مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

وبيان الدفع : أنّه ليس إبطالا لمانعيّة الضدّ وكونه علّة عدم الآخر ، وإنّما هو تعليق للمانعيّة على فرض ، وهذا لا يمنع أصل التمانع بعد ذلك الفرض. مثلا إذا قيل : « لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا » فذلك ليس نفيا للفساد على تقدير وجود الآلهة ، بل إنّما هو بيان للملازمة بين أمرين وإن كان الملزوم محالا ، فإنّ استحالة المقدّم لا يوجب كذب القضيّة الشرطيّة. وحينئذ فللقائل بالتمانع بين الأضداد إثبات المانعيّة على فرض وإن كان هذا الفرض محالا.

وأنت خبير بأنّ هذا الكلام وإن كان يندفع به الدور ، إلاّ أنّه ينفي التوقّف رأسا ، فلا يكون ترك أحدهما مقدّمة لفعل الآخر أيضا فضلا عن كون الفعل مقدّمة للترك ؛ لأنّ توقّف فعل الضدّ على ترك الآخر إنّما جاء من جهة كون الضدّ مانعا وعلّة لعدم الآخر وكون عدم المانع من الشرائط ـ كما قرّر في الاستدلال ـ فبعد أن قلنا باستحالة كونه مانعا نظرا إلى استحالة اجتماع وجود أحدهما مع مقتضي الآخر ـ كما يقوله رحمه‌الله ـ فمن أين يجيء توقّف فعل أحدهما على ترك الآخر؟ ومن أين يثبت المقدّميّة؟ على أنّ قوله : « ويجوز أن يكون هذا الفرض محالا » غير واضح الدليل ، لأنّ غاية توجيهه أن يقال : إنّ مقتضي الضدّين ضدّان أيضا نحوهما ، وبعد فرض وجود أحد الضدّين ومقتضيه يمتنع وجود مقتضي الضدّ الآخر نحو امتناع وجوده. وفيه : منع (١) التضادّ بين مقتضي الضدّين في جميع الموارد وإن سلّم بالنسبة إلى بعضها ؛ مع أنّ مقتضيهما قد يكونان قائمين بموضوعين ، فلا يكونان من الأضداد المتواردة على محل واحد حتّى يمتنع اجتماعهما في الوجود.

وتوضيح ذلك : أنّ أقصى ما في وسع المحقّق المزبور أن يقول : إنّ بين إرادة الصلاة وإرادة الزنا اللتين هما مقتضيان لهما تضادّ نحو تضادّ الصلاة والزنا ، فلا يمكن

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : أنّ منع.

٥٢١

أن يجتمع نفس الصلاة مع مقتضي الزنا ـ أعني الإرادة ـ حتى يكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا ؛ لأنّ اجتماعهما يستلزم اجتماع إرادة الصلاة وإرادة الزنا ، وهما متضادّان لا يجتمعان.

وجوابه : أنّا ننقل الكلام في نفس الإرادتين ، فنقول : إنّ إرادة الصلاة مانعة لإرادة الزنا فتكون علّة لعدمها ، فيجب إيجادها ـ أي إيجاد إرادة الصلاة ـ من باب المقدّمة إذا كان ترك الزنا واجبا ، ويجب تركها إذا كان تركه حراما ، كما في صورة توقّف حفظ النفس عليه.

فإن ادّعيت أيضا أنّه يجوز أن يكون اجتماع نفس إرادة الصلاة مع مقتضي إرادة الزنا مستحيلا ، فلا يكون إرادة الصلاة مانعة من إرادة الزنا وعلّة لعدمه ، لأنّ الاجتماع يستلزم اجتماع مقتضي إرادة الصلاة مع مقتضي إرادة الزنا ، وهذا محال لتضادّهما أيضا نحو تضادّ الإرادتين.

ففيه : أنّ مقتضي إرادة الصلاة تعلّق أمر الشارع بها وكونها ذات مصلحة محتّمة وهو أمر قائم بنفس الصلاة ، ومقتضي إرادة الزنا ما فيه من اللذّة وحظّ النفس وذاك متعلّق بنفس الزنا ، ولا استحالة في وجود هذين المقتضيين في الموضوعين والمحلّين المختلفين. فيمكن حينئذ أن يجتمع إرادة الصلاة مع مقتضي إرادة الزنا وهو الداعي القائم بنفس الزنا ، فيكون وجود إرادة الصلاة حينئذ مانعا للزنا وعلّة لعدمه ، فيجب إيجادها من باب المقدّمة أو تركها كذلك.

فإن قلت : إذا جاز اجتماع داعي الضدّين كالصلاة والزنا ـ أعني المقتضيين لإرادتهما في الوجود ـ فبما ذا يوجد أحدهما دون الآخر؟

قلنا : بسبب اختيار الطبيعة ، فإنّها إذا نظرت إلى داعي الصلاة وداعي الزنا ـ مثلا ـ فتختار مقتضي أحدهما في حدّ ذاتها أو بملاحظة المرجّحات الأخر من (١)

__________________

(١) كذا في نسخة بدل ( ع ) ، وفي غيرها : في.

٥٢٢

حسن تعجيل اللذّة أو خوف تأجيل العذاب ونحوها ، وإذا اختارت أحدهما تحقّق مقتضاه ، فيجوز اجتماع وجود الصلاة مع مقتضي الزنا ، وحينئذ يصحّ الحكم بوجوب إيجاد الصلاة لكونها علّة عدم إرادة الزنا التي هي مقتضية له ، فيتمّ الكلام من غير فرق بين أن يكون التمانع أوّلا ملحوظا بين الصلاة والزنا أو بين إرادتيهما.

والحاصل : أنّ في كلام المحقّق حزازة من وجهين :

أحدهما : أنّه إن تمّ لكان نفيا للتوقّف رأسا ، وهو مدّعى السبزواري.

والثاني : أنّ تماميّته موقوفة على استحالة اجتماع أحد الضدّين مع تمام مقتضي الضدّ الآخر ، ووجهه غير واضح ، بل الظاهر جواز ذلك كما عرفت.

