من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

[٥٢] من الذي يوالي الاجنبي؟

إنه الفرد أو الطبقة المنهزمة نفسيا أمامه ، والتي تخشى قوة الاجنبي ، وسيطرته في المستقبل على أوضاع البلد فتتعاون معه.

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ ، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ)

أي مكروه ، أو سلطة العدو.

انتظار الفرج :

ولكن ربنا يقول : ان هناك احتمالا وجيها آخر هو الانتصار الكاسح للمسلمين عليهم أفلا يخشون المسلمين إذا!

(فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ)

بأن ينصر المسلمين على أعدائهم.

(أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)

كعذاب شديد يصيب الكفار ليس على أيدي المؤمنين ، بل عن طريق زلزال أو خسف أو مرض.

(فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ)

لأنهم اعتمدوا على قوة ضعيفة ، وتركوا ولاءهم المقدس لسراب خادع.

[٥٣] وآنئذ حين ينصر الله المسلمين أو يهلك الكفار بأمره. يشمت المسلمون بالمنافقين ويقولون لهم : أكان هؤلاء الكفار هم القوة التي تخالفتم معها بقوة ،

٤٠١

فهذه مكاسبهم قد ضاعت في سراب الشرك ، وبقي رأسمالهم الوحيد الخسارة والندم!

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ)

أي بكل ايمانهم ، وبأشد أنواع الحلف وكان محتوى حلفهم.

(إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ)

جميعا لأنهم كانوا مشركين.

(فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ)

٤٠٢

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)

٤٠٣

حزب الله

هدى من الآيات :

وجود عناصر منافقة توالي اليهود والنصارى في الأمة ، لا يعني ان الامة الاسلامية قد انتهت بل ان ربنا سبحانه سوف يهدي جماعة يتميزون بصفات الأعضاء الواقعيين لحزب الله ، وللمجتمع المسلم. أولها : ان الله يحبهم وهم يحبون الله ، والله يتفضل عليهم ، وهم يضحون في سبيله ، وانسجامهم مع بعضهم يبلغ درجة التواضع والإيثار ، فهم اذلة على المؤمنين ، ولكنهم يشعرون بالقوة والمنعة أمام الاجنبي الكافر فهم أعزة على الكافرين ، وجهادهم في سبيل الله دائم ونابع من ايمانهم الصادق بربهم وليس من تيار اجتماعي ، ولذلك فهم لا يخافون لومة لائم ، وهذه الصفات كلها من الله. من الايمان به والتوكل عليه ، وبالتالي من نعمته على البشر التي يتفضل بها على من يشاء من عباده ، والله واسع النعمة عليم بمن يستحقها.

وهؤلاء هم الذين يستحقون الولاية في المجتمع الاسلامي ، لان الولاية

٤٠٤

الاساسية هي لله وثم لرسوله وثم للذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتخذ هذه الولاية حقا فانه من حزب الله ، وان حزب الله هم الغالبون.

أما الكفار فحرام على المسلمين ان يتخذوهم أولياء لأنهم ليس فقط لا يصلون ، بل يستهزئون بالصلاة ، ولا بد ان يلتزم المسلم بعهده مع الله ويتقيه ولا يتولى الكفار أو أهل الكتاب.

وإنما يستهزئ هؤلاء بالصلاة لأنهم لا يعقلون واقع الصلاة وعلاقتها بتزكية الإنسان ، وتربية المجتمع الفاضل.

بينات من الآيات :

صفات المجتمع الفاضل :

[٥٤] لا تزعم انك لو واليت الأجانب فان المجتمع الاسلامي سوف ينطبع بطابعك ، أو سوف يصبح أقرب الى الاجنبي ، كلا ... بل انك سوف ترتد عن دينك ، وتنفصل عن واقع المجتمع المسلم حتى ولو كنت ذا سمة بارزة فيه وذا منصب كبير ، إذ ان الله سوف يأتي بقوم يجسدون ذلك المجتمع الفاضل الذي يتسم بالصفات التالية ..

