مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

هداية

قد عرفت في ما تقدّم (١) ذهاب بعضهم إلى التفصيل (٢) بين الأجزاء والشرائط. ولعلّ الوجه فيه : أنّ ملاحظة المركّبات الخارجيّة على اختلاف أقسامها يعطي الظنّ بأنّ الشروط خارجة عن المسمّى ، وإلاّ لم يفرق بين الأجزاء والشرائط ؛ لدخول كلّ منهما في الماهيّة. والتزام الدخول ـ بعد الفرق بأنّ الداخل من الجزء هو نفسه ومن الشرط تقييده (٣) ـ ممّا لا يرتضيه المنصف.

وبالجملة : فبعد ملاحظة ما تقدّم (٤) ـ من الوجدان الذي هو العمدة في أدلّة القول بالصحيح ـ مضافا إلى ما ذكرنا في المقام ، يظهر الوجه في التفصيل المذكور ، وأنّه ليس ساقطا عن أصله ، بل يظهر من شيخنا ـ دام علاه ـ الميل إليه أو التوقّف فيه.

إلاّ أنّ الإنصاف أنّه لا وجه له ، ولا مجال للتوقّف فيه :

أمّا على ما يراه الأعمّي في الأجزاء ـ على وجه يكون الشرط تارة معتبرا في الصدق (٥) واخرى لا يكون ـ ففساده قد ظهر بما لا مزيد عليه.

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٩.

(٢) في « ع » و « م » بدل « ذهاب بعضهم إلى التفصيل » : « في نقل الأقوال أنّ من جملتها القول بالتفصيل ».

(٣) في « م » بدل « تقييده » : « تقيّده ».

(٤) راجع الصفحة ٧٣.

(٥) في « ع » بدل « الصدق » : « المصداق ».

١٠١

وأمّا على غيره ، كأن يقال إنّ الشرط خارج عن الماهيّة في جميع المركّبات : فإن اريد أنّ ذات الشرط خارج (١) فهو حقّ لا مناص عنه ، لكنّه لا يجديه ؛ لكفاية دخول تقييده (٢) في الماهيّة. وإن اريد أنّ تقييده (٣) أيضا خارج ، فهو ممنوع ، بل هو مقطوع العدم ؛ نظرا إلى ما تقدّم من الوجدان وسائر الوجوه المتقدّمة ، بل بعض ما تقدّم من الأدلّة ـ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (٤) ـ نصّ في دخول الشرط في المسمّى ، كما لا يخفى.

نعم ، الشرط يكون على وجهين :

أحدهما : أن يكون شرطا لوجود الماهيّة وتحقّقها مثلا ، ويلازمه توقّف الآثار المطلوبة من الماهيّة عليه أيضا ، كالكيفيّات الخاصّة المعتبرة في المعاجين من الأوزان المخصوصة وملاحظة الفصول الزمانيّة ونحوها.

الثاني : ما يتوقّف عليه فعليّة التأثير وظهور الآثار ، مثل خلاء المعدة لظهور الآثار المطلوبة من المعاجين من الإسهال والتفريح (٥) ونحوهما مثلا.

فالأوّل ، ممّا لا ينبغي الإشكال في دخوله في الماهيّة بملاحظة تقييده ، ولا غرو في افتراقه الجزء بدخول نفسه في الماهيّة ودخول تقييده فيها ، كما تقدّم. ولا ينافيه الاتّصاف.

وأمّا الثاني ، فإن قلنا : بأنّ اسم الكل إنّما هو بملاحظة التأثير الفعلي على وجه لو لم يكن مؤثّرا بالفعل لم يكن المسمّى موجودا ، وجب الحكم بدخوله

__________________

(١) في « م » زيادة : « عنها ».

(٢ و ٣) في « م » بدل « تقييده » : « تقيّده ».

(٤) الوسائل ١ : ٢٥٦ ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث ١ و ٦.

(٥) في « ط » بدل « التفريح » : « التقريح ».

١٠٢

في المسمّى أيضا. لكنّه بعيد جدّا ، بل قطعيّ الفساد. وإن لم نقل بذلك ـ كما هو الحقّ ـ فالظاهر خروج الشرط عن المسمّى.

