من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

كيف نصنع الارادة

؟ [٧٤] ان المثل السابق نموذج من الناس يفتقرون الى الارادة الرسالية حتى يقرروا الاقدام والمبادرة في قضايا الامة ولا ينتظرون الآخرين.

انها تأتي نتيجة الايمان الصادق باليوم الآخر وتفضيله على الدنيا وبالتالي بيع الدنيا في مقابل الحصول على الآخرة وبهدف بلوغ أجر الله العظيم هناك.

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ)

يشري : أي يبيع وحين يقول القرآن فليقاتل يريد ان يبين ان هؤلاء هم المرشحون للقتال الخالص لوجه الله.

(وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

أهداف الجهاد

[٧٥] ان الهدف الغيبي للقتال أن يكون القتال من أجل الحصول على الأجر العظيم في الآخرة.

اما الهدف الظاهر للقتال الذي يكون في سبيل الله فهو محاولة إنقاذ المحرومين الذين تظلمهم القوى الطاغوتية القاهرة ، ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.

(وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً)

المستضعفون : هم الذين جعلتهم القوى الظالمة ضعفاء ، واستثمرتهم وحطمت إرادتهم ومعنويات نفوسهم ، ولكنهم مع ذلك يقاومون الظلم بالنية فيأملون ان ينقذهم الله بأناس يقودونهم وينتصرون لهم.

١٢١

[٧٦] إن هدف المقاتلين المسلمين تحرير عباد الله من مجتمع الظلم ونظام الطاغوت أما هدف مقاتلي الكفار فهو من أجل استعباد الإنسان وجعله يرزح تحت نير الطاغوت ، وبطبيعة الحال الطاغوت ضعيف ، لأنه يقاوم ارادة الناس وفطرة الحياة وكلما يضع الطاغوت من خطط متينة فهي ضعيفة لأنها تعاكس طبيعة الحياة البشرية التي خلقها الله حرة.

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً)

ان أول ما يجب ان يتمتع به الناس المستضعفون والمقاتلون من أجلهم هو التحرر من خوف الطاغوت لان أكبر العوامل التي يعتمد عليها الطاغوت في استغلاله للناس هو تخويفهم وتحطيم معنوياتهم والا فما الطاغوت الا بشر مثل سائر البشر فكيف استطاع أن يستعبد آخرين؟ انما بخشية الناس منه ، وخوفهم الباطل قوته ، تلك القوة التي يحاول الطاغوت تضخيمها في أعين الناس ، فاذا تحررت الشعوب من رهبة الطاغوت ، واكتشفت انه هو الآخر بشر وضعيف ، وخططه واهية لاستطاعت أن تطرده وتسحقه.

ان شعوبنا المقهورة اليوم تخشى القوى الكبرى الطاغوتية لأن تلك القوى غسلت أدمغتنا ، فاذا تحررنا من خشيتها انتصرنا عليها ولذلك يذكرنا القرآن هنا ، ان كيد هؤلاء ضعيف ، وعلينا الّا نرهبهم.

١٢٢

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩)

١٢٣

عوامل الانهزام وفوائد الالتزام

هدى من الآيات :

هناك ظروف يجب على الامة فيها ان تعد ذاتها للقتال دون ان تباشر به ، والاعداد يكون بالصلاة والزكاة ، بينما تأتي ظروف يجب على الامة ان تندفع فيها للقتال ، وعلى الامة ان تكون منضبطة ، فلا تقاتل الا حين تؤمر به ، ولكن هناك بعض الفئات تطالب بالقتال حين يكون واجبها الاعداد ، بينما تتقاعس عنه حين تؤمر به ، والمشكلة بالنسبة لهؤلاء هي خشية الناس ، ولكن لماذا الخشية من الناس؟ هل بسبب الخوف من الموت ، والموت آت لا ريب فيه؟ أو بسبب التملص من المسؤولية تجاه ما يجري من احداث في الحياة وإلقاء مسئولية الهزائم على القيادة الدينية ، بينما الإنسان هو المسؤول المباشر عما يصيبه من نكبات؟

والواقع : ان عدم فهم الحياة قد يكون هو السبب في التقاعس عن واجباتها ، وقد تناول القرآن في هذا الدرس جانبا من العوامل النفسية للتقاعس عن الجهاد ليقتلع جذورها من القلب البشري ، وليوفر المناخ المناسب للطاعة التامة للقيادة البعيدة عن الازدواجية والتردد والضعف.

