مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا التقى المسلمان بسيفهما [ على غير سنّة ](١) فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال : لأنّه أراد قتل صاحبه » (٢).

وعن الكافي عن ابن بزيع عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « ملعون من ترأّس ، ملعون من همّ بها ، ملعون من حدّث بها نفسه » (٣).

وروي في الكافي : « من أسرّ سريرة رآها » (٤) إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ » (٥) إلى غير ذلك ممّا يقف عليها المتتبّع.

الثاني : ما دلّ على العفو ؛ لما قد مرّ من أنّ عنوان « العفو » ظاهر في تحقّق العصيان.

كقول الصادقين فيما رواه في الكافي : « إنّ آدم عليه‌السلام قال : يا رب سلّطت عليّ الشيطان وأجريته منّي مجرى الدم ، فاجعل لي شيئا ، فقال تعالى : يا آدم جعلت لك أنّ من همّ بسيّئة من ذرّيتك لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت عليه سيّئة ، ومن همّ منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة ، فإن هو عملها كتبت له عشرا » (٦).

__________________

(١) أثبتناه من المصدر.

(٢) الوسائل ١١ : ١١٣ ، الباب ٦٧ ، من أبواب جهاد العدو ، الحديث الأوّل. وفيه : لأنّه أراد قتلا.

(٣) الكافي ٢ : ٢٩٨ ، باب طلب الرئاسة ، الحديث ٤. والوسائل ١١ : ٢٨٠ ، الباب ٥٠ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٦.

(٤) في المصدر : ألبسه الله رداءها.

(٥) الكافي ٢ : ٣٩٦ ، باب الرياء ، الحديث ١٥. والوسائل ١ : ٤١ ، الباب ٧ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث الأوّل ، والصفحة ٤٨ ، الباب ١١ منها ، الحديث ٥.

(٦) الكافي ٢ : ٤٤٠ ، باب ما أعطى الله عزّ وجل آدم عليه‌السلام وقت التوبة ، الحديث الأوّل.

٤٦١

وعن فضل بن عثمان المرادي ، سمع أبا عبد الله يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( في حديث إلى أن قال ) « ويهمّ بالسيّئة أن يعملها ، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء ، وإن هو عملها أجل سبع ساعات » (١).

وعن توحيد الصدوق عن الصادق عليه‌السلام قال : « من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا ، ويضاعف الله لمن يشