مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

بترتيب الأثر المقصود منها عليها ينافي ما استقرّ عليه ديدن أهل العلم كافّة : من التمسّك بعموم ما دلّ على مشروعيّة المعاملة عند الشكّ فيها أو في اعتبار أمر لا دليل على اعتباره فيها ، حتّى أنّ الشهيد قد ملأ الأساطير من ذلك ، بل ولولاه لما دار رحى الفقه ، كما لا يكاد يخفى على المستأنس بكلامه ، وقد ادّعى الفاضل (١) الإجماع على جواز التمسّك بعموم قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٢).

وأمّا ما استند إليه من التبادر ، فربما يكون منشؤه ـ على تقدير التسليم ـ هو ما ذكره المحقّق والعلاّمة : من دعوى الانصراف ، فلا بدّ أن يكون مستندا إلى غير اللفظ ، إمّا بواسطة الارتكاز في أذهان المتشرّعة : من حمل الفعل الصادر عن الفاعل على الصحّة ـ كما لعلّه هو الوجه في بعض الموارد ـ أو غيره. ويشهد بما ذكرنا ـ من منع التبادر ـ أنّه لو نذر أن لا يبيع الخمر فباعه لا يعقل دعوى تبادر الصحيح منه مع حصول الحنث معه ، فتأمّل.

وقد تصدّى بعض المحقّقين (٣) في تعليقاته على المعالم لدفع التنافي ، وأطال في بيانه ، وملخّصه : أنّ المراد من كون أسامي المعاملات موضوعة للصحيحة ، أنّ المعنى العرفي أيضا هو الصحيح ، لا أنّها أسام (٤) للصحيح الشرعي الذي لازمه الإجمال ويكون موقوفا على بيان الشارع ، وإنّما يكون إطلاقها على الفاسدة من باب المشاكلة ونحوها (٥) من المجاز ، فلا اختلاف بين الشرع والعرف في أصل المفهوم

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

(٣) هو الشيخ محمّد تقي الأصفهاني.

(٤) في « ع » و « م » : « أسامي ».

(٥) في « ط » و « م » بدل « ونحوها » : « ونحو ».

٤١

والمعنى ، غاية الأمر أنّ العرف ربما يزعمون صدق ذلك المعنى والمفهوم على أمر ليس ذلك مصداقا له في الواقع يكشف عنه الشارع ، فالاختلاف إنّما هو في المصداق الشرعي والعرفي بعد الاتّفاق على نفس المعنى والمفهوم. وحينئذ فإذا ورد من الشارع أمر بإمضاء معاملة من تلك المعاملات على وجه الإطلاق من دون ملاحظة قيد من القيود يحكم بالمشروعيّة عند الشكّ على وجه الإطلاق ، من دون حزازة ولا محذور (١).

وفيه أوّلا : أنّ ما ذكره مخالف لصريح كلام الشهيد (٢) ، كما لا يخفى على الناظر فيه.

وتوضيحه : أنّ الفاسد العرفي هو ما يصحّ عنه سلب الإسم حقيقة ، كبيع الهازل ، فإنّه ليس بيعا عندهم ، وإنّما إطلاقه عليه بنحو من المشابهة الصوريّة (٣). وأمّا الفاسد الشرعي ـ كبيع الخمر وبيع المنابذة والحصاة ـ فهو بيع عند أهل العرف حقيقة. والفاسد في كلام الشهيد إنّما يراد به الفاسد الشرعي دون الفاسد العرفي ، وهو في غاية الظهور.

وثانيا : أنّ التوجيه المذكور لا ينهض بدفع الإشكال بوجه.

وبيانه : أنّ الوجه في الرجوع إلى متفاهم العرف عند إطلاق الألفاظ الواردة في المحاورات ، إمّا لتشخيص المفاهيم العرفيّة واللغويّة ؛ من حيث إنّ أنظارهم تكشف عن حقيقة المسمّى وواقع المعنى والمفهوم عند طروّ ما يوجب نحوا من الإجمال في المفهوم ، وإمّا لتشخيص موارد تلك المفاهيم ومصاديقها. والاشتباه في

__________________

(١) هداية المسترشدين ١ : ٤٩١ ـ ٤٩٢.

(٢) المتقدّم في الصفحة ٣٨.

(٣) في « ط » و « م » زيادة : « مثلا ».

٤٢

المصاديق قد يكون تابعا للاشتباه في المفهوم ، من حيث إنّ المفهوم قد عرضه نحو من الإجمال على وجه يمكن استعلامه بعد تلطيف النظر وتدقيقه ، وقد لا يكون كذلك ـ للعلم بحقائق تلك المفاهيم على ما هي عليها في الواقع ـ وإنّما المجهول وجود ذلك المفهوم المعلوم في المورد الخاصّ ، وذلك ينحصر فيما إذا اشتبه المورد بغيره بواسطة عروض حالة خاصّة ، كما إذا اشتبه الرجل بالمرأة لعارض الظلمة ونحوها ، ولا نعقل وجها آخر للاشتباه في المصاديق غير ذلك بعد العلم بالمفهوم على ما هو عليه في الواقع.

