من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

التبرير باب النفاق

وطريق الانحراف

هدى من الآيات :

أسوأ ما في طبقة الخائنين والمختانين أنهم لا يتحملون نتائج أعمالهم ، فيحاولون إلقاء مسئولياتها على الآخرين بطريقة أو بأخرى ، فيقولون مثلا : أن حادثة القتل قد ارتكبها فلان ، أو يقولون بأن السبب في شربنا الخمر تربية الآباء لنا على ذلك ، وأننا تبعا ، لذلك فنحن غير مسئولين عن هذا الذنب بل آباؤنا هم المسؤولون.

وعند تبرئه أنفسهم واتهام الآخرين بالجرائم ، يحاولون تضليل القيادة واقناعها خطأ بأن مرتكبي الحادث الفلاني هم فلان وفلان.

ولكن هذه المحاولة تبوء بالفشل ، وتخلف أثرا سلبيا على أنفسهم ، إذ تجعلهم يتصورون أنهم غير مسئولين تصورا أشد ، وبالتالي لا تتركهم يعودون الى رشدهم.

والرسول لا يضلل لأن الله انزل عليه الكتاب ، وفيه بصائر توضح المواقف

١٨١

التي لا بد من اتخاذها من مختلف الأشخاص ، كما أن فيه الحكمة والأسلوب الصحيح لمعاملة الناس حسب طبقاتهم وأعمالهم ، وفيه القدرة على كشف الحقائق وهذا هو الفضل الكبير.

وبعض هؤلاء يحاول التزلف الى الرسول ومناجاته لكي يبرئ ساحته أمام الناس ، ويتظاهر بمظهر المؤمن المقرب عند الله وعند رسوله ، فيأتي ويناجي الرسول وهو لا يملك شيئا يقوله ، بينما المناجاة يجب أن يكون لها هدف سام ، وبعضهم ينابذ الرسول العداء علنا ، وهو بذلك يختار الكفر على الايمان والله يعامله على هذا الأساس.

بينات من الآيات :

مسئولية الإنسان :

(١١١) ما دام الإنسان حرا في تصرفاته فانه يتحمل مسئولية أعماله ، وليس من الصحيح أن يلقي بمسؤولية عمله على الآخرين باسم أو آخر ، فليست التربية ، وليس المجتمع ، وليست السلطة ، وليس الأصدقاء و.. و.. هم المسؤولون عن ارتكاب الفرد للخطيئة أو الإثم بقدر ما هو المسؤول.

(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ)

أي يكسبه ويكون ضررا على نفسه.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)

ولذلك فانه لا يحمل المسؤولية الا على من ارتكبها.

١٨٢

[١١٢] وحين يفعل الفرد خطيئة كبيرة أو إثما ، ثم يحاول القاءها على الآخرين ويدعي انهم المسؤولون عنها ، أو حتى يدعي ـ كذبا ـ انهم هم الفاعلون مباشرة لها فان ذلك يعتبر إثما جديدا ، يضاف الى إثمه السابق ، فيصبح إثما مضاعفا ومسئولية مزدوجة.

(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)

وعودة مثل هذا الشخص الى الطريق الصحيح أصعب من عودة من يرتكب الذنب ويعترف به ، لأن هذا يزكي نفسه ويبعدها عن دائرة المسؤولية ، فكيف يمكنه إصلاح ذاته؟!

وربما الخطيئة هي : الإثم الكبير ، ومنه الذنب الذي يعود بضرره على الآخرين ، بينما الإثم مطلق الذنب والبهتان وادعاء قيام الناس بالذنب وهم براء منه.

الاجرام المضلل والقيادة المبدئية :

[١١٣] المجرمون والخائنون للناس المختانون لأنفسهم يحاولون دائما تضليل القيادة ، وذلك باستمالتها بإغراءات مختلفة مثل : المساهمة في الأرباح التي يحصلون عليها باغتصاب حقوق الناس ، أو دعم القيادة في مواجهة أعدائها في الداخل والخارج ، أو تخويفها بالانضمام الى الجبهات المناهضة لها ... وهكذا ، في الواقع أن خطر وقوع القيادة في شرك هؤلاء خطر عظيم.