١٢٤

بينات من الآيات :

الانضباط صمام الامان :

[٧٧] الحرب بحاجة الى أقصى درجات الاندفاع والفاعلية والجدية ولكن في حدود الخطة السليمة ، وإذا لم تكن الخطة السليمة تقود الحرب ، فان كل الاندفاع والفاعلية والجدية لا تعني شيئا ، لان غلطة استراتيجية واحدة ، قد تقضي على الكثير الكثير من الطاقات في لحظة واحدة.

والخطة السليمة بحاجة الى الانضباط الحديدي من قبل الجيش لقيادة هذا الانضباط الذي يتحدث عنه القرآن هنا بما يخص الحرب ولكنه يشمل أحوال السلم أيضا.

ان هذا لا يخضع لأهواء الناس ، بل لخطة القيادة ، أما ما على الناس فهو الاستعداد الدائم لخوض المعركة ، أذا نودوا إليها.

وهناك بعض الناس يطالبون بالحرب في وقت السلم ولكنهم يتقاعسون عنها حين يدعون إليها ويحذرون الناس خوفا على أنفسهم من الموت ، ويطالبون القيادة آنئذ بتأخير القتال ويحسبون ان التقديم والتأخير خاضع لاهوائهم ، والواقع ان مشكلة هؤلاء نفسية ، وتعود الى تشبثهم بالدنيا وزينتها.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)

يعني كفوا أيديكم عن القتال ، لان موعد القتال لما يحن ، اما الآن فهو موعد الصلاة رمز البناء الذاتي ، والزكاة رمز البناء الاجتماعي.

(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ

١٢٥

خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ)

ان هؤلاء كانوا يطالبون بالتأخير ولو لفترة بسيطة ، وذلك لان الخوف قد ملأ قلوبهم.

(قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)

كيف نتحرر من خوف الموت

؟ [٧٨] التحرر من خوف الموت ، لا يمكن الا إذا سلمنا له وآمنا ، بأنا ملاقوه أنى كنا ، والموت هو الموت سواء في ساحة المعركة ، أو على السرير في المستشفى.

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)

البروج المشيدة هي : البنايات المرتفعة التي تدل على سمو الحضارة ، والإنسان يهم بالصعود عن الأرض اعتقادا منه ان ذلك ينقذه من عوامل الفناء ، والقرآن يقول انه حتى في حالة الصعود الى بروج مشيدة ، فان الموت يلاحقهم إليها ، ويقضي عليهم ، والخوف من الموت قيد على قلب الإنسان من الاقدام في تحمل مسئوليات الحياة ، وهناك قيد آخر هو ابعاد المسؤولية عن الذات والقاؤها على الآخرين.

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ)

يقولونها بلهجة كأنها بعيدة عن دورهم في المسؤولية

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ)

حتى يبعدوا أنفسهم عن دائرة المسؤولية ، وبالمقابل يشوهوا سمعة القيادة ويشككوا في كفاءتها ، وهذه من صفة هذه الفئة ضعيفة الارادة.

١٢٦

(قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً)

لان عقدة الخوف من الموت ، والفرار من المسؤولية لا تجعلهم يفقهون الحديث وما وراءه من حقائق.

ان الخوف أكبر حجاب بين الإنسان والحقائق ، وكثير من الناس يبتعدون عن التوجيه ومراكزه ومصادره خشية ان يفقهوا ويعوا وتلزمهم المسؤولية ، وكثير منهم يكفرون برجال الله من النبيين والصديقين ، هربا من مسئولية طاعتهم.