وللمحقّق المزبور (١) تحقيق آخر في رفع الدور ، ذكره انتصارا لمن أجاب عن شبهة الكعبي : بأنّ ترك الضدّ ـ أعني الحرام ـ غالبا يستند إلى عدم مقتضي الوجود ، وقد يكون مستندا إلى وجود المانع ـ أعني الضدّ الآخر الذي هو أحد المباحات مثلا ـ فالوجوب إنّما يعرض للمباحات أحيانا ، فلا يلزم انتفاء المباح رأسا دائما ، حيث إنّه رحمه‌الله أورد عليه :

أوّلا : بأنّه يلزم الدور حينئذ بناء على تحقّق المانعيّة من الطرفين. ثمّ اعتذر عنه بقوله : ويمكن أن يتكلّف في الجواب : بأنّ مراده أنّ ترك الزنا ـ مثلا ـ في وقت موقوف في بعض الصور على فعل ضدّه في الوقت السابق عليه ، فلا يلزم الدور حينئذ.

قال : بيانه أنّا نفرض أنّ في وقت مثلا وجد الشوق إلى الزنا لكن لم يصل إلى حدّ الجماع ، فحينئذ عدم الزنا حاصل لعدم الجماع الذي هو علّته التامّة من دون توقّف على وجود المانع. ويمكن في هذه الصورة أن يعلم أنّه إذا لم يشتغل بالصلاة

__________________

(١) أي المحقّق السبزواري.

٥٢٣

ـ مثلا ـ يقوى ذلك الشوق ويصل إلى حدّ الجماع ويحصل الزنا في الزمان اللاحق أيضا يشتغل بالصلاة في الوقت السابق ؛ لأنّ الاشتغال به يمكنه ، إذ الفرض أنّ عدم مانعة متحقّق في الزمان اللاحق أيضا ، بناء على عدم شرطه لا وجود مانعة (١). هذا كلامه.

وتوضيح الإيراد والجواب على وجه ينطبق على ما نحن فيه ، هو : أنّ الاعتراف بكون فعل الضدّ مقدّمة لترك الآخر في الجملة ـ ولو في بعض الصور وفي بعض الأحيان ـ لا ينفكّ عن الدور أيضا بناء على تسليم التمانع من الطرفين ، إذ المفروض أنّ التمانع يقتضي أن يكون ترك كلّ منهما مقدّمة شرطيّة لفعل الآخر دائما ، فإذا اتّفق في بعض الصور توقّف الترك على الفعل أيضا من باب توقّف عدم المعلول على وجود المانع المقترن بتمام المقتضي فلا محيص من الدور جدّا. وهذا تقرير الإيراد المزبور الذي هو عين الدور الذي اورد في المقام على كون ترك الضدّ مقدّمة وكون كلّ واحد منهما مانعا عن الآخر.

وأمّا الجواب فتقريره أن يقال : إنّ ترك الضد لا يكون معلولا من فعل ضدّه موقوفا عليه إلاّ إذا كان زمان الترك والفعل مختلفا ، كما إذا كان فعل الضدّ في هذا الزمان علّة لترك الضدّ في الزمان المتأخّر اللاحق ، فيكون الذي يتوقّف على فعل الضدّ هو الترك الذي يتحقّق بعد زمان الفعل ، ولا يتوقّف الفعل على ذلك الترك ، بل على الترك المقارن له في الوجود. مثلا إذا فرض الضدّان ـ الصلاة والإزالة ـ كان فعل كلّ واحد منهما موقوفا على ترك الآخر في زمان الفعل ، ولكن ترك كلّ منهما ليس موقوفا ومعلولا لفعل الآخر في زمانه ، بل إنّما يكون كذلك إذا كان ترك كلّ

__________________

(١) رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : ١٥٠ ، وقد وقع في نقل العبارة نقص فاختلت لذلك.

٥٢٤

واحد منهما في الزمان اللاحق موقوفا على مباشرة المكلّف بفعل الآخر في الحال ، فيكون الصلاة ـ مثلا ـ موقوفا على ترك الإزالة في وقتها ، ولا يكون هذا الترك ـ أعني ترك الإزالة في وقت الصلاة ـ موقوفا على فعل الصلاة التي كانت موقوفة على الترك المزبور حتّى يرد الدور ؛ لعدم وجود مقتضيها في وقت الصلاة ، بل إنّما يكون ترك الإزالة في الزمان المتأخّر والزمان اللاحق موقوفا ومعلولا لفعل الصلاة الواقع فيما قبل ، وذلك إنّما يكون إذا كان جميع مقتضيات الإزالة موجودة في الآن اللاحق وكان تركها في ذاك الآن موقوفا على إيجاد مانعها ـ أعني الصلاة ـ مثل فيما قبل ، فلا يلزم الدور حينئذ ؛ لاختلاف طرفي التوقّف ، حيث إنّ مقدّمة الفعل هو الترك المقارن له في الوجود ، ومعلول هذا الفعل هو الترك المتأخّر.

وأنت خبير بأن هذا الجواب عن الدور مبنيّ على دعوى استحالة توقّف الترك المقارن على هذا الفعل ، وهذا إنّما يتمّ إذا قلنا باستحالة اجتماع تمام مقتضي أحد الضدّين مع الضدّ الآخر حتّى يكون علّية فعله لترك الآخر في زمان واحد مستحيلا ، وقد عرفت منع هذه الاستحالة وأنّه يجوز أن يجتمع أحد الضدّين مع تمام مقتضي الآخر ، وحينئذ يرد الدور على فرض التمانع جدّا ؛ لأنّ التوقف حينئذ ثابت من الطرفين في آن واحد. على أنّ الجواب عن الدور بالتقرير المزبور حقيقة يرجع إلى نفي التمانع وعدم التوقّف رأسا ، وذلك لأنّه إذا قيل : إنّ ترك الضدّ إنّما يتوقّف على فعل ضدّه في الآن الثاني لا في آن الفعل كان معناه أنّهما غير متمانعين في الآن الأوّل ، إذ لو كانا متمانعين لكان عدم كلّ منهما موقوفا على وجود الآخر ، لأنّ عدم الممنوع مستند إلى وجود المانع ، فلا وجه لجعل الصلاة ـ مثلا ـ مانعة عن الإزالة في وقتها مع عدم كونها مقدّمة سببيّة لعدم الإزالة.