ومن الصعب أن تصمد القيادة أمام موجات الضغوط ، والاغراءات القادمة

١٨٣

من طرف المجرمين ، إلا إذا كانت القيادة مبدئية تتمسك بالرسالة ، وينقذها الله في لحظة الضغوط ببعض الانتصارات التي تجعلها مطمئنة الى قوتها في مواجهة الضغوط ، والرسالة هي فضل الله ، والانتصارات وركائز القوة هي رحمة الله.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ)

والواقع أن تلك الطائفة قد خططت فعلا لتضليل القيادة ، ولكنهم حين وجدوا امامهم طود الايمان الراسخ تراجعوا ولم يحركوا ساكنا وكأنهم لم يهموا بذلك أبدا ، وهذا من بلاغة القرآن حيث بيّن أنهم لم يهموا بالرغم من ان النية كانت موجودة لديهم ، ولكنهم حين لم يجرءوا بتنفيذها فكأنهم لم يهموا ..

(وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)

ذلك لأن الإنسان إذا أراد أن يضلل الناس تترسخ عنده الضلالة أكثر فأكثر ، وكذلك كل صفات الإنسان العقلية والنفسية ، انك حيث تريد ان تعلم أحدا شيئا يزداد علمك ، وإذا أردت أن تهدي أحدا تزداد هدى.

(وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ)

بالرغم من تهديدهم لك بأنهم سوف ينضمون الى الجبهات المعادية لو لم تسكت عنهم ، ذلك لأنهم عناصر انتهازية ، وهم لا ينفعون جبهتك أبدا.

وأنك يا رسول الله تمثل قيادة رسالية ذات دستور ثابت متمثل في (الكتاب) وذات رؤية استراتيجية ذكية ناجحة متمثلة في (الحكمة) وهذا هو فضل الله عليك. ومن جهة أخرى إنك تملك يا رسول الله العلم وهو قوة هائلة لدحر العدو

١٨٤

وهو رحمة الله عليك فكيف يضرونك؟!

(وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)

أهداف المنافقين :

[١١٤] ومن أساليب هؤلاء الماكرة التزلف الى رسول الله لهدفين :

الاول : محاولة التأثير فيه حسب المستطاع.

الثاني : إظهار القوة لأنفسهم أمام الناس ، والتظاهر بالتقوى ، حتى يمكنهم خيانة الناس والاستمرار في المعاصي بعيدا عن روع الجماهير.

ولكن على الرسول أن يبعدهم عن نفسه. وان يصغي الى نجوى من يأمره بالخير ، وهكذا على كل قيادة رسالية أن تبعد عن نفسها البطانات الفاسدة ، وتتخذ مستشارين صالحين يأمرون بالخير.

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)

لعل الصدقة هي العطاء المالي لوجه الله ، والمعروف هو العمل الصالح ، والإصلاح هو ازالة التوتر بين الناس ، والمستشار المؤمن هو الذي يأمر بالعطاء في مواقعة الصحيحة ، فهو يفتش عن المحرومين ويأمر بالعطاء لهم ، ولا يأمر بالعطاء للمستكبرين الطغاة أو لأصدقائه وأقاربه!

١٨٥

وهو يأمر أيضا بالأعمال الحسنة المفيدة للمجتمع ، ويأمر باتباع الحق والهدى ، وهو يأمر بالإصلاح ولا يذكي الأحقاد ، أو ينمي في القيادات الحساسيات التافهة ، وهذا المستشار المؤمن يهدف بعمله مرضاة الله ، لا مرضاة سيده وأقاربه وأهوائه ، وجزاء عمله سيراه في الدنيا والآخرة.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)

معصية الرسول كفر بالله :

[١١٥] والمجرمون الذين يعارضون رسول الله (ص) لأنه أمرهم بالتقوى ولم يرضخ لضغوطهم ، لا بد أن يعرفوا أنهم يبارزون الله ، وانهم سوف ينتهي بهم الأمر الى الكفر والى جهنم.

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ)

أي يتردد عليه وينشق عن قيادته.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)

ويقف في الجبهة المعادية لجبهة الرسول والمؤمنين ، فانه يحكم على نفسه بالكفر ، والله يكرس عليه هذا الحكم الذي رضيه لنفسه بما فيه من مصير أسود.

(نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً)

ان هذا الإنذار يجعل المؤمن يفكر مرتين قبل أن يقدم على مقاومة القيادة ، بسبب تصلب القيادة في تطبيق القانون عليه ، وعدم استجابتها لضغوط أهل

١٨٦

المعاصي في الامة ، وبذلك تكون القيادة قوية وقادرة على تطبيق القانون على الجميع.

لقد ثبت عند أمير المؤمنين «علي بن أبي طالب» أن واحدا من قواد جيشه شرب الخمر ، فاستقدمه وأجرى عليه الحد ، ولم يقبل توسله أو شفاعة أحد فيه فقام الرجل وقال :

يا أمير المؤمنين البقاء معك «ذل» ومفارقتك «كفر» فأجابه الامام قائلا : (كلا .. ان البقاء معي عز) ذلك أن تطبيق نظام السماء بالعدل هو العز ، ولقد كان بإمكان هذا أن ينسحب الى جبهة العدو ، ولكنه خشي أن تنطبق عليه هذه الآية فيصبح كافرا.

١٨٧

إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠)

____________________

١١٧ [مريدا] : المارد والمتمرد بمعنى العاتي والخارج عن الطاعة.

١١٩ [فليبتكن] : التبتيك التشقيق ، والبتك القطع.

١٨٨

أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢)

____________________

١٢١ [محيصا] : مخلصا ومهربا ، والمحيص من حاص ، بمعنى عدل وانحرف.

١٨٩

الشرك بين الارادة ، والهوى

هدى من الآيات :

استمرارا للحديث القرآني عن طبقة الخائنين والمختانين أنفسهم تبين هذه الآيات جانبا من قضية الشرك بالله ، ذلك الجانب الذي يعتبر النهاية الحتمية للتمادي في معصية الله ، واتباع الهوى من دون الله.

ان الخيانة للناس أو للنفس تنتهي بنوع من الشرك ، والشرك لا يغفره الله أبدا لأنه ضلال بعيد.

وذلك النوع هو عبادة الأصنام والأجنة باعتبارها آلهة صغارا يشفعون عند الله سبحانه ، والواقع أن عبادة هؤلاء ليس للصنم بل رمز للشيطان المريد الذي يضل هؤلاء ، وقد أقسم قديما على تضليل البشر.

وان تقديم الذبائح للأصنام بتلك الصورة البشعة إنما هو بأمر الشيطان الذي يستخدم في تضليلهم سلاح الوعود الكاذبة ، والأماني الباطلة ، فهو يعدهم بالخصب والرخاء ، ويمنيهم بألا يؤخذوا بجرائم أعمالهم.

وبعكس ما يعدهم الشيطان فان هؤلاء سوف يلاقون جزاء أعمالهم في

١٩٠

جهنم ، وسوف لن تنفعهم أماني الشيطان.

والذين يعملون الصالحات وهم مؤمنون سيد خلون الجنة.

ان الشرك بالله هو نتيجة اتباع الهوى ، وإنما يشرك بالله من يشرك حين يستمر في معاصي الله ، ويتهرب من مسئوليات طاعته.

بينات من الآيات :

الشرك بالله وحدود المغفرة

[١١٦] بالرغم من أن رحمة الله واسعة ومغفرته كبيرة تشمل كل الذنوب إلا أنها لا تسع الشرك بالله لأنه ذنب عظيم ، وضلالة بعيدة لا يمكن إصلاحها أو التغاضي عنها.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً).

لأنه لم يعرف الله حتى قرنه ببعض خلقه ، ولم يعرف الخلق حتى قرنه بالله سبحانه ، وليس هناك شيء أبعد من شيء في طبيعته وصفاته وأسمائه من الخالق عن المخلوق ، فالذي يخلط بينهما لم يعرف أيا منهما.

والشرك انحراف رئيسي لا يصلح معه عمل وهو أشبه ما يكون بالسير نحو الشرق للوصول الى هدف في الغرب حيث لا يمكن تصحيح هذه المسيرة ، بل علينا تبديلها تماما ، ولذلك لا تسع مغفرة الله جريمة الشرك رغم أنها تسع كل ذنب آخر.