وأمّا ما يظهر من بعض الأدلّة الشرعيّة : من خروج الشرط بأقسامه عن المسمّى ، كقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. ) .. الآية (١) ، وقوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ )(٢) وقوله : « لا تصلّ في النجس » (٣) فغايته الاستعمال ، نظير الاستعمالات المتقدّمة بالنسبة إلى الأجزاء في أدلّة الأعمّي. وقد عرفت الجواب عنها.

فائدتان :

الاولى : يتوقّف تمييز الأجزاء عن الشرائط على مراجعة الأدلّة الشرعيّة.

وقد يقال : إنّ الشرط هو كلّ ما يتوقّف عليه تأثير العمل ، مثل الطهارة التي استفيد من قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (٤) توقّف تأثير الصلاة عليها ، والجزء إنّما هو مطلوب في الفعل.

وظنّي أنّه غير مطّرد ولا منعكس ـ كما لا يخفى ـ بل المدار على استفادة اعتبار ذات الشيء في شيء فيكون جزءا ، أو تقييده فيكون شرطا.

وقد يشكل الأمر في موارد لتشابه الأدلّة وعدم وضوح المراد منها ، كما في دليل الفاتحة ودليل الوضوء.

__________________

(١) الإسراء : ٧٨.

(٢) المائدة : ٦.

(٣) ورد هذا المضمون في أحاديث كثيرة ، انظر الوسائل ٢ : ١٠٥٩ ـ ١٠٦٨ ، الباب ٤٠ ـ ٤٦ من أبواب النجاسات.

(٤) تقدّم تخريجه آنفا.

١٠٣

فمن موارد الإشكال : النيّة ، حيث إنّهم اختلفوا في كونها جزءا أو شرطا (١) ؛ لإمكان استفادة كلّ منهما من قوله : « لا عمل إلاّ بنيّة » (٢). والظاهر أنّها شرط على تقدير كونها « الإخطار ». وعلى ما هو التحقيق من أنّها « الداعي » ، فلا يعقل كونها شرطا أو جزءا من العمل المنوي ؛ فإنّ غاية الشيء غير معتبرة فيه بوجه ، كما لا يخفى.

ومنها : الطمأنينة ، إلاّ أنّ الظاهر كونها جزءا ، لا شرطا ؛ إذ لو كانت شرطا ، فإمّا أن يكون شرطا للأجزاء السابقة أو اللاحقة ، ولا سبيل إليهما :

أمّا الأوّل ، فلانعدامها بالدخول في اللاحقة ، اللهمّ إلاّ أن يكون الشرط تعقّب الأجزاء السابقة بها ، وهو خلاف الظاهر من اعتبار الطمأنينة بنفسها.

وأمّا الثاني ، فلعدم تحقّقها قبل الإيجاد ، وحديث التعقّب كما عرفته.

ومنها : الوضوء إلاّ أنّه لا إشكال في خروج أفعاله من الصلاة ، وأمّا الحالة الحاصلة منها فهي معتبرة في الصلاة على وجه الشرطيّة ، كما هو الظاهر من دليله.

الثانية : قد ذكروا للجزء والشرط ثمرات (٣) :

منها : أنّ الشروط كلّها امور توصّلية ، لا يجب قصد التقرّب فيها والرياء لا يفسدها ، بخلاف الأجزاء ؛ فإنّ تعبّدية الكل كافية في كونها تعبّدية ، فلو دخلها الرياء تفسد. وفيه نظر.

ومنها : أنّ الأجزاء يجب تحصيلها بخلاف الشروط ، فإنّه يكفي حصولها ؛ ولعلّ الوجه فيها الثمرة الاولى.

__________________

(١) انظر مفتاح الكرامة ٢ : ٣١٩ ، والمدارك ٣ : ٣٠٨.

(٢) الوسائل ٤ : ٧١١ ، الباب الأوّل من أبواب النيّة ، الحديث ١ و ٤.

(٣) انظر مفاتيح الاصول : ٥٣٢ ، وضوابط الاصول : ٣٣٣.

