وما يبعث على الدهشة والاستغراب والحيرة والافتخار معا ، أن هذه البقعة الصغيرة بحجمها ، ذات ماض مجيد ، وتاريخ مفعم بالبطولات ، وقد أنبتت أبطالا أشدّاء ، وقادة حكماء ، وعلماء بررة ، وشعراء كبارا وكتبة ومؤلفين ، تركوا آثارا علمية عظيمة ، ومؤلفات جمّة في : الفلسفة ، والأصول ، والفقه ، والعقائد ، والرياضيات ، والطبّ ، واللغة ، والأدب ، والشعر ، ومع كلّ هذا ، لم يصل إلينا من متروكاتهم التأريخية كتاب واحد يتحدّث عمّا تعرّضت له بلادنا من أحداث!.
ولعل السبب في ذلك ، يعود إلى عدم رغبة العامليين في كتابة التاريخ السياسي لبلادهم ، لأنهم شأن جميع الشيعة في كل العصور السالفة ، قد جافوا السياسة وأربابها ، لاكتوائهم بحرّ نارها ، حتى في العصر الفاطمي الذي كان يتشيّع لبعض أئمتهم ، لم يتحمّسوا له ولدولته إلّا بمقدار ، حتى أنّك لتجد ـ مثلا ـ شاعرا (١) من مدينة صور ، ذائع الصيت ، مدّاحا للغني والفقير على حدّ سواء ، وهو مع ذلك لم يمدح خلفاء هذه الدولة إلّا بقصائد معدودة في ديوانه.
وهناك رأي جدير بالاهتمام ، يفترض أن مؤلفات العامليين التاريخية تفرّقت أيدي سبأ ، ولعبت بها أيدي الضياع ، وبدّدتها الحوادث ، فعفى أثرها ، وامّحى خبرها ، في عصور ، كانت البلاد تسبح فيها ، في بحر من الدماء ، وتهزّها الفتن ، وترهقها الحروب ، فاقتضت السياسات المتعاقبة على مصادرة مكتبات العلماء ومخطوطاتهم النفيسة فيكفي أن ينشد عالم في قرية مجدل سلم قصيدة ، وذلك في أوائل القرن الثامن من الهجرة ، حتى
__________________
(١) هو الشاعر عبد المحسن الصوري.