من هدى القرآن - ج ٢

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-05-X
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٥٠٨

وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً

____________________

١٢ ميثاق : اليمين المؤكدة لأنها يستوثق بها من الأمر.

نقيبا : أصل النقيب في اللغة من النقب وهو الثقب الواسع ، ونقيب القوم كالكفيل والضمين ينقب عن الأسرار ، ومكنون الإضمار ، والنقاب الرجل العالم بالأشياء الزكيّ القلب الكثير البحث عن الأمور.

عزرتموهم : التعزير التوقير.

٣٢١

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)

____________________

١٤ فأغرينا : معنى الإغراء تسليط بعضهم على بعض ، وقيل معناه التحريش وأصله اللصوق ، ويقال غريت بالرجل غريا إذا لصقت به.

٣٢٢

الامة التي نقضت ميثاق ربها

هدى من الآيات :

بعد ان بين القران في حديثه السابق أهمية الميثاق وضرورة الالتزام ببنوده عاد ليضرب مثلا من واقع اليهود الذين نقضوا الميثاق ، ومثلا من واقع النصارى.

اما اليهود فقد أخذ الله منهم الميثاق ، وأرسل اثني عشر رئيسا عليهم ـ باعتبارهم اثنتي عشرة قبيلة ـ وفرض عليهم في الميثاق اقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والايمان بكل الرسل والسير وراءهم ، والمبالغة في عمل الخير ووعدهم إنهم ان طبقوا هذه المواثيق ، فسوف يغفر الله ذنوبهم ويدخلهم الجنة ، اما من كفر فسوف تلفه الضلالة وينحرف عن السبيل.

بيد ان اليهود نقضوا الميثاق ، فلعنهم الله ، وأول ما جازاهم بنقض الميثاق كانت قسوة القلب التي كانت العلة في سائر المحرمات ومنها :

اولا : تحريف ايات الكتاب وعدم الاستفادة منها عمليا.

٣٢٣

ثانيا : الخيانة التي أصبحت عادة شائعة فيهم ، ولذلك نصح الله رسوله بأن يعفو عنهم ، ويحسن إليهم لعلهم يرجعون.

هكذا لعن الله اليهود بنقض الميثاق.

أما النصارى : فإنهم لما نقضوا الميثاق أوقع الله بينهم العداوة فأخذوا يتآكلون داخليا ، ويضرب بعضهم بعضا ، وسوف يظلون هكذا الى يوم القيامة حيث يأخذهم الله بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر.

إن هذا كان مصير اليهود والنصارى حين نقضوا الميثاق ، ولكن دعنا نعتبر منهم ونلتزم بالميثاق التزاما شديدا.

بينات من الآيات :

ميثاق بني إسرائيل :

[١٢] لكل أمة ميثاقها المرتبط بظروفها الحياتية وبحاجاتها التشريعية ، وبنو إسرائيل اتخذ الله منهم ميثاقا مرتبطا بظروفهم يعالج مشاكلهم ، وأبرز مشاكلهم التي لازمتهم خلال تاريخهم كانت مخالفتهم لرسلهم ، فاذا جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم خالفوه ، فقتلوه أو كذبوه.

وكان اتباع وتعزير الرسل أهم بنود الميثاق ، بالاضافة الى اقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والتضحية بمزيد من المال في سبيل الله.

هذا من جانب بني إسرائيل.

واما من جانب الله فقد وعدهم بان يكون معهم في الدنيا ، ينصرهم في

٣٢٤

الحرب ، وينعم عليهم في السلم والرخاء وأن يكفر عنهم سيئاتهم ، ويدخلهم الجنة في الآخرة.

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً)

أي جعل الله لكل طائفة منهم نبيا أو قائدا يدبر شؤونهم.

