أقول : لو حاولنا النقاش في هذه التعاريف فيمكن المناقشة في كلّ منها ، فمثلاً بالنسبة إلى التعريف الأخير ( وهو للمحاضرات ) يمكن أن يقال : إنّ الصحيح هو التعبير برفع الحكم لا رفع الأمر ، وأيضاً لا وجه لتخصيصه النسخ بالشريعة المقدّسة بل إنّه ثابت بين العرف والعقلاء أيضاً في أحكامهم ، كما أنّ هذا الإشكال يرد على تعريف المحقّق الخراساني رحمهالله أيضاً لأنّ تعبيره بالدفع يتصوّر في دائرة الشرع ، وأمّا في دائرة الموالي العرفيّة وعبيدهم فإنّ النسخ هو الرفع لا الدفع كما لا يخفى ، وهكذا بالنسبة إلى كلام المحقّق النائيني رحمهالله حيث إنّه أيضاً خصّص النسخ في تعريفه بدائرة الشرع ، والأحسن أن يقال : النسخ ، رفع حكم تكليفي أو وضعي مع بقاء موضوعه ( ثبوتاً أو إثباتاً ).
ثمّ إنّه هل يجوز النسخ في حكم الله تعالى أو لا؟ المشهور أو المجمع عليه بين المسلمين جوازه ونسب إلى اليهود والنصارى أنّه مستحيل ، واستدلّ لذلك بأنّه إمّا إن كان الحكم المنسوخ ذا مصلحة فلا بدّ من دوامه وبقائه ولا وجه لنسخه وإزالته ، وأمّا إن لم يكن ذا مصلحة فاللازم عدم جعله ابتداءً إلاّ إذا كان الجاعل جاهلاً بحقائق الامور ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، كما أنّ النسخ في الأحكام العرفيّة أيضاً يرجع إلى أحد الأمرين : إمّا إلى جهل الجاهل من أوّل الأمر بعدم وجود المصلحة في الحكم ، وإمّا إلى جهله بعدم دوام المصلحة وعدم كونه عالماً بالمستقبل ، وبما أن الله تعالى لا يتصوّر فيه الجهل بالمستقبل حدوثاً وبقاءً يستحيل النسخ بالنسبة إليه كما لا يخفى.
والجواب عن هذا معروف ، وهو أنّه لا إشكال في أن يكون لشيء مصلحة في زمان دون زمان آخر كالدواء الذي نافع للمريض يوماً وضارّ يوماً آخر ، كما أنّ الرجوع إلى التاريخ وشأن نزول الآيات في قصّة القبلة يرشدنا إلى هذه النكتة ، وحينئذٍ يكون النسخ بمعنى انتهاء أمد الحكم وزوال المصلحة ، ومن هنا ذهب المشهور إلى أنّ النسخ دفع الحكم لا رفعه ، كما أنّ المعروف كون النسخ تخصيصاً للعموم الأزماني لأحكام الشرع ظاهراً ، ولكنّ الإنصاف أنّ بقاء الأحكام مستفاد من طبيعتها وأنّ النسخ في الحقيقة رفع لا دفع.
توضيح ذلك : أنّ الأحكام الإنشائيّة على أقسام فتارةً يكون من الأحكام التكليفيّة كالوجوب والحرمة ، واخرى من قبيل الأحكام الوضعيّة كالملكيّة والزوجيّة ، وثالثة من قبيل المناصب المجعولة كمنصب القضاوة والوزارة ، وكلّ واحد من هذه الثلاثة قد يكون موقتاً