اولا : ان الله يحبهم ، ولا يحب الله الشخص لذاته بل لتكامل الصفات الحسنة فيه ، من الايمان والعمل الصالح ، وحين يحب الله أحدا تحبه ملائكته وأولياؤه ، ويسخر له ما في السماء والأرض لأنها مطيعة لله.

٤٠٥

ثانيا : وهم يحبون الله ، ويشعرون بان الله متفضل عليهم ، وان عليهم شكر ربهم بالعطاء وبالصلاة والزكاة والجهاد ، وحين يصلون أو يزكون ويجاهدون فان عطاءهم هذا ليس جبرا عليهم وإكراها بل طوعا واختيارا لأنه نابع من حبهم لله.

ثالثا : ولان علاقتهم بالله هي علاقة حب وهي أرفع درجات الانسجام والتوافق فإنهم يحبون بعضهم ويتساهلون في علاقاتهم. حتى يزعم الناظر إليهم من بعيد ان الواحد منهم عبد للآخرين في علاقة التواضع والإيثار والابتعاد عن الذاتيات ، فهم أذلة على المؤمنين.

رابعا : أما علاقتهم مع الكفار فهي علاقة المنعة والتحدي ، فهم أعزة عليهم صامدون أمامهم غير متأثرين بأفكارهم ، وغير خائفين منهم.

خامسا : ونشاط المجتمع المسلم مكثف ، ويتحدى الصعوبات الداخلية والخارجية ، فهم أبدا يجاهدون في سبيل الله ضد سلبياتهم الداخلية وضد الأعداء الخارجيين.

سادسا : ان سلوكهم لا يتأثر بما يقوله الآخرون ، بل بما تمليه عليهم افكارهم السليمة وبصائرهم النافذة لذلك فان الاشاعات لا تنال من جهادهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ)

فانه يخسر انتماءه الى المجتمع المسلم ، بينما المجتمع المسلم موجود ليس به وبأمثاله بل بمن يأتي به الله.

(فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ)

٤٠٦

عن طريق هدايته لهم.

(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)

لان انتماءهم الى المجتمع المسلم يغنيهم عن الارتباط بسائر الناس غير المسلمين ، فلذلك لا تؤثر فيهم الشائعات والدعايات وما يبثه المغرضون حول اهدافهم المقدسة.

وهذا النموذج المتكامل يصنعه الايمان الصادق بالله ، وتطبيق مناهج الرسالة التربوية.

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)

ولأنه واسع فان نعمه كبيرة لا تحصى ، ولأنه عليم فهو يعلم من الذي يستحق بأعماله وبنيته الطيبة ... فضل الله سبحانه.

ولاية الله أهم مظاهر حزب الله :

[٥٥] تلك كانت الصفات الظاهرة للمجتمع المسلم أو بالأحرى ـ الطليعة المسلمة ـ أما واقع هذه الطليعة فهو قبول ولاية الله في السماء والأرض ... في الغيب والشهود ... في أمور الاخرة والدين ، كما في شؤون الدنيا والحياة ، وولاية الله تعني :

اولا : إخلاص العبودية له.

ثانيا : إتباع مناهجه.

٤٠٧

ثالثا : أن يكون حب الفرد وبغضه لله وفي الله.

وولاية الله في الدنيا تتجسد في قيادة الرسول وخلفائه الائمة ، والربانيين ، والإجبار الصالحين.

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)

فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ :

[٥٦] والذين آمنوا ، هم المجتمع الرسالي الأمثل الذي لا يتجاوز انتماء الفرد عن حدودهم ، بل يقتصر عليهم لكي تتشكل هذه الولاية بالاضافة الى تلك القيادة ـ الحزب الإلهي ـ.