فالموجّه إمّا يعترف بعدم الإجمال في المفهوم بوجه من الوجوه ، أو يلتزم بالإجمال على وجه لا يرتفع إجماله بالرجوع إلى العرف.

فعلى الأوّل ، لا وجه لعدم الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق.

فإن قلت : إنّ الشارع إنّما يحكم بخطإ العرف في الحكم بوجود ذلك المفهوم المعلوم عندهم في ذلك المورد والمصداق.

قلت : ذلك يجدي فيما إذا تبدّل حكم العرف بعد كشف الشارع عن الخطأ ، مثل حكمه بخطإ العرف في اعتقادهم طهارة الكافر ونظافته ؛ لاحتمال أن يكون هناك قذارة معنويّة يطّلع عليها الشارع دون غيره. وأمّا إذا لم يتبدّل الاعتقاد وكان حكمهم بوجود المصداق بعد الكشف مثل حكمهم به قبل الكشف ، كما في البيع بالفارسيّة ؛ إذ لا فرق قطعا في صدق البيع بدون الشرائط المقرّرة بعد العلم بحكم الشارع باعتبارها وقبله ، وليس الفاقد الشرعي كبيع الهازل في نظر العرف قطعا ، فلا وجه لما ذكره ، بل لا بدّ من الالتزام بأنّ الفاقد للشرائط الشرعيّة من حقيقة البيع ، لكن وجوب الوفاء بالعقد يختصّ بواجدها ، فيكون ذلك خروجا حكميّا.

وعلى الثاني ، فلا وجه للرجوع إلى العرف أصلا ، بل المعنى حينئذ ملحق بالمفاهيم المجملة التي لا مسرح للعرف فيها ، وقد فرّ الموجّه منه.

٤٣

سلّمنا إمكان وقوع الاشتباه في المصاديق بعد العلم بالمفهوم من غير الجهة التي فرضناها ، ومع ذلك فلا ينهض قول الموجّه دافعا للإشكال ؛ إذ بعد فرض اختلاف نظر الشارع والعرف في تشخيص المصداق ، لا وجه للتمسّك بالإطلاق ؛ إذ غاية ما هناك حكم العرف بوجود ذلك المفهوم في المورد المشكوك على ما وصل إليه أنظارهم ، وهو لا يجدي ، بل لا بدّ أن يكون ذلك مصداقا في نظر الشارع. ولا دليل على أنّ ما هو المصداق العرفي هو المصداق الشرعي كما هو المفروض ، فاللازم تحصيل معيار شرعيّ لا مدخل للعرف فيه لأجل التشخيص المذكور.

فإن قلت : إنّ الرجوع إلى الإطلاق إنّما هو لأجل تحصيل ما هو المصداق واقعا ، وحيث إنّه لا يمكن الوصول إلى الواقع من دون أن يكون اعتقاد المكلّف طريقا إليه ـ كما يظهر ذلك بملاحظة ما لو جعل الشارع أيضا معيارا لتشخيص المصداق ، فإنّ وجود ذلك المعيار الشرعي أيضا منوط بنظر العرف دفعا للتسلسل ـ فلا بدّ أن يكون لاعتقاده مدخل فيه ، فما لم يعلم من الشارع الحكم بخطإ العرف ، فهم يعتقدون أنّه هو المصداق الشرعي ، ويجب عليهم إجراء أحكامه عليه.

قلت : ذلك يتمّ فيما إذا اتّحد نظر العرف والشرع في التشخيص ، وأمّا إذا اختلفا فلا وجه لذلك ، كما هو المفروض. وأمّا لزوم التسلسل ، فهو إنّما يكون بواسطة التزام (١) اختلاف الأنظار العرفيّة والشرعيّة ، كما لا يخفى. وأمّا الحكم بالخطإ فقد عرفت أنّه لا يجدي فيما لا فرق في الصدق بعده وقبله.

وبالجملة : فلا نعلم وجها لتصحيح ما أفاده الشهيد رحمه‌الله ، ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ النزاع لا يجري في ألفاظ المعاملات ، والله الهادي إلى سواء السبيل والموفّق.

__________________

(١) في « ط » : « إلزام ».

٤٤

هداية

قد تقدّم منّا (١) الإشارة إلى ما هو المراد بلفظ « الصحيح » ونزيد توضيحا في المقام ، فنقول :

ليس المراد به ما هو المنسوب إلى الفقهاء : من أنّ الصحيح ما أسقط القضاء (٢) ، أو إلى المتكلّمين : من أنّه ما وافق الشريعة (٣) ؛ إذ الصحّة على الوجهين من الصفات الاعتباريّة المنتزعة عن محالّها بعد تعلّق الأمر بها ، ولا يعقل أن يكون داخلا في الموضوع له.

بل المراد به الماهيّة الجعليّة الجامعة للأجزاء والشرائط التي لها مدخل في ترتّب ما هو الباعث على الأمر بها عليها ، ويعبّر عنه في الفارسية بـ « درست » وهو معناه لغة. وقد ذكرنا في محلّه أنّ الفقهاء والمتكلّمين أيضا لم يصطلحوا على إبداع معنى جديد غير ما هو المعهود منه في اللغة.