ولأنه انحراف رئيسي وسائر انحرافات البشر متفرعة عنه ، بل ليس هناك انحراف إلا ويحمل في جذوره صورة مصغّرة من الشرك بالله.

فالتكبر على الناس ، والتعالي عليهم ، والايمان بالعنصرية والطبقية و. و. نوع

١٩١

مصغر من الشرك حيث لا يتكبر الشخص إلا إذا وضع نفسه في صف الإله ، ونسي انه ليس سوى مخلوق من خلق الله ، ولا ريب ان التكبر بدوره جذر لآلاف الجرائم. إذ أن الشخص الذي يتعالى على الناس لا يتورع عن القيام بأية جريمة ممكنة بحقهم ، والخضوع لبعض الناس ، واعتبار كلمتهم هي الحق الذي لا ريب فيه ، واتباع سيرتهم اتباعا مطلقا ، وبالتالي العبودية لهم نوع من الشرك بالله ، حيث يضع الخاضع سيده في صف الإله ، وينسى أنه ليس سوى بشر ضعيف ، وعبودية الآخرين جذر لآلاف الجرائم أيضا ، وهكذا سائر المعاصي الكبيرة والصغيرة إن هي إلا صور مصغرة عن الشرك بالله. تلك الضلالة البعيدة التي تجسد كل انحرافات البشر.

منشأ الشرك

[١١٧] والشرك بالله يبتدأ بفكرة القوى الغيبية الخارقة التي تسمى بالأرواح وتنقسم الى :

الملائكة وهي القوى الخيرة ، والأجنة وهي القوى الشريرة.

فالملائكة كانت تعبد في الجاهلية باعتبارها بنات الله سبحانه ، بينما كان الجن يعبد باعتباره أندادا لله ومنافسا لسلطته على الكون.

(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً)

والمريد أي المتمرد دائما عن إطاعة أوامر سيده والاعتقاد بالأرواح (الشريرة منها والخيرة) والاستعانة بها ، وجعل رموز حجرية لها في شكل أصنام تعبد ، وتقدّم إليها القرابين. كل تلك كانت أغلالا على طاقات البشر ، وقيودا تعطل انطلاقته في الحياة.

١٩٢

ان الجاهلي الذي كان يتصور ان (هبل) هو الذي يشفيه من مرضه ، لا يطلق طاقاته من أجل البحث عن الدواء ، كما انه لم يكن يسعى من أجل تنمية ماله أو أرضه أو ماشيته أو تجارته سعيا عقلانيا لأنه ما دام يعتقد أن بضع ذبائح تهدى الى اللات تكفي لفعل المعجزة في حياته الاقتصادية.

وكان الجاهليون يعطلون عقولهم حين يتصورون ان الجنّة (الشياطين) توحي إليهم ، وكان أحدهم يجلس في غرفة مظلمة ، ويقوم بعملية إيحاء ذاتي مستمر حتى يخيل اليه أن هاتفا غيبيا يحاوره ، وإنما كان يحاور ذاته ، ويجتر خيالاته وظنونه ، وبالتالي كان كلامه لا يعدو تكرارا لا واعيا لما انطبع بقلبه من أفكار وانعكاسات ، وبالطبع كان كلامه الواعي وغير الواعي مجرد أباطيل وأوهام تقف حاجزا أمام انطلاقة فكره ، وتحرك عقله.

أهداف الشيطان

[١١٨] وقصة الملائكة تختلف عن قصة الشياطين فبينما الملائكة عباد مطيعون لله ، لا يشفعون إلا لمن ارتضى ، وبالتالي التقرب إليهم لا ينفع شيئا لأن الكلمة الحاسمة النهائية إنما هي لله سبحانه ، أما الشياطين فهم مطرودون من رحمة الله وملعونون ، ولكنهم اليوم في فسحة من المهلة ، ولا يعني قيامهم بإضلال البشر أنهم قادرون على مقاومة هيمنة الله كلا .. بل يعني أن الله أمدهم بفترة من الوقت لكي يمتحن عباده بهم.

