من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

المنافقون وازدواجية الولاء

هدى من الآيات :

في الحديث السابق عالج القرآن الكريم قضية الخيانة بكل أبعادها ، ووضع حلولا ومواقف لطبقة الخائنين.

اما في هذا الحديث فيطرح قضية المنافقين من بعدها الاجتماعي ، اي فيما يتصل بتواجدهم داخل المجتمع المسلم ، وانعكاسات سلوكهم السلبية على ذلك المجتمع خصوصا بالنسبة لازدواجية الولاء ، فهم في الظاهر أعضاء في هذا المجتمع ، وفي الواقع مرتبطون بالأعداء.

ويمهد القرآن لهذا الحديث بترسيخ فكرة وحدة الايمان ، وأنه لا يتجزأ ، ثم يوضح فكرة استمرارية الايمان ، وانه لا يمكن التحول منه واليه بين الفترة والاخرى ، ثم يبشر المنافقين بالعذاب ، وأخيرا يبين القضية المطروحة ، وهي ان المنافقين هم الذين يتخذون الكافرين أولياء.

٢٢١

ولكي يبقى المجتمع الاسلامي نظيفا من مؤثرات الكفر فقد أمرنا الله بأن نقاطع مجالس الكفار ، فكيف بالولاء لهم؟!

اما هؤلاء المنافقون فهم يعيشون الازدواجية ، فمن جهة يريدون كسب ودّ المسلمين حتى يشاركوهم في مكاسب الانتصارات ، ومن جهة ثانية يريدون درء خطر الكفار حتى يحافظوا على أنفسهم حين ينهزم المسلمون ، ولكن الله لا يدع المسلمين ينهزمون لو انهم امنوا وجاهدوا في سبيله.

بينات من الآيات :

الايمان الكامل :

[١٣٦] الايمان كل لا يتجزأ ، وما دام الإنسان قد آمن ، وعرف الله ورسالاته ، فعليه ان يخلص في ايمانه ، ولا ينقصه تحت ضغط المصالح والأهواء.

واي نقص في الايمان يناقض الايمان رأسا. إذ ان الايمان ليس العلم فقط ، بل هو مخالفة الهوى واتباع للعقل.

فلو جزاء المرأ إيمانه فأخذ منه ما يوافق اهواءه ، ورفض منه ما يخالف اهواءه ، فهل اتبع هذا الشخص عقله أم هواه ، وبالتالي هل آمن؟!

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

أي يا من انقطعت حجتهم بسبب اعترافهم بمبدإ الايمان ، ان عليكم متابعة المسيرة لأنه لا حجة لكم في التوقف.

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ

٢٢٢

قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً)

المواقف المتزلزلة تجاه القوة :

[١٣٧] والايمان كما لا يتجزأ عضو يا فهو لا يتجزأ زمنيا ، فليس من الايمان في شيء الارتباط بجهة الحق كلما كانت قوية ، ومخالفتها كلما كانت ضعيفة هل هذا ايمان بالحق أم ايمان بالقوة؟

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً)

هؤلاء كانوا يغيرون مواقفهم حسب موازين القوى في المجتمع ، أو حسب رياح مصالحهم الذاتية ، ولذلك فهم بمثابة الكفار الذين لا يغفر الله لهم ذنوبهم ، بل هم أشد سوءا من الكفار إذا انهم تلاعبوا بهدى الله ، واتخذوه مادة المساومة لحياتهم الدنيا ، ولذلك فهم لا ينظرون الى الايمان نظرة الباحث عن الحق ، فيستحيل أن يهتدوا به.

ان من ينظر الى المرأة ليشتريها أو ليعرف قطرها ووزنها لا يمكنه ان ينظر الى الأشياء عبرها لأنه مشغول عن الصور المنعكسة داخل المرآة بفحص زجاجتها ، وإطارها وإتقان صنعها ، كذلك الذي يتخذ من الرسالة وسيلة الارتزاق لا يمكنه ان ينظر إليها الا كما ينظر التاجر الى متجره ، والبقال الى محله ، فلا يسعى من أجل فهمها أو العمل بها ، لذلك فهو لا يهتدي ـ عمره ـ بالرسالة.