بين الحسنات والسيئات :

[٧٩] الحسنات والسيئات مصدرهما المباشر هو الله الحكيم العليم ، فلا تقدر الحسنة ولا السيئة لبشر إلا وفق حكمة بالغة ، وهدف محدد ، وما الله بظلام للعبيد.

وهذه الفكرة التي وضعتها الآية السابقة تبين لنا عقلانية الكون ، وانه يسير وفق تدبير رشيد ويدبره رب قدير بحكمة ولهدف.

ويبقى سؤال : اذن لماذا تصيب البعض المصائب ، ويتمتع الآخر بالحسنات حينا؟! ولماذا تصيبنا الحسنات حينا ... والسيئات حينا آخر؟

ويجيب القرآن في هذه الآية عن هذا السؤال قائلا :

أما الحسنات فان الله حين خلق الناس أراد أن يرحمهم لا أن يعذبهم ، وقد وفر لهم كل وسائل الراحة والسعادة والرفاه. وهو لم يطالبنا بثمن مقابل نعمه التي لا تحصى ، ولذلك فان الحسنات من الله ويجب ان نشكره عليها ، أما السيئات فليست من الله بالرغم من انها تأتي من عند الله ، انها من نفس الإنسان فهو

١٢٧

الذي يختار لنفسه العذاب ، فيبدل خلق الله ، ويخالف سنن الحياة وطبيعة الأشياء ، وآنئذ يقرر الله له العذاب ، فيأتي العذاب من عند الله.

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)

وهذه الفكرة تعطينا ايمانا ايجابيا بالحياة ، وانها سعادة ورفاه ، فتطلق مواهب الإنسان في طريق التقدم والرقي.

ويلاحظ الفرق بين كلمتي (من) و (عند) في الآيتين ، لكي يصبح التناسق بين الآيتين واضحا ، إذا فتبرير اللامسئولية ورفض طاعة الرسول والقول بأنها هي سبب المصيبات انه تبرير سخيف.

١٢٨

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣)

١٢٩

طاعة القيادة امتداد لطاعة الله

هدى من الآيات :

حاجة الامة الى الطاعة المبدئية هي أكبر من حاجتها الى اي شيء آخر ، إذ التعاون والتطوير ، والمواجهة مع الأعداء ، وبناء واعداد الجبهة الداخلية و.. و.. ، كل تلك نتيجة مباشرة للطاعة ، وانما تتقدم الأمم بقدر تماسكها واندفاعها ووحدة مسيرتها ، وهي كلها تأتي نتيجة الطاعة.

وهنا يعود القرآن ليذكرنا بضرورة الطاعة في سياق الحديث عن الانضباط في المجتمع المسلم خصوصا في الأزمات. وبينت الآيات :

اولا : ان طاعة الرسول هي طاعة الله لا اختلاف بينهما ولا تناقض ، وان الرسول ليس موكلا بالامة بل قائدا لها.

ثم بينت صورة واقعية عن الطاعة ، متمثلة في سلوك المنافقين الذي يجب أن يتجنبه المؤمنون وهو : التظاهر بالطاعة امام الرسول ، وحبك المؤامرات ضده في

١٣٠

الليالي ، وعلى القيادة الا تهتم بهؤلاء ، بل تبعدهم عن المهام الرسالية ، وتتوكل على الله ، وتتوجه الى الصادقين.

وطاعة الله وطاعة رسول الله واحدة ، إذ ان الرسول انما يجسد تعاليم الله ولو لا طاعة الرسول لأنها بناء التوحيد ، وهذا التماسك في المبادئ الاسلامية ، والتكامل والوحدة فيها لدليل على انها من الله ، إذ ان أي مبدأ بشري لا بد ان تجد فيه تناقضا بين الايدلوجية والتشريع ، وبين بنود الايدلوجية ذاتها ، وقوانين التشريع مع بعضها.