فالشيطان وهو إبليس.

(لَعَنَهُ اللهُ)

(وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً)

ان الشيطان وهو يمثل قوى الشر والخطيئة ، ويدغدغ رغبات السوء في البشر ،

١٩٣

ويمد في جهلة وضلالته. انه جاد في إضلال الإنسان ، وقد خطط للسيطرة على بعض أبناء آدم.

ولذلك قال : (نصيبا مفروضا) وكأنه تقاسم مع الله البشر فأخذ طائفة معينة وترك طائفة لله سبحانه.

الشيطان وفساد الحياة

[١١٩] الشيطان يستخدم سلاح الأماني في إضلال البشر ، وعلينا كبشر أن نتحذر من هذه الأماني حتى لا يعمل سلاح الشيطان فينا عمله الخطير.

الشيطان يمني الإنسان بطول العمر ، وبالخلود في الدنيا ويمنّيه بالملك الدائم والثروة الطائلة ، وهكذا يصور الشيطان للإنسان ان الوصول الى أهدافه ممكن عن طريق ملتو.

ويأمر الشيطان الإنسان فيما يأمره من الضلالة ليبتّك آذان الأنعام ، ويغير خلق الله.

إن ذلك يمثل ضلالة الشيطان التي يأمر بها الإنسان ، إنه يمثل دعوة الشيطان للإنسان بأن ينحرف عن طريق الاستفادة من الطبيعة الى طريق إفساد الطبيعة.

ان الله خلق الأنعام وخلق كل عضو فيها نافعا لها ومؤديا وظيفة في جسدها ، وبالتالي جعل كل عضو من أعضائها يؤدي بصورة غير مباشرة خدمة للإنسان ، ولكن الشيطان يضل البشر ويجعله يفسد أعضاء الحيوان ، وبالتالي يسقط منافعه المرتقبة له.

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ)

١٩٤

ولذلك فمن يتبع الشيطان فانه يخسر منافع الحياة لأن الشيطان يبعده أبدا عن الطرق السليمة للاستفادة من الحياة.

(وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً).

تسويف الشيطان

[١٢٠] ماذا يقول الشيطان للإنسان؟

يقول غدا وبعد غد سوف تحصل على كذا وكذا ... فاذا بلغ غده يعده بما بعده حتى يبلغ أجله ولا يصل الى شيء مما وعده الشيطان.

(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً)

ما هي النتيجة؟

[١٢١] اما في الدنيا فسوف يصابون بنتائج غرورهم ،

وأما في الآخرة فجزاؤهم فيها جهنم لا يستطيعون فيها فرارا.

(أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً).

أي لا يزحزحون عنها قيد أنملة ، والكلمة من : حاص يحيص أي تحرك في مكانه.

[١٢٢] أما المؤمنون الذين لم يخلطوا بايمانهم شركا ، وأخلصوا العبادة لله الحق ، فان جزاءهم الجنة.

وهذا وعد من الله ولكنه وعد حق. بعكس وعود الشيطان الكاذبة لأن الله أجل وأعظم من الكذب ، ولا يدعوه الى الكذب حاجة أو جهل سبحانه.

١٩٥

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

ذلك هو منتهى تطلع الإنسان أن يسكن جنة تتوفر فيها حاجاته الجسدية ، والمتع النفسية ، ومن أبرزها الأنهار التي تضفي جمالا على الجنة ، وأن يكون مطمئنا الى مستقبله ، وأنه خالد لا يزعجه موت أو طرد عن النعيم المقيم فيه.

(وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً)

١٩٦

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)

____________________

١٢٣ [أماني] : جمع أمنية وهي تقدير الأمن في النفس على جهة الاستمتاع به وأصله التقدير.

١٢٤ [نقيرا] : هي النكتة الصغيرة المنخفضة في ظهر النواة التي منها ينبت.

١٢٥ [خليلا] : الخليل مشتق من الخلة التي هي المحبة أو من الخلة التي هي الحاجة وإنما استعمل بمعنى الصداقة لأن كلّ واحد من المتصادقين يسد خلل.

صاحبه وقيل لأن كل واحد منهما يطلع صاحبه على اسراره فكأنه في خلل قلبه.