١٠٤

ومنها : جريان حكم الشكّ بعد تجاوز المحلّ في الأجزاء دون الشرائط ؛ إذ للأوّل محلّ مقرّر ، ولا محلّ للثاني ؛ لاعتباره في جميع الأجزاء.

وفيه : أنّ الشرط أيضا يمكن فرض محلّ له فيما إذا كان حاصلا بواسطة الأفعال الخارجة عن نفس الشرط ، كالوضوء ، فإنّ محلّه قبل الصلاة.

تذنيب (١)

قد عرفت فيما تقدّم خروج ألفاظ المعاملات التي لم يثبت فيها حقيقة شرعيّة عن النزاع المذكور. فالحقّ أنّها باقية على معانيها اللغويّة من دون تصرّف في نفس المعنى ، على وجه يصدق المعنى مع القيود المعتبرة شرعا في ترتّب الأثر في نظر الشارع عليها وبدونها أيضا.

وبهذا الوجه يمكن أن يقال : إنّها للأعم ، يعني أنّها صادقة مع القيد وبدونه.

وحيث إنّ ذات المعنى ممّا لا يختلف ، ويكون جميع ما هو معتبر في صدق مفهومها موجودا فيه ، يمكن أن يقال : إنّها موضوعة للصحيح ، كما في سائر الألفاظ العرفيّة والمعاني اللغويّة ، كما لا يخفى على من له خبرة بها.

هذا آخر ما أردنا تحريره في هذه المسألة الشريفة المنيفة ، المشتملة على ما أفاده الاستاذ المحقّق والعالم المدقّق ، أنار الله برهانه ، متّعنا الله ببقائه ، بمحمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، وسلّم تسليما كثيرا (٢).

__________________

(١) في « م » بدل « تذنيب » : « هداية ».

(٢) في « م » زيادة : قد فرغت من تسويد هذه النسخة الشريفة في شهر ذي الحجّة ويوم الأحد ، وأنا العبد المذنب محمّد بن حسين الخوئيني ، في سنة ١٢٩٦ من الهجرة النبويّة ، عليه آلاف التحيّة.

١٠٥
١٠٦

الكلام في الإجزاء

١٠٧
١٠٨

اختلفوا في أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أولا؟ على قولين (١) ، ستعرف الحقّ منهما.

وقبل الخوض في المطلب ينبغي رسم امور :

الأوّل : الظاهر أنّ البحث هذا إنّما هو في اقتضاء الإتيان بالمأمور به عقلا الإجزاء ، فليس البحث من الأبحاث اللغويّة التي يطلب فيها تشخيص مدلول اللفظ وضعا أو انصرافا (٢) ، فيعمّ البحث ما إذا كان الأمر مستفادا من الإجماع ونحوه من الأدلّة الغير اللفظيّة ، ويشهد لذلك ملاحظة أدلّة الطرفين.

قلت : ويمكن توجيه البحث على وجه يرجع إلى الأبحاث اللفظيّة ، كأن يقال : إنّ الماهيّات التي تقع موردا للأمر على قسمين : فتارة يكون الوجه الذي يدعو إلى طلبها والأمر بها على وجه لا يسقط بالإتيان بها دفعة واحدة ، واخرى على وجه يسقط عند الإتيان بها مرّة واحدة ، فيمكن أن يكون النزاع في أنّ هيئة الأمر هل هي موضوعة للطلب المتعلّق بالقسم الأوّل أو القسم الثاني؟

ويؤيّد ذلك ما قد تمسّك للقول بعدم الإجزاء بمثل الأمر بالزيارة والأمر بالصلاة بعد معلوميّة أنّ حسن الزيارة والصلاة ممّا لا يسقط بالإتيان بها مرّة ، ولكنّه مناف لظاهر لفظ « القضاء » أو « الإعادة » ونحوهما ممّا هو متداول في ألسنة أرباب القول بعدم الإجزاء ، كما حكي عن أبي هاشم وعبد الجبّار (٣) ، على ما ستعرفه.

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في مفاتيح الاصول : ١٢٦.

(٢) في « ط » بدل « انصرافا » : « غيره ».