٥٢٥

اللهم إلاّ أن يقال : إنّ عدم الممنوع لا يجب استناده إلى (١) وجود المانع ، لإمكان استناده إلى فقد شيء من أجزاء المقتضي أو شرائطه ، فحينئذ لا ملازمة بين كونهما متمانعين في الآن الأوّل أيضا وبين استناد عدم أحدهما إلى وجود الآخر ، كاستناد عدم الإزالة إلى وجود الصلاة ، لجواز استناد عدم الإزالة (٢) في آن الصلاة إلى عدم المقتضي ، فيكون عدم الإزالة مقدّمة لوجود الصلاة لكونه عدم المانع ، ولكن لا يكون وجود الصلاة مقدّمة لعدم الإزالة (٣) المقارن معها في الوجود حتّى يلزم الدور.

وفيه : أنّ قضية التمانع شأنيّة وجود كلّ منهما لعلّية عدم الآخر في جميع الآنات ، لاستحالة انفكاك اللازم عن الملزوم وإن لم يكن مقتضاه دوام العلّية فعلا ، ولا ريب أنّ موجب الدور إنّما هو هذه الشأنيّة لا دوام العلّية ، لأنّه يكفي في لزوم الدور أن يكون توقّف ترك أحدهما على فعل الآخر في زمانه أمرا جائزا وممكنا ، إذ المفروض أنّ الترك مقدّمة للفعل دائما ، فإذا جاز توقّف الفعل أيضا على الترك ـ ولو في بعض الصور ـ لزم توقّف الشيء على ما يتوقّف عليه ، وهذا مستحيل جدّا.

نعم ، لو قيل بما ذكره المحقّق المزبور آنفا : من أنّ علّية وجود أحد الضدّين لعدم الآخر مبنيّة على اجتماع وجوده مع مقتضي الآخر ؛ نظرا إلى أنّ المانع لا يكون علّة لعدم الممنوع إلاّ بعد وجود مقتضيه واجتماعهما ممّا يجوز

__________________

(١) العبارة في النسخ : « لا يجب على وجود المانع » فصحّحت في ( ط ) بما أثبتناه ، وفي ( ع ) : « لا يجب أن يستند على الدوام إلى وجود المانع ».

(٢) في ( ط ) : الإرادة.

(٣) في ( ط ) ونسخة بدل ( ع ) : الإرادة.

٥٢٦

دعوى استحالته ، لاستريح (١) عن الدور ، لاستحالة توقّف الترك على الفعل في حين وجوده على هذا التقدير. ولكنّك عرفت ما فيه.

هذا تمام كلام المحقّق الخوانساري في الجواب عن الدور.

وأجاب عنه المحقّق الأصفهاني في حاشيته على المعالم في كلام طويل ، وذكره بطوله يوجب الملال ، غير أنّا نذكر خلاصة مجموع فقراته ، ومن أراد الاطّلاع عليه تفصيلا فليرجع إلى الحاشية المزبورة.

قال : ويرد على الثاني ـ يعني الدور ـ : أنّ وجود الضدّ من موانع وجود الضدّ الآخر مطلقا ، فلا يمكن فعل الآخر إلاّ بعد تركه ، وليس في وجود الآخر إلاّ شأنيّة كونه سببا لترك ذلك الضدّ ، إذ لا ينحصر السبب في ترك الشيء في وجود المانع منه ، فإن انتفاء كلّ من أجزاء العلّة التامّة علّة تامّة لتركه ، ومع استناده إلى أحد تلك الأسباب لا توقّف له على السبب المفروض حتّى يرد الدور. وهذا مع ما ذكره الخوانساري بقوله : « وأمّا ثانيا » ـ وقد تقدّم ـ متقاربا متوافقا المراد ، بل متّحدان حقيقة ، كما هو ظاهر للمتأمّل.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه إذا فرض انتفاء سائر الأسباب وانحصار الأمر في السبب المفروض ـ يعني وجود المانع الذي هو الضدّ ـ فيجيء الدور.

ثمّ أجاب عنه : بأنّ هذا الفرض غير ممكن ؛ لأنّ فعل الضدّ مسبوق بإرادته ، وهي كافية في التسبيب لترك ضدّه ، فليس يوجد مقام كان ترك الضدّ مستندا إلى نفس وجود ضدّه ، لوضوح أنّ الفعل مسبوق بالإرادة وهي صارفة من الآخر.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه يجري الكلام المزبور بالنسبة إلى إرادة الضدّ ، لمضادتها مع الضدّ الآخر ، لامتناع اجتماعهما.

__________________

(١) كذا في ظاهر ( ع ) ، وفي ( م ) ومحتمل ( ط ) : لا مسرح.

٥٢٧

ثمّ أجاب عنه : بمنع المضادّة وأنّ مجرّد امتناع الجمع بين الأمرين لا يقتضي المضادّة ، إذ قد يكون الامتناع عرضيّا ـ كما في المقام ـ فإنّ امتناع اجتماع إرادة أحد الضدّين مع الضدّ الآخر من جهة تضادّ هذه الإرادة لإرادة الآخر ، ولذا كان إرادة أحدهما صارفة عن الضدّ الآخر.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه يجري الكلام بالنسبة إلى الإرادة المفروضة وإرادة الضدّ الآخر فيلزم الدور ، لأنّ حصول الإرادة المفروضة سبب لعدم إرادة الضدّ الآخر ؛ لما ذكر من أنّ وجود أحد الضدّين سبب لانتفاء الآخر ، مع أنّ وجودها يتوقّف على انتفاء الآخر بناء على كون عدم الضدّ شرطا في حصول الآخر.