وعاد القرآن الى الحديث عن الصور الواقعية للطاعة فأمر بالطاعة حين تعرض الشخص لظاهرة اجتماعية كالحرب والسلام ، وذلك بأن لا يذيع الاخبار حولها الا بعد مراجعة القيادة الشرعية المتمثلة في الرسول (ص) وفي العلماء الذين يستنبطون الأحكام من القرآن الكريم.

ثم بيّن صعوبة ذلك الا بالتوكل على الله ، إذ انه من دون فضله ورحمته يتبع الناس الشيطان الا قليلا.

بينات من الآيات :

امتداد الطاعة :

[٨٠] ان الرسول (ص) وخلفاءه من الائمة والعلماء ليسوا أصناما يعبدون من دون الله ، بل هم عباد الله ، وطاعتهم المفروضة هي امتداد لطاعة الله ، وفي حدود قيم الله وشرائعه ، ومن لا يطيع الرسول بدافع ايمانه بالله فلا حاجة فيه ، ولا يجب على الرسول ان يفرض عليه الطاعة بأسلوب آخر.

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)

١٣١

لا تنافق :

[٨١] ولان طاعة الرسول ليست بدوافع مادية ، فحرام النفاق مع الرسول والتظاهر بالطاعة له ، ثم التآمر عليه.

(وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ)

اي إذا تركوك وخرجوا من بيتك.

(بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ)

بيّت وأضمر الخلاف معك ، وتآمر على القيادة.

(وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ)

ليحاسبهم به غدا ، وما دام الله يكتب ذلك فليس عليك مسئوليتهم.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)

ان القيادة الرسالية هي قيادة روحية ، يتبعها الملتفون حولها على أساس من القيم التي تمثلها ، ولا يجوز لهذه القيادة ان تجمع المنافقين حولها ، ثم إذا جد الجدّ يتفرقون عنها ، أو يحاولون تحريف مسيرتها.

القيادة رمز الامة :

[٨٢] والقيادة السياسية هي خلاصة النظام السياسي ، والنظام السياسي بدوره هو تجربة ثقافة الامة ، وحضارتها ، ومدى سلامة رؤيتها ، وصحة تشريعاتها ، فاذا تناقضت تركيبة القيادة الواقعية مع شعارات النظام السياسي ، أو مع أفكار

١٣٢

الامة وثقافتها وقيمها و.. و.. إلخ ، فان ذلك يدل على تناقض في التشريع ، أو انحرافات في القيم والثقافة التي تدعي الامة انها تلتزم بها.

فاذا كانت الامة تدعي انها تدافع عن الحرية مثلا. وجاءت قيادتها السياسية على أساس من الدكتاتورية ، أو ما يماثل هذه الديكتاتورية فأي حرية هذه؟!!

وإذا ادعى النظام أنه يلتزم بقيمة التقوى ، وجاء على رأس النظام رجل فاجر ، أو ادعت ثقافة الامة انها ترفع من قيمة العلم وكان الحكام فيها مجموعة من الجهلة الضالين ، فان كلامها هراء ، إذ هل يمكن ان ترفع الامة من قيمة العلم دون ان يصبح العلماء وليس الجهلة قطب ارادتها ومركز قدرتها ، وثقل تجمعاتها؟

هكذا تكون تركيبة القيادة السياسية مثلا حيا لحقيقة الامة ، ونوع حضارتها ، وطبيعة قيمها الحقيقية.