وعن الوحيد البهبهاني (٤) : أنّه نسب إلى القوم أنّهم غير قائلين بدخول الشرائط ، فهم أعمّيون بالنسبة إلى الشرائط.

وهو غير ثابت ، مضافا إلى ما هو المعروف بينهم (٥) من أنّ قوله : « لا صلاة

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٣ ـ ٣٤.

(٢ و ٣) انظر نهاية الوصول : ١٠ ، وزبدة الاصول : ٤٥ ، والقوانين ١ : ١٥٧.

(٤) لم نعثر عليه ، انظر الفوائد الحائريّة : ١٠٣.

(٥) انظر ضوابط الاصول : ٢٨.

٤٥

إلاّ بطهور » (١) لا إجمال فيه على القول بالصحيح ؛ فإنّ الطهور من جملة الشرائط ، واعتباره جزءا يوجب سقوط التفصيل ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المراد من الأجزاء والشرائط هل هي الشخصيّة أو النوعيّة؟ يعني أنّ المراد منها ما هي ثابتة في حقّ القادر المختار العامد العالم ، أو ما هي واجبة على المكلّفين المختلفين حسب اختلاف الموضوعات : من الجهل والنسيان والاضطرار والاختيار والعلم والعمد ونحوها؟ وجهان غير خاليين عن محذور وإشكال.

إذ على الأوّل ، يلزم أن لا يكون غيره من الأفعال الواقعة من المكلّفين في هذه الموضوعات صلاة على وجه الحقيقة ، وتكون أبدالا عنها مسقطا لها ، والتزامه وإن كان لا يستلزم محالا إلاّ أنّه بعد في غاية الإشكال.

وعلى الثاني ، فإمّا أن يكون لفظ « الصلاة » مقولا بالاشتراك اللفظي على تلك الماهيّات المختلفة ، أو بالاشتراك المعنوي. والأوّل فساده ظاهر ، والثاني غير معقول في وجه ومستلزم لمحذور في وجه آخر.

بيان ذلك : أنّ القدر الجامع بين تلك الماهيّات لا بدّ وأن يكون بحيث يوجد في كلّ منها إذا وقعت صحيحة ومنتفية (٢) إذا وقعت فاسدة ، وقد تكون الصحيحة من مكلّف بعينها فاسدة من آخر ، فصلاة المريض تصحّ بدون القيام وهي فاسدة من الصحيح ، وصلاة ناسي القراءة (٣) كذلك ، كصلاة الغريق والمطاردة والمسايفة ونحوها.

فذلك القدر الجامع لا يعقل أن يكون أمرا مركّبا موجودا في تلك الماهيّات ؛ لما عرفت من أنّه كلّ ما يتصوّر جامعا فيحتمل أن يكون ذلك المركّب فاسدا

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٥٦ ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث ١ و ٦.

(٢) كذا في النسخ ، والمناسب : « ومنتفيا ».

(٣) في « ع » و « م » بدل « القراءة » : « الفاتحة ».

٤٦

وصحيحا بالنسبة إلى موضوعين ، فلا محالة لا بدّ من أن يكون ذلك القدر الجامع أمرا بسيطا يحصل في الواقع بواسطة تلك الأفعال المركّبة الخارجيّة (١) ، وتكون هذه المركّبات محقّقة له إذا وقعت صحيحة دون ما إذا وقعت فاسدة.

وهو إمّا أن يكون هو المطلوب أو ما هو في مرتبته ، وإمّا أن يكون ملزوما مساويا للطلب.

والأوّل غير معقول ؛ ضرورة توقّفه على الموضوع ، ولا يعقل أن يؤخذ في الموضوع ما هو موقوف عليه ، مضافا إلى استلزامه ترادف الصلاة والمطلوب ، وهو بديهيّ الفساد ، ومع كلّ (٢) ذلك فيرد عليه ما ستعرفه.

والثاني مناف لذهاب المشهور القائلين بالوضع للصحيح (٣) إلى جواز التمسّك بأصالة البراءة ، بل وقد ادّعي الإجماع على جوازه (٤).

وتوضيحه : أنّ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن لا يعلم عنوان المكلّف به بوجه.

الثاني : أن يكون العنوان معلوما ، وإنّما الشكّ في حصول ذلك العنوان في ضمن الأقلّ أو الأكثر.

فعلى الأوّل ، فالمشهور ـ كما هو التحقيق عندنا ـ على البراءة.

وعلى الثاني ، فاللازم هو الاحتياط ؛ للقطع بالمكلّف به مع الشكّ في حصوله في الخارج ، مضافا إلى أصالة عدم حصول ذلك المفهوم المعيّن بهذه الأفعال في

__________________

(١) لم يرد « الخارجيّة » في « ع ».

(٢) « كلّ » من « ع ».

(٣) في « ع » و « م » بدل « بالوضع للصحيح » : « للصحيحي ».