(٣) حكاه عنهما العلاّمة في نهاية الوصول : ١٠٧.

١٠٩

وبالجملة : فما ذكرنا هو المناسب لبعض عناوينهم أيضا ؛ حيث إنّ بعضهم عنون البحث بأنّ الأمر هل يفيد الإجزاء أو لا؟ ولو كان البحث في الاقتضاء العقلي كان الوجه هو التعبير بما عرفته في العنوان ؛ فإنّ الإتيان بالمأمور به هو الذي يصلح لأن ينازع فيه أنّه يقتضي الإجزاء أو لا ، دون الأمر ؛ إذ لا شكّ في أنّ مجرّد الأمر لا يقتضي ذلك. ومع ذلك كلّه ، فالأقوى أنّ النزاع إنّما هو في الاقتضاء العقلي ، كما يظهر من الرجوع إلى الأدلّة (١).

الثاني : الإجزاء ـ لغة ـ معناه الكفاية (٢) ، وفسّروه في المقام بوجهين :

أحدهما : كون الفعل المأتيّ به مسقطا للتعبّد به (٣) مع قطع النظر عن إسقاط الإعادة والقضاء ، كما يؤيّده ما نقل من الاتّفاق على اقتضاء الإتيان بالمأمور به الإجزاء بهذا المعنى (٤).

وثانيهما : إسقاط القضاء (٥). والمراد من القضاء ـ على ما قيل (٦) ـ هو مطلق التدارك أعم من الإعادة والقضاء ؛ إذ لو كان باقيا على ظاهره من فعل المأمور به

__________________

(١) لم ترد عبارة « قلت : ويمكن ـ إلى ـ الرجوع إلى الأدلّة » في « ط ».

(٢) انظر مجمع البحرين ١ : ٨٥ ، مادة « جزأ ».

(٣) فسّره به المحقّق في المعارج : ٧٢ ، والعلاّمة في نهاية الوصول : ١١ و ١٠٧ ، والمحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٢٩.

(٤) انظر القوانين ١ : ١٣٠ ، وضوابط الاصول : ١٦٣ ، ومناهج الأحكام : ٦٤.

(٥) فسّره به الفاضل النراقي في المناهج : ٦٤ ، وحكاه المحقّق في المعارج : ٧٢ عن القاضي ، وانظر الفصول : ١١٦.

(٦) قاله في ضوابط الاصول : ١٦٣ ، وانظر القوانين ١ : ١٣٠ ، ومناهج الأحكام : ٦٤.

١١٠

خارج الوقت ، يكون عدم الإجزاء عبارة عمّا لا يسقط القضاء وإن أسقط الإعادة ، وهو باطل ؛ لأنّ ما لا يسقط القضاء لا يسقط الإعادة بطريق أولى.

ويمكن التأمّل فيما ذكر ؛ بعدم الملازمة ـ كما هو ظاهر ـ وإن لم يبعد دعواه بالنسبة إلى إرادة مطلق التدارك من القضاء في المقام.

والنسبة بين المعنيين عموم مطلق ؛ لأنّ ما يسقط القضاء يسقط التعبّد أيضا ، ولا عكس ، كما في الصلاة بالطهارة الاستصحابيّة ؛ فإنّ الإتيان بها موجب للامتثال ـ لأنّ الاستصحاب من الأدلّة الشرعيّة الظاهريّة ـ ولا يوجب سقوط القضاء ، على ما هو التحقيق عندنا ، كما ستعرف.

وقد يتوهّم : أنّ النسبة بين المعنيين عموم من وجه ؛ لأنّ ما يقع في الخارج فاسدا قد يصدق معه سقوط القضاء ولو بواسطة عدم مشروعيّة القضاء له في الشرع ، فليس كلّ ما يسقط القضاء يسقط التعبّد به (١).