لنستوجب رحمة الله :

(وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ)

(لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ)

(وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ)

(وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ)

(وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً)

البند الأخير : يعني الجهاد في سبيل الله بالمال وهو يختص بالظروف الاستثنائية (كحالة الحرب أو حالة المجاعة) حيث يجب على كل فرد ان يتنازل عن حقوقه المشروعة ، ويطوع إرادته من أجل الصالح العام اما الزكاة فهي حق واجب على المؤمن ان يدفعه في الظروف العادية.

ان الميثاق كان يأمرهم بهذه البنود ويعدهم بأن يكون الله معهم في الدنيا وان يكون جزاؤهم في الاخرة حسنا.

(لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

٣٢٥

وجاء في الميثاق إنذار صريح لمن لا يطبقه.

(فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)

وكيف حال من يضيع الطريق المستقيم ويتيه في الصحراء؟

القلب والتحريف :

[١٣] بيد أن أغلب بني إسرائيل خالفوا الميثاق ولعنهم الله.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ)

فأبعدهم الله عن حظيرة الايمان ، ولم تعد قلوبهم تستوعب نور معرفة الله لعظمته ، وتخشى عذابه ، وترجوا رحمته ، لم تعد نفوسهم تندفع الى الخير ، وترهب عواقب الشر ، فأصبحت قلوبهم جامدة لا تهزها متغيرات الحياة ، ولا تؤثر فيها الأحداث ، وبالتالي أصبحت قلوبهم قاسية.

(وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً)

ان القلب يلين بالمعرفة والموعظة ويقسوا بالجهل والغفلة .. ان معرفتك بالله تجعلك تخافه وترجوه ، وبين الخوف والرجاء يلين قلبك ويستعد للتفكير الموضوعي ويتقبل الحق الذي يهديه اليه تفكيرك الموضوعي ويندفع للعمل الذي يستوجبه الخوف والرجاء ، القلب اللين يحب ويكره. يحب ما يسبب له السعادة ويكره ما يشقيه فالقلب اللين كأرض لينة تنبت الزرع ، وتستجيب للعمران.

اما إذا جهلت الحياة ، ولم تؤمن بالله ، ولم تع الاخطار التي تهددك ولم تعرف المنافع التي يمكن ان تأتيك فان قلبك يقسو ويصبح صلبا لا يتحرك لرجاء

٣٢٦

ولا يهتز لخوف ، انك تشعر وكان الكون جامد من حولك ، وان ما عندك من خير ونعمة لا يزول أبدا ، وان ما بك من نقص أو عجز لا يزول أبدا ، فلما ذا الخوف إذا؟ ولماذا الرجاء؟ ولماذا التفكير الموضوعي؟ ، وبالتالي لماذا التحرك والنشاط؟

القلب القاسي يقبع في زنزانة الذات ، ولا يرى سببا لمعرفة الحياة ولا للتوافق مع سنتها وحقائقها ، إذ أنه لا يخاف ولا يرجو ، ومن هنا فانه يستهين بالعلم ويستخف بالحق وبرسالات السماء بل ويلعب بها حسبما تملي عليه أوهامه.

انه يحرف كلام الله لأنه لا يرى قيمة لكلام الله ، ولا يشعر بأنه هو الذي يجلب الخير اليه ويدفع الضر عنه ، ذلك لأنه أساسا لا يعقل زوال الخير عنه ، ولا خطر نزول الضربة.

من هنا لعن الله اليهود بقسوة القلب فحرفوا كلام الله.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ)

يحرفون كل كلام عن موضعه الصحيح ، ويضعفونه في موضع آخر إما بتحريف الكلمة ذاتها مثل ما فعلوا بما يخص بشارة نبوة نبينا محمد (ص) فغيروا فيها بحيث لا تتوافق ودلائل بعثته ، أو بتأويل الكلمة الى غير معانيها الأصلية.

لقد قالت اليهود : ان كل ما جاء في التوراة من ذم الربا والسحت وأكل اموال الناس بالإثم والعدوان ، انها جميعا تختص بعلاقة اليهود ببعضهم ولا تشمل علاقة اليهود بغيرهم من الأميين حيث زعموا انه يحوز الاعتداء عليهم.

