مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

منتزعة من الفعل بعد امتناع اجتماع الأمثال إلاّ تعدّد الواجب ، وهو لا يتمّ بالفرض إلاّ بعدم التداخل. وأمّا الأوامر التأكيديّة فلا يستفاد منها وجوب غير ما أفاده الأمر الأوّل. نعم ، لا بأس باستفادة شدّة الطلب وتأكّده بتكرار الأوامر التأكيديّة. ولا يحسن قياس تعدّد الوجوب بتعدّد الإيجاب الحاصل في التأكيد ، فإنّ الأمر الثاني مرتّب على الأمر الأوّل في التأكيد ووارد في مورده ، بخلاف ما نحن فيه ، ضرورة حصول الوجوب على وجه التعدّد ـ مثل وجود السبب ـ بنفس الكلام الدالّ على السببيّة ، فيكون تلك الوجوبات كلّ واحد منها في عرض الآخر ، فهناك إيجابات متعدّدة في موارد متعدّدة بواسطة الكلام الدالّ على السببيّة ، ويتفرّع عليها وجوبات متعدّدة على وجه التعليق ، وبعد حصول المعلّق عليه ـ وهو وجود السبب ـ يتحقّق الاشتغال فعلا بأفراد مختلفة.

فإن قلت : هب! إنّ الموجود في مثل المقام تكاليف متعدّدة ، ولكنّه نقول بأنّ الإتيان بالفرد الواحد يكفي في الامتثال عنها ، كما يقضي به العرف فيما لو أمر بإعطاء درهم بعالم (١) وإعطاء درهم آخر بهاشميّ ، فلو أنّه أعطى درهما بعالم هاشميّ يعدّ ممتثلا في العرف.

قلنا : وهو ظاهر الفساد بعد اختلاف متعلّق التكاليف المتعدّدة بواسطة الوجودات الخاصّة. وأمّا صدق الامتثال في العالم الهاشمي بواسطة تداخل المفهومين في مصداق واحد واجتماعهما فيه ، ولا يعقل تداخل متعلّق التكاليف في المقام ، فإنّ المفروض هو اختلاف متعلّقاتها بالوجود ، وتداخل الفردين من ماهيّة واحدة غير معقول.

والقول : بأنّ تعدّد الأسباب لو كان كاشفا عن تعدّد المسبّبات ـ كما هو

__________________

(١) كذا ، والمناسب : « لعالم » ، وكذا ما يليه.

٦٦١

المفروض ـ فلم لا يكون كاشفا عن تعدّد ماهيّات المسبّبات حتّى لا يمتنع الاجتماع في فرد ، ولو لم يكن كاشفا فالكلام ساقط.

مدفوع : بأنّه ساقط جدّا ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ ذلك يستلزم الخروج عن ظاهر اللفظ الدالّ على المسبّب ، فإنّ ظاهره وحدة الماهيّة ، واختلاف الأسباب ولا سيّما اختلافها بواسطة الأفراد ـ كما هو مقتضى ظاهر اللفظ الدال على السبب ـ لا يقضي باختلاف المسبّب. وأمّا عند اختلافها ماهيّة وإن احتمل اختلاف المسبّب أيضا بحسب الماهيّة لامتناع اتّحاد آثار الماهيّات المختلفة ، إلاّ أنّه يحتمل استناد المسبّب أيضا إلى وحدة جامعة لتلك الأسباب المختلفة ، فلا يدلّ على اختلاف المسبب أيضا.

وثانيا : سلّمنا أنّ اختلاف الأسباب ولو بالفرديّة يوجب اختلاف ماهيّات المسبّبات ، ومع ذلك فلا دليل على الاكتفاء بفرد في مقام الامتثال ، إذ من المعلوم أنّ الفرد الواحد لا بدّ وأن يكون مجمعا للعنوانين حتّى يكتفى به في الامتثال ، وذلك مبنيّ على إمكان اجتماعهما ، ولا دليل عليه. فلعلّ تينك الماهيّتين ممّا لا تتصادقان أبدا ، فيكون بينهما مباينة كلّية.

وبما ذكرنا تعرف الكلام فيما إذا كان السبب لذلك الشيء متعدّدا ، كما إذا قيل : « إذا نمت فتوضّأ » و « إذا بلت فتوضّأ » و « إذا خرج من أحد سبيليك شيء ـ مثلا ـ فتوضّأ » فإنّه لا بدّ من القول : بأنّ السبب الواقعي هو القدر المشترك بين تلك الأسباب المختلفة ، ويكون اختلاف أنواعها بمنزلة اختلاف الأفراد ، ويجب تعدّد المسبّبات بحسب مقتضى اللفظ إلاّ إذا دلّ دليل على التقييد ، كما في خصوص الوضوء ، على ما قرّر في محلّه.

وإذ قد عرفت ما ذكرنا ، يظهر أنّ شيئا من الموارد لا يلزم فيه اجتماع الأمثال ولا اجتماع الأضداد ، فإنّ الحكم فيما سبق محصور بين وجوب الإتيان بأفراد مختلفة ـ وظاهر أنّه لا يقضى بشيء من اللازمين ـ وبين الإتيان بفرد

٦٦٢

واحد لعدم وجوب غيره ـ كما في الوضوء ـ وليس فيه اجتماع الأمثال ولا الأضداد ، وبين الإتيان بفرد واجب شديد الوجوب أكيد الطلب ـ كما في قتل زيد ـ من دون اجتماع للوجوبات فيه ، كما لا يخفى. وأمّا اجتماع الوجوب والندب في الوضوء فقد عرفت فيما سبق تحقيق الكلام فيه ، فلا حاجة إلى الإطالة بالإعادة.

المقام الثاني : في خصوص تداخل الأغسال.

وتوضيح الحال فيه على وجه تبيّن حقيقة المقال ، هو أن يقال : إنّ الأصحاب في الأغسال :

بين من ذهب إلى أنّها ليست حقائق مختلفة ، والأثر الحاصل منها ليس إلاّ رفع لحالة واحدة مسمّاة عندهم بالحدث (١) ، مستظهرين ذلك من ظواهر الخطابات الآمرة بالغسل بعد تحقّق أسبابها ، فإنّ الظاهر اتّحاد حقيقة الغسل ـ كالوضوء ـ بعد عدم ما هو يصلح للاختلاف ، فإنّ الأسباب المختلفة لاحتمال اشتراكها في قدر يصحّ استناد المسبّب إليه لا يدلّ على اختلاف المسبّبات ـ كما عرفت ـ وأمّا الأسباب المختلفة فعندهم مثل أسباب الوضوء مقيّدة بما إذا لم يكن أحدها مسبوقا بالآخر.

وبين من ذهب إلى أنّها ماهيّات مختلفة لاختلاف آثارها وأحكامها (٢) ، مثل ارتفاع بعضها وبقاء الآخر ولزوم الوضوء في البعض دون الآخر. واستكشف ذلك أيضا من الروايات الدالّة على إجزاء غسل واحد من الأغسال (٣) ؛ فإنّ

__________________

(١) انظر الحدائق ٢ : ١٩٦ ـ ١٩٨.

(٢) انظر الجواهر ٢ : ١١٧ ـ ١١٩.

(٣) انظر الوسائل ١ : ٥٢٥ ، الباب ٤٣ من أبواب الجنابة.

٦٦٣

ظاهر الإجزاء هو ثبوت المقتضي لكلّ واحد ، وما دلّ على أنّها حقوق لله (١) ، وما دلّ على أنّ المكلّف يجعل الحيض والجنابة غسلا واحدا (٢) إلى غير ذلك من أمارات الاختلاف.

فعلى الأوّل ، لا ينبغي الإشكال في تداخل الأغسال ، فإنّه كالوضوء الذي يسقط به الفرض ويجزئ عن النفل. ولا محذور فيه ، إذ المحذور إنّما هو فيما إذا كان هناك ماهيّات مجتمعة في فرد واحد لكلّ واحد منها حكم غير حكم الآخر شخصا ليلزم اجتماع الأمثال ، أو نوعا ليلزم اجتماع الأضداد. وبعد اتّحادها ـ كما هو المفروض ـ فلا بدّ إمّا من القول بلزوم إيجاد الغسل مكرّرا على حسب تكرار السبب ، كما في المنزوحات وسجدتي السهو مثلا ونحوهما ؛ لعدم تعقّل تداخل الأفراد المندرجة تحت ماهيّة واحدة. أو القول بتداخل الأسباب بمعنى تقييد الأوامر المطلقة بما إذا لم يكن مسبوقا بسبب آخر كما في الوضوء. وعلى التقديرين لا إشكال ؛ لعدم الاجتماع على الأوّل وعدم التعدّد على الثاني ، وهو ظاهر ممّا مرّ أيضا.

وعلى الثاني ، فبملاحظة أدلّة الإجزاء يحكم بتصادق الماهيّات المختلفة ـ كما هو المفروض ـ في فرد جامع لها ، ويتحقّق به الامتثال عنها على تقدير القصد إلى الجميع تفصيلا كما إذا قصد كلّ واحد منها بغاياتها وأسبابها ، أو إجمالا كما إذا قصد الحدث الحاصل منها على وجه الإطلاق ، أو قصد الغسل الذي يندرج فيه غيره كالجنابة على المشهور ، فإنّ الحدث الذي يرتفع بغسل الجنابة فوق جميع الأحداث على ما قيل (٣) ، ولا محذور فيه ، إذ غاية ما في الباب : صدق الامتثال بعد القصد إلى

__________________

(١) انظر الوسائل ١ : ٥٢٦ ، الباب ٣٢ من أبواب الجنابة ، الحديث الأوّل.

(٢) انظر الوسائل ٢ : ٥٦٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الحيض.

(٣) انظر جامع المقاصد ١ : ١٣٠.

٦٦٤

تلك العناوين ووجودها في ذلك الفرد ، فيكون من قبيل اجتماع إطاعة الوالد والوالدة في فعل واحد ، ومن قبيل اجتماع إكرام العالم وإضافة الهاشمي في فرد ، وغاية ما يلزم من ذلك هو اجتماع الجهات وتأكّد الطلب من دون غائلة ، كما عرفت نظيره فيما تقدّم مرارا ، من غير فرق في ذلك بين الواجب والمندوب ، كأن يكونا واجبين أو مندوبين أو مختلفين ، فإنّ طريق الحلّ في الكلّ واحد.

وحاصله : تأكّد الطلب باجتماع جهتي الوجوبين أو الندبين أو الوجوب والندب. ولعلّه إلى ذلك يشير ما أفاده الشهيد السعيد في الذكرى : بأنّ نيّة الوجوب تستلزم نيّة الندب ؛ لاشتراكهما في الترجيح. ولا يضرّ اعتقاد منع الترك ، لأنّه مؤكّد للغاية. ومثله الصلاة على جنازتي بالغ وصبيّ (١).

وقد يجاب عن الإشكال المذكور في الواجب والندب :

أوّلا : بأنّ الدليل لمّا دلّ على الاجتزاء بغسل واحد عن الغسلين يلزم أن يقال : إحدى الوظيفتين تتأدّى بالاخرى ، بمعنى أنّه يحصل له ثوابها وإن لم يكن من أفرادها حقيقة ، كما تتأدّى صلاة التحيّة بالفريضة والصوم المستحبّ بالقضاء.

وثانيا : بأنّ ما دلّ على استحباب غسل الجمعة يختصّ بصورة لا يحصل سبب الوجوب ، والمراد من كونه مستحبّا أنّه مستحبّ من حيث نفسه مع قطع النظر عن طريان العارض المقتضي للوجوب (٢) ، انتهى.

أقول : وفي كلا الوجهين نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّ تأدّي إحدى الوظيفتين بالاخرى غير معقول ، إلاّ أن تكون المصلحة الداعية إلى طلبها موجودة في الاخرى ، وذلك يوجب إيجاب المندوب أيضا ، فإنّه أحد أفراد الواجب المخيّر لاستوائهما في المصلحة.

__________________

(١) الذكرى ١ : ٢٠٥.