إلاّ أنّه ظاهر الفساد ؛ ضرورة عدم استناد سقوط القضاء حينئذ إلى الإتيان بالفعل الفاسد ، بل استناده إنّما هو إلى عدم الجعل له (٢) ، كما هو ظاهر لا سترة عليه ، سيّما بعد ملاحظة السقوط فيما لو ترك الواجب من أصل. نعم ، لو اريد من إسقاط القضاء إسقاط الإتيان بمثل الفعل المأتيّ به في الزمن الثاني على نحو التدارك ، كان إسقاط القضاء لازما مساويا لسقوط التعبّد ؛ ضرورة أنّ الإتيان بالصلاة مع الطهارة الاستصحابيّة يقتضي سقوط الإتيان بصلاة اخرى مع الطهارة المستصحبة ، وإن لم يقتض سقوط الإتيان بها مع الطهارة المائيّة.

__________________

(١) « به » من « ع ».

(٢) لم يرد « له » في « ع ».

١١١

ثمّ إنّ المراد بالإجزاء في المقام (١) ـ كما ستعرف ـ هو المعنى الثاني. وعلى تقديره لا اختلاف بينهما إلاّ بحسب القيود المعتبرة في المعنى الاصطلاحي ، فيكون المعنى : أنّ الإتيان بالفعل المأمور به على وجهه هل يقتضي الكفاية عن الإتيان به ثانيا؟ ولا يفرق في ذلك بين كون المأتيّ به مماثلا للمأتي به أوّلا أو مغايرا له بزيادة شيء عليه ؛ لعدم اختلاف معنى الكفاية بذلك.

فما قد يتوهّم : من أنّ العلاقة في المماثلة هي الفرديّة وفي الثاني هي المشابهة ممّا لا وجه له ؛ إذ على ما عرفت لا يكون هناك مجاز في استعمال الإجزاء أصلا ، غاية ما في الباب اختلاف متعلّق لفظ « الإجزاء » على الوجهين ، ولا مدخل لاختلافه فيه.

فالظاهر أنّه لم يثبت لأهل الاصول في لفظ « الإجزاء » اصطلاح جديد ؛ وتفسيرهم له بإسقاط القضاء إنّما هو من باب بيان محصّل المراد ، لا أنّه يراد من لفظ « الإجزاء » خصوص إسقاط القضاء المترتّب عليه كون العلاقة المشابهة أو الفرديّة ، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في عدم حاجة إرادة معنى آخر غير الكفاية من لفظ « الإجزاء » بالنسبة إلى المعنى الأوّل أيضا ؛ إذ المعنيّ من العنوان على ذلك التقدير ، هو أنّ الإتيان بالمأمور به هل يوجب الكفاية عن التعبّد به أم لا؟ فلا حاجة إلى اعتبار علاقة السببيّة بالنسبة إلى المعنى الأوّل (٢) ؛ نظرا إلى أنّ إسقاط التعبّد به ليس هو الكفاية ، بل هو مسبّب عن الكفاية.

واعلم : أنّ المراد بـ « الوجه » في العنوان هو الإتيان بالمأمور به مشتملا على جميع ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا.

__________________

(١) في « ع » بدل « في المقام » : « هنا ».

(٢) لم ترد عبارة « أيضا إذ المعنيّ ـ إلى ـ المعنى الأوّل » في « ع ».

١١٢

وقد يتوهّم : أنّ المراد به هو « وجه الأمر » الموجود في ألسنة المتكلّمين : من نيّة الوجوب أو الندب.

ويزيّفه دخول كلمة « على » عليه ؛ إذ المناسب على ذلك التقدير هو دخول اللام.

وقد يتعسّف في دفع ذلك بالتزام تضمين الاشتمال في لفظ « الإتيان ».

وهو ـ مع ركاكته ـ لا يلائم عنوان بعضهم (١) : من أنّ الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي امر به هل يقتضي الإجزاء أو لا؟ إذ الظاهر رجوع الضمير المجرور في قولهم « به » إلى المأمور به. ومع ذلك كلّه فلا وجه لتخصيص ذلك بالذكر من بين الشرائط والأجزاء المعتبرة في المأمور به ، كما لا يخفى.

الثالث : قد يستشكل في الفرق بين ما عرفت من العنوان وبين إفادة الأمر التكرار أو المرّة ، ثمّ بينه وبين النزاع المعروف : من تبعيّة القضاء للأداء.

ووجه الإشكال في المقامين ، هو : أنّ القول بعدم الإجزاء عين القول بالتكرار ، وعين القول بتبعيّة القضاء للأداء.

والظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في الفرق بعد كمال وضوحه ؛ حيث إنّ الكلام في مسألة المرّة والتكرار إنّما هو في تشخيص مدلول الأمر : من الدلالة على المرّة أو التكرار أو عدم الدلالة على شيء منهما ، والكلام في المقام إنّما هو في أنّ الإتيان بمدلول الأمر على القول بالمرّة أو التكرار أو الماهيّة ، هل يقتضي الكفاية والإجزاء عن الإتيان به على الوجوه ثانيا (٢) ، أو لا؟ فلا ربط بين المسألتين مفهوما ، وأمّا

__________________

(١) كالشيخ الطوسي في العدّة ١ : ٢١٣.

(٢) ثانيا من « ط ».

١١٣

مصداقا فقد يكون القول بعدم الإجزاء ملازما للقول بالتكرار فيما إذا قيل بأنّ عدم اقتضاء الأمر للإجزاء يقتضي الإتيان بالفعل مرّة بعد مرّة.

وإلى ذلك يرجع ما أفاده في القوانين في الفرق بين القول بالتكرار والقول بعدم الإجزاء (١).

وأمّا ما أفاده في الفرق بين القول بالإجزاء والقول بالمرّة : من أنّ عدم الإتيان ثانيا على الأوّل مستند إلى عدم الدليل ، وعلى الثاني مستند إلى دلالة اللفظ ، فلا ينهض فرقا بين القول بالإجزاء والقول بالماهيّة ؛ إذ عدم الإتيان فيه أيضا بواسطة عدم الدليل.

وأمّا الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تبعيّة القضاء للأداء فلا يكاد يخفى ؛ إذ من المعلوم أنّ المراد بالقضاء في المقام هو الإتيان بالفعل ثانيا سواء كان في الوقت أو في خارجه بعد الإتيان به أوّلا في الوقت ، والمراد منه في تلك المسألة هو الإتيان بالفعل الفائت في الوقت ، فما أبعد إحدى المسألتين من الاخرى.

الرابع : قد أشرنا إلى أنّ الإجزاء بمعنى سقوط التعبّد به ليس من محلّ الخلاف في شيء. وصرّح بذلك جماعة ، على ما قيل (٢). وينبغي أن يكون كذلك ؛ إذ لا يعقل عدم سقوطه بعد الإتيان بالفعل مستجمعا لجميع ما هو معتبر فيه من الأجزاء والشرائط ، فالقول بعدم سقوطه ملحق بأقوال أصحاب السوداء.

وأمّا الإجزاء بالمعنى الثاني : فإن اريد من القضاء (٣) ما هو المعروف منه ـ كما

__________________

(١) القوانين ١ : ١٣١.

(٢) قاله صاحب الفصول في الفصول : ١١٦.

(٣) في « ع » زيادة : « فيه ».

١١٤

عرفت في الفرق المذكور آنفا ـ فلا ينبغي التأمّل في فساده وسقوطه ؛ فإنّ عنوان التدارك يستحيل حصوله بعد فرض وجود المتدارك على ما هو عليه في الواقع ، فلا يصحّ قيام الدليل على وجوب التدارك.

وإن اريد منه الإتيان بالفعل بعد الإتيان به مرّة اخرى ، فهذا يتصوّر على وجهين :

فتارة يكون المأتيّ به ثانيا عين المأتيّ به في المرّة الاولى (١).

وتارة يكون المأتيّ به ثانيا أكمل من المأتيّ به في المرّة الاولى.

وعلى التقديرين لا يستحيل أن يقع فيه النزاع (٢).

وما يظهر من ملاحظة أدلّة القول بالإجزاء أنّ النزاع إنّما هو في القضاء بالمعنى الأوّل ؛ إذ لولاه لم يلزم من القول بعدم الإجزاء تحصيل الحاصل ، إذ لا استحالة في الإتيان بالفعل ثانيا على وجه العينيّة أو الأكمليّة.