وبذلك حرفوا الكلم النازلة حول هذه الموبقات عن مواضعها الصحيحة ، وهي علاقة الناس ببعضهم (اليهود وغيرهم) الى مواضع اخرى تتوافق مع

٣٢٧

أهدافهم الخبيثة.

ولم يكتف اليهود بتحريف الكلم ، بل وحرفوا بعض بنود الرسالة لأنهم حين قست قلوبهم لم يعطوا للرسالة قيمة فحرفوا منها ما خالف أهواءهم.

(وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)

ولم يقل القران حذفوا قسما من الرسالة بل قال : (نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).

لان الرسالة باقية لا تتغير ، ولا يقدر أحد ان يحذف منها شيئا بل هم الذين نسوا وبالتالي ابتعدوا عن بعض بنود الرسالة.

ثم عبر القران بكلمة (حظ) عن جانب للدلالة على ان القسم الذي نسوه من الرسالة كان بالتالي في صالحهم كسائر أقسام الرسالة.

وأخيرا قال الله (مما ذكروا به) لبيان أن عقولهم كانت تتوافق مع بنود الرسالة التي كانت تذكيرا لتلك العقول ، بيد أنهم أداروا ظهورهم عن هدى عقولهم أيضا ... فلم يحفلوا بالرسالة ولا بما ذكّرت به.

ولم تنته فصول اللعنة التي أحاطت باليهود بسبب نقض الميثاق عند هذا الحد ، بل سيطرت اللعنة على سلوكهم العام.

(وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ)

لأنهم أصيبوا بقسوة القلب ، والاستخفاف بالرسالة وتحريفها ، ونسيان جانب منها ، فقد توغلوا في الأنانية وما الأنانية سوى وليدة الاستهانة بقيم الحق ، والتمحور حول الذات.

٣٢٨

وهذه الأنانية ولدت عندهم خيانة بعضهم البعض الآخر ، لأن الامانة تأتي نتيجة الخوف والرجاء والالتزام بالقيم والتمحور حول الحق.

اما هؤلاء فكانت قلوبهم صخرية ، ولم يجدوا حتى رائحة القيم فلما ذا الامانة؟

بيد ان خيانة هؤلاء يجب الا تدعونا الى خيانة مضادة ، إنّ الأمة الإسلامية يجب ان تحتفظ بأخلاقياتها السامية عند تعاملها مع الأمم الفاسدة خلقيا ، والا تكتسب منها سيئات خلقها وسلوكها.

لذلك نبه القرآن الى ذلك بالقول :

(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)

العفو : هو عدم مؤاخذة المذنب بذنبه ، والصفح : هو نسيان هذا الذنب كلية ، والإحسان : هو محاولة إصلاح المذنب برفع أسباب ذنبه (كالفقر والجهل أو الحقد).

النصاري النموذج الآخر :

[١٤] كانت تلك قصة نقض اليهود للميثاق ، اما قصة النصارى في نقض الميثاق فهي تختلف جزئيا في قسوة القلب فلان رسالة المسيح كانت منصبة على المواعظ والترغيب والترهيب فان النصارى لم يصابوا بلعنة قسوة القلب.

بيد ان النصارى نسوا ـ مثل اليهود ـ جانبا من رسالتهم ، واتبعوا في ذلك الجانب أوهامهم وشهواتهم ومصالحهم.

ولأنّ البشر حين يتبعون أوهامهم وشهواتهم ومصالحهم فإنهم يختلفون فيما

٣٢٩

بينهم بسبب اختلاف الأوهام والشهوات والمصالح من طائفة لأخرى بل من شخص لآخر لذلك فقد اختلف النصارى وانتهت حياتهم الى جحيم.

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ)

ان التزام الأمة كلها بالميثاق ، يوحدها ، ويصبح الميثاق بوتقة تطهر خلافاتها ومصالحها.

فاذا تركوا الميثاق عادوا الى الخلاف الأبدي ، وليس هناك ما يوحد الناس مثل الالتزام بميثاق واحد.

(وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ)

لان الله مهيمن عليهم ، يحصي عليهم أعمالهم ، ويسجلها ليحاسبهم بها في يوم القيامة.

٣٣٠

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)

٣٣١

وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)

٣٣٢

الإسلام بصيرة هدى ومنهاج صلاح

هدى من الآيات :

لقد نقضت اليهود والنصارى الميثاق ، وحرّفت كتبها ... فما هو العمل الآن؟ ان عليهما الالتفات حول رسالة الله الجديدة التي لا تزال بيضاء نقية ولم تدخلها شائبة الشرك بالله.

إن هذه الرسالة أوضحت الحقائق ، التي حاول أهل الكتاب إخفاءها ، وإلغاء بعض الأحكام المؤقتة التي استوجبتها ظروف خاصة ، وهي بالتالي نور يذكر البشر بربه ويثير دفينة عقله ، ويزكي ضميره.

كما انها كتاب مفصل ، يحمل خريطة واضحة لدروب الحياة السالكة التي طالما تاهت البشرية فيها وكانت عاقبتها الهلاك.

لقد أصبح النصارى كفارا بسبب قولهم في المسيح : انه هو الله ، وأصبح اليهود مشركين بقولهم نحن أبناء الله ، ولم يبق للبشرية رسالة نقية سوى

٣٣٣

الإسلام.

فلم يكن المسيح سوى عبد لله ، وليس اليهود سوى بشر كسائر البشر.

اما الله فهو رب السموات والأرض ، ولا يعقل أن يتجسد في شخص المسيح ، كما لا يعقل أن يتخذ اليهود أبناء له (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً).

بينات من الآيات :

رسالة الله بين التجديد والتكامل :

[١٥] جاءت الرسالة الاسلامية مجددة لرسالة الأنبياء من قبل ومكملة لها ، أما التجديد فلأن أهل الكتاب الذين استأمنهم الله على رسالته خانوا الأمانة ، وأخفوا كثيرا من بنود الرسالة التي خالفت مصالحهم ، فجاءت الرسالة لتجديد التأكيد على تلك البنود لأنها كانت ضرورة اجتماعية لسائر الأفراد.

فمثلا : أن يكون العالم الديني المطاع ، زاهدا في الدنيا ، راغبا فيما عند الله. إن هذا الأمر أخفاه علماء أهل الكتاب عن الجماهير ، لأنه كان يتناقض مع مصالحهم العاجلة فجاء القرآن يوضح هذا الأمر ويجدد التأكيد عليه ، وان على الناس التمرد على السلطان الجائر أمر أخر أخفاه أهل الكتاب ، فجاء الإسلام يظهره إظهارا.

وجاءت الرسالة مكملة ، حيث ألغت بعض الأمور الهامشية ، التي اقتضى تشريعها ظروف خاصة مثل تحريم أقسام من اللحم كان يعقوب قد حرمها على نفسه ، فحرمها الله على بني إسرائيل مرحليا ، لمجرد التأسي بيعقوب أو لتأديب

٣٣٤

بني إسرائيل ، فجاء الإسلام ليعفو عن هذا التحريم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)

رسالة الله الكنز الأعظم :

والرسالة السماوية نور وكتاب ، نور لأنها توقد في ضمير البشر مشعل العقل فيمشي في ظلمات الحياة بصيرا سويا.

إن رسالات السماء تذكر الإنسان بربه ، وتفتح نوافذ بصيرته على آيات الله في الكون ، إنها تذكره بعقله ، وتحذره من الهوى والشهوات والغضب والغفلة ، وبالتالي من كل ما يسد عليه أبواب المعرفة ، ويحجب عنه أنوار العقل.

وإذا فتح عقل الإنسان ، واستثيرت بصيرته ، فانه سيعرف الكثير من خفايا الحياة ، سواء تلك التي أوضحتها الرسالة السماوية وفصلتها ، أم لا.