ثمّ أجاب عنه : بأنّ إرادة الفعل وعدمها إنّما يتفرع على حصول الداعي وعدمه ، فقد لا يوجد الداعي مع الضدّ أصلا فيتفرّع عليه عدم الإرادة من غير أن يتسبّب ذلك من إرادة الضدّ الآخر بوجه من الوجوه. وقد يوجد الداعي لكن يغلبه الداعي إلى الضدّ الآخر المأمور به مثلا ، فلا يكون عدم الإرادة حينئذ أيضا مستندا إلى إرادة الضدّ بل إلى غلبة داعيه ، وعلى أيّ حال فلا تأثير لنفس الإرادة في انتفاء الإرادة الاخرى.

ولا يخفى عليك أنّ منع استناد انتفاء إرادة الضدّ إلى إرادة ضدّه هنا مناف لما ذكره في الجواب عن السؤال الأوّل من أنّ إرادة الضدّ كافية في التسبيب لترك ضدّه ، فتدبّر جدّا.

ثم أورد على نفسه : بأنّا نجري الكلام والإيراد بالنسبة إلى غلبة الداعي إلى الضدّ المأمور به وغلبة الداعي إلى ضدّه ، لكونهما ضدّين أيضا ، وقد صار رجحان الداعي إلى الفعل سببا لانتفاء رجحان الداعي إلى ضدّه ، والمفروض توقّف الرجحان المزبور على انتفاء رجحان داعي الضدّ ، فيلزم الدور.

ثمّ أجاب عنه : بأنّه لا سببيّة بين رجحان داعي الفعل وبين انتفاء رجحان

٥٢٨

داعي ضدّه ، بل رجحان الداعي إلى الفعل إنّما يكون بعين مرجوحيّة الداعي إلى الضدّ ، فهما حاصلان في مرتبة واحدة من غير توقّف بينهما حتّى يتقدّم أحدهما على الآخر في الرتبة ، فرجحان الداعي إلى المأمور به ـ مثلا ـ مكافئ في الوجود بمرجوحيّة الداعي إلى ضدّه ، إذ الرجحانيّة والمرجوحيّة من الامور المتضايفة ، ومن المقرّر عدم تقدّم أحد المتضايفين على الآخر في الوجود.

قال في أواخر كلامه : وتوضيح المقام أنّ الأمرين المتقابلين إن كان تقابلهما من قبيل الإيجاب والسلب فلا توقّف لحصول أحد الطرفين على ارتفاع الآخر ، إذ حصول كلّ من الجانبين عين ارتفاع الآخر ، وكذا الحال في تقابل العدم والملكة ، وقد عرفت عدم التوقّف في تقابل التضايف أيضا ، وأما المتقابلان على سبيل التضادّ فيتوقّف وجود كلّ على عدم الآخر ، إلاّ أن يرجع الأمر فيها إلى أحد الوجوه الأخر كما في المقام (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

ويرد عليه ـ بعد إمكان المناقشة في كثير من الكلمات المزبورة ـ أمران :

أحدهما : أنّ خاتمة كلامه قد استقرّت على أنّ ترك الضدّ أبدا معلول لانتفاء السبب الداعي أعني غلبة رجحانه ، فلا يكون مقام يستند فيه إلى وجود الضدّ الآخر أو إلى سبب وجوده ، وعند ذلك امتنع أن يكون أحد الضدّين مانعا عن الآخر ، لأنّ المانع من شأنه استناد عدم الممنوع إليه ، فلا يكون عدمه مقدّمة لوجود الآخر ، إذ المقدّمية إنّما جاءت من جهة كونه مانعا وكون عدم المانع شرطا. والعجب! أنّه اعترف في صدر كلامه بذلك ومع ذلك قال متّصلا به : إنّ انحصار سبب ترك الضدّ في فعل الضدّ الآخر غير ممكن.

وبالجملة ، أنّه رحمه‌الله لمّا تصدّى لدفع الدور نظر إلى الواقع والحقّ وأفاد ما

__________________

(١) هداية المسترشدين ٢ : ٢٢٤ ـ ٢٢٧.

٥٢٩

حاصله : أنّ فعل الضدّ وترك الضدّ الآخر من المقارنات الاتّفاقيّة نظرا إلى تقارن علّتيهما ـ يعني علّة وجود أحدهما وعلّة عدم الآخر ، وهما غلبة رجحان داعي الوجود ومرجوحيّة داعي المعدوم ـ وغفل عن كون هذا التحقيق نفيا للتوقّف رأسا.

والثاني : أنّ تقدّم أحد الأمرين على الآخر لا يمكن إلاّ إذا كان علّتاهما مختلفتين في الرتبة ، حتّى أنّه إذا فرض مساواة الشيئين في الرتبة امتنع تقدّم معلول أحدهما على الآخر. وحينئذ لا يجوز أن يكون أحد المعلولين مقدّمة لوجود الآخر ، إذ المقدمة سابقة على ذيها رتبة ، والفرض أنّهما في المرتبة سواء ، لاستواء علّتيهما.

إذا تحقّق ذلك ، فنقول : إنّه رحمه‌الله جعل علّة وجود أحد الضدّين غلبة الداعي إليه ، وجعل علّة عدم الآخر مرجوحيّة الداعي إليه ، وجعل هاتين العلّتين من المتضايفات التي اعترف بعدم تقدّم أحدهما على الآخر رتبة ، قائلا بأنّ أحدهما متحقّق بعين تحقّق الآخر ، كما هو صريح كلامه. وعلى هذا فالحكم بتوقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر وكون العدم هذا مقدّمة لوجود الآخر من العجائب!

فالحقّ أنّه لا مدفع للدور على تقدير كون الترك مقدّمة للفعل ، وأنّ جميع ما قيل في دفعه يرجع بالأخرة إلى نفي التوقّف وتحقّقه.

نعم ، التفصيل الذي نقلنا في صدر المسألة عند ذكر الأقوال من المحقّق الخوانساري : من أنّ الضدّ إذا كان موجودا كان رفعه مقدّمة لمجيء الآخر ، ممّا أمكن الركون إليه من غير أن يكون فيه دور.