(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)

والسؤال : لماذا يغلب حزب الله سائر التجمعات؟

اولا : لأن إرادة الله العليا تشاء ذلك بان ينتصر حزبه على سائر الأحزاب ، وفي صراع المجتمعات الاسلامية والجاهلية شواهد على ان ما نسميه بالصدق (أو بالأحرى القدر الالهي) يلعب دورا أساسيا في انتصار الرسالة ، وما هي سوى ارادة الله العليا التي عبّر سبحانه عنها بقوله :

(إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)

ثانيا : إنّ حزب الله يعتمد على أساس القيم الحياتية التي تربي الفرد على اليقين والعمل الصالح والانضباط ، وهذه القيم قادرة على صنع الحضارة ..

٤٠٨

ثالثا : أساس التنافس داخل المجتمع الاسلامي ليس بالشخصيات ولا الغنى ولا العنصر ، وانما العلم والعمل ، اللذان يعتبران القيمتان الاساسيتان في هذا المجتمع ، بينما أساس التنافس في سائر المجتمعات هي واحدة من تلك القيم الزائقة ، ومن الطبيعي ان يرتقي ذلك المجتمع الذي يتنافس أصحابه على العلم والعمل.

رابعا : أبرز ما يعطي المجتمعات التقدم والاستمرار هو قدرتها على تجاوز التحديات التي تتعرض لها من قبل الآخرين ، والمجتمع الاسلامي يتكئ على الجهاد والشهادة في مقاومة التحديات وتجاوز الصراعات ، فيكون أقدر على الاستمرار والتقدم.

من هنا كان حزب الله ـ بالرغم من قلة أبنائه وضآلة موارده في البداية أقوى من حزب الشيطان على كثرة عدده وعدته وهو الغالب عليهم.

٤٠٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)

٤١٠

عبد الطاغوت

هدى من الآيات :

لكي يصنع الإسلام سدا منيعا بين المجتمع الاسلامي ، والمجتمعات الجاهلية ، حتى لا يبتلى المجتمع بازدواجية الولاء. يحرم اتخاذ غيرهم أولياء من أولئك الذين يتخذون الدين الاسلامي هزوا ولعبا ، سواء كانوا كفارا مشركين أو كانوا من أهل الكتاب ، ويأمرهم بالتقوى والخوف من الله ، والحذر من عقابه.

ويذكرهم القرآن بان أولئك يتخذون الصلاة هزوا ولعبا وبسبب عدم انتفاعهم بعقولهم لم يعرفوا مدى اهمية الصلاة ، وهم ينكرون على المسلمين ايمانهم بالله وبما أنزله الله من كتاب ، بينما أولئك أكثرهم فاسقون.

وعند التقييم العادل يطرح هذا السؤال : من الذي شر مكانا؟ المسلمون أم اليهود الذين لعنهم الله ، وغضب عليهم ، وهم يعبدون الطاغوت ،؟

من الطبيعي ان هؤلاء اليهود هم شر مكانا وموقفا في الحياة الدنيا ، وابعد عن

٤١١

طريق الحق ، وابعد عن الهدى.

بينات من الآيات :

لا توال هؤلاء!

[٥٧] حين يكون مقياس الإنسان في تقييم الأشخاص والمجتمعات هو مبدؤه ودينه ورسالته ، يكون ولاؤه للناس بقدر ولائهم لذلك المبدأ والدين أو تلك الرسالة ، اما إذا كان المقياس مصالحه العاجلة فانه قد يوالي من يخالف دينه ورسالته ، أو حتى يستهزئ بها أو يحاول الانتقاص منها ، والاستهزاء هو أسوأ أنواع الانتقاص من فكرة أو شخص ، حيث يزعم المستهزئ ان سخافة الفكرة أو رذالة الشخص قد بلغت حدّا لا يحتاج الى دليل لردها ، بل الى كلمات ساخرة ينتبه الفرد بعدها الى واقعه وواقع فكرته غير الصالحين.