الامة الاسلامية تتبع قيادة تمثل روح الإسلام ، اي الرسول وخلفاءه وأئمة التقوى واليقين واتباعهم لها ليس بهدف الحصول على مصالح عاجلة ، بل من أجل الله وتحقيق قيمه وشرائعه ، وهذا ابسط دليل على طبيعة الإسلام الحقة ، وانه بعيد عن التناقض.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)

وليس فقط في حقل القيادة أو النظام السياسي للامة تظهر تناقضات الأديان والمبادئ وانسجام الإسلام ، بل وأيضا في سائر التشريعات ، ففي الاقتصاد ترى ذات القيم التي تجدها في السياسة من العدالة ، والحرية ، والاستقلال ، وفي

١٣٣

الأخلاق ، والتربية ، والاجتماع. وهي في العبادات تجد ذات القيم الواحدة لا تناقض فيها ولا اختلاف ، مما يدل على ان الذي أوحى بها كان العليم الخبير ، حيث يستحيل ان تجد كتابا جامعا لدستور الحياة بكل ابعادها ، ثم يكون بهذا الانسجام والدقة والتناغم ، فسبحان الله الذي اوحى به.

القيادة مرجع الامة :

[٨٣] ومن آيات صدق الرسالة ، وان كتابها القرآن حق لا ريب فيه هو : قيادة الامة التي تمثل كتابها ، حيث يجب على أبناء الامة ان يطيعوها طاعة شاملة ، سواء في شؤون السلم أو الحرب ، فمثلا لو عرف أحدهم خبرا ، فعليه ان يذهب به الى القيادة ويعرضه عليها قبل نشره لتتخذ الاجراء المناسب ، فقد يكون الخبر اشاعة كاذبة ، وقد يكون وراء الخبر حقيقة يجب على القيادة ان تبادر في اتخاذ الاجراء المناسب قبل نشره .. وهكذا.

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ)

هؤلاء ليسوا من أهل التقوى واليقين ، والا فكيف يذيعون الخبر قبل الاطلاع على حقيقته ، والخبر المقصود هو فيما يرتبط بالشؤون المهمة حيث عبر عنه القرآن ب (امر)

(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)

الاستنباط هو : استخراج حكم الشريعة من خلال النصوص الصحيحة. فهناك في الأمة من أوفى مقدرة لربط القضايا الجزئية بالقيم العامة ، وبالقواعد الكلية التي تدل عليها النصوص. وهو قادر على فهم خلفيات الخبر وحكمه الشرعي.

١٣٤

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً)

حيث ان الله أوضح لكم سبيل اتباع الحق ، وذلك حين أرسل الكتاب ، وعلمه رسوله وأولي الأمر من بعده الذين يستنبطون احكام الدين منه ، وأوجب عليكم الرجوع إليهم ليتبعوا الحق وليس الشيطان.

١٣٥

فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ

____________________

٨٥ [يشفع] : أصل الشفاعة : من الشفع الذي هو صد الوتر.

[كفل] : نصيب.

[مقيتا] : مقتدرا.

٨٦ [بتحية] : التحية السلام.

١٣٦

فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)

____________________

٨٨ [أركسهم] : الإركاس الرّد.

١٣٧

دور الرسول وموقف الأمة

هدى من الآيات :

دور الرسول في الأمة دور القائد المطاع ، والناصح الأمين والمحرض لها بالخير والهدى ، وليس دور الوكيل المسؤول بديلا عن الأمة حتى يتحمل ذنبهم جميعا ، ولا ريب ان دور التحرير دور هام ، وذلك لأنه سوف يعطي لصاحبه أجر من يعمل بالحسنة. وواجبنا تجاه الرسول أن نرد له التحية بأحسن منها ، وهذه سنة الله بين الناس جميعا أن يردوا التحية بأحسن منها.