المنافقون وحقيقة الارتباط بالأجنبي

[١٣٨] (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)

٢٢٣

[١٣٩] من هم المنافقون المعنيون هنا ـ بالذات ـ؟ انهم الطبقة الاجتماعية المزدوجة الولاء ، أو التي تعيش في مجتمع الايمان وتحمل ولاء لمجتمع الكفر بهدف الحصول على قوة ومنعة وعزة.

فمثلا في المجتمع الاسلامي اليوم نجد طوائف مبتلون بمركب النقص ، ويحرصون على الحصول على القوة والعزة ، ويتقاعسون عن العمل الجاد الذي يعطيهم القوة والعزة ، حسب قيم المجتمع الاسلامي.

فيفتشون عن الاجنبي ليرتبطوا به ، يفتشون عن منظمات عالمية يمينية (صهيونية ـ ماسونية ـ قومية ـ اقليمية و.. و..) أو يسارية (شيوعية ـ اشتراكية) ويهدفون من وراء ولائهم لتلك المنظمات الحصول على قوة يركنون إليها.

وربما يسودون في يوم من الأيام بسببها على إخوتهم وأبناء أوطانهم حتى ولو جز ذلك الى بيع الاستقلال بلدهم ، وتذليل شعبهم ، وتحطيم قيمهم.

ان هؤلاء هم المنافقون.

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ)

كلا ، لا يمكنهم الحصول على القوة بالركون الى الاجنبي ، إذ ان الاجنبي إذا جاء فسوف يستعبد أول ما يستعبد هذه الفئة المرتبطة به والخادمة له!

انه لا يعطي هذه الفئة الدعم لسواد عينها بل لتحقيق مكاسب خاصة ، قد تتناقض مع مكاسب هذه الفئة ، وقد يبيع الاجنبي في مائدة المفاوضات الفئة المرتبطة به ، ويساوم عليها.

٢٢٤

فأين تكمن عزة هؤلاء ، انها تكمن في اللجوء الى الصف الايماني وتقوية شوكة الشعب كله حتى يكون الجميع اسيادا بين الأمم.

(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)

لله ولمن ينفذ برامجه ، من المؤمنين.

لئلا نصير عملاء

[١٤٠] لكي لا يستميل الاجنبي الكافر بعض ضعاف النفوس من أبناء الامة. منع الإسلام الاستماع الى دعايات الكفار المضللة التي يستهدفون من ورائها التأثير على البسطاء ، ومن ثم استدراجهم للعمالة ، وبيع القيم.

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ)

الكفر هو الإنكار المغلّف بما يزعم صاحبه انه استدلال عقلي.

اما الاستهزاء فهو محاولة مفضوحة للتأثير على البسطاء عن طريق تهوين القيم الرسالية في أعينهم ، ويجب مقاطعة مجالس الكفر والاستهزاء لحين تغيير طابعها العدائي ، وتبديل موضوع الحديث.

(حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)

وحين يجلس الإنسان في محفل يستمع فيه الى انكار الرسالة ، والاستخفاف بها ، ثم لا يرد ولا يتأثر ، فانه محسوب من أصحاب هذا المحفل الفاجر.

(إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ)

٢٢٥

اي انكم منافقون إذ ذاك كما هم كافرون ، وجزاؤكم آنئذ هو جزاء مشترك وهي النار.

(إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً)

[١٤١] ان المنافقين يوالون الكفار ، ويحضرون مجالس كفرهم واستهزائهم في حالة السلم ، .. اما في حالة الحرب فهم يجلسون فوق التل يراقبون سير المعركة لأنهم جبناء ، والجبان لا ينفع اي طرف يتعاون معه ، وينتظرون بالتالي نهاية المعركة بقلب بارد ، فاذا انتصر المسلمون جاءوا وطالبوا بالغنائم باعتبارهم أعضاء في المجتمع الاسلامي ، وإذا انتصر الكفار مؤقتا تسللوا إليهم وطالبوهم بأجور خدماتهم التي أسدوها لهم (هكذا يزعمون لهم ، بيد انهم لم يفعلوا شيئا هاما لهم)

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ)

اي ينتظرون نهايتكم.

(فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

اي حفظناكم من ان يصيبكم سوء من قبل المؤمنين.

وليعلم هؤلاء : ان عاقبة نفاقهم حساب شديد يوم القيامة ، اما في الدنيا فلان الرسالة تنتصر أبدا على اعدائها ، فان المنافقين سوف يفقدون الدعم الخارجي لهم ويسقطون داخل المجتمع الاسلامي.

(فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)

٢٢٦

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦)

____________________

١٤٣ [مذبذبين] : المذبذب المهتز القلق الذي لا يثبت في مكان.

١٤٤ [سلطان] : حجة.

١٤٥ [الدرك] : أقصى قعر البحر ويقال للحبل الذي يوصل به حبل آخر ليدرك الماء درك وأصل الدرك الحبل الذي يوصل به الرشا ويعلق به الدلو.

٢٢٧

المنافقون صفات وتقييم

هدى من الآيات :

استمرارا للحديث السابق عن الولاء التام داخل المجتمع المسلم ، وإدانة ازدواجية الولاء كما يفعل المنافقون يأتي هذا الحديث ، ويبين في البدء بعض صفات المنافقين الظاهرة التي تدل على انفصالهم الروحي عن مناهج وقيم المجتمع الاسلامي وذلك حين يقومون للصلاة كسالى ، وأن قلوبهم كالصخر لا تخشع لذكر الله ، وأنهم في حالة شك دائمة ، يراوحون بين جبهتي الايمان والكفر ، ولا يستقرون على واحدة منهما ، وأنهم بفعل شكهم ، وعبادتهم لذواتهم ومصالحهم بعيدون عن نور الهداية.

ثم يحذر الله المؤمنين من المصير الذي انتهت اليه هذه الطائفة من المنافقين ، وينذرهم بأن الله سيأخذهم بسلطان مبين ، لو سمحوا لأنفسهم بموالاة الكافرين.

تلك العاقبة السوأى التي تنتهي بصاحبها الى نار جهنم في أسفل دركاتها حيث لا ينقذهم ولاؤهم للكافرين من النار.

٢٢٨

وقبل ان ينهي القرآن هذا الحديث يفتح أمام المنافقين باب الأمل ، ويرشدهم الى التوبة بشرط ان تقارن بإصلاح ما أفسدوه بالنفاق ، وذلك بالولاء التام للمجتمع الاسلامي ، والإخلاص في تطبيق مناهجه سبحانه ، وآنئذ سوف يلحقون بركب المؤمنين الذين أعد الله لهم أجرا عظيما.

بينات من الآيات :

خداع الله!

[١٤٢] يزعم المنافقون : إنهم كما يخادعون حسب زعمهم أبناء المجتمع الاسلامي ، كذلك بامكانهم مخادعة الله لذلك تجد ان أعمالهم الدينية تشبه ممارساتهم الاجتماعية.

فاذا قاموا الى الصلاة تكاسلوا ، وأدوا فقط القشر البارز من الصلاة ، اما جوهر الصلاة فإنهم بعيدون عنه.

بيد أن هذه المخادعة ستنقلب عليهم. إذ أن الله أكبر من أن تنطلي عليه مخادعة العباد ، ويتقبل منهم هذه العبادات القشرية الفارغة.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ)

كيف يخادع الله عباده؟ انه يمكر بهم ، ويكيدهم ، ويكيدهم بأن يمهلهم أياما حتى تسكرهم النعم ، ويفقدوا عقولهم وأرادتهم ، ثم يأخذهم الله فجأة أخذا شديدا كما فعل مثلا بقوم لوط ، إذ بعث الله إليهم بملائكة العذاب في صورة ضيوف ، وألبسهم ثوب الجمال حتى استهووا قوم لوط الذين تعوّدوا على الفاحشة سابقا ، فلما اجتمعوا إليهم ، وكانوا يمنون أنفسهم بليال حمراء ولم يبق في أنفسهم ذرة من التقوى أو الايمان.

٢٢٩

آنئذ تحول أولئك الملائكة الى صورتهم الاصلية. فاذا هم غلاظ شداد ، وإذا بهم يقتلعون مدينتهم ويدمرونها عليهم.

هكذا يخادع الله عباده عند ما يحاولون مخادعته.

(وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً)

فهم لا يصلّون حقيقة لله ، بل يتظاهرون أمام الناس.

وإذا كانت الصلاة وهي أهم الشعائر العبادية يؤدونها بهذه الروح فكيف بسائر الواجبات.

هذا مثل لخداع المنافقين لأنفسهم ، وكيفية قيامهم بواجباتهم الدينية ، وبالتالي هذه صفة واضحة فيهم نستطيع أن نكتشفهم عن طريقها.

