ثمّ ذكر سبحانه إنعامه عليهم بإنزال كتابه وإرسال رسله إليهم ، وما قابلوه به من تكذيبهم ، فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني : أعطيناه التوراة جملة واحدة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أرسلنا على أثره الرسل ، أي : رسولا بعد رسول ، يتبع الآخر الأوّل في الدعاء إلى وحدانيّة الله تعالى ، والقيام بشرائعه على منهاج واحد ، لأنّ كلّ من بعثه الله نبيّا بعد موسى إلى زمن عيسى عليهالسلام ـ كيوشع وأشموئيل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريّا ويحيى وغيرهم ـ فإنّما بعثه بإقامة التوراة والعمل بما فيها والدعاء إلى ذلك ، كقوله : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) (١) أي : واحدا بعد واحد. يقال : قفّاه إذا أتبعه ، وقفّاه به أتبعه إيّاه من القفا ، نحو : ذنبه من الذنب (٢).
(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحات الدالّة على نبوّته ، كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار بالمغيّبات ، أو الإنجيل الّذي هو جامع للآيات الفاصلة بين الحلال والحرام.
وعيسى بالعبريّة أيشوع ، بمعنى المبارك. ومريم بمعنى الخادم. وهو بالعربيّة من رامه يريمه ريما إذا فارقه ، وريم بالرجل إذا قطع به ، على وزن مفعل ، إذ لم يثبت فعيل. وزير في مقابلته ، أي : رجل كثير الزيارة للنساء. قال رؤبة :
قلت لزير لم تصله مريمه |
|
ضليل أهواء الصبا تندّمه (٣) |
__________________
(١) المؤمنون : ٤٤.
(٢) ذنبه يذنبه : تلا ذنبه فلم يفارق أثره. (لسان العرب ١ : ٣٩٠)
(٣) الزير : من يكثر مودّة النساء وزيارتهنّ. والمريم : من تكثر مودّة الرجال وزيارتهم. ولعلّ معناه : أن ندمه ضالّ ضائع في أهواء الصّبا.