فإنّ هيهنا نكات لا بدّ من ملاحظتها :
أوّلاً : كيف يمكن أن يحذف من القرآن الذي كان يقرأ ليلاً ونهاراً وكان له أربعة عشر أو أكثر من أربعين كاتباً ومئات من القرّاء والحفّاظ ، الآلاف من آياته فإنّ هذا أمر مستحيل عادةً لا يتفوّه به عاقل.
ثانياً : ما هو الوجه والداعي لحذف هذه الآيات في خصوص ذلك المورد وهو ما بين شرط وجزاء ، فلا يتصوّر له وجه ولا يوجد له داع.
ثالثاً : يوجد هنا ربط واضح بين الشرط والجزاء يتّضح لنا بملاحظة شأن نزول هذه الآية فقد ذكر له وجوه ستّة (١) عمدتها أربعة :
الوجه الأوّل : أنّهم كانوا في الجاهلية يأخذون إليهم الأيتام الصغيرة من النساء ، وذلك لقلّة صداقهنّ أو عدم صداق لهنّ أوّلاً ، ولأنّ لهم أموالاً كثيرة ثانياً فيتزوّجون بهنّ ويأكلون أموالهنّ إلى أموالهم ثمّ لا يقسطون فيهنّ وربّما أخرجوهنّ بعد أكل مالهنّ فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهم يرتزقن منه ولا راغب فيهنّ فيتزوجنّ ، وقد شدّد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث والظلم الفاحش وأكّد النهي عن ظلم اليتامى وأكل أموالهم ضمن آيات عديدة فأعقب ذلك أنّ المسلمين أشفقوا على أنفسهم وخافوا خوفاً شديداً حتّى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفاً من الابتلاء بأموالهم والتفريط في حقّهم ، فنزلت هذه الآية وهي واقعة موقع التأكيد بالنسبة إلى النهي الواقع في تلك الآيات ، والمعنى : « اتّقوا أمر اليتامى ولا تتبدّلوا خبيث أموالكم بطيّب أموالهم ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتّى أنّكم إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمات منهم ولم تطب نفوسكم أن تنكحوهنّ وتتزوّجوا بهنّ فدعوهنّ وانكحوا نساءً غيرهنّ ما طاب لكم مثنى وثلاث ورباع ، فقول ( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) في معنى قولنا « إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهنّ وانكحوا نساءً غيرهنّ ».
الوجه الثاني : أنّهم كانوا يشدّدون في أمر اليتامى ولا يشدّدون في أمر النساء فيتزوجون منهنّ عدداً كثيراً ولا يعدلون بينهنّ فقال تعالى : إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء
__________________
(١) راجع تفسير مجمع البيان : ذيل هذه الآية.