فقدان المقاييس والحكم بالشك :

[١٤٣] والصفة الثانية للمنافقين هي الشك ، وتذبذب المواقف. فهم لا يتخذون مواقفهم حسب رؤية مستقبلية ، بل حسب التوفيق بين الجبهة الكافرة وبين المجتمع الاسلامي ، وتمييع المواقف ، وتأييد كل طرف في شيء حسب المصالح الآنية العاجلة لهم.

(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ)

أي بين الكفار والمؤمنين وذلك بإشارة الكلمة الثانية.

(لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ)

ولأنهم مذبذبون تستبد بهم الشكوك فان قلوبهم تفقد المقاييس الصحيحة

٢٣٠

التي تميز الحق عن الباطل ، وبالتالي فإنهم لن يهتدوا أبدا.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)

الله هو الذي يهدي عباده بعد أن يسعوا من أجل الهداية ، أما الذين يتقاعسون عنها ويسدون أبواب قلوبهم دونها ، إذا كيف يهديهم الله.؟!

انه يتركهم في ضلالتهم وآنئذ لا يجدون من يهديهم من دون الله.

لنتصور الهداية كالعلم. كيف يحصل الواحد منا على العلم؟ بالطبع عن طريق السعي الدّائب ، والبحث الدائم ، ولكن كيف يكون حال من لا يسعى من أجل العلم ، بل وأخس من ذلك بأن يسد على نفسه الأبواب ، ولا يدع أحدا يدخل عليه ليعلمه ، أفلا يبقي هذا الشخص في الجهل أبدا؟! كذلك الله يضلل المنافقين.

لمن الولاء

؟ [١٤٤] هذه بعض صفات المنافقين ، وعلينا أن نتحذر من انحرافهم الذي يبدأ بولاء الكافرين خوفا منهم أو طمعا فيهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)

الإنسان لا يستطيع أن يمنح ولاء لجهتين متضادتين : فأما هو ـ بالتالي ـ موال للمؤمنين أو للكافرين.

وإذا والى المؤمن كافرا ، فانه سيقطع ولاءه طبيعيا عن المؤمنين ، ولذلك عبر القرآن الكريم هنا بكلمة «من دون المؤمنين».

نعم يمكن أن يكون ولاء المؤمن للكافرين من خلال ولائه للمؤمنين ، وذلك

٢٣١

بأن يخلص ولاءه للمؤمنين ، ولكل من يخدم المؤمنين من الكفار.

(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً)

فلا ينصركم الله أنكم لا تخلصون الولاء له ، إذ ان نصر الله انما يأتي للذين يعتمدون كليا عليه ، ويعبدونه بتطبيق برنامجه كاملا غير منقوص.

أما الذين يوالون الكفار فان الله يوكلهم إليهم ، لأنهم في الواقع لا يستطيعون تطبيق برامجه بالكامل.

[١٤٥] اما إذا والى المؤمنون الكافرين فإنهم سيكونون منافقين ، وجزاء المنافقين معروف : أنه جهنم.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)

طبقات الجنة تسمى بالدرجات ، وأرفعها أعلى عليين ، وطبقات النار تسمى الدركات وأسوأها أسفل السافلين.

(وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً)

انهم والوا الكفار بهدف الحصول على عونهم ، ولكن آمالهم ستخيب يوم القيامة. إذ سيجدون أنفسهم في النار دون أن ينصرهم أصدقاؤهم الكفار.

سبيل العودة :

[١٤٦] طريق عودة المنافقين الى الجبهة الايمانية ، طريق سألك ومعبد وذو مراحل أربع :

الاولى : التوبة بالندم على تعاملهم السابق مع الكفار ، والعزم على عدم

٢٣٢

تكراره.

الثانية : الإصلاح بترميم الجسور المهدّمة بينهم وبين المؤمنين ، وذلك بتصفية عقولهم من أفكار الكافرين ، وتصفية قلوبهم من النفاق والحق على المؤمنين ، وتصفية علاقاتهم السابقة وتكوين علاقات حميمة جديدة.

الثالثة : الاعتصام بالله ، وذلك بتوثيق الولاء للقيادة الاسلامية والتسليم لها والطاعة لأوامرها.

الرابعة : إخلاص الدين (١) ، وذلك بإقامة الصلاة بنشاط ووعي ، ومن دون كسل ، وذكر الله كثيرا ، واقامة سائر الشعائر ، وممارسة سائر الواجبات بطريقة صحيحة.