١٩٧

إبراهيم قدوتنا في الالتزام

هدى من الآيات :

هناك قاعدتان نفسيتان للشرك بالله.

الأولى : اللامسؤولية.

الثانية الجهل بالله.

بالنسبة للقاعدة الأولى : فان من الأسباب التي تدعو البشر الى الشرك بالله ، والايمان بالإناث من عباده ، وبالشيطان المريد إنما هو محاولة التخلص من ثقل المسؤولية في الحياة.

ذلك ان البشر الذي يهوى الفردية المطلقة لنفسه يريد أن يبرر بطريقة أو بأخرى أعماله القبيحة ، فيتوسل بفكرة تعدد الآلهة حتى يطمئن نفسه بالخلاص من عقاب الله عن طريق التزلف الى إله آخر.

ولقد رأينا كيف ان الشيطان يمد أولياءه في هذا الغي عن طريق إعطاء

١٩٨

الأماني الكاذبة التي تخدع الإنسان ، وتعده بالجنة بدون عمل.

وفي هذه الآيات ينسف القرآن هذه القاعدة النفسية ، ويبين أنّ الأماني لا تكون مقبولة أبدا عند الله.

وإن المسؤولية موجودة اعترف بها البشر أو أنكرها ، وأنّ من يعمل سوءا أيا كان فله جزاؤه العادل. كما أنّ من يعمل الصالحات يجزى عليها من دون نقيصة ، وأنّ المقياس عند الله هو التسليم المطلق له لا التمرد عليه بحجة التحرر ، أما البرنامج العملي للإنسان فهو طريق إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا ، بعد أن أسلم وجهه لله.

وفي الآية الاخيرة ذكر سبحانه ان له ما في السموات والأرض ، وبذلك نفى القاعدة الثانية للشرك ، وهي جهل الإنسان بعظمة الله ، بواسع قدرته ، وبأنه لا يقارن بخلقه.

بينات من الآيات :

الأماني وواقع المسؤولية :

[١٢٣] هل تحصل على مليون دينار إذا حلمت بذلك أو تمنيتها؟ وهل تبني مدينة كبيرة بمجرد التخيل بذلك والرغبة فيها؟ كلا ..

فكيف يريد البشر أن يحصل على الجنة ، وهي أغلى وأعظم من مليون دينار ، ومن مدينة كبيرة بمجرد الأمنية.

إن مثل هذه الأمنية مثل شيخ كبير فقد ابنه العزيز عليه في حادثة مفاجئة ، ولهول الفاجعة لم يستطع أن يصدق بها ، فيمني نفسه بحياة ابنه في محاولة لتخفيف الألم عنه.

١٩٩

وبالرغم من أنه يعلم بموت ابنه ، ولكنه يتهرب من عقله ، ويستريح الى ظل خياله الوارف. كذلك الذين يتهربون من مسئوليات أعمالهم بالأماني.

ان نفوسهم صغيرة ، وأن عزائمهم ضعيفة ومتهاوية ، ولا يقدرون على تحمل المسؤولية فيتهربون الى ظل الخيال ، ويمنون أنفسهم بشتى الأماني ، ومنها مثلا : ان المسيح سيفدينا بنفسه ، أو ان هبل ينقذنا من عذاب الرب ، وهكذا .. أما القرآن فيجعل الإنسان وجها لوجه أمام مسئولية في الحياة ، ويقول له :

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ)

التي تزعمون بها التخلص من المسؤولية عن طريق التوسل بالأصنام.

(وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ)

الذين يزعمون ان المسيح سيفديهم من ذنوبهم.

(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)

فلا يدفع أحد عنه عذاب الله لأنه لا أحد قادر على مواجهة سلطان الله في الكون.

تخزين الأعمال

[١٢٤] وفي المقابل سيجزي الصالح بقدر أعماله. من دون أية نقيصة سواء كان ذكرا أو أنثى ولكن بشرط واحد هو أن يكون عمل الصالحات من منطلق الايمان بالله. إذ من دون هذا الايمان فان الصالحات ستكون زبدا طافحا على السيل سرعان ما تنكشف حقيقته.

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا

٢٠٠