من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

تأثير الولاء على قيم الرسالات

هدى من الآيات :

جدد القرآن الكريم في نهاية هذه السلسلة من الدروس تنديده بتوّلي الكفار ، محذرا ان من يتولى الكفار سيكون مثلهم ، حتى ولو كان منحدرا من سلسلة مؤمنة كبني إسرائيل.

فهذا داود ـ النبي الملك ، وهذا عيسى الزاهد ، كلاهما يلعنان طائفة من بني إسرائيل. علما بأن داود وعيسى كانا من بني إسرائيل أيضا ، ولكن اللعنة على بني إسرائيل انما كانت بسبب عصيانهم واعتدائهم ...

لقد ماتت في مجتمعهم ، قيم الرسالة فلم يعد أحد يهتم بها أو يدافع عنها ، ولذلك ضاعت وحدتهم الفكرية وتشرذم مجتمعهم.

فأصبح فريق منهم يتولى الكفار بكل صراحة ، ويجر الى نفسه سخط الله العظيم.

٤٤١

وإذا كانت قيم الرسالة حية في قلوبهم ، إذا لم يزدوج ولاؤهم ، ولم يكونوا يخونوا مجتمعهم ولكن نفوسهم خوت من الايمان وعملوا بالفسوق والعصيان.

لقد جاء هذا الدرس منسجما مع الدروس السابقة التي كانت تؤكد على اهمية الولاء للمجتمع المسلم والحزب الله الواحد.

بينات من الآيات :

لعنة بني إسرائيل :

[٧٨] اللعنة لا تلحق البشر بسبب طينته ، كما ان الرحمة لا تصيبه بهذا السبب ، بل كل ما يصيب الإنسان فهو بسبب عمله ... وبنو إسرائيل كان فيهم مسلمون ، وكان فيهم كفار ـ طردهم أنبياء بني إسرائيل ـ ويمثل القرآن بمثلين من أنبياء بني إسرائيل داود (ع) وهو ملك وحاكم ـ والمفروض أن يأخذ الملك رعاياه بالسياسة واللين ، خصوصا وان داود كان صاحب الزبور ، ويدعو أبدا الى الرحمة والصلاح ـ وبعد داود لعنهم عيسى عليه السلام ، بالرغم من أن دعوته كانت الى السلام والرحمة ، وكان سبب طردهما الكفار بني إسرائيل هو : ان الكفار منهم كانوا يعصون الله ويعتدون على الناس.

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).

عوامل انهيار المجتمع :

[٧٩] وانهيار المجتمع ، يبدأ بعدم التزام كل فرد بواجبه ، وبالتالي عصيان

٤٤٢

الله فيما يخص نفسه (ترك الصلاة ـ الكذب) ثم يتطور الى الاعتداء على حقوق الآخرين ، ثم يتطور الى اللامبالاة بالقيم ، وينتهي بتشرذم المجتمع وتعدد الولاءات فيه. خصوصا الولاءات الأجنبية.

(كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ)

كان لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر ، مما يدل على انهم لم يعودوا يحترمون القيم حتى على صعيد الحياة الاجتماعية.

(لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)

ان ترك النهي عن المنكر يعجل في انهيار الامة.

[٨٠] وأدى عدم الاهتمام بالقيم الى اهتمام كل فرد بمصالحه وشهواته التي وجدها عند غير قومه ، فباع نفسه لهم ، وخان قومه .. لعدم وجود رادع من ضمير أو قيمة من دين ، وكان يجد في أفكار الأجانب ما يملأ بها فراغة الفكري ، لذلك كان ينتمي إليهم.

(تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ)

[٨١] ان كل ذلك الانهيار الذي حصل في مجتمع بني إسرائيل كان بسبب عدم الايمان إذ أن الايمان هو المحور السليم لربط الناس ببعضهم.

(وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ)

أي غير مؤمنين حقا ، ولذلك تشرذم مجتمعهم وأصبح مجتمعا ذيليا ...