(٤) انظر مناهج الأحكام : ٢٨ ، وضوابط الاصول : ٢٣ ، والقوانين ١ : ٥٢ و ٥٥.

٤٧

الخارج ، كما في الطهارة على القول بعدم إجمالها ، فإنّه إذا شكّ في حصولها بالغسل مرّة أو مرّتين يجب الاحتياط في ذلك. ولعلّه لم نجد مخالفا فيه بعد تسليم الصغرى.

والعمدة في إثبات الأخذ بالبراءة عند الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة هو ملاحظة هذه المقدّمة ، فإنّ نظر القائل بالاشتغال إلى أنّ الصلاة إنّما هو عنوان للمكلّف به فيجب العلم بحصولها في الخارج ، ونظر القائل بالبراءة أنّ الصلاة إذا كانت مجملة ـ غير معلومة المعنى والمراد ـ ليست عنوانا ، بل إنّما الواجب هو امور خاصّة كالتكبير والركوع والقراءة ونحوها ، والتعبير عنها بالصلاة إنّما يجدي إذا كانت تلك الأجزاء هي الصلاة ، وبعد ما فرض عدم العلم بها وإجمالها ، إنّما يكون تعبيرا صوريّا ، كما أوضحنا سبيله في محلّه.

وإذ قد تقرّر ذلك نقول : إنّ الالتزام بوجود قدر مشترك بسيط بين تلك الماهيّات المختلفة ـ كالماهيّة المبرئة للذمّة ، أو التركيب الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر بالخاصّية ونحو ذلك ـ وقلنا : بأنّ الصلاة إنّما هي موضوعة له في الواقع ، يوجب المصير إلى الاشتغال عند الشكّ في الشرطيّة أو الجزئيّة ؛ لأنّ مرجع الشكّ إلى أنّ تلك الأفعال الواقعة في الخارج هل أوجب حصول ذلك الأمر البسيط وسقوط الاشتغال أو لا؟ بعد القطع بوجوب تحصيل ذلك الأمر. وهذا هو بعينه مورد الاشتغال والاحتياط اللازم.

لا يقال : إنّ مجرّد العلم بوجود قدر مشترك بسيط لا يوجب ذلك ، بل لو كان معلوما على وجه التفصيل ، والمفروض إجمال اللفظ وعدم العلم بالموضوع له ، وكلّ ما يتصوّر من العناوين ـ كالمبرئ وغيره ـ فإنّما هو أمر يحتمل أن يكون هو الموضوع له ، لا أنّه هو.

لأنّا نقول : لا فرق في ذلك بين العلم الإجمالي والتفصيلي ، فمتى علم بوجوب أمر واشتغال الذمّة به وجب تفريغ الذمّة عنه قطعا ، وهذا هو المراد بالمحذور.

٤٨

فالوجه في المقام هو الالتزام بأنّ المراد من الأجزاء والشرائط الشخصيّة منها.

وأمّا ما عرفت من الإشكال على ذلك التقدير : من لزوم استعمال اللفظ في غير المركّب الجامع للشرائط الواقعيّة الاختياريّة مجازا ، فيمكن دفعه بأنّ المتشرّعة توسّعوا في تسميتهم إيّاها صلاة ، فصارت حقيقة عندهم لا عند الشارع ، من حيث حصول ما هو المقصود من المركّب التام من غيره أيضا ، كما سمّوا كلّ ما هو مسكر خمرا وإن لم يكن مأخوذا من العنب ، مع أنّ الخمر هو المأخوذ منه ، وليس بذلك البعيد.

ونظير ذلك لفظ « الإجماع » فإنّه في مصطلح العامّة والخاصّة ـ على ما يظهر من تحديداتهم (١) ـ هو اتّفاق الكلّ ، ثمّ إنّهم لمّا وقفوا على حصول ما هو المقصود من اتّفاق الكلّ في اتّفاق البعض الكاشف ، توسّعوا في إطلاق « الإجماع » على مثل ذلك الاتّفاق ، وصار من موارد استعمال لفظه على وجه الحقيقة عندهم.

فكان مناط التسمية بـ « الصلاة » موجودا عندهم في غير ذلك المركّب الجامع ، فالوضع فيها نظير الوضع العام والموضوع له الخاص ، دون الاشتراك اللفظي.

فإن قلت : فعلى هذا إذا ورد كون شيء شرطا في الصلاة ـ كالطهارة مثلا ـ لا وجه لاشتراط غير ذلك الجامع بالشرط المذكور ؛ إذ المفروض أنّ الصلاة عند الشارع هو ذلك المركّب ، فثبوت ذلك الشرط لغيرها موقوف على دلالة دليل.

قلت : ولعلّ ثبوت الاشتراط لذلك الجامع كاف في ثبوته لغيره ؛ للإجماع على عدم اختلاف تلك الأبدال في جميع الامور المعتبرة في المبدل منه إلاّ ما تعذّر.

فإن قلت : الظاهر ثبوت الشرط بغيره بواسطة كونه صلاة ، ولا يلتفت إلى ذلك الإجماع (٢) ، بل لو ثبت الإجماع فإنّما هو أيضا بواسطة كونه صلاة.

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ١ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٢) في « ع » بدل « الإجماع » : « الجامع ».

٤٩

قلت : ذلك ممنوع عند التأمّل كما لا يخفى. وما يتراءى في الأنظار من ثبوت ذلك بواسطة صدق اسم « الصلاة » ، فهو إنّما يكون من حيث عدم التأمّل وحسبان أنّ لفظ « الصلاة » كسائر الألفاظ المعلومة الغير المجملة.

والإنصاف : أنّ القول بأنّ الصلاة شرعا هو المركّب التام ، وباقي الأفعال إنّما سمّيت صلاة توسّعا في التسمية ـ كما عرفت نظيره في لفظ « الإجماع » ـ ليس بعيدا ، بل الظاهر والمظنون بالظنّ القوي أنّه كذلك في نفس الأمر. ولا يلزم ما تقدّم من المحذور ، وهو عدم جواز الرجوع إلى البراءة ؛ فإنّ الصلاة حينئذ تكون اسما لذلك المركّب الغير المعلومة الأجزاء المردّدة بين الأقلّ والأكثر ، وحصول الإبراء أو النهي عن الفحشاء إنّما هو من لوازم المأمور به ، لا نفسه. وقد تحقّق في مورده جريان البراءة إذا كان نفس المكلّف به دائرا بين الأقلّ والأكثر ، لا ما به يتحقّق (١) المكلّف به ، كما عرفت إجمالا. والله الهادي إلى سواء السبيل.

__________________

(١) في « ط » : « ما يتحقّق ».

٥٠

هداية في بيان المراد من القول بالأعم

فاعلم أنّ الظاهر من كلماتهم وجوه :

أحدها : ما يظهر من المحقّق القمّي (١) : كون ألفاظ العبادات أسماء للقدر المشترك بين أجزاء معلومة ، كالأركان الأربعة في الصلاة ، وبين ما هو أزيد من ذلك ، وإن لم يقع شيء من تلك الأركان أو ما هو زائد عليها صحيحة في الخارج ، فجميع هذه الأفراد ـ أعني الصحيحة المشتملة على الأركان والزائدة عليها والفاسدة المقتصرة عليها والزائدة عليها ـ من حقيقة الصلاة ، ويطلق (٢) على جميعها لفظ « الصلاة » على وجه الاشتراك المعنوي.

ولعلّ نظره ـ بعد ما ذهب إليه من القول بالأعم ـ إلى الحكم بإجزاء الصلاة المشتملة على الأركان وإن لم يشتمل على جزء غيرها إذا وقعت سهوا أو نسيانا ، فجعل الأركان مدار صدق التسمية. ولازمه انتفاء الصدق بانتفاء أحد (٣) الأركان وإن اشتملت على بقيّة الأجزاء ، والصدق مع وجودها وإن لم يشتمل على شيء من الأجزاء والشرائط.

__________________

(١) القوانين ١ : ٤٣.

(٢) في « ع » بدل « يطلق » : « يصدق ».

(٣) لم يرد « أحد » في « م ».

٥١

وهو ممّا ينبغي القطع بفساده ؛ لأنّه منقوض طردا وعكسا ، كما لا يخفى.

مضافا إلى أنّ ذلك أمر غير معقول ؛ إذ لا يعقل القدر المشترك بين الزائد والناقص على وجه يكون الزائد أيضا من حقيقة ذلك القدر المشترك ولا يكون الزيادة من أجزاء الفرد.

وتوضيحه : أنّ القدر المشترك بين الزائد والناقص :

تارة : يراد به أن يكون الزيادة في الفرد الزائد داخلا في حقيقة الفرد خارجا عن حقيقة القدر المشترك ، ويكون الزيادة معتبرة بالنسبة إلى نفس القدر المشترك ـ لو قلنا بإمكان وجوده مع قطع النظر عن لحوق شيء مخصّص له من الفصول أو شيء آخر ـ وبالنسبة إلى الفرد الآخر الزائد على القدر المشترك أيضا ، لو قلنا بامتناع وجود القدر المشترك (١) من دون لحوق المخصّص.

وتارة : يراد به أن يكون الزيادة داخلة في حقيقة القدر المشترك ، فيكون ماهيّة واحدة تارة زائدة واخرى (٢) ناقصة.

والأوّل ـ لو قلنا بإمكانه ومعقوليّته ـ فهو ممّا لا يلتزم به القائل المذكور ؛ لظهور كلماته طرّا في أنّ الصحيحة من حقيقة الصلاة كالفاسدة ، فإطلاق لفظ « الصلاة » على كلّ واحدة من الصحيحة والفاسدة ليس من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلّي في الفرد ، ليكون حقيقة في وجه ومجازا في آخر.

والثاني غير معقول ؛ ضرورة امتناع اختلاف معنى واحد بالزيادة والنقصان.