(٢) انظر المدارك ١ : ١٩٦.

٦٦٥

وأمّا سقوط التحيّة بالفريضة كالمندوب من الصوم بالقضاء ، فعلى القول به لا بدّ من أن يحمل على مجرّد الفضل. أو المراد به اشتمال الفريضة والقضاء على ما هو أزيد ثوابا من التحيّة والصوم المندوب ، فيكون المراد هو وصول المنفعة الحاصلة منهما إليه لا سقوطهما بغيرهما. أو المراد به هو أنّ العبد بعد ورود الأمر بالقضاء لا يتمكّن من الصوم المندوب في اليوم الذي يقع فيه الصوم قضاء ، مع أنّه في مقام الانقياد ويطلب ذلك الصوم المندوب أيضا ، فيستحقّ لذلك ثواب الصوم المندوب.

والتزام أمثال ذلك في الغسل الواجب والمندوب بعيد جدّا ، حيث إنّ ظاهرهم الإطباق على حصول المأمور به إمّا بتداخل الأسباب كما في أسباب الوضوء ، أو بتداخل المسبّبات مثل اجتماع مفاهيم متعدّدة في فرد واحد ، وليس من السقوط في شيء.

ثمّ إنّه لو فرض كونه من السقوط فهو إنّما يتمّ في سقوط النفل بالفرض مثل سقوط الجمعة بالجنابة ، ولا يعقل سقوط الفرض بالنفل ، وقضيّة ما ذكره هو سقوط كلّ من الوظيفتين بالاخرى (١).

وأمّا الثاني : فإن أراد منه اختصاص دليل الاستحباب بصورة عدم وجوب الغسل على المكلّف فهو بعيد جدّا ، بل ومقطوع الفساد ؛ للإجماع على خلافه ، مضافا إلى الإطلاق وعدم ما يقضي بالتقيّد. وإن أراد منه وجوب غسل الجمعة لعارض ـ كالنذر وشبهه ـ فهو فاسد قطعا ، لأنّ الإشكال في صورة الاستحباب. وإن أراد وجوبه من حيث اتّحاده في المصداق مع الواجب فهو واجب لاتّحاده مع الواجب فهو ممّا لا يجدي قطعا ، إذ الإشكال إنّما هو في اجتماع المندوب والواجب ، ولم نجد من عروض الوجوب بالمعنى المذكور فائدة.

__________________

(١) لم ترد عبارة « ثم إنّه لو فرض ـ إلى ـ بالاخرى » في ( ع ).

٦٦٦

وأجاب عن الإشكال بعض أعاظم مشايخنا ـ دام ظلّه ـ : بأنّ هذا الفرد يعني ما يجزي عن الغسلين ليس مصداقا للكلّيين حتّى يلزم الإشكال ، بل هو أمر خارج عنهما ، فهو من قبيل فرد لكلّي آخر اجتزى الشارع به عن الواجب والمندوب ، لكن لمّا شابههما في الصورة يسمّى بالتداخل ، وإلاّ فهو ليس بغسل جنابة وغسل جمعة ليرد ذلك.

ثمّ قال : فإن قلت : هذا الغسل واجب أو مستحبّ أو كلاهما؟ قلت : هو حيث يقوم مقام الأغسال الواجبة فهو أحد فردي الواجب المخيّر بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين أن يأتي بالفعلين أو بالفعل الواحد المجزي عنهما ، وحيث يقوم مقام الواجب والمندوب فهو مندوب محضا ، لأنّه يجوز تركه لا إلى بدل فلا يكون واجبا ، فينوي بناء على اشتراط نيّة الوجه ، الندب فيه مع نيّة الاجتزاء عن الواجب والمندوب ، وعلى عدم الاشتراط ينوي القربة مع نيّة الاجتزاء به عن الجميع (١) ، انتهى.

وفيه ـ بعد الغضّ عن ظواهر كلماتهم القاضية باجتماع المفهومين في فرد واحد كما هو مقتضى القول بتداخل المسبّبات ، وعلى القول بتداخل الأسباب فالأمر أظهر ـ : أنّ ذلك يوجب اجتماع الواجب والمندوب فيما نصّ الشارع على وجوبه ، وهو محال قطعا حتّى على القول بجواز اجتماع الأحكام المتضادّة ، فإنّ أصحاب هذه المقالة الفاسدة يخصّون الجواز بما إذا اجتمع بعض أفراد الواجب المخيّر عقلا مع الاستحباب ، وأمّا فيما نصّ الشارع على وجوبه عينا أو تخييرا شرعيّا فلا قائل بالجواز.

بيان اللزوم : أنّ قيام فرد من ماهيّة مغايرة لماهيّة اخرى مقام أفراد هذه الماهيّة لا يعقل إلاّ وأن يكون مصلحة ذلك الواجب متحقّقة في ضمن ذلك الفرد ،

__________________

(١) الجواهر ٢ : ١٢٩ ـ ١٣٠.

٦٦٧

وحيث إنّ إجزاء ذلك الفرد المذكور لا بدّ وأن يكون بواسطة تعلّق أمر الشارع بذلك الفرد ، فلا محالة يكون ذلك الفرد أحد أفراد الواجب المخيّر بالنسبة إلى الأمر الوجوبي المتعلّق بماهيّة غسل الجنابة لتحقّق مصلحته به أيضا. وكذا بالنسبة إلى الأمر الندبي المتعلّق بماهيّة غسل الجمعة ، فيكون ذلك الفرد موردا للطلب الندبي والوجوبي معا على وجه التخيير الشرعي.

وأمّا ما أورده في الجواب عن الترديدات فلا يجدي شيئا ، كما يظهر للمتأمّل.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّ شيئا من هذه الموارد ليس من مورد اجتماع حكمين فعليّين سواء كانا مثلين أو ضدّين.

وتلخّص أيضا : أنّ موارد اجتماع الأسباب والمسبّبات لا يخلو من صور أربع :

الاولى : تعدّدهما مع المباينة الكلّية بين الأسباب والمسبّبات ، كما إذا قيل : « إذا ظاهرت فأعتق رقبة » و « إذا تكلّمت فاسجد سجدتي السهو » مثلا ، وحكمها ظاهر.