٤٤٣

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)

٤٤٤

المسلمون بين

عداوة اليهود ومودة النصارى

هدى من الآيات :

اليهود تطرفوا في المحافظة على أفكارهم وتقاليدهم ، فاستكبروا عن الحق ، وعاندوا صاحب الرسالة ، ولم تزدهم الرسالة الجديدة الا جحودا وإنكارا. اما النصارى : فقد انحرفوا عن الحق بطريقة مغايرة حيث انهم فقدوا مقياس الحق والباطل فآمنوا بكل الأفكار التي وجدوا عليها صبغة دينية ، وبالرغم من أن هذا الانفتاح الواسع الذي جرهم الى الضلالة ، فأنه من الممكن ان يصبح وسيلة للهداية الى الحق .. حيث انهم يستقبلون الأفكار الجديدة بصدر رحب ، ويستعدون للايمان بها فور سماعها.

من هنا نجد عند النصارى استقبالا يكاد يوازي في المقدار عناد اليهود ، ولذلك فاليهود هم أشد الناس عداوة للذين امنوا ، بينما النصارى أقربهم مودة ، اما المشركون فهم كاليهود في استكبارهم وعنادهم ، وبالتالي عداوتهم للرساليين الجدد.

٤٤٥

والانفتاح عند النصارى ـ وبالذات عند علمائهم الأبرار ـ ولعدم الاستكبار عن الحق .. تراهم إذا سمعوا ايات الله الجديدة فاضت أعينهم بالدموع للتأثير الكبير الذي تخلفه آيات القرآن في أنفسهم.

ان بعض قساوة النصارى لا يستهدفون (كاحبار اليهود) الذهب والفضة ، بل ان منتهى تطلعهم تزكية الذات وإصلاح النفس ، لذلك حين يجدون وسيلة الى ذلك يتسارعون اليه.

بينات من الآيات :

أشد الناس عداوة وأقربهم مودة :

[٨٢] (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)

اما اليهود فلأنهم تركوا الحق جانبا ، وتمحوروا حول ذواتهم ، فألهوا عنصر بني إسرائيل واعتبروه عنصرا مقدسا يدور معه الحق أنى دار ، وليس العكس ، ولذلك فهم لا يقيمون أنفسهم بمقياس الحق ، بل يقيمون الأفكار بمقياس ذواتهم ، لذلك فهم لا يمكن إلا ان يعادوا الذين آمنوا بالحق.

وأما المشركون ، فهم بدورهم تركوا الحق ، واتبعوا الهوى فعبدوا الثروة ، والسلطة ، وكل ما يرمز الى الثروة أو السلطة.

هؤلاء أيضا انحرفوا عن الحق ، عن سابق تصميم وبإصرار ، فهم أيضا يعادون المؤمنين.

(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ

٤٤٦

قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)

هؤلاء كانوا يفتشون عن الحق ولكنهم لا يجدونه ... لذلك تجدهم لا يستكبرون على الحق إذا سمعوه وتوفرت لديهم فرصة الهداية.

[٨٣] (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ، تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ، مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ)

ان تأثير الحق في النفوس الطيبة شديد بحيث يحرك كل المشاعر الخيرة فيها ، فتلتهب النفس إيمانا وشوقا ، وأملا ، وخشية ، وتتفجر العيون دموعا وبريقا ، وروعة وجمالا ، اما الألسن فهي الاخرى لا تستطيع ان تخفي المشاعر الجياشة.

(يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ)

انهم يخشون ان يفوتهم قطار المؤمنين لذلك يسارعون إلى الايمان ، ويدعون الله بان يحسبهم من المؤمنين.

[٨٤] والسبب الذي يدعوهم الى الأيمان انهم كانوا يبحثون سلفا عن الحق والصلاح. وان هدفهم في الحياة لم يكن تأليه ذواتهم ، والبحث عن العلو في الأرض ، والفساد ، (كما كان اليهود) كما لم يكن هدفهم الوصول الى شهواتهم العاجلة بالثروة والسلطة ، إنما كان هدفهم إصلاح أنفسهم وإرضاء ربهم ، فنياتهم كانت طيبة وقلوبهم نظيفة.

(وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ)

انهم يهدفون الصلاح ويعرفون أن الوسيلة الى ذلك هو الايمان بالله وبالحق لذلك فهم يسارعون الى الوسيلة التي تحقق هدفهم.

٤٤٧

[٨٥] ووفى الله بما وعدهم فجزاهم بايمانهم الذي عبروا عنه بالقول الصادق جنات يخلدون فيها.

(فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها ، وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ)

[٨٦] اما أولئك اليهود ، والمشركون فأنهم كفروا بسبب عبادة ذواتهم ، واتباع شهواتهم ثم كذبوا بالحق نتيجة لكفرهم ، لذلك كان جزاؤهم جهنم.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)

٤٤٨

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)

____________________

٨٩ [باللغو في ايمانكم] : لغو اليمين هو الحلف على وجه الغلط من غير قصد مثل قول القائل لا والله.

[عقدتم] : وثّقتم بالقصد والنية.

٤٤٩

ابدأ بنفسك يصلح مجتمعك

هدى من الآيات :

في هذه المجموعة من الآيات نرى تبيانا لأحكام الإسلام في السلوك الشخصي ومدى علاقته بالسلوك الاجتماعي.

فالخمر ـ مثلا ـ ليس شرابا يتناوله الشخص باختياره ، بل هي ـ في الواقع ـ ممارسة اجتماعية إذ تسبب الإضرار بالمجتمع ، واعتداء الناس على بعضهم ، وكذلك الميسر. ان هذه العلاقة الوثيقة بين السلوك الشخصي والمجتمع تفرض على الإنسان مزيدا من الانضباط فيما يتعلق بحياته الشخصية ، بيد أنّ المحرمات ليست هي الأصل في سلوك الإنسان كما تزعم الشعوب المتخلفة التي تحسب كل شيء حراما الا بعض ما يتلي عليهم ، وينص على حليته ، بل بالعكس ، يرغب الإسلام في ممارسة الحياة بحرية وانطلاق ، حتى يثبت بالدليل القاطع ان الله حرم هذا الشيء المعين.

وهذه الفكرة فكرة الحلية العامة حتى يثبت العكس ـ هي مجمل ما توحي

٤٥٠

اليه هذه الدروس التي سوف نشير إليها.

بينات من الآيات :

تحريم الطيبات

[٨٧] جاء في حديث

ان الله يحب ان يؤخذ برخصة كما يؤخذ بعزائمه

انّ هذا الحديث المأثور ليدل دلالة حاسمة على ان المبالغة في تحريم الطيبات التي ولع بها بعض المنتسبين الى الدين انما هي من عمل الشيطان إذ انها تسبب :

اولا : في التشريع الحرام عند الله : وهو نسبة حكم الى الشريعة ، ما انزل الله بها من سلطان!

ثانيا : تسبب في ابتعاد فريق من الناس عن الدين ، لأنهم يرون تناقضا بينه وبين فطرتهم ، التي تدعوهم الى التنعم ، بما وفره الله للإنسان من طيبات.

وقد كانت المسيحية المنحرفة هي السبب في نشوء التيار المناهض للدين في أوروبا مع بداية التقدم العلمي ، لأن المسيحية المنحرفة كانت تحرم طلب العلم وتنسب ذلك الى الدين ، وطائفة من علماء الدين المسلمين ساعدوا من حيث يعلمون أو لا يعلمون هذا التيار الغربي على النفوذ في البلاد الاسلامية ، لهذا السبب بالذات.

من هنا حرم القرآن وبكل إصرار تحريم ما أحل الله. سواء كان التحريم

٤٥١

قوليا أو عمليا وقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ)

بيد ان الاستفادة من الطيبات ينبغي ان تكون في حدود الحقوق الواجبة. فهناك حقوق للجسد يجب الوقوف عندها وعدم تجاوزها في الاستفادة من الطيبات ، مثلا الإسراف في الاكل نوع من الاعتداء على حق الجسد في ان يبقى سالما.

كما أنّ هناك حقوقا للناس ، تجب رعايتها عند ما يستفيد المرء من الطيبات ، من هنا أكد القرآن على الحقوق في سياق حديثه عن الطيبات وقال :

(وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)

[٨٨] والاستفادة من الطيبات. كل الطيبات يجب الا يتحدد الا بحدود الشريعة التي جاءت لمصلحة الإنسان كفرد وكمجتمع ، وهذا هو التقوى.

(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)

كفارة العهد واليمين :

[٨٩] وهناك حد آخر للاستفادة من الطيبات ، هو حد الالتزام الشخصي بعدم الاستفادة من واحدة من الطيبات لسبب أواخر ، وهذا يسمى باليمين.