بعد طي هذه المراحل يلحق هؤلاء بالمؤمنين الذين أعد الله لهم أجرا عظيما في الدنيا متمثلا بالنصر المؤزّر ، وفي الآخرة في جنات عدن خالدة.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً)

__________________

(١) ربما يكون معنى إخلاص الدين هو توحيد الولاء.

٢٣٣

ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧) لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)

٢٣٤

صفات الكافرين عرض وتقييم

هدى من الآيات :

بعد بيان مفصل لشروط الإصلاح المسبقة التي ينبغي ان يتصف بها المنافق التائب ، وبالتالي كل مؤمن حتى لا يتسرب النفاق الى قلبه.

يبين السياق ان من ابرز شروط الإصلاح الشكر لله ، والايمان به ، وتنقية أجواء المجتمع من الكلام السلبي ، واشاعة الخير ، والعفو عن السوء.

وبعد بيان هذه الشروط الاساسية لاقتلاع جذور التفرقة والنفاق من ارض المجتمع يعود القرآن ليحدثنا عن طبقة اخرى من المنافقين ، وهم الذين يبعضون ايمانهم ، فيؤمنون ببعض الرسل وببعض التعاليم السماوية الموصى بها إليهم ، ويكفرون ببعض.

ويقرر القرآن انهم هم الكافرون ، لان الايمان كل لا يتجزّأ ، ويؤكد هذه الحقيقة في الاية التالية ، وفي الدرس القادم يضرب مثلا من بني إسرائيل الذين

٢٣٥

آمنوا ببعض الرسل ، وكفروا ببعض. ان ايمانهم ببعض التعاليم وكفرهم ببعضها الآخر انما هو حسب ما تقتضيه مصالحهم الذاتية.

بينات من الآيات :

شكر الله والنظرة الايجابية

[١٤٧] ان الله غني عنا ، غني عن أعمالنا ، وغني عن عذابنا ، انه لا يتلذذ بعذاب أحد سبحانه ، بيد انه حين يعذب الناس فانما لاستحقاقهم ذلك ، وبالتالي بسبب جر النار الى أنفسهم بأنفسهم.

ولكي يتحصن الإنسان من شر اعماله فعليه ان يؤمن ، ولكي يؤمن فعليه ان يشكر الله ، إذ ان النفس الشاكرة لأنعم الله عليها ان تتمتع بنظرة ايجابية متفائلة للحياة ، وتنظر الى كل نعمة باعتبارها عطاء جديدا لا تستحقه ، وانه يمكن ان يؤخذ منه في اية لحظة ، فهو من جهة يقدر النعمة حق قدرها ، ومن جهة ثانية يقّدر من أعطاها إياها وهو الله سبحانه ، حق قدره ، وبذلك يزداد ايمانه بالله ، ووعيه التام برحمته الواسعة ، وبهيمنته الدائمة على الحياة.

أرأيت لو استضافك رجل كريم ، ليس لك عليه حق ، وهيأ لك أفضل أنواع المتع واللذات ، ولم يحدد نهاية ضيافته لك ، أو لست تبقى تشعر بالامتنان اليه طيلة فترة ضيافته ، وتعمل خلالها بكل لباقة وأدب يتناسبان ورجل ضيف مثلك ، لأنك تقدر من جهة العطاء الذي قدمه لك على غير استحقاق ، وتخشى من جهة ثانية من الطرد في اية لحظة.

كذلك الشاكر يزداد وعيه بنعم الله ، وبالتالي ايمانه بالله ، وشعوره بمنته عليه كلما اوتى نعمة جديدة ، بعكس المنافق الذي كلما زادت نعم الله عليه كلما

٢٣٦

أحس بأنّها جزء من حقوقه ، ودليل على عظمته ، وبالتالي يزداد طغيانا وكفرا.

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً)

فكلما ازداد شكرك ، وتقديرك لنعمه عليك ، كلما شكرك الله ، واغرقك بنعم جديدة ، وهو إذ ذاك يعلم كم شكرته ومتى؟

علاج بعض الأمراض الاجتماعية

[١٤٨] حين تتشبع النفس بالشكر لله ، وبالرضا يقل الحسد والحقد والكراهية المنبعثة عن ضيق الأفق وتتناقص البغضاء النابعة من الاستئثار والفردية ، ويعم مكانهما الصفاء والمحبة والتسامح ، مما ينعكس على أحاديث الناس فتصبح ايجابية سليمة.