وإلى هذا أشار بقوله متّصلا بما حكينا عنه سابقا :

وهنا كلام آخر ، وهو : أنّه يجوز أن يقال : إنّ المانع إذا كان موجودا فعدمه ممّا يتوقّف عليه وجود الشيء ، وأما إذا كان معدوما فلا ، نظير ما قال المحقّق الدواني : إنّ عند إمكان اتّصاف شيء بالمانعيّة يكون عدم المانع موقوفا عليه ، وأمّا إذا لم يمكن اتّصاف الشيء بالمانعيّة فلا يكون حينئذ عدم المانع موقوفا عليه ، وعلى هذا لا يلزم على المجيب دور من حمل كلامه على ظاهره أيضا.

٥٣٠

قال : وبالجملة ، الحكم بمانعية الأضداد ممّا لا مجال لإنكاره. وفي كلام الشيخ الرئيس أيضا التصريح بمانعيّتها. كيف! وأيّ شيء أولى بالمانعيّة من الضدّ؟ فلا وجه للإيراد على المجيب : بأنّه جعل الضدّ مانعا. نعم لو قيل بأنّ عدم المانع مطلقا ليس موقوفا عليه بل هو من مقارنات العلّة التامّة ـ كما ذهب إليه بعض ـ لم يكن بعيدا ، لكن هذا بحث لا اختصاص له بالمجيب وبمقامنا هذا (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وخلاصة مراده : أنّه لا ريب في تمانع الأضداد وأنّ وجود أحدهما يمنع من وجود الآخر ، ولكن لا ملازمة بين كون الشيء مانعا وبين كون عدمه (٢) مقدّمة ، لأنّ عدم المانع إذا كان مقارنا للعلّة التامّة أو سابقا عليها لم يكن موقوفا عليه ، إذ لا توقّف حينئذ للمعلول إلاّ على وجود علّته التامّة ، وأمّا إذا كان مؤخّرا عنها ـ بأن اجتمعت العلّة في الوجود مع وجود المانع ـ كان عدمه موقوفا عليه.

وحينئذ فالذي يقتضيه تمانع الأضداد إنّما هو توقّف وجود الضدّ المعدوم على ارتفاع الضدّ الموجود أيضا ، وأمّا توقّف الضدّ الموجود أيضا على عدم الضدّ المعدوم الذي كان عدمه سابقا على علّة الموجود أو مقارنا معها فلا. وحينئذ لا يلزم الدور في شيء ، لأنّا إذا فرضنا البياض شاغلا للمحلّ كان وجود السواد حينئذ في ذلك المحل موقوفا على ارتفاع البياض ، لاستحالة اجتماعهما ، ولكن وجود البياض الموجود ليس موقوفا على عدم السواد ؛ لأنّ هذا العدم سابق على علّة البياض أو مقارن معها ، فلا يكون وجود السواد المعدوم سببا لرفع البياض الذي كان مقدّمة لوجود السواد حتّى يلزم الدور ، لأنّ السواد إنّما يكون علة لرفع البياض إذا كان عدمه شرطا ، وبعد أن بنينا على أنّ عدم السواد المعدوم ليس مقدّمة شرطيّة لوجود البياض لم يكن وجه لعليّة السواد لعدم البياض.

__________________

(١) رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : ١٥٠ ـ ١٥١.

(٢) في ( ع ) : كونه.

٥٣١

هذه خلاصة مراده ، وهي خير ما يقال في هذا المقام ، ولذا جنح إليه الاستاذ ـ دام ظله المتعال ـ إلاّ أنّهما مع ذلك لا يخلو عن المناقشة ، والإشكال من وجوه :

الأوّل : أنّ جعل عدم المانع المقارن مع العلّة أو المتقدّم (١) غير موقوف عليه غير ظاهر وجهه ، إذ لا نجد فرقا بين العدم المتقدّم أو المتأخّر من حيث عدم إمكان تحقّق المعلول بدونه (٢). وهذا خلف.

نعم ، الفرق بينهما هو : أنّ العدم المقارن أو المتقدّم مقدّمة حاصلة ، والعدم المتأخّر مقدّمة غير حاصلة ، وهذا القدر من الفرق لا يقتضي عدم التوقّف رأسا في الأوّل ، وإلاّ لانحصر المقدّمة في العلّة التامّة إذا كانت مركّبة من أجزاء مترتّبة (٣) في الوجود ، لأنّه إذا تحقّقت الأجزاء والشرائط إلى أن انتهت إلى الجزء الأخير صدق أنّ المعلول في هذا الحال لا يتوقّف وروده إلاّ على ذلك الجزء ، فيلزم أن لا يكون أجزاء العلّة وشرائطها من المقدّمات ، وفساده واضح.

وحينئذ فالدور باق بحاله ، لمكان توقّف البياض المفروض وجوده على عدم السواد المفروض عدمه أيضا المقتضي لكون وجود السواد علّة لرفع البياض الذي كان موقوفا عليه لوجوده.

الثاني : أنّ رفع الضدّ الموجود إنّما يجوز أن يكون مقدّمة لمجيء الضدّ المعدوم إذا كان وجود الضدّ الموجود مانعا عن مجيء الآخر المفروض عدمه ، لأنّ المقدّمية إنّما اخذت من جهة كون الضدّ مانعا وعدمه شرطا ، ومن المعلوم أنّ الموجود إنّما

__________________

(١) في ( ع ) : والمتقدّم.

(٢) في هامش ( ع ) زيادة ما يلي : وإلاّ لخرج المانع عن كونه مانعا وكان وجود المعلول بدون هذا العدم يعني مع وجود المانع ممكنا.

(٣) في ( ع ) و ( م ) : مرتّبة.

٥٣٢

يكون مانعا عن المعدوم إذا كان تمام مقتضيه وشرائطه موجودا حتّى يكون سبب العدم وجود الموجود ، وإلاّ لم يكن مانعا فعلا بل شأنا ، فلا يكون رفعه مقدّمة.