والقرآن الحكيم ينهى المؤمنين من تكوين علاقات ولائية بينهم وبين من لا يحترم دينهم ويقول :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ)

الهزء : السخرية الظاهرة ، بالكلام واللعب ، واتخاذ الشيء مادة للتلهية عمليا كتقليد حركات الصلاة استهزاء ، أو أداء الصلاة نفاقا (كما قال بعض المفسرين) ومن المعلوم ان جميع اليهود والنصارى أو أهل الكتاب ليسوا كذلك بل إن بعضهم هو الذي يستهزئ بالدين.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

٤١٢

فلا تدفعكم المصالح العاجلة الى الارتباط بمثل هذه الفئات ، فان كرامة الإنسان واستقلاله أعز شيء عنده ولا يجوز التنازل عنهما لا سباب مصلحية مؤقته كما تفعل بعض الانظمة في بلاد المسلمين حيث يرتبطون بالغرب والشرق أو بدولة إسرائيل الغاصبة ، ويعقدون معهم احلاف الولاء لبعض المصالح العاجلة ، في الوقت الذي لا تني مؤسسات الغرب الثقافية والاعلامية وأحزاب الشرق العميلة وابواق إسرائيل عن النيل من الإسلام واهله.

والسؤال الذي يفرض علينا عبر التاريخ ودروس الحضارات البائدة والمجتمعات المتخلفة هو : كيف يحترم العالم مجتمعا لا يحترم نفسه ، وكم يفي العالم لمثل هذا المجتمع الناقد لكرامته واستقلاله ، وكم يفي له بالعهود ، والى متى تستمر له هذه المصالح العاجلة ، وأساسا هل تعني المصالح شيئا لمجتمع فقد كرامته؟!

[٥٨] وحين ينادي المؤذن بالصلاة ترى هؤلاء يستهزئون بها ويتغامزون بينهم ويقولون لبعضهم : انظروا الى المسلمين يتركون أعمالهم لأداء شيء غير نافع ، وهذا مثل ظاهر لما ذكرت في الاية السابقة.

(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)

انهم لا ينتفعون بما وهب الله لهم من نعمة العقل التي تدعوهم الى التفكر في فوائد الصلاة ، ومدى ارتباط سعادة البشر وفلاحه بها.

[٥٩] بل ان هزء هؤلاء وإنكارهم على المسلمين وتناقضهم معهم ليس من أجل المصالح المتضادة ولا من أجل الاختلاف في الدم واللغة كما يزعمون بل من أجل الاختلاف في القيم والمبادئ ، وان المسلمين امنوا بالله وبالرسالات.

٤١٣

بينما ظل أولئك كافرين عمليا بها. حيث انهم مع تظاهرهم بالايمان بالرسالة فهم لا ينفذون تعاليم الرسالة الا فسقا وتهاونا.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)

سوء العاقبة :

[٦٠] والواقع ان العاقبة للمؤمنين المتقين ، اما الفساق فان نهايتهم سيئة ، ومثوبتهم وجزاءهم شر عليهم لأنهم ملعونون عند الله بعيدون عن رحمته ، ولان الله غضب عليهم وانزل عليهم العذاب الظاهر حيث جعل منهم القردة والخنازير ، وجعل منهم عبدة الطاغوت ، اي ابتلاهم بسبب فقدان كرامتهم واستقلالهم بالطاغوت وبالسلطات الديكتاتورية الظالمة.

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ)

اي جزاء عند الله وعاقبة.

(مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ)

اللعنة ـ حسبما يبدو لي ـ الابتعاد عن رحمة الله بينما الغضب : إنزال العذاب ، وقد تمثل في الدنيا بأمرين :

(وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً)

من الناحية المادية.

(وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)

٤١٤

اي ابعد عن الجادة ... من الناحية المعنوية.

٤١٥

وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)

____________________

٦٢ [الإثم والعدوان] : الفرق بينهما : ان الإثم هو الحرم كائنا ما كان.