لان الله لا يحب التجاهر بالأحاديث السلبية السيئة الا إذا كانت ذا هدف شريف وهو : الضرب على يد الظالم ، والاستعانة بالناس ضده.

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً)

يسمع الغيبة والتهمة والنميمة والتنابز بالألقاب ، والانتقاص من قدر هذا أو ذاك ، ويعلم كذبها ودوافعها ، وهل هي تظلّم؟ أو استعانة ضد جائر أم لا؟

ان الله حين لا يحب شيئا فلأنه يضر بمصلحة الناس ، وسوف يعاقب عليه في الدنيا والاخرة.

[١٤٩] بلى ان الله يحب ذلك المجتمع النظيف من سلبيات الكلام العاكف على عمل الخير سواء كان ظاهرا أو مستترا ، ومن ابرز اعمال الخير العفو.

٢٣٧

أو لم يقل ربنا في أية اخرى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) ، ان العفو يربط أبناء المجتمع ببعضه ربطا ويقتلع جذور النفاق منه.

(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً)

ان الله يعفو عمن عفا عن الناس ويعفو عمن يعمل الخير للناس. يعفو عنهم بالرغم من قدرته عليهم ، أو ليس من الأفضل أن يتخلق العبد بخلق ربه ، وأن يكون هو الآخر عفوا؟!

كيف تعبد الذات

[١٥٠] ما هو الايمان؟

؟ الجواب : انه اخضاع قوى الشرفي الذات لارادة الحق ، وتسليم النفس لهدى العقل ، انه استجابة الإنسان لنداء الله ، وبالتالي مخالفة أهواء النفس ، واتباع برامج الله.

وإذا كان هذا هو الايمان فليس بمؤمن أبدا ذلك الذي يوافق الحق حين يتوافق مع مصالحه ، ويخضع للحق بهدف تحقيق شرور ذاته ، وتسلم نفسه للعقل بشرط موافقة اهوائه ويستجيب لنداء الله حين لا يضر بشهواته ، وهكذا.

انما هذا الرجل متوغل في الكفر لأنه يعبد ذاته ولا يرى الحق الا وسيلة لتحقيق مصالحه.

والذين يبعضون رسالات الله فيأخذون ما يوافق مصالحهم ، ويتركون ما

خالفها .. انهم بالتالي يعبدون مصالحهم ولا يعبدون الله ، لذلك فهم الكافرون حقا ، وقد اصدر القرآن عليهم حكم الكفر مسبقا وقال :

٢٣٨

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً)

[١٥١] (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)

والتفريق بين الله والرسول ياتي بهدف عصيان الرسول ، والادعاء بأنهم يكتفون ببرامج الله.

ولكن هل تعني برامج الله شيئا من دون قيادة الرسول ، انهم يكذبون كذبة مفضوحة حين يدعون وجود علاقة بينهم وبين الله ، إذ لو كان كذلك إذا لخضعوا لرسوله.

ان كل الطغاة عبر التاريخ يحاربون رجال الإصلاح في الوقت الذي يدعون انهم مؤمنون بالإصلاح ذاته ، ويقتلون النبيين باسم المحافظة على الدين ، ويسحقون علماء الدين ، ويتظاهرون بحماية الدين.

ان الرسول لا ينفصل عن الله ، ولا ينفصل عن الإصلاح ومناهج الدين وعن حملتهما من المصلحين والعلماء ، وانما يهين الله هؤلاء الكافرين بعذابه يوم القيامة أو حتى في الدنيا ، لأنهم خالفوا رسل الله ، وبالتالي كفروا بالله بدافع كبرهم وعزتهم الكاذبة ، وغرورهم الفارغ ، لذلك يخزيهم الله ويذلهم في الدنيا والآخرة.

[١٥٢] وفي مقابل الكفار الذين يفرقون بين الله ورسله ابتغاء المصالح العاجلة هناك رجال صادقون في ايمانهم يبتغون أجر الله الذي سيوافيهم عاجلا أم آجلا.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)

٢٣٩

يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ

____________________

١٥٤ [لا تعدوا] : العدوان والتعدي.

٢٤٠