى من الآيات :

الجهاد أبرز مظاهر الطاعة ومن يطع الرسول في الجهاد يسهل عليه تطبيق سائر الواجبات الدينية لأنها لا تنطوي على صعوبات الجهاد أو أخطاره الجسيمة.

وإذ يتحدث القرآن عن الطاعة للرسول والكفر بالطاغوت يضرب لنا مثلا من واقع الطاعة المفترضة وهو الجهاد الذي يأتي مباشرة بعد تكوّن الامة ، وانفصالها عن المجتمع الجاهلي وطاغوته الذي يتبعونه ، إذ لا يلبث ان يتفجر الصراع بين الجاهلية وبين الأمة ، وعلى أبناء الأمة الاستعداد لخوض الصراع ، وذلك يكون بالتحذر ، والانطلاق للجهاد جميعا أو في مجموعات.

وبالتسارع في تنفيذ امر الجهاد حتى لا يكون المسلم كأولئك المتقاعسين الذين يتثاقلون عن الجهاد حتى تنتهي المعركة ، فان كانت في صالح الجاهلية زعموا انهم ربحوا حين لم يساهموا في الحرب ، والا تميزوا غيظا وحسرة وكأنهم

١١٨

ليسوا من أبناء الامة أبدا.

صفة المسارعة في القتال تأتي بعد الايمان بأن الآخرة أفضل من الدنيا ، وان الله عنده أجر عظيم للمقاتلين خسروا أو ربحوا المعركة.

وهدف القتال هو إنقاذ المستضعفين من براثن الطغاة والظلم ، فان قتال المسلمين هو من أجل الله بينما قتال الكفار من أجل تثبيت نظام الطاغوت وقهر الشعوب.

بينات من الآيات :

واجب الاعداد

[٧١] ان يكون أبناء الامة على استعداد للانطلاق في معارك الدفاع عن قيمها الرسالية هو منتهى الجدية في الحياة والفاعلية والطاعة للقيادة.

وليس المهم العمل حين تدق طبول الحرب ، بل الاستعداد قبل ذلك في أيام السلم حيث يسترخي الناس ، ويغالبهم نعاس الأمن ، ويحسبون ان الحياة لهو ولعب.

آنئذ يستعد المسلمون للمعارك المحتملة فاذا حانت ساعة الحرب خفوا إليها في شكل مجموعات (ثبات) أو وحدات صغيرة منسقة ومستعدة للعمليات الحربية أو نفروا إليها جميعا بصورة (التعبئة العامة).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً)

انها تشكل خلفيّة جيش الرسالة ، الاعداد المسبق والتضحية والتنظيم (الحذر ـ النفر ـ الثبات أو الجميع).

١١٩

المصلحية داء الجهاد ..

[٧٢] ولا تكونوا ـ أيها المؤمنون ـ مثل أولئك الجبناء الذين يتكاسلون ويتقاعسون عن الحرب وينتظرون نتائجها وهم في بيوتهم ، فاذا دارت ضد المسلمين بداوا يشمتون ويفرحون بأنهم لم يكونوا معهم علما بأن تثاقلهم عن الجهاد قد يكون هو سبب هزيمة المسلمين ولكن هؤلاء لا يحسبون لأنفسهم حسابا ودائما يتصورون سائر المسلمين هم المسؤولون بل ويجدون بينهم وبين سائر المسلمين فارقا وكأنهم من غير المسلمين.

والدليل على ذلك : انهم يتميزون حسرة وحسدا إذا انتصر المسلمون وحصلوا على مكاسب مادية في معركتهم.

ان الله يذم هؤلاء لكي لا يصبح الواحد منا هكذا يرى نفسه وكأنه من غير المسلمين فلا يتحمل مسئولية الجهاد ويقول عنهم :

(وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً)

أي يشكر ربه لأنه لم يوفق لحضور المعركة (شهيدا) ، بينما كان هو السبب وراء تقاعسه عن الجهاد ، والله سيحاسبه على ذلك غدا.

[٧٣] (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً)

وكأنه أمة وسائر المسلمين امة اخرى ، علما بأن مكاسب المسلمين سوف تصيبه كواحد في المجتمع الاسلامي يستفيد من تقدم هذا المجتمع الاقتصادي ورفاهه الحضاري.

١٢٠