بيد ان الله لا يكتفي بإعطاء البشر نورا ، بل يكمل عليهم النعمة ، بأن يرسم لهم خريطة متكاملة لدروب الحياة ، ويوضح لهم المسالك المهلكة ، والصراط المستقيم ، وذلك عبر تشريعات منفصلة ، وواضحة يسميها القران ب (الكتاب) ويقول :

(قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ)

كيف تستحق هدى الله

؟ [١٦] بيد أن نور الله وكتابه ، وبالتالي رسالته ، لا تنفع إلا الذين يتبعون

٣٣٥

مناهج الله التي فيها رضوانه ، فالذي يتولى عنها سوف لا تعطيه رسالة الله نورا في القلب ، ولا شريعة في الحياة.

إن عقل الإنسان يتبع إرادته ، فلو أراد الإنسان أن يفهم ، لتحرك نحو أسباب الفهم ولفتح عينه وسمعه وقلبه ، ولبحث عن وسائل المعرفة.

أما الذي لا يريد أن يفهم ، فإن عقله يدس في تراب الجهل ، ويخبت نوره إلى الأبد.

والذي يريد الفهم عليه ان يجهد في سبيل ذلك ، بأن يبحث عن العلم ، فإذا وجده عمل به ، وكلما زاد عمل الإنسان في شيء زاد علمه فيه.

اما من علم علما فلم يأبه به ، ولم يعمل بهداه ، فان العلم سيرتحل عنه بلا توديع ، وقد جاء في الحديث :

«العلم يهتف بالعمل ، فان أجابه والا ارتحل»

لذلك فان هدى الله لا يعطى الا لمن عمل به ، واستعد لبذل الجهد في سبيل تطبيقه ، فاذا فعل البشر ذلك ، فسوف تتوضح له دروب السلامة في مختلف حقول الحياة ، درب السلامة في : الاجتماع ، ودرب السلامة في السياسة ، وفي الاقتصاد وهكذا.

ذلك لأن لكل حقل دربا سليما ، ودروبا مهلكة ، تنتهي بسالكها الى المأساة ، وهذه الدروب لا يهتدى إليها الا العاملون فقط.

(يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)

إن الذين يتبعون مناهج الله ، يهديهم ربهم للطرق السالمة في الحياة بعيدا عن

٣٣٦

الطرق المهلكة.

(وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ)

اي إن الله لا يكتفي بأن يرسم للبشر خريطة للحياة توضح لهم دروب السلامة بل ويعطيهم مشعل العقل والايمان ، حتى يكتشفوهم بأنفسهم هذه الدروب ، ويستوضحوا ما خفي عنهم منها.

(وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

اي أن سبل السلام تنتهي بالتالي الى صراط واحد مستقيم لا عوج فيه ولا انحراف ينتهي بصاحبه الى الجنة.

لقد كفر الذين قالوا :

[١٧] وأبرز معالم الصراط المستقيم الذي هدى الله عباده اليه ، وزودهم بنور العقل للمشي فيه ، انه صراط التوحيد الخالص ، بينما الطرق الأخرى إنما هي سبل الشرك ، والانحراف ، وقد احتاجت البشرية جميعا ، وبالذات اليهود والنصارى لهداية الله ، وتجديد رسالته لهم لأنهم انحرفوا عن هذا الصراط المستقيم فقالوا أقوالا كافرة على أنبيائهم فمثلا قالت النصارى (أو طائفة منهم) : إنّ الله قد حل في المسيح حلولا ، فأصبح المسيح هو الله؟!

انها كلمة كفر ، وصراط أعوج. أن يكون العبد العاجز الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، إلها يملك السموات والأرض؟!

أية ضلالة أكبر من هذه الضلالة! ان يتصور البشر أن واحدا مثلهم يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق وتعتريه أسباب الضعف والعجز هو إله يملك الشمس

٣٣٧

والقمر والنجوم والكواكب؟!