وأيضا قضيّة ما ذكره : من أنّ مطلق عدم المانع ليس بموقوف عليه ، هو أن يكون تمام ما يقتضي وجود الضدّ الآخر المفروض عدمه موجودا في حال وجود الضدّ المفروض وجوده حتّى يكون رفعه مقدّمة ، إذ لو اعتبر الرفع المزبور قبل استكمال علّة وجود الضدّ المعدوم لكان هذا داخلا في أقسام عدم المانع المقارن مع العلّة أو المقدّم ، فلا يكون باعترافه مقدّمة ، فمقدّمية رفع الضدّ الموجود موقوف على اعتبار ملاحظته بعد استكمال أجزاء المقتضي للضدّ المعدوم وشرائطه ، فيلزم حينئذ أن يجوز اجتماع وجود أحد الضدّين مع تمام مقتضي الضدّ الآخر ، مع أنّه رحمه‌الله قد اعترف ـ فيما تقدّم في جواب السبزواري ـ بأنّ الصلاة لا يمكن أن تكون علّة لعدم الزنا إلاّ إذا فرض تحقّق جميع أجزاء علّة الزنا من الشوق والإرادة ونحوهما حتّى يستند عدم الزنا حينئذ إلى وجود المانع فقط ، فيكون هو العلّة للعدم دون فقد المقتضي ، وأنّ هذا يجوز أن يكون محالا (١). وحينئذ كيف يتمكّن هنا من جعل رفع الضدّ الموجود مقدّمة لمجيء الضدّ المعدوم؟ مع أنّ مقدّمية ذلك ـ بناء على كلامه من عدم كون مطلق عدم المانع مقدّمة ـ مبنيّة على فرض وجود علّة الزنا مثلا مع الصلاة مثلا حتّى يكون عدم الصلاة مقدّمة لترك الزنا. نعم ، نحن لمّا منعنا استحالة ما ذكر وقلنا بأنّه يمكن اجتماع أحد الضدّين مع تمام مقتضى الضدّ الآخر وبيّنا ذلك ، أمكن لنا دعوى كون رفع الضدّ الموجود مقدّمة للضدّ المعدوم.

ولكن الإنصاف أنّ هذا كلام صدر منه من جهة الاحتمال والمناقشة في المقال ،

__________________

(١) كذا ، ولم نتحقق معنى العبارة ، ولعلّ فيها سقطا أو تصحيفا.

٥٣٣

فإنّ الحكم بذلك (١) بجواز اجتماع وجود أحد الضدّين مع تمام مقتضى الآخر لا يخلو عن إشكال وتأمّل ، إذ لو جاز ذلك لجاز اجتماع نفس المقتضيين أيضا قبل تحقّق أحد الضدّين ، إذ لا مدخليّة لتحقّقه في إمكان اجتماع المقتضيين وامتناعه ، وحينئذ يلزم الدور إذا اجتمعا في الوجود ولو في محلّين مختلفين ، لأنّ تأثير كلّ منهما أثره يتوقّف حينئذ على عدم تأثير الآخر ، ضرورة استحالة تأثيرهما معا لاستلزامه الجمع بين الأثرين المتضادّين ، مع أنّ عدم تأثير كلّ منهما لا سبب له إلاّ تأثير الآخر ، فيلزم الدور.

اللهم إلاّ أن يدّعى الفرق بين اجتماع سبب الضدّين في الوجود معا من دون تقدّم أحدهما على الآخر ، وبين اجتماعهما متعاقبا بأن يتحقّق أحدهما أوّلا فيؤثّر أثره ثمّ يتحقّق الآخر ، فإنّ الأوّل مستحيل لما ذكر ، بخلاف الثاني فإنّه إذا فرض أنّ سبب أحد الضدّين وجد في حال عدم سبب الآخر كان تأثيره ممّا لا مانع له ، ثمّ بعد أن أثّر أثره فلا استحالة في وجود سبب الآخر في محلّ آخر ، لأنّ هذا السبب حينئذ لا يؤثّر تأثيرا باعتبار وجود المانع الذي قد سبقه ، أعني تأثير السبب المفروض وجوده سابقا.

إلاّ أنّ هذه الدعوى في الفرق أيضا لا تخلو عن حزازة وإشكال ، كما يظهر للمتأمّل الدقيق.

وكيف كان ، فمن يقول باستحالة ذلك يعني اجتماع أحد الضدّين مع تمام سبب الآخر وشرائطه ـ كالمحقّق على ما سمعت عنه في السابق في الجواب عن السبزواري ـ فلا يجوز له الحكم بمقدّميّة رفع الضدّ الموجود لوجود المعدوم ، بل ينبغي له أن يجعل رفعه ووجود المعدوم معلولي علّة واحدة أو علّتين متساويتين في الرتبة ، كما عرفت عن الشيخ في الحاشية ، فإذن لا يكون توقّف بينهما جدّا.

__________________

(١) في ( ع ) زيادة : يعني.

٥٣٤

الثالث : أنّ ما ذكره من التفصيل ـ بعد الغضّ عن جميع ما ذكرنا وقبول حجّته (١) ـ إنّما يتمّ في الأضداد القارّة كالسواد والبياض ، وأمّا في الأضداد الغير القارّة ـ كالحركة والسكون وغيرهما من أفعال المكلّفين التي كلامنا فيها ـ فلا سبيل إليه ، لأنّا نعلم بالضرورة والوجدان أنّ المشتغل بالصلاة مثلا إذا حصل له ما يقتضي الإزالة مثلا ـ من الشوق والإرادة والعزم وغير ذلك من الامور التي لا بدّ منها في تحقّق الأفعال الاختياريّة ـ فيقطع الصلاة قهرا ، فيكون انقطاعها ووجود الإزالة في مرتبة واحدة من الوجود لا يمكن جعل أحدهما من مقدّمات وجود الآخر جدّا ؛ على أنّ المحتاج إليه في تحقّق الإزالة إنّما هو خلوّ زمانها عن فعل الصلاة مثلا ، ولا ريب أنّ قطع الصلاة ورفعها لا حاجة للإزالة إليهما إلاّ من جهة تفريغ زمانها عن فعل ضدّها كالصلاة ، فيكون الذي يتوقّف عليه فعل الإزالة حقيقة هو عدم الصلاة في زمان ذلك الفعل مطلقا ، سواء كان مسبوقا بالوجود فرفع أو كان باقيا على الحالة الاولى ، وحينئذ فجعل الرفع من مقدّمات مجيء الضدّ المعدوم حقيقة يرجع إلى كون مطلق عدم الضدّ من المقدّمات ، فيكون الرفع مقدّمة لتحصيل المقدّمة التي هي خلوّ زمان الضدّ عن ضدّه ، فيعود الدور الذي كان رفعه موقوفا على عدم كون مطلق العدم من المقدّمات.