والعدوان هو الظلم.

٤١٦

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)

____________________

٦٥ لكفرنا : أصل التكفير التغطية.

٤١٧

اليهود : غلت أيديهم

هدى من الآيات :

في مقابل المجتمع الاسلامي نجد المجتمع الفاسد ، الذي يمثله اليهود ، ويتميزون بعدة صفات سلبية :

الاولى : النفاق ، حيث يتظاهرون بالايمان ، ولكن دخولهم في محضر الرسول (ص) يتم بالكفر ، كما ان خروجهم يتم بالكفر أيضا ، والله يعلم انهم يكتمون الكفر.

الثانية : انهم يتسابقون الى قول الإثم والى الاعتداء على حرمة الناس وعلى أكل أخبث الحرام.

الثالثة : ان رجال العلم والدين قد فسدوا ولم يتناهوا عن الإثم وأكل السحت.

الرابعة : انهم قدريون آيسون من رحمة الله ، ويزعمون ان يد الله مغلولة.

٤١٨

الخامسة : ان رسالة الله تزيدهم طغيانا وكفرا.

السادسة : انهم مختلفون بعضهم يعادي بعضا.

السابعة : ان طبيعتهم تنزع الى الحرب والفساد.

ان هذه الصفات هي التي تدمر الكفار لأنه إذا آمن أهل الكتاب ايمانا حقيقيا واتقوا لكفّر الله عنهم سيئاتهم ولا دخلهم جنات النعيم في الاخرة ، اما في الدنيا فلو انهم طبقوا الرسالة ، ونفذوا أوامر الله في التوراة والإنجيل إذا ، لعاشوا في الرفاه بحيث يأكلون من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ولكن منهم امة مقتصدة تطبق تعاليم السماء ، وكثير منهم فاسقون ويعملون عملا سيئا لذلك ابتلوا بهذه الصفات السيئة.

بينات من الآيات :

تارك الرسالة .. صفات وتقييم :

[٦١] لكي لا يتخذ المؤمنون الأجانب أولياء يعدد الله صفات طائفة من اليهود التي تنطبق أيضا على كل امة تركت رسالات الله ، ونافقت في ايمانها كالانظمة المسيحية في العالم الغربي ، أو ادعياء الإسلام في عالمنا ، وابرز تلك الصفات السيئة التي تنشأ منها سائر الصفات الرذيلة النفاق.

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ)

فالكفر كان يصاحبهم قبل وبعد دخولهم على الرسول أو في الإسلام ظاهرا.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ)

٤١٩

من النفاق والدجل.

والله لا يرى ظاهر الناس فقط ، بل يرى واقعهم الكامن أيضا.

[٦٢] والايمان يردع الفرد عن التهمة والغيبة وقول الزور وكل الأفكار المفسدة للضمير والداعية الى الكسل والجبن والعداء ... اما المنافقون فلأنهم لا يتمتعون برادع الايمان لذلك تجدهم يسارعون في الإثم.

(وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ)

اي لا يترددون من قول الإثم والباطل.

كما ان الايمان وازع نفسي عن الاعتداء على حرمة الآخرين بشن الحروب الاستعمارية ، أو اشاعة جو الإرهاب بالقتل والاعتقال أو التهجير كما تصنعه الانظمة الطاغوتية ، اما من لا يملك هذا الوازع فهو يسارع في التجاوز.

(وَالْعُدْوانِ)

وما يستهدفه هؤلاء من قول الإثم والعدوان هو أكل اموال الناس الذي يشبه قطعة الجلد التي تتكون بعد الجرح والقرح والمليئة بالجراثيم وهذا يسمى ب (السحت).

(وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

[٦٣] والفساد في هذا المجتمع قد تسرب الى الجهاز الأعلى فيه الى رجال العلم والدين الذين من المفروض ان يكونوا جهازا اصلاحيا في المجتمع ولكنهم يسكتون عن الفساد.

٤٢٠