فلك ان تحلف ألا تستفيد مثلا من نعمة الفواكه ، وذلك لمصلحة الفقراء والمساكين ولكن لا يعني ذلك ان تحرم على نفسك كل شيء ... ولمجرد التقشف والتزهد ومن دون مصلحة أو رجحان أو سبب معقول ، آنئذ يحرم عليك شرعا ان

٤٥٢

تعود الى ذلك الشيء. لأنه يعني التنازل عن عهدك ، والتنازل بالتالي عن أرادتك وعن نفسك بذاتك.

بيد ان هناك مشكلة هي ان بعض الناس ، يستعجلون الحلف بالله ، وهم لا يقصدون الالتزام الحقيقي والارادة الثابتة.

من هنا بدأ القرآن حديثه عن حل هذه المشكلة ثم أوجب الالتزام باليمين وقال :

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ، أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

تشكرون الله على هدايته لكم ، وتبيانه طريقة الاستفادة من الطيبات.

٤٥٣

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)

____________________

٩٠ [الأنصاب] : الأصنام وسميت بذلك لأنها كانت تنصب للعبادة ، والانتصاب القيام.

[رجس] : الرجس في اللغة اسم لكل ما استقذر من عمل ، ويقال رجس يرجس إذا كان عملا قبيحا.

٤٥٤

كيف نبلغ الفلاح

بينات من الآيات :

البشر عقل وارادة :

[٩٠] في البشر عقل وارادة تقابلها الشهوات والجهل ، وعلى الإنسان ان يحكم عقله على شهواته بقدرة الإرادة ، وقد جاءت رسالات السماء بهدف تنمية قدرة الإرادة في البشر وتنمية قدرة العقل حتى يتمكن من ضبط شهواته ، وتوجيه حياته حسب هدى عقله.

وقد حرمت رسالات السماء كلما يضر بالعقل وبالإرادة ضررا بالغا. لأنه يتسبب بالطبع في سيطرة الشهوات على حياة الإنسان.

وفي طليعة ما حرمته الشرائع السماوية الخمر والميسر لأنهما يهبطان بإرادة الإنسان وعقله إلى أدنى مستوى ، وهما بالتالي رجس وحرام لأنهما من عمل الشيطان الذي يثير الشهوات وينقص العقل ويضعف الإرادة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ

٤٥٥

الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

ان الفلاح الذي هو الهدف الأسمى لكل ابن أنثى في الحياة لا يتحقق إلا بالسيطرة على شهوات الذات بقوة الارادة.

اما اللهو فانه يضعف هذه الارادة ويثير المشاكل للبشر واللهو هو ذلك الرجس الذي يدعمه الشيطان.

الخمر والميسر من جنود إبليس :

[٩١] والخمر والميسر يسببان الفرقة بين الناس ، بينما الإسلام يأمر بالوحدة ويدعم هذه الوحدة بتحريم كل أسباب الفرقة.

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)

العداوة تأتي بسبب سيطرة الشهوات على الإنسان ، فيحاول كل واحد ان يعتدي على حقوق الآخرين ليحقق هو شهواته ، بينما يجب أن يقف غريمه في موقف الدفاع ، فان لم يستطع دفع الظلم عن نفسه انقلب ظالما لمن هو أضعف منه.

وهكذا يتحول المجتمع الى سلسلة من الظالمين والمظلومين ، والعداوة تتحول إلى بغضاء إذ سرعان ما يبحث كل طرف عن تبرير نفسي لظلمة ، فينشر الحقد في كل قلب فكل من يصبح مظلوما يحقد على ظالمة.

ولكن المشكلة : ان هذا الحقد قد يتحول الى غير الظالم ، بل إلى كل أبناء المجتمع فيبحث له عن متنفس يصب حقده فيه فاذا به يظلم الناس بلا سبب ،

٤٥٦

وبلا مصلحة ذاتية بل متشفيا لنفسه الحاقدة ويبقى سؤال : كيف تتسبب الخمرة في العداوة؟

الجواب : ان الخمرة تذهب بالعقل ، وتضعف الارادة ، فيفقد الإنسان السيطرة على شهواته فتصبح شهواته هي المسيطرة عليه ، تسوقه الى حيث الاعتداء والظلم.

اما الميسر فانه يعتمد على محاولة كل فريق التغلب على الآخرين ، ليس بالعمل الصالح وانما بالصدفة أو بالمكر والشطارة.

ومعلوم كيف تنتهي حالة مجتمع تسود علاقاته : المغالبة والمنافسة الماكرة؟! وسبب أخر لحرمة الخمر والميسر هو : الإلهاء عن ذكر الله ، وذكر الله هو طريق فلاح الإنسان.

ان الشيطان الذي يجسد قوى الشر في الطبيعة ويثير قوى الشر في النفس ، لا يريد توحيد كلمة البشر ، بل يحاول تقوية شهوات البشر ، ودعم أهوائه الذاتية ، وليس هدف الشيطان الذي يدعو الناس الى اللهو واللعب والى معاقرة الخمر ونسيان المسؤوليات ، ويدعوهم إلى لعب القمار والابتعاد عن العمل الصالح ، وكذلك فهو لا يهدف أبدا الى إسعاد البشر.

والله يريد من الإنسان ان يكون واعيا لمسؤولياته ، عالما بان هناك رقابة مشددة عليه من الله حتى يطبق واجباته متذكرا أبدا تلك الرقابة.

اما الشيطان فيريد تناسي الله والابتعاد عن ذكر الله بالخمر والميسر.

ومن هنا قال الله عن هدف الشيطان من الخمر والميسر :

٤٥٧

(وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)

هل أنتم منتهون عن السير في خط اللاوعي والتناسي والغفلة ان اثمن ما في البشر هو ذكر الله ، وتذكر المسؤولية والتعهد بأدائها.

والشيطان يدفع بالبشر في الخط المعاكس. أفلا نتوب الى الله ونطرد الشيطان ونهجر كأس الغفلة ، وأدوات العداوة؟!

طريق العودة :

[٩٢] ونعود الى حظيرة الطاعة والالتزام بالمسؤولية.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)

وبدلا من الغفلة والتناسي نلتزم بالحذر ونتسلح بالتقوى.

إذا كنت في غاية كثيفة الظلمات كثيرة السباع فهل من الصحيح ان تنام وتتناسى واقعك ، والاخطار المحدقة بك فالشيطان يدفع البشر باتجاه الغفلة ، وخط الله يدعوا الى الحذر.

(وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)

نحن لسنا مسئولين عنكم ، ولا رسولنا مسئول عنكم ، انما أنتم المسؤولون عن أنفسكم ، وانما على رسولنا : مسئولية ابلاغكم فقط بما يجري ثم تتحملون أنتم المسؤولية.

كل شيء حلال :

[٩٣] ولا يعني تحريم الخمرة أن الله يريد للإنسان ان يعيش في ضنك

٤٥٨

العيش ، لان الله لم يحرم الطيبات على الإنسان.

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا)

انما يعني ذلك التحريم ان يبقي الإنسان في حذر دائم من ارتكاب الجرائم ، وفي وعي دائم ، وتحمل للمسئولية والحذر ، لذلك قال الله :

(إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)

ان الهدف من التقوى هو العمل الصالح ، ولكن العمل الصالح لا بد ان يسبقه الايمان ، والايمان يأتي قبل وبعد العمل الصالح اما قبله فلكي يدفع بالبشر الى اختيار العمل الصالح ، اما بعده فلان العمل الصالح يدعم الايمان ويقويه في القلب مما يمهد لمرحلة متقدمة جديدة من العمل الصالح. من هنا جاء الايمان هدفا للتقوى عند ما قال ربنا :

(ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا)

ان التقوى (اي التحسس بالمسؤولية) تدعو الى العمل الصالح وتدعو في ذات الوقت الى مستوى جديد ومرتفع من مستويات الايمان.

ذلك المستوى هو الإحسان الى الناس لذلك جاء الإحسان نتيجة للتقوى في هذه الآية :

(ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)

وهكذا يتدرج المؤمن عبر المراحل التالية :

١ / التقوى بهدف العمل الصالح.

٤٥٩

٢ / التقوى بهدف تقوية الايمان.

٣ / التقوى بهدف الإحسان الى الناس.

وعموما. الطعام هو وقود الإنسان المادي للقيام بهذه المراحل ، بينما التقوى هي وقوده المعنوي.

وفرق كبير بين الطعام في المفهوم التوحيدي حيث يكون تحت سيطرة التقوى ، وبهدف تحمل المسؤولية والإحسان.

والطعام في المفهوم الشيطاني حيث يكون ضد التقوى وضد تحمل المسؤولية.

٤٦٠