وما يظهر من أدلّة النافين ـ من قضاء الصلاة مع الطهارة الاستصحابيّة ـ أنّ النزاع إنّما هو في الإتيان بالفرد الأكمل ؛ إذ لا شكّ أنّ الصلاة مع الطهارة المعلومة أكمل ، بل الظاهر من استدلالهم بوجوب قضاء الحجّ الفاسد مع الأمر بإتمامه هو وجود النزاع في الإتيان بالمثل أيضا.

وبالجملة : فلا يكاد يظهر وجه تطمئن به النفس في تشخيص محلّ الخلاف في المسألة ، وإن استظهر بعضهم (٣) كون النزاع في القضاء بالمعنى الأوّل ، لكنّه قد عرفت عدم تحقّق عنوان القضاء بالمعنى المصطلح بعد فرض الإتيان بالمأمور به على وجهه.

__________________

(١) في « م » زيادة : « فهذا لا يستحيل لو قام الدليل على وجوبه ».

(٢) لم ترد عبارة « وعلى التقديرين لا يستحيل أن يقع فيه النزاع » في « ع » و « م ».

(٣) هو المحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٣١.

١١٥

وأفسد من ذلك ما لو اريد التدارك على وجه يعمّ القضاء في خارج الوقت والإعادة فيه ؛ إذ الإعادة بالمعنى المعروف من لوازم نفس الأمر الأوّل ووجوده ، بخلاف القضاء ؛ إذ يحتمل ثبوته بالأمر الجديد دون الأمر الأوّل ، فالمفسدة اللازمة على القول بوجوب الإعادة من ـ خلاف الفرض ـ آكد منها على القول بوجوب القضاء.

والأولى صرف عنان البحث إلى ما هو أهمّ : من تحقيق مطلب النافين ، فنقول :

إنّ الأمر إمّا أن يكون واقعيّا أو ظاهريّا.

وعلى الأوّل : إمّا أن يكون ثابتا في حالة الاختيار أو واقعا في حالة الاضطرار.

وعلى الثاني : إمّا أن يكون عقليّا أو شرعيّا.

فهذه أقسام أربعة ، في بعضها يجب أن يكون الإتيان بالمأمور به مقتضيا للإجزاء ويمتنع عدمه ، وفي بعض آخر يمتنع اقتضاؤه الإجزاء ويجب عدمه ، وفي بعضها يمكن الاقتضاء وعدمه ، فتارة مع وقوع ذلك بواسطة قيام دليل على الإجزاء ، واخرى مع عدمه.

أمّا القسم الذي يجب اقتضاؤه الإجزاء ، فهو الأمر الواقعي الاختياري ، كالأمر بالصلاة في حالة الاختيار مع الطهارة المائيّة مستجمعا لجميع ما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط ، فإنّه يجب اقتضاؤه الإجزاء ؛ إذ لو لم يقتض ، فإمّا أن يكون بواسطة خلل في المأتيّ به والمفروض خلافه ، أو بواسطة أمر آخر يقتضي الإتيان بالفعل ولو لم يكن بعنوان التدارك ـ إذ اقتضاء الأمر الأوّل لذلك ظاهر البطلان ـ وهو أيضا مفقود لا يصغى لمدّعيه لا عقلا ولا نقلا ، وعلى تقديره فليس من محلّ الكلام ؛ لأنّ محلّه وجوب الإتيان به ثانيا ، كما نبّهنا عليه.

١١٦

قلت : هذا بناء على ما حرّروه في المقام ، وأمّا بناء على ما احتملته من أنّ النزاع في مدلول الأمر ، فلا يتّجه ذلك ، بل لا بدّ من القول : بأنّ هيئة الأمر لا دليل على كونها موضوعة للطلب المتعلّق بماهيّة لا ينقطع حسنها بالإتيان بها مرّة ، وعند عدم الدليل يكتفى بالإتيان مرّة ؛ لعدم الدليل على الزائد ، فتدبّر.

هذا تمام الكلام في ما يجب فيه الإجزاء ؛ ولنقرّر الكلام في الأقسام الأخر في طيّ هدايات ، وهو الهادي.