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)

هل يملك المسيح القدرة على منع الله من إهلاكه وإهلاك أمه ، والناس الذين يقولون عنه انه إله؟! كلا ... ان المسيح أعجز من ذلك ، فكيف يدعي انه إله سبحان الله وهل يفهم الذين يزعمون ان المسيح هو الله ، هل يفهمون ما يقولون؟ هل يعرفون مقام الألوهية ... وأن الله يملك السموات والأرض وانه يخلق وانه قادر على كل شيء؟!

انهم لو تصوروا قليلا ضخامة السموات والأرض لصغرت في أعينهم شخصية المسيح على عظمته ، واعادوه الى مرتبة عبودية الله.

هذه الأرض الواسعة بما فيها من قفار شاسعة ، وبحار عظيمة ، وجبال راسية ، وأنهار واحياء مختلفة ، هل يملكها المسيح (من دون الله) أبدا هذا غير معقول!

وهذه الشمس العملاقة التي لو وضعت أرضنا فيها لضاعت كما تضيع حلقة صغيرة في صحراء واسعة!!!

هذه المجرات التي تحتوي على ألف الملايين من الشموس بعضها أكبر من شمسنا بحيث لو وضعت فيها شمسنا لضاعت كما تضيع حبة الرمل في الصحراء.

وهذه الملايين من المجرات التي تسبح في القضاء اللامتناهي ، التي تضيع فيها مجرتنا على ضخامتها.

كل هذه يملكها الله ، أم المسيح البشر الضعيف الذي لا يكاد يملأ حيزا من

٣٣٨

الأرض؟! ومن هو الجدير بالالوهية الله أم المسيح بن مريم؟!

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما)

إن أحد الأسباب الرئيسية للكفر أو الشرك هو جهل عظمة الله ، وعدم معرفة سلطانه الواسع ، وملكوته العظيمة ، ولذلك كلما تحدث القران عن الشرك بين جانبا من قدرته لينتزع من قلب الإنسان أهم أسباب الشرك به.

(يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

[١٨] وحين قالت النصارى : ان المسيح ابن الله ، أو إنه هو الله ، فإن دافعهم النفسي كان التملص من مسئوليتهم كبشر.

انهم قالوا : ان المسيح هو الله ، ونحن اتباعه المقربون اليه ، فهو لن يعذبنا ، بل سوف يقف حاجزا بين رب العرش وبيننا حتى لا نعذب بذنوبنا.

وهذه هي الضلالة الكبرى التي يقع فيها البشر ، فما ذا ترجو من بشر لا يرى نفسه مسئولة عن الخطيئات التي يرتكبها؟ أفترجو منه سوى الجريمة والعدوان؟

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ)

انظر كيف ان الله فضحهم وأكذب أحدوثتهم رأسا ، وبلا مقدمات ، فلم يناقش مسألة أنهم أبناؤه أم لا ، بل ناقش قضية المسؤولية مباشرة فقال :

ان الهدف الذي تبغونه من وراء هذه الدعاوي هو الخلاص من مسئولية أعمالكم .. كلا .. إنكم مسئولون عنها ، وابسط دليل على ذلك مسئوليتكم في الدنيا عن أعمالكم. إن الواحد منكم يشرب الخمر فيسكر ويجرح نفسه ، أو

٣٣٩

يمرض ويموت أو ليست هذه مسئولية مباشرة لعمل شرب الخمر ، والاخر منكم يأكل الميتة وهي حرام ، فيموت متأثرا بالجراثيم التي كانت فيها أو ليست هذه مسئولية لحقت به جراء عمله. إذا فأنتم مسئولون عن أعمالكم ، معذبون بسيئاتكم ، وهذا ابسط دليل على انكم كسائر البشر خلقكم الله.

(يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ)

بلا حتم عليه من قبل الناس أنفسهم.

وعاد القران وذكرنا بقدرة الله ، وملكوته ، لعلنا نتذكر استحالة اتخاذ الله لبعض عباده أبناء له.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما)

ثم ذكرنا مرة اخرى بالمسؤولية أمامه ، تجاه أعمالنا قائلا :

(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)

وهناك يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء.

٣٤٠