لأجلكم وانتفاعكم به في دنياكم (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بأن تتمتّعوا منه بفنون المطاعم والمناكح والمراكب والمناظر البهجة ، وفي دينكم بأن تنظروا فيه وما يتضمّنه من عجائب الصّنع الدالّة على الصانع القادر الحكيم. فالنعمة الاولى خلقهم أحياء قادرين مرّة بعد اخرى ، وهذه خلق ما يتوقّف عليه بقاؤهم ويتمّ به معاشهم. وفي هذا دلالة على أنّ أصل الأشياء الإباحة إلى أن يمنع الشرع بالنهي ، وجاز لكلّ أحد أن يتناولها ويستنفع بها. و «جميعا» نصب على الحال من قوله : (ما فِي الْأَرْضِ).
(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي : قصد إليها بإرادته بعد خلق ما في الأرض ، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر ، من قولهم : استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا ، من غير أن يلوي على شيء. وأصل الاستواء طلب السواء ، وإطلاقه على الاعتدال والاستقامة والانتصاب ، لما فيه من تسوية وضع الأجزاء. ولا يمكن حمله عليه ، لأنّه من خواصّ الأجسام ، فإنّه تعالى منزّه عن الانتصاب. وضدّه وهو الاعوجاج. فيكون بمعنى : قصد إليها بإرادته.
وقيل : (اسْتَوى) أي : استولى وملك. والأوّل أوفق للأصل ، والصلة المعدّى بها ، والتسوية المترتّبة عليه بالفاء. والمراد بالسماء هذه الأجرام العلويّة ، أو جهات العلوّ.
و «ثمّ» لتفاوت ما بين الخلقين ، وفضل خلق السماء على خلق الأرض ، كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (١) ، وكما تقول لصاحبك : أليس قد أعطيتك ثمّ رفعت منزلتك؟ لا للتراخي في الوقت ، فإنّه يخالف ظاهر قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٢) ، فإنّه يدلّ على تأخّر دحو الأرض ـ المتقدّم على خلق ما فيها ـ
__________________
(١) البلد : ١٧.
(٢) النازعات : ٣٠.