الثانية : تعدّدهما مع تصادق المسبّبين فقط ، أو مع تصادق السببين أيضا ، أو تصادق السببين فقط. فعلى الأوّلين ينوط (١) الكلام بدعوى صدق امتثال التكليفين بالإتيان بالفرد الجامع ، ولعلّه كذلك. وعلى الثاني فالظاهر عدم التداخل ولزوم الإتيان بالطبيعتين عند تصادق السببين لعدم المانع بعد وجود المقتضي ، ويظهر ممّا مرّ.

الثالثة : أن يعلم اتّحاد حقيقة المسبّبات مع إمكان تكرّر وجوداتها في الخارج سواء كان الأسباب متّحدة الحقائق أو مختلفة ، لرجوع الثاني إلى الأوّل كما عرفت.

__________________

(١) كذا ، والأنسب : « يناط ».

٦٦٨

وحكمها تكرار الوجودات بالإتيان بأفراد كثيرة على حسب تكرار المسبّبات ، أشخاصها أو أنواعها. اللهم إلاّ أن يعلم بالدليل تقييد تلك الأسباب بعدم مسبوقيّة بعضها بأمثالها ، كما في الوضوء.

الرابعة : أن يعلم اتّحاد المسبّب مع عدم قابليّته للتكرار ، ولا مجال للتعدّد فيه أيضا ، وقد عرفت ممّا مرّ.

ثمّ إنّ لبعض الأجلّة في المقام كلاما طويلا لا بأس بنقله والتنبيه على بعض ما فيه ، حيث قال : وأمّا تداخل بعض العبادات كالأغسال فلا إشكال في تداخل واجباتها ومندوباتها مع اعتبار النيّة ، لأنّ مرجعه إلى التخيير بين أفعال مشتملة على النيّة وبين فعل واحد مشتمل على تلك النيّات ، وهما متغايران. ولو قلنا بتداخلها أو الاستحباب قهرا فيرجع إلى تأكّد الوجوب أو الاستحباب عند تعدّد الأسباب. ثمّ نفى الإشكال أيضا عند اجتماع الواجب والمندوب فيما إذا كانا غيريّين وعند اختلاف وجههما بالغيريّة والنفسيّة ، زعما منه أنّ اختلاف وجه الوجوب والندب يجدي في اجتماع الحكمين الفعليّين.

ثمّ قال : وكذا في النفسيّة منها إن جعلنا الوجوب والندب لا حقين للفعل مع النيّة الخاصّة ، بأن جعلنا النيّة شطرا من العمل لتغاير المورد. فمحلّ الوجوب في المثال المذكور الغسل مع نيّة رفع الجنابة ، ومحلّ الاستحباب الغسل مع نيّة كونه للجمعة ، ولا ريب في تغاير المركّبين وتباينهما ، غاية ما في الباب أن يشتركا في جزء وهو ما عدا النيّة ، فيلزم وجوبه في ضمن أحدهما واستحبابه في ضمن الآخر ، ووجوبه لأحدهما واستحبابه للآخر ، ولا إشكال في شيء منهما.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ عدم المنع من تركه في ضمن مركّب أعمّ من عدم المنع من تركه لا في ضمنه ، لصدقه على فعله مع ترك ما ينضمّ إليه ، فلا ينافي عدم جواز تركه في نفسه ولو في ضمن مركّب آخر. وإن جعلناهما لا حقين للفعل

٦٦٩

بشرط النيّة كان بحكم الواجب المخيّر مع رجحان بعض أفراده (١). انتهى موضع الحاجة من كلامه.

أقول : إنّ وجوه فساده غير خفيّ على أحد.

أمّا أوّلا : فلأنّ نفي الإشكال عن تداخل الأغسال مع اتّحادها نوعا من الواجب والمندوب في غير محلّه ، لما قد عرفت من لزوم اجتماع الأمثال على تقديره ، وإن كان مدفوعا بما عرفت من تأكّد الطلب باجتماع المفاهيم المتعدّدة في فرد واحد ، كما دفعه عند التداخل القهري على ما زعمه.

وأمّا ثانيا : أنّ موارد التداخل القهري إنّما هو فيما إذا لم يكن الفعل قابلا للتكرار كما في مثال القتل ـ على مسامحة فيه أيضا ـ وفيما إذا قلنا بتداخل الأسباب بواسطة التقييد في إطلاق دليل السببيّة كما في الوضوء ، والأغسال ليس من قبيل الأوّل الذي هو قابل للتأكيد. وعلى الثاني لا وجه للتأكيد ، إذ ليس هناك أسباب متعدّدة ليحصل منها وجوبات تكون منشأ للتأكيد. ويظهر ذلك بملاحظة ما ذكرنا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ دخول النيّة في المأمور به ولحوق الوجوب والندب للفعل المركّب مع النيّة قد فرغنا عن إبطاله فيما تقدّم. سلّمنا لكن الفعل لا يختلف حكمه باختلاف النيّة في المقام ، فإنّ قوله : « فمحلّ الوجوب الغسل مع نيّة رفع الجنابة ، ومحلّ الاستحباب الغسل مع نيّة كونه للجمعة ، ولا ريب في تباين المركّبين » يعطي بظاهره اتّحاد حقيقة الغسل مع قطع النظر عن النيّتين ، وإنّما الاختلاف بواسطة اختلاف نفس النيّتين ، كما يؤيّده قوله : « غاية ما في الباب أن يشتركا في جزء » ولا سبيل لنا إلى تعقل اتّصاف فعل واحد بالوجوب والندب بواسطة النيّة من غير أن يكون النيّة منشأ لاختلاف حقيقة الفعل ، كما في لطم اليتيم بنيّة التأديب والظلم ؛

__________________

(١) الفصول : ١٣٦.

٦٧٠

على أنّ ما ذكره لا يجدي في دفع الإشكال ، فإنّ الفعل لا أقلّ من كونه جزءا للواجب والمندوب ، فيلزم اتّصافه بالوجوب والندب ، فإنّ جزء الواجب والمندوب يتبعان الكلّ في الحكم. اللهم إلاّ بالقول بعدم التضادّ بينهما فيما إذا كانا غيريّين ، وستعرف فساده.