فإن قلت : ما ذكرته مبنيّ على امتناع التشكيك في الذاتيّات ، ولم يثبت ذلك ، كيف! وقد ذهب جماعة من أرباب المعقول إلى إمكانه (٣).

__________________

(١) في « ط » زيادة : « أيضا ».

(٢) في « م » بدل « اخرى » : « تارة ».

(٣) انظر الأسفار الأربعة ١ : ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

٥٢

قلت : ما ذكرنا (١) باطل وإن قلنا بإمكان التشكيك ؛ ضرورة وجود الفرق بين المقامين ، فإنّ القائل بإمكانه إنّما يقول به فيما كان الزائد بعينه من جنس الناقص ، ويكون ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك ومن سنخه ، بخلاف المقام ؛ فإنّ الزائد مباين للناقص ، وهو مستحيل بالضرورة لا يحتاج إلى تجشّم الاستدلال وتطويل المقال.

فإن قلت : نحن لا نقول بأنّ تلك الأركان المخصوصة قدر مشترك بين الزائد والناقص ليلزم ما ذكر من المحذور ، بل نقول : إنّ لفظ « الصلاة » مثلا موضوعة للأركان المخصوصة ، وباقي الأجزاء خارجة عنها وعن المسمّى ، لكن مقارنتها لغيرها لا يمنع من صدق اللفظ على مسمّاه.

قلت : ذلك أيضا ممّا لا يلتزم به القائل المذكور ؛ إذ بناء على ذلك يصير استعمال اللفظ في الصحيحة المستجمعة للشرائط والأجزاء من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، وهو مجاز قطعا ، والظاهر من كلامه كونه حقيقة ، بل واستعماله في الفاسدة مع الزيادة على الأركان أيضا مجاز.

ولا وجه لما يتوهّم : من أنّه يمكن أن يكون الاستعمال المذكور حقيقة ، من قبيل استعمال الحيوان الموضوع للجزء في الإنسان ؛ لأنّ استعماله في الحيوان الناطق مجاز ولو بملاحظة علاقة الكلّي والفرد ، فكيف بملاحظة علاقة الكلّ والجزء ، وهو في غاية الظهور.

والحاصل : أنّ القائل بالأعم على هذا الوجه ، إمّا أن يقول : بأنّ اللفظ موضوع للقدر الجامع بين الأقلّ والأكثر والناقص والزائد على وجه تكون الزيادة من حقيقة القدر المشترك ، وإمّا أن يقول : بأنّ اللفظ موضوع للأجزاء المعيّنة

__________________

(١) في « ع » : « ما ذكرت ».

٥٣

والأركان المخصوصة. والأوّل غير معقول ، مضافا إلى استلزامه أن يكون إطلاق « الصلاة » على كلّ واحد من الناقص والزائد ـ صحيحة أو فاسدة ـ من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، والظاهر أنّهم لا يلتزمون به. والثاني يستلزم أن يكون إطلاقها على الصحيحة الزائدة والزائدة الفاسدة (١) إطلاقا مجازيّا ، وهو ممّا لا يلتزم به القائل المذكور قطعا ، كما يظهر بملاحظة كلامه.

الثاني : ما نسبه البعض (٢) إلى جماعة من القائلين بالأعم ـ بل قيل (٣) وهو المعروف بينهم ـ : أنّ لفظ « الصلاة » موضوعة لمعظم الأجزاء ، وهو ما يقوم به الماهيّة (٤) العرفيّة ، ومعها لا يصحّ سلب الاسم عنها ، فكلّما حصل صدق الاسم عرفا يستكشف به عن وجود المسمّى فيه. فعلى هذا عكسه وطرده سليمان عن الانتقاض ؛ إذ متى ما تحقّق معظم الأجزاء صدق الاسم من دون نقص (٥).

لكن يرد عليه : أنّه إن اريد أنّ اللفظ موضوع لمفهوم معظم الأجزاء الذي لا يختلف ذلك المفهوم باختلاف مصاديقه ، ففساده غنيّ عن البيان ؛ بداهة أنّ لفظ « الصلاة » لا ترادف لفظ « معظم الأجزاء » ، وإن اريد أنّه موضوع لمصداقه ، فلا ريب في اختلاف تلك المصاديق بواسطة تبادل الأجزاء وجودا وعدما.

وحينئذ فإمّا أن يقال : بأنّ اللفظ موضوع لمصداق واحد من تلك المصاديق المختلفة بالتبادل.

__________________

(١) في « م » : « الفاسدة الزائدة ».

(٢ و ٣) لم نعثر عليهما.

(٤) في « ط » بدل « الماهيّة » : « الهيئة ».

(٥) كذا ، وفي نسخة بدل « ط » بدل « نقص » : « نقيض » ، والمناسب : « نقض ».

٥٤

وإمّا أن يقال : بوضعه للقدر المشترك بين تلك المصاديق.

وإمّا أن يقال : بأنّه موضوع لكلّ واحد منها على وجه الاشتراك اللفظي ، أو على الوضع العام والموضوع له الخاص.

والأوّل ـ بعد الإغماض عن سؤال تعيينه ـ يوجب أن لا يكون حقيقة في غيره ، صحيحة كانت أو فاسدة.

والثاني غير معقول ؛ ضرورة بطلان تبادل أجزاء ماهيّة واحدة بذهاب جزء وقيام آخر مقامه.

والثالث والرابع ممّا لا يلتزم به القائل بالأعم ، مضافا إلى استلزامه أن يكون استعمال اللفظ فيما زاد عن معظم الأجزاء مجازا ، صحيحة كانت أو فاسدة. والقول بكونه حقيقة فيما زاد يلازم الاشتراك اللفظي ، وهو ممّا لا يلتزم به. والاشتراك المعنوي بين المعظم والتمام قد عرفت حاله.

الثالث : أن يكون اللفظ موضوعا للمركّب من جميع الأجزاء ، لكن لا من حيث هو ، بل من حيث كونه جامعا لجملة أجزاء هي ملاك التسمية ومناطها ، فإذا فقد بعض الأجزاء وصدق الاسم عرفا يعلم منه أنّ مناط التسمية باق ، نظير الأعلام الشخصيّة التي توضع للأشخاص ، فإنّ « زيدا » إذا سمّي بهذا الاسم في حال صغره كان الموضوع له هذه الهيئة الخاصّة ، لكن لا من حيث إنّها تلك الهيئة الخاصّة ، ولذا لا يفترق في التسمية مع طريان حالات عديدة وهيئات غير متناهية بين الرضاع والشيخوخيّة ، وليس ذلك بأوضاع جديدة ، بل تلك الاستعمالات في تلك المراتب من توابع وضع الأوّل.

ولا وجه لما قد يتخيّل : من أنّ الأعلام الشخصيّة ليست موضوعة للمركّبات ، بل إنّما هي موضوعة للنفوس الناطقة المتعلّقة بالأبدان ، فإنّ من المعلوم

٥٥

كون زيد حيوانا ناطقا (١) ، ولازمه أن يكون جسما ، وليس زيد من المجرّدات ، كما لا يخفى. مضافا إلى أنّ الوضع في جميع المركّبات الكمّية الخارجيّة كذلك ـ كما في لفظ « السرير » و « البيت » و « المعاجين » ـ فالتزام ذلك في الأعلام الشخصيّة لا يجدي في دفع المحذور. مضافا إلى أنّه يكفي في المحذور مجرّد ارتباط بالبدن ، كما هو ظاهر ، فتدبّر. ولعلّه مراد من قال : بأنّ المسمّى شرعيّ والتسمية عرفيّة.

وفيه : أنّ القول بالوضع لمعنى ـ لكن لا من حيث إنّه ذلك المعنى ، بل من حيث كونه جامعا لملاك التسمية ـ راجع في الحقيقة إلى القول بكون المسمّى هو القدر المشترك بين الزائد والناقص ؛ إذ لا يعقل أن يكون شيء مورد الوضع ولا يكون هو الموضوع له بالخصوص على وجه لا يكون له شريك في ذلك من حيث تعلّق ذلك الوضع الخاصّ به. اللهمّ إلاّ بالقول بأنّه من باب الوضع الخاص والموضوع له العام ، على عكس ما هو المعروف من الوضع في المبهمات ، إلاّ أنّ ذلك أيضا غير خارج عن الاشتراك المعنوي إذا كان الموضوع له هو نفس العام ، وعن الوضع العام والموضوع له الخاص إذا كان الموضوع له مصاديق ذلك العام. والأوّل ـ كما مرّ غير مرّة ـ غير معقول ، والثاني ممّا لا يلتزم به القائل بالأعم ، ولا يساعده شيء من كلماتهم في الأدلّة والأجوبة ، كما لا يخفى.

وهناك وجه آخر في تصوير مذهب القائل بالأعم ، وهو أن يكون الموضوع له هو المركّب من جميع الأجزاء من حيث هو ، لكنّ العرف تسامحوا في إطلاق اللفظ على فاقد بعض الأجزاء ؛ لما هو المودع في سجاياهم والمركوز في طبائعهم : من عدم ملاحظتهم في إطلاق الألفاظ الموضوعة للمركّبات أن يكون المستعمل فيه جامعا لجميع ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا ، بل يطلقون على الناقص اسم الكامل مسامحة ، لكن لا على سبيل المجاز ، بل على سبيل الحقيقة بأحد من الوجهين :

__________________

(١) لم يرد « ناطقا » في « ع ».

٥٦

أحدهما : تنزيل ما هو المعدوم منزلة الموجود ، ثمّ إطلاق اسم الكامل على الناقص ، فإنّ ذلك لا يستلزم مجازا في اللفظ ـ كما في الاستعارة على ما يراه السكّاكي (١) ـ بل التصرّف إنّما هو في أمر عقلي.

وثانيهما : دعوى حصول الوضع للناقص على وجه التعيّن دون التعيين ، إلاّ أنّه ليس كسائر الأوضاع التي يتوقّف على كثرة الاستعمال وامتداد مدّة طويلة ، بل يكفي فيه عدّة استعمالات من حيث المشابهة الصوريّة والانس ، وذلك ممّا لا ينبغي أن يستبعد عند الملاحظ المتأمّل في طريقة المحاورات العرفيّة ، فإنّ من اخترع معجونا سمّاه « المفرّح الياقوتي » يتسامح في إطلاقه على الناقص جزءا (٢) ، تنزيلا له منزلة الموجود ، بل ولا يبعد دعوى حصول الوضع له سيّما إذا كانت عمدة التأثير الحاصل بالمركّب التام حاصلا به أيضا ، كما أومأنا إليه في تصوير مذهب القائل بالصحيح. إلاّ أنّ الفرق بين القولين ـ بعد توافقهما في أنّ الصلاة بحسب الوضع الشرعيّ مخصوص بذلك المعجون التامّ ـ : أنّ القائل بالأعم يدّعي حصول الحقيقة في الأفراد الفاسدة أيضا ، والقائل بالصحيح يقصر في دعوى ذلك على الأفراد الصحيحة.

وهو أيضا مشكل ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ القائل بالأعم أيضا لا يتأتّى منه الأخذ بالإطلاق.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المفروض أنّ الناقص جزءا قد تكون صحيحة من أحد وفاسدة من آخر ، ولا يعقل كون اللفظ حقيقة في الناقص من حيث كونه صحيحا ومجازا من حيث كونه فاسدا. فتأمّل في المقام ، فإنّه من مزالّ الأقدام.

__________________

(١) مفتاح العلوم : ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٢) لم يرد « جزءا » في « م ».

٥٧

تذنيب :

إذا كانت العبادة مشتملة على أجزاء مسنونة فهي على قسمين :

أحدهما : أن يكون جزءا لأفضل أفراد العبادة ، بحيث يكون العبادة الجامعة لها مستحبّة ، ويكون هذا الجزء مقدّمة لحصولها. ولازمه استحباب الجزء على وجه الغيريّة ؛ لكونه مقدّمة للوصول إلى ذلك المستحبّ النفسي ، ولا ينافي ذلك وجوبه تخييرا ، كما قرّر في محلّه.

وثانيهما : أن يكون نفس الجزء مطلوبا نفسيّا في أثناء تلك العبادة ، فهو في الحقيقة خارج عنها ، وإنّما يتوصّل بالعبادة إليه لأنّه ممّا ينبغي إيجاده فيها ، فيترشّح منه إليها استحباب تبعيّ مقدّميّ على العكس من الأوّل.

وعليه يصير من جملة أفعال تلك العبادة كالصلاة ـ مثلا ـ فيجب تلبّسه بالشروط المقرّرة لأفعالها ، فلو خلا عنها فسدت الصلاة ، كأن يكون في الإتيان به مرائيا ، وعلى الثاني يفسد الجزء من دون سراية إلى تلك العبادة.

نعم ، لا فرق بين القسمين فيما إذا كانت الشروط شروطا لأكوان العبادة ، لكنّ الوجه فيه بطلان نفس العبادة بواسطة فقد الشرط ، ولا مدخل لفساد الجزء فيه ، كما لا يخفى.

وعلى الأوّل ـ أيضا ـ لو قلنا باستحباب التسليم ، فلو شكّ فيه (١) قبله وبعد التشهّد لم يكن شكّا بعد الفراغ ، وعلى الثاني يكون شكّا بعد الفراغ ، فإنّه حينئذ خارج عن الصلاة ، واستحبابه عقيب التشهّد إنّما هو من قبيل استحباب عمل مشروط بلحوقه بعمل آخر ، وذلك لا يقضي كونه محسوبا من أجزائه ليحكم عليه بأحكامها ، كما لا يخفى.

__________________

(١) لم يرد ( فيه ) في « ط » و « م ».

٥٨

قال العلاّمة رحمه‌الله في المنتهى : من عليه فائتة ، هل يستحبّ له الإتمام في مواطن التخيير؟ الأقرب نعم ؛ عملا بالعموم ، وكان والدي رحمه‌الله يمنع ذلك ؛ لعموم قوله عليه‌السلام : « من عليه فريضة لا يجوز له فعل النافلة » (١)(٢).

أقول : إن كان الوجه فيه كون الركعتين الأخيرتين من النوافل ـ بناء على القول بعدم كون نيّة الإتمام ملزما ، ويكون المصلّي بعد التشهّد مخيّرا بين القصر والإتمام ـ فهو مبنيّ على المضايقة. وإن كان الوجه فيه كون الركعتين الأخيرتين من الأجزاء المستحبّة ومن عليه فائتة لا يجوز له الإتيان بها ، فلازمه منع القنوت والتكبيرات المستحبّة وغيرها ، ولم نقف على ملتزم به. والله الموفّق وهو الهادي.

__________________

(١) انظر الوسائل ٣ : ١٦٦ ، الباب ٣٥ من أبواب المواقيت ، الحديث ٧ ، ٨ و ٩.

(٢) منتهى المطلب ٦ : ٣٦٧.

٥٩
٦٠