١١٧
١١٨

هداية

قد عرفت حال الأمر الواقعي الاختياري.

وأمّا الأمر الواقعي الاضطراري ـ مثل الصلاة مع الطهارة الترابيّة ، أو الوضوء مع المسح على الخفّين عند الضرورة ، ونحو ذلك ـ فالحقّ فيه الإجزاء مع إمكان عدمه ، بمعنى : أنّ مقتضى القواعد الشرعيّة هو كفاية المأتيّ به في حال الضرورة عن الأمر الواقعي الاختياري بعد زوال الضرورة ، إلاّ أنّه لا دليل على امتناع طلب المأمور به ثانيا في حال الاختيار بعد ما زالت الضرورة ، تداركا للفعل الواقع أوّلا.

لا يقال : فعلى ذلك يمتنع اقتضاؤه الإجزاء ، كما هو ظاهر ، بعد ملاحظة تحقّق التدارك.

لأنّا نقول : لا إشكال في أنّ المأتيّ به في حال الضرورة أنقص منه في حال الاختيار ، والمدّعى هو كفاية الناقص عن الكامل ، ولا ضير في الأمر بالفعل ثانيا إحرازا للكامل ، ويصدق على الفرد الكامل لفظ « التدارك » من دون غائلة.

فلنا في المقام دعويان :

إحداهما : كفاية الناقص عن الكامل ، وإجزاء الفعل الواقع في حالة الاضطرار عنه في حالة الاختيار.

وثانيتهما : إمكان عدم الإجزاء.

أمّا الاولى منهما ، فنقول : لا إشكال في كفاية الأمر الاضطراري عند الإتيان بالمأمور به على وجهه عن نفس المأمور به في حال الاضطرار ، بمعنى

١١٩

أنّه لا يجب الإتيان به ثانيا لعين ما تقدّم في الأمر الاختياري ، بل وذلك جار في القسمين الأخيرين أيضا ، كما ستعرف.

وأمّا كفايته عن الواقعي ، فتارة يقع الكلام بالنسبة إلى الإعادة ، واخرى بالنسبة إلى القضاء ؛ لعدم الملازمة بين حكمهما ، فإنّ الثاني يدور مدار الفوت.

وربما يتوهّم صدق الفوت في المقام ولو بالنسبة إلى الأمر الواقعي (١) ، إلاّ أن يدّعى الإجماع المركّب بين سقوط الإعادة وسقوط القضاء ، أو يدّعى الأولويّة بالنسبة إلى القضاء.

وكيف كان ، فيتّضح البحث في مقامين :

المقام الأوّل : في أنّ قضيّة القواعد الشرعيّة عدم وجوب الإعادة في الوقت ؛ لأنّ الواجب الموسّع هو القدر المشترك بين الأفعال الواقعة عن المكلّفين بحسب اختلاف تكاليفهم في موضوعات مختلفة ، فقوله : « أقيموا الصلاة » هو الواجب ، ويتخصّص للحاضر في ضمن أربع ركعات ، وللمسافر في ضمن ركعتين ، وللواجد للماء في ضمن الصلاة مع الطهارة المائيّة ، وللفاقد له في ضمنها مع الطهارة الترابيّة ، فيكون الأمر الواقعي الاضطراري أحد أفراد الواجب الموسّع ، ولا إشكال في أنّ الإتيان بفرد من الماهيّة يوجب سقوط الطلب بالنسبة إليها ، وبعد سقوط الطلب لا وجه لوجوب الإعادة.

وتوضيح ذلك : أنّ فاقد الماء ـ مثلا ـ إمّا أن يجوز له المسابقة إلى الصلاة مع رجاء الماء ، أو لا يجوز. لا كلام على الثاني وإن كان بطلانه يظهر من المقام أيضا. وعلى الأوّل ، فالمفروض بقاء الواجب الموسّع على توسعته ، ومقتضى ذلك هو الإذن في إيقاع الفعل في أيّ جزء من أجزاء الزمان ،

__________________

(١) في « م » بدل « الأمر الواقعي » : « الواقع ».

١٢٠