نعم ، يصحّ ذلك فيما إذا كان المركّبان ممتازي الوجود ، كما إذا وقع السجود في الصلاة الواجبة والمندوبة ، وأمّا إذا كان فعل واحد في وجوده الواحد جزءا لمركّبين ، أحدهما واجب والآخر مندوب ـ كما في الغسل ـ فالإشكال ظاهر الورود فيه.

ثمّ إنّه لو فرض كفاية نفس النيّة ودخولها في الواجب في جعل أحد الفعلين مغايرا للآخر ـ كما زعمه ـ فالتقييد بتلك النيّة أيضا يوجب التغاير والاختلاف ، فلم يعلم وجه للفرق بين دخول النيّة في العمل كأن يكون شطرا منه وبين خروجها كأن تكون شرطا.

وأمّا نفي الإشكال عند اجتماع الواجب والمندوب إذا كانا غيريّين أو أحدهما غيريّا والآخر نفسيّا فهو مبنيّ على ما زعمه من نفي التضادّ بين الوجوب والاستحباب إذا كانا غيريّين أو مختلفين ، حيث قال : إنّ الوجوب والندب إمّا أن يتّحدا جهة ، بأن يكونا نفسيّين أو غيريّين مع اتّحاد الغير أو لا ، فإن كان الأوّل امتنع الاجتماع.

ثمّ أخذ في الاستدلال على ما صار إليه ـ إلى أن قال : ـ وإن كان الثاني جاز الاجتماع ، إذ لو امتنع لكان إمّا باعتبار الرجحان ولا حجر من هذه الجهة ، إذ انضمام الرجحان إلى الرجحان لا يوجب إلاّ تأكّد الرجحان ، أو باعتبار ما تقوّما به من المنع من النقيض وعدمه ولا حجر من هذه الجهة أيضا ، لأنّ الوجوب والندب حيث كانا باعتبار جهتين كان المنع من الترك وعدمه أيضا باعتبارهما. ولا منافاة بين المنع من ترك الفعل لنفسه أو لغيره وبين عدم المنع منه لغيره أو لأمر آخر ،

٦٧١

فإنّ عدم المنع من النقيض بأحد الاعتبارين راجع إلى عدم اقتضاء ذلك الاعتبار للمنع ، وهو لا ينافي اقتضاء اعتبار آخر له (١).

ثمّ أوضحه بعبارة اخرى : بأنّه يصدق على الواجب لنفسه أنّه ليس بواجب لغيره ، وذلك يوجب أن لا يكون ممنوع الترك لغيره ، فإذا انضمّ إليه رجحانه حصل ماهيّة الاستحباب. ثمّ قاس على ذلك اجتماع الوجوب الغيري والاستحباب النفسي ، وأطال فيما يتعلّق به.

أقول : لا يخفى على المتأمّل أنّ اختلاف الوجوب والاستحباب بالغيريّة والنفسيّة ليس إلاّ اختلاف الشيء باعتبار الغايات التي يترتّب على الشيء ، فإنّ الواجب الغيري لا يمايز الواجب النفسي فيما هو مناط المطلوبيّة وما به يتحقّق ملاك صدق الوجوب ، إلاّ من حيث إنّ الوجه في وجوب أحدهما ليس خارجا عن حقيقة المطلوب ، والوجه في الآخر هو ذلك الغير ، ولعلّ ذلك ظاهر. فكما أنّه لا يعقل اجتماع الوجوب والاستحباب فيما إذا كانا نفسيّين لا يعقل اجتماعهما فيما إذا كان أحدهما نفسيّا والآخر غيريّا ، لأنّ مناط التضادّ متحقّق في حقيقة الطلبين ولا مدخل للغاية المترتّبة على المطلوب في ذلك. نعم ، يصحّ ما ذكره فيما إذا قلنا بأنّ الوجوب الغيري ليس من حقيقة الوجوب وإنّما هو من قبيل إسناد الشيء إلى غير ما هو له فإنّ المطلوب هو الغير. وليس كذلك ، فإنّ المتّصف بالوجوب هو الواجب الغيري حقيقة ، والغير إنّما يكون واسطة في ثبوت تلك الصفة له.

وأمّا ما زعمه : من أنّه لا حجر باعتبار الرجحان لأنّ انضمامه يوجب تأكّده ، فإن أراد أنّ الرجحان بعد انضمامه إلى الرجحان الوجوبي باق بحاله على وجه يشاهد في النفس رجحانان نظير وجودهما بالنسبة إلى أمرين ـ فبعد كونه بديهي البطلان وجدانا وبرهانا لاستلزامه اجتماع الأمثال ـ يردّه ما زعمه من التأكيد بعد

__________________

(١) انظر الفصول : ١٣٥.

٦٧٢

الانضمام ؛ لأنّ التأكيد إنّما هو في اندراج أحدهما في الآخر ، كما يلاحظ في اجتماع السوادين. وإن أراد أنّ الانضمام يوجب أن يكون أحدهما مندرجا تحت الآخر فذلك اعتراف بامتناع الاجتماع في الحكمين الفعليّين. ومجرّد تحقّق فصل الاستحباب الغيري ـ وهو عدم كونه ممنوع الترك للغير ـ بعد التسليم لا يجدي في الحكم بكون الاستحباب الغيري موجودا بالفعل في مورد الوجوب النفسي.

ثمّ إنّه حكم بالامتناع فيما إذا فسّر المندوب بالرجحان مع الإذن في الترك ، وما ذكره من الجواز مقصور على ما إذا فسّر بالرجحان مع عدم المنع من الترك ، وجعل التفسير الثاني أسدّ وأولى نظرا إلى اختلاف الرجحان بالشدّة والضعف.

ولم يعلم وجه فرق بينهما ، فإنّ التحقيق أنّ اختلاف الوجوب والاستحباب إنّما هو بواسطة اختلاف مراتب الطلب شدّة وضعفا ، وليس حقيقة عدم المنع من الترك ولا الإذن في الترك معتبرة في ماهيّة الاستحباب ، وإنّما يفسّر بأحدهما من حيث إنّهما من لوازم تلك المرتبة ، وحينئذ فكما يجوز أخذ عدم المنع من الترك فصلا يجوز أخذ الإذن أيضا فصلا.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره في وجه الأولويّة بالنسبة إلى تفسير المندوب غير وجيه ، فإنّ تلك المراتب حقائق بسيطة تارة ينتزع منها الإذن ، واخرى عدم المنع من الترك ، وذلك ظاهر.

وما ذكرنا إنّما هو فيما إذا اجتمع الواجب والاستحباب العينيّان. وأمّا إذا كان الواجب تخييريّا والاستحباب عينيّا ـ كإيجاد الصلاة في المسجد ـ فقد عرفت في توجيه العبادات المكروهة وجه الصحّة فيها ، وحاصله : أنّ تلك الأوامر إرشاد إلى مزيّة حاصلة في الأفراد الخاصّة ، كما مرّ فيما سبق.

ويمكن أن يجاب أيضا : بأنّ الاستحباب في أفراد الواجب المخيّر إنّما يلاحظ بالنسبة إلى جهة التخيير ، فيكون المتّصف بالاستحباب هو الواجب بعد اتّصافه بالوجوب التخييري ، ولا تضادّ بين الاستحباب وذلك الوجوب.

٦٧٣

وتوضيحه : أنّ الوجوب والاستحباب إذا اعتبرا في مرتبة واحدة ليكون أحدهما في عرض الآخر في عروضهما للفعل ، فلا ريب في تضادّهما ، فيمتنع اتّصاف محلّ واحد بهما ، من غير فرق بين اختلاف وجههما أو جهتهما. وأمّا إذا اعتبر الاستحباب مرتّبا على الواجب ـ كأن يكون لحوق وصف الاستحباب في موضوع الواجب بعد اتّصافه بالوجوب التخييري ـ فلا تضادّ بينهما ، فإنّه إذا اتّصف الفعل باعتبار تركه المقيّد بعدم الإتيان بالبدل بالوجوب ، فلا بدّ أن يتّصف باعتبار تركه المقيّد بإتيان البدل بحكم آخر ، فترك الفعل على وجه الإطلاق من دون ملاحظة أحد الاعتبارين لا حكم له ، وتركه بالاعتبار الأوّل ممّا لا يجوز ، وبالاعتبار الثاني ممّا يجوز ، وهذا الاعتبار قد يصير راجحا فيكون الفعل مكروها ، وقد يكون مرجوحا فيكون الفعل مستحبّا ، وقد يبقى بحاله فيكون الفعل من هذه الجهة جائز الترك فقط ، ولا منافاة. وكيف! والفعل بالاعتبار الثاني واقع في عرض الفعل بالاعتبار الأوّل فيجوز اتّصافه بالاستحباب والكراهة ، بل ولا بدّ ذلك بناء على عدم خلوّ الواقعة عن الحكم.

لا يقال : فيجوز اتّصافه بالاعتبار الثاني بالحرمة أيضا.

لأنّا نقول : إنّ طريان الوجوب على الفعل باعتبار تركه لا إلى بدل مانع عن اتّصاف ذلك الفعل باعتبار تركه إلى بدل بالحرمة ، لأنّ ذلك يوجب انقلاب الواجب التخييري إلى الواجب العيني ، وهو خلف.

وبالجملة ، فمناط هذا الجواب هو منع التضادّ بين الوجوب التخييري والاستحباب والكراهة ، فإنّ جنس الحكمين ـ وهو جواز الترك ـ من مقوّمات الوجوب التخييري ، ومحل الوجوب هو الفعل باعتبار تركه الخاصّ ، ومحلّ الاستحباب هو الفعل باعتبار تركه إلى بدل ، كذا أفاده شيخنا ( دام ظلّه ).

أقول : ولعمري! إنّه ـ رفع الله اسمه في سماء التحقيق ـ وإن دقّق النظر في هذه الإفادة ، ولكنّه بعد غير خال من النظر.

٦٧٤

أمّا أوّلا : فبالنقض بالواجب التخييري الشرعي ، فانّه قد عرفت انعقاد إجماعهم على امتناع اجتماع الكراهة بالمعنى المصطلح والاستحباب بمعناه والوجوب في الواجب التخييري الشرعي ، ولذلك كان الجواب الأوّل عن النقض بالعبادات المكروهة النقض بالواجب التخييري الشرعي ، كما مرّ.

وأمّا ثانيا : فلأنّه يستلزم اتّصاف الفعل بوجوبين فيما لو نذر إيجاد الفعل في مكان خاصّ ، فإن الفعل باعتبار تركه لا إلى بدل متّصف بالوجوب الأصلي ، وباعتبار تركه إلى بدل متّصف بالوجوب الثابت بالنذر ، وهو محال.

وأمّا ثالثا : فلأنّ اتّصاف الفعل بالاستحباب والكراهة بعد اتّصافه بالوجوب على أن يكون موضوع الكراهة والاستحباب هو الفعل الواجب هو المحذور في جميع المقامات السابقة ، ولا نجد فرقا في استحالته بين القسمين. وهو قريب ممّا ذكره بعض الأجلّة (١) في توجيه اجتماع الوجوب النفسي والاستحباب الغيري ، والعجب! أنّه ـ سلّمه الله ـ قد بالغ في الردّ على المقالة المذكورة ، مع أنّ ما أفاده لا ينقص منها مفسدة ، فتأمّل. هذا تمام الكلام في الواجب التخييري مع الاستحباب العيني.

وأمّا التخييريّان ، فنظير اجتماع الواجب التخييري مع المكروه فيما إذا كان بين العنوانين عموم من وجه. وقد عرفت أنّ أوجه الوجوه في توجيه اجتماعهما هو القول بوجود الجهة. ولا يصحّ الجواب المذكور ، لأنّ الاستحباب بمعنى أفضليّته من سائر الأفراد لا يتأتّى في الأفراد التي لا اجتماع فيها مع الوجوب ، فيوجب استعمال اللفظ في معنيين : أحدهما الإرشاد ، وثانيهما الطلب الاستحبابي. وهذا هو تمام الكلام في الحلّ عن الاستدلال النقضي بالعبادات المكروهة ، وهو الوجه الأوّل من وجوه استدلالهم.

__________________

(١) وهو صاحب الفصول في الفصول : ١٣٦.

٦٧٥

الثاني

من وجوه احتجاجهم على الجواز

أنّ المقتضي موجود والمانع مفقود.

أمّا الأوّل : فلإطلاق الخطابات الشرعيّة القاضية بحصول الامتثال والمخالفة في مورد اجتماع الأمر والنهي عند الإتيان بذلك المورد.

وأمّا الثاني ، فلأنّ المانع إمّا التكليف بما لا يطاق أو اجتماع الضدّين ، ولا يلزم شيء منهما.

أمّا الأوّل ، فظاهر بعد اعتبار المندوحة في محلّ النزاع ، فإنّ وجه اعتبارها إنّما هو بواسطة دفع هذا التوهّم ، وإلاّ فكما أنّ تعدّد الجهتين مجد بالنسبة إلى المحذور الآتي فيما فيه المندوحة فكذلك هو مجد فيما ليس فيه المندوحة.

وأمّا الثاني : فلاختلاف محلّي الأمر والنهي ، فإنّ الأمر متعلّق بماهيّة الصلاة والنهي متعلّق بماهيّة الغصب في المثال المعروف ، ولا ريب أنّ إحدى الماهيّتين مغايرة مع الاخرى. وحصول الطبيعتين في الفرد لا يوجب اتّصاف الفرد بالضدّين ، لعدم تعلّق الطلب به ابتداء. وأمّا الطلب المقدّمي من حيث إنّ الفرد مقدّمة لوجود الكلّي فلا نسلّم ثبوته أوّلا ، وعلى تقدير التسليم فليس المطلوب المقدّمي إلاّ فردا ما ، وإيجاد هذا المفهوم في ضمن فرد خاصّ إنّما هو مثل إيجاد الماهيّة المأمور بها في ضمن أفرادها ، فإنّ فردا ما أيضا كلّي ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى اتّصاف الفرد الموجود في الخارج بالوجوب المقدّمي التبعي التخييري العقلي ، وهو توصّليّ لا مانع من اجتماعه مع الحرام ، وذلك لا يوجب انقلاب الواجب التعبّدي بالتوصّلي ، لأنّ

٦٧٦

التعبّدي هي الطبيعة التي يكون الفرد مقدّمة لوجودها. وقد سلك هذا المسلك غير واحد من المجوّزين (١) وأوضحه المحقّق القمّي رحمه‌الله (٢).

وحيث إنّ ذلك مبنيّ على مقدّمات غير مسلّمة : من عدم وجوب المقدّمة ولا سيّما فيما إذا كان ذوها متّحدا معها في الوجود الخارجي ـ كما نبّهنا على ذلك في محلّه ـ واختلاف الطبيعة والفرد باتّصاف أحدهما بالوجوب التعبّدي والآخر بالوجوب التوصّلي ، وكلّ ذلك ممّا لا محصّل له ؛ لأنّ وجوب المقدّمة ضروريّ بالمعنى المتنازع فيه ، ولا سيّما فيما إذا كانت متّحدة مع ذيها في الوجوب ، على أنّ مقدّمية الفرد للطبيعة ممّا لم نقف لها على محصّل ، فإنّ الفرد على ما هو التحقيق ليس إلاّ عين الطبيعة ، كما ستعرف.

فالأولى أن يوجّه عدم المانع على وجه لا يبتني على هذه المقدّمات ، وهو أن يقال : إنّ الفرد الجامع للعنوانين إنّما هو متّصف بالحرمة العينيّة بناء على اقتضاء النهي استيعاب أفراد الماهيّة المنهيّ عنها ، وليس متّصفا بالوجوب المتضادّ للحرمة بوجه.

وتوضيحه : أنّ الوجوب المتوهّم اتّصاف الفرد به إمّا العيني أو التخييري ، وعلى الثاني إمّا أن يكون شرعيّا أو عقليّا ، والأوّلان ظاهر انتفاؤهما في المقام.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ الوجوب العيني إنّما هو متعلّق بالطبيعة ، وليس الفرد واجبا عينيّا ، وإلاّ لاستلزم إمّا وجوب جميع الأفراد أو عدم حصول الإجزاء بفرد آخر ، والتالي بقسميه باطل ، ضرورة عدم وجوبها وحصول الإجزاء بجميعها. والملازمة ظاهرة جدّا.

لا يقال : إنّ ثبوت حكم للماهيّة يستلزم سراية ذلك الحكم إلى الأفراد

__________________

(١) منهم الكلباسي في الإشارات : ١١٠.

(٢) انظر القوانين ١ : ١٤١.

٦٧٧

كما في الأوصاف اللاحقة للماهيّة باعتبار وجودها الخارجي ، كالبياض والسواد والحلاوة والمرارة والبرودة والحرارة ونحوها.

لأنّا نقول : إنّ اتصاف الطبيعة بالوجوب العيني ليس من قبيل اتّصافها بأوصافها القائمة بها باعتبار وجودها في الخارج ، وإلاّ لاستلزم أحد المحذورين : من اتّصاف الجميع بالوجوب العيني وعدم الإجزاء.

وأمّا الثاني ـ وهو عدم اتّصاف الفرد بالوجوب التخييري الشرعي ـ فهو من الامور الواضحة التي لا يليق توهّم خلافه لأحد.

وأمّا الأخير ـ وهو الوجوب التخييري العقلي ـ فبيان عدم اتّصاف الفرد به يحتاج إلى تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّ التخيير العقلي ليس من الأحكام التكليفيّة العقليّة ، بل التحقيق أنّ مرجعه إلى إذن وضعيّ وترخيص لا يؤول إلى التكليف من حيث مساواة الأفراد في نظر العقل حيث إنّها ممّا يحصل معها الامتثال بالواجب العيني ، وحاصله يرجع إلى التصديق بأنّ الطبيعة المطلوبة إنّما تتحقّق في هذه الأفراد ، وليس ذلك ممّا ينافي حرمة واحد من هذه الأفراد.

وإذ قد عرفت هذه ، فإن اريد من اتّصاف الفرد بالوجوب العقلي التخييري ما ذكرنا ، فقد عرفت عدم المنافاة. وإن اريد معنى آخر مثل حكم الشارع بالتخيير بين أفراد ماهيّات مختلفة ـ كخصال الكفّارة ـ على وجه يتّصف كلّ واحد منها بالمطلوبيّة التخييريّة ، فلا نسلّم أنّ الفرد متّصف بالوجوب بهذا المعنى. وإلزام العقل بالامتثال راجع إلى امتثال الواجب العيني ، ولا حكم له في الأفراد بوجه إلاّ ما عرفت من التصديق ، وهو ليس حكما تكليفيّا ، كما هو ظاهر.

فإن قلت : فعلى ما ذكرت من عدم اتّصاف الفرد بالوجوب ـ على اختلاف أنحائه ـ فما مناط الامتثال؟ ومن أي وجه يتّصف بالصحّة التي لا يراد بها إلاّ مطابقة الفعل للمأمور به؟ ومن المعلوم أنّ ذلك غير معقول على تقدير عدم تعلّق الأمر به بوجه لا عينا ولا تخييرا.

٦٧٨

قلت : إنّ انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد وتحقّقها فيه كاف في الصحة وانتزاعها ، ولا حاجة إلى اعتبار أمر خارج عن الأمر المتعلّق بالطبيعة في الفرد حتّى يتّصف بالصحّة ويكون موردا لانتزاعها ، بل وهذا هو الوجه في اتّصاف الفرد بالصحّة ولو في غير الأفراد المحرّمة.

فإن قيل : إنّ اجتماع المصلحة والمفسدة التي هما جهتا ثبوت الوجوب والحرمة أيضا ممتنع ، والفرد المحرّم لا بدّ وأن يكون مجمعا لهما وإن لم يجتمع فيه الوجوب والحرمة.

قلنا : إن اريد بالمصلحة والمفسدة الحسن والقبح الفعليّان فلا نسلّم اجتماعهما في الفرد ، فإنّ اجتماعهما في الفرد يوجب اجتماع الوجوب والحرمة ، فإنّهما علّتان تامّتان لهما ، والمفروض عدم اجتماعهما. وإن اريد وجود الجهات المقتضية للحسن والقبح ، فلا نسلّم امتناع اجتماعهما ، كيف! وهو معلوم لا ينبغي التأمّل في ثبوته ، كما يلاحظ في الأدوية المضرّة للسوداء النافعة لما يضادّها ، وفي الأغذية النافعة لبعض الأمراض والموجبة لبعض آخر ، فإنّ كلّ ذلك ممّا يشاهد بالوجدان ، وليس فيه استحالة من حيث اجتماع الحب والبغض في الفرد. والسرّ في ذلك : أنّ متعلّق الحبّ والبغض هو نفس تلك الجهات ، ولا سراية إلى ما (١) يشتمل على تلك الجهات.

والجواب عن ذلك يظهر بعد تمهيد مقدّمة ، وهي : أنّ الحق ـ كما عليه المحقّقون (٢) ـ وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ، ومعنى وجوده هو أنّ الصورة الكلّية المطابقة لكثيرين المنتزعة من الصورة الشخصيّة الحاضرة في الخيال بتجريدها عن

__________________

(١) في ( ع ) : ما لا يشتمل.

(٢) انظر شرح المنظومة للسبزواري : ٢١.

٦٧٩

لوازم (١) الشخصيّة من الأوضاع الخاصّة والكيفيّات المخصوصة تارة تلاحظ في نفسها ولا يحكم عليها بالوجود ذهنا ولا خارجا ولا بالكلّية والجزئيّة ، ضرورة أنّ هذه كلّها أوصاف خارجة عن الماهيّة طارئة عليها وإن كانت متّصفة بالوجود الذهني في الواقع ، فإنّ عدم اتّصافها به يوجب التعامي عن بيان أحكامها وجودا وعدما. واخرى تلاحظ من حيث إنّها متّصفة بالوجود ذهنا أو خارجا.

فعلى الأوّل فهو فرد من مفهوم الصور الذهنيّة ومصداق من مصاديق العلم. وعلى الثاني فهو فرد من أفراد تلك الماهيّة في الخارج ، فالفرد ليس إلاّ تلك الماهيّة عند اتّصافها بالوجود الخارجي. وبعبارة اخرى : أنّ الفرد ليس إلاّ الطبيعة الخارجيّة ، ولا يعقل من الفرد سوى ما ذكرنا.

والإنصاف : أنّ وجود الكلّي بالمعنى المذكور من الامور الواضحة الجليّة التي لا يتوقّف العلم به على ملاحظة أمر خارج عن طرفي الحكم المزبور.

نعم ، ربما قيل : إنّه يحتاج إلى تنبيه ، حيث إنّ الطبيعة لا بشرط شيء ربما يتوهّم أنّ مقارنة شيء لها مانعة عن وجودها ، وحمل ما هو المعروف في الاستدلال من حديث الجزئيّة على ذلك. ولعلّه لا يحتاج إلى التنبيه من هذه الجهة أيضا ؛ فإنّ المقارن ـ على ما هو المفروض ـ ليس إلاّ الوجود الذي به يتحقّق تلك المأخوذة لا بشرط شيء ، ولا يعقل ممانعة الوجود المقارن عن اتّصاف الماهيّة لا بشرط شيء بالوجود. كيف! وذلك المقارن هو وجودها.

ومن هنا يظهر أنّ ما هو المعروف عندهم في تقريب الاستدلال بالجزئيّة : من أنّ الماهيّة بشرط شيء موجودة في الخارج واللابشرط جزء منها وجزء الموجود الخارجي موجود ، لا يخلو عن مسامحة ومساهلة ، حيث إنّ المركّب ليس إلاّ الماهيّة

__________________

(١) كذا ، والمناسب : اللوازم.

٦٨٠