فتدبّر جيّدا في المقام ، فإنّه مزلّة للأقدام ومعركة للآراء ومن غوامض المطالب. ولا أظنّك بعد الإحاطة بجميع ما تلونا عليك حقّ الإحاطة والتأمّل فيه كمال التأمّل ذا مرية في عدم توقّف شيء من فعل الضدّ على فعل ضدّه وتركه (٢) ، وإن اشتهر توقّف الفعل على الترك خاصّة من دون عكس بين كثير من أعاظم

__________________

(١) في ( م ) و ( ط ) : حجّتيه.

(٢) في مصحّحة ( ع ) : من فعل الضدّ وتركه على وجود فعل ضدّه وتركه.

٥٣٥

الأصحاب (١) ، فإنّ الجواد قد يكبو والصارم قد ينبو والشهرة قد تكذب ، وكم ترك الأوّلون للآخرين! نعم ، قد يتّفق توقّف ترك أحد الضدّين في ثاني الزمان على إيجاد ضدّه في الزمان السابق ، ولكنّه خارج عن محلّ الكلام ، كما عرفت مثاله وبيانه في كلام المحقّق الخوانساري عند الاعتذار عن المجيب عن شبهة الكعبي (٢). والله العالم بحقائق الأشياء.

__________________

(١) تقدّم كلامهم في الصفحة ٥١٧.

(٢) انظر الصفحة : ٥٢٣ ـ ٥٢٤.

٥٣٦

المقدّمة الثانية

في تحرير محلّ النزاع

من حيث ضيق المأمور به وسعته ، أو وجوبه واستحبابه ، أو تخييره وتعيينه ... إلى غير ذلك من الوجوه المتصوّرة في الأوامر. وهكذا في الضدّ.

قال الفاضل القمّي أعلى الله مقامه : موضع النزاع ما إذا كان المأمور به مضيّقا والضدّ موسّعا ، ولو كانا موسّعين فلا نزاع. وأمّا لو كانا مضيّقين فيلاحظ ما هو الأهمّ. وقد يفصّل : بأنّ الضدّين إمّا كلاهما من حقّ الله أو من حقّ الناس أو مختلفان ، وعلى التقديرات : إمّا معا موسّعان أو مضيّقان أو مختلفان. فمع ضيق أحدهما الترجيح له مطلقا ، ومع سعتهما التخيير مطلقا. وأمّا الثاني فمع اتّحاد الحقيقة التخيير مطلقا ، إلاّ إذا كان أحدهما أهمّ في نظر الشارع كحفظ بيضة الإسلام ، ومع اختلافهما الترجيح لحقّ الناس إلاّ مع الأهميّة (١) ، انتهى كلامه.

ويمكن المناقشة في هذا الكلام :

أوّلا : بأنّ إخراج الموسّعين عن محلّ النزاع ممّا لا وجه له ، فإنّ الملازمة التي أثبتوها بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه عقليّة سارية في جميع الأوامر ، فكما أنّ الأمر المضيّق يقتضي النهي عن ضدّه الموسّع كذلك الأمر الموسّع يقتضي ذلك من غير فرق ، والحاكم بذلك هو العقل على القول بالاقتضاء. غاية الأمر أنّ النهي في الموضعين يختلف حسب اختلاف الأمرين ، فالأمر المضيّق يقتضي النهي عن ضدّه على جهة التضييق والتعيين ، والأمر الموسّع يقتضيه على جهة التوسعة والتخيير ،

__________________

(١) القوانين ١ : ١١٣.

٥٣٧

فالأضداد الواقعة في وقت الإزالة ـ مثلا ـ منهيّة على سبيل الضيق ويجب الاجتناب عنها فورا مضيّقا معيّنا ، والأضداد الواقعة في وقت الصلاة منهيّة توسعة فيجب الاجتناب عنها في مقدار فعل الصلاة من أوّل الوقت إلى آخره. وهكذا الكلام في المضيّقين المتساويين في الأهمّية ، فإنّ قاعدة الاقتضاء المزبورة قاضية باقتضاء كلّ منهما النهي عن الآخر على سبيل التخيير العارض للأمرين باعتبار التزاحم والتكافؤ.

وقد يجاب عنها أوّلا : بأنّه لا مضايقة في القول بخروج الموسّعين والمضيّقين عن تحت النزاع ؛ لعدم جدواه وانتفاء الثمرة المذكورة لهذا النزاع فيهما ، ضرورة معلوميّة عدم اقتضاء النهي التوسّعي التخييري المستفاد من الأمر الموسّع أو المضيّق بالنسبة إلى مضيّق آخر التحريم والفساد ، ولا فائدة حينئذ في تعميم البحث بالنسبة إلى غير الموسّع والمضيّق.

وثانيا : بأنّ المتبادر من الأمر والنهي المشتمل عليهما عنوان المسألة في كلام الأوائل والأواخر إنّما هو الإلزام في الفعل والترك على سبيل الضيق والتحتّم والتعيين ، وهذا النحو من الأمر والنهي مختصّ بما إذا كان المأمور به مضيّقا والضدّ موسّعا ، إذ قد عرفت أنّ في شيء من الموسّعين والمضيّقين ليس إلزام في فعل شيء معيّن أو تركه ، بل التوسعة وتزاحم المضيّقين قاضيان بالرخصة في فعل كلّ فرد وتركه. أمّا الرخصة في الترك فواضح في الموضعين. وأمّا الرخصة في الفعل ففي الموسّعين أيضا واضح ، لمعلوميّة أنّه إذا اجتمع واجبان موسّعان جاز للمكلّف فعل كلّ واحد منهما إلى تضايق وقت أحدهما ، فالنهي الذي يقتضيه الأمر بالموسّع موسّع مثل الأمر بمعنى أنّه يجوز للمكلّف فعل الضدّ في جميع أزمنة وجوب المأمور به ما لم يتضيّق وقته ، فيتعيّن الاجتناب حينئذ لذلك ، يعني لأجل مزاحمة المضيّق والموسّع. وأمّا الرخصة في الفعل في المضيّقين فلأنّه الأصل في تزاحم الواجبين ، إذ المرجع

٥٣٨

فيهما التخيير ، فيفعل المكلّف ما شاء. وهذا معنى الرخصة في الفعل ـ أي فعل ضدّ المأمور به ـ المنافية للنهي التضييقي التعييني.

هذا ويمكن أن يقال بما ذهب إليه جماعة من الاصوليّين من : أنّ التخيير في النواهي غير جائز ، بمعنى أنّه ليس حال النهي والأمر في الانقسام إلى التخييري والتعييني سواء ، لأنّه لا مانع من أن يكون المأمور به أحد هذه الامور على سبيل البدليّة والتخيير كالخصال ، ولكن المنهيّ عنه لا يجور أن يكون كذلك ، لأنّ النهي عن أحد هذين الأمرين أو الامور يستلزم تحريم الجميع.

وهذا المذهب وإن كان سخيفا مختار المعتزلة (١) ، إلاّ أنّه به يتعيّن كون محلّ النزاع ما ذكره ، إذ الموسّعان والمضيّقان لا يكون فيهما نهي على هذا المذهب ، لعدم جواز النهي عن الضدّ في وقت ما (٢) في الموسّعين أو عن ضدّ ما (٣) في المضيّقين.

وكيف كان ، فلا إشكال في سريان النزاع إلى سائر أقسام الواجبات : من العيني والكفائي ، والتخييري والتعييني ، والنفسي والغيري ، والتعبّدي والتوصّلي ، والأصلي والتبعي ، بمعنى أنّ المضيّق من هذه الواجبات يقتضي النهي عن الموسّع منها ، سواء كانا متجانسين بأن دار الأمر بين المضيّق والموسّع من العيني والكفائي ...

وهكذا مثلا ، أو مختلفين بأن كان المضيّق من العيني مثلا والموسّع من الكفائي أو التخييري وبالعكس ، فإنّه على القول بالاقتضاء وعدمه فهذه الواجبات متساوية الأقدام. ولعلّ إطلاق كلام الفاضل القمّي رحمه‌الله يشملها أيضا.

وثانيا : بأنّ حصول النزاع فيما إذا كان الضدّ من الواجبات الموسّعة غير جيّد ، لأنّهم يتفرّعون (٤) على هذه المسألة حرمة السفر وفساد المعاملات مع عدم

__________________

(١) كما حكى عنهم الآمدي في الإحكام ١ : ١٥٧ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٥٣.

(٢ و ٣) في ( ع ) كتب فوق « ما » : كما.

(٤) كذا ، والمناسب : « يفرّعون ».

٥٣٩

كونها من الواجبات جدّا ، فضلا عن كونها موسّعين. فالتحقيق إرخاء عناء البحث إلى أودية المباحات والمكروهات والمستحبّات أيضا ؛ لأنّ اقتضاء الأمر المضيّق النهي عن الضدّ لا اختصاص له بما إذا كان الضدّ واجبا كما لا يخفى. ولعلّ نظره رحمه‌الله إلى قلّة جدوى البحث فيما عدا الواجب الموسّع ؛ لأنّ الثمرة المعتدّ بها هي فساد الضدّ.

ولعلّ الفساد عند الكلّ أو الجلّ لا يثبت إلاّ للضدّ الذي كان من العبادات ، لأنّهم لا يقولون بفساد المعاملة بمثل هذا النهي المتولّد من الأمر ، ولا بحرمة السفر على وجه يترتّب عليه آثار التحريم من الإتمام والإمساك.

لكن ومع ذلك يرد عليه : أنّ الواجب الموسّع يشمل العبادي والتوصّلي ، مع أنّ الثمرة المزبورة ـ وهي الفساد ـ غير ظاهرة في التوصّلي ، فكان عليه بعد الإغماض عن خروج المباحات والمكروهات والمستحبّات تقييد الموسّع بالعبادي.

وأيضا من مواضع جريان هذا النزاع ما إذا كان المأمور به مضيّقا عينيا كالصوم ـ مثلا ـ والضدّ مضيّقا تخييريّا كما سنبيّنه ، ومن المعلوم خروج هذا عن محلّ النزاع لو خصّص الضدّ بالواجب الموسّع.

ويدفع جميع هذه المناقشات جعل « الموسّع » في كلامه عبارة عمّا لا حرج ولا ضيق فيه مثل الضيق الذي في المأمور به ، لا المصطلح عليه عند الاصولي ، لأنّ الموسّع بهذا المعنى يشمل المباح في مقابل المضيّق بل الموسّع أيضا. لكن يلزم حينئذ أن يقال بفساد جميع المستحبّات في حقّ من عليه واجب موسّع ـ كصلاة الرخصة ـ لأنّ المستحبّ سواء كان موسّعا أو مضيّقا في مقابل الواجب ، ولو كان موسّعا يصدق عليه أنّه « موسّع زاحم المضيّق » فيلزم أن يتوجّه النهي إلى المستحبّ فيفسد. ولكنّه سهل بعد ما عرفت آنفا من أنّ النهي المتولّد من الأمر الموسّع ليس منشأ لشيء من آثار التحريم ؛ لأنّه نهي تخييري مرجعه إلى أنّه إن شاء يفعل وإن شاء يترك إلى أن ينتهي الأمر إلى الضيق المقتضي للنهي العيني المقتضي للفساد.

٥٤٠