ومسئوليتنا عموما نابعة من اننا جميعا سنقف يوما للحساب أمام ربنا في يوم لا ريب فيه ، وعلينا أن نتحسس أبدا بذلك اليوم حتى نتحسس بالمسؤولية التامة أمام الله سبحانه وتعالى ، وجاء الحديث حول ذلك بمناسبة الحديث عن الأمن في المجتمع المسلم ، والذين يعكرون صفوه ، وعلينا أن نتبع هدى الله وسنة رسوله في اتخاذ مواقفنا من هؤلاء ، ولا نخضع مواقفنا للهوى ، من هنا فعلينا الا نختلف في مواقفنا من المنافقين الذين يهددون سلامة الأمة ، بل علينا أن نتفق في معاداتهم ، انهم يريدونكم كفارا لتصبحوا مثلهم ، فلا تسبقوهم في حقول الايمان والحضارة ،

١٣٨

وان الموقف الحاسم من المنافقين هو تصفية كيانهم الا بعض فئات منهم هم :

أولا : الذين تربطهم صلة التحالف معكم.

ثانيا : الضعفاء منهم الذين يخشون مقاتلتكم ، ويتخذون موقفا حياديا بينكم وبين قومهم ، ويفضلون السلام معكم.

بيد أن من هؤلاء من يتخذ موقف الحياد السلبي ، فهو يسعى من أجل الفتنة ، ولكنه يريد ان يشعلها بطريقة ذكية تؤمنه من أي ضرر ، فهؤلاء يجب إلحاقهم بسائر المنافقين ، وبالتالي محاربتهم.

بينات من الآيات :

الأدوار التنفيذية للرسول :

[٨٤] الرسول ليس مبلغا لرسالات الله فحسب ، بل ومنفذا لتلك الرسالات بنفسه سواء نفذها الآخرون أم لا ، وهذه الميزة تجعل الناس أكثر ثقة بالرسالات السماوية ، وأسرع استجابة ليس فقط لأنهم يجدون أمامهم تجسيدا حيا ، وعمليا لما يسمعونه من الدعوة ، بل ولأن (عمل) الرسول يصنع (واقعا) في المجتمع ، وان لهذا الواقع أثرا طبيعيا على المجتمع ، ويخلق انعكاسات على الحياة.

فمثلا قيام الرسول في مكة بفك رقاب العبيد بصورة مباشرة ، أو عن طريق إعطاء المال لبعض أصحابه حتى يشتروا العبيد ويعتقوهم ، ان ذلك خلق انعكاسا على المجتمع الجاهلي ، وشكل طبقة اجتماعية قوامها المتحررون من العبودية ، وكان لهذه الطبقة أثرها في الحياة.

وإعلان الرسول القتال ضد الكفار هو بذاته يشكل حقيقة واقعية تخلف أثرها

١٣٩

في تطبيق الدعوة ، ومن هنا أمر الله نبيه بهذا الإعلان :

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

ودور الرسالة هو تثوير الإنسان من أجل تفجير طاقاته ، ومن ثم توجيهها في الصراط المستقيم ، وليس القيام بمسؤوليات الناس كبديل عنهم ، وكذلك دور الرسول فهو ليس مكلفا عن الناس ، انما هو راع لهم ، ومبلغهم رسالة الله ، ومشجعهم على تنفيذ هذه الرسالة.

(لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ)

وهذه الفكرة تنسف الواقع الذي نعيش فيه نحن المسلمين ، حيث نزعم ان وجود الرسول فينا ، وحبنا له ، وانتماءنا اليه ، وان وجود كتاب الله الكريم بيننا ، يكفياننا حضارة وتقدما ، ولا نحتاج بعدهما الى عمل ، انما الرسول محرض للإنسان.

(وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ)

ولكن لا يعني هذا ان الله بعيد عن دعم المؤمنين ، بل ان نصره يأتي وراء عمل الناس أنفسهم.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً)

فالله هو الذي يكف بأس (وقوة) الذين كفروا ، ويجعل بينكم وبين بأسهم حائلا من الرعب يلقيه في قلوبهم ، بسبب قوتكم واستعدادكم للقتال ، ولكن الله لا يفعل ذلك حتما ، وانما (عسى) ان يفعل ذلك عند ما تكون فيكم الصلاحية لذلك ، والله قوي حين ينصر أولياءه ، وأشد قوة من الكفار ، وأقدر على إنزال الهزيمة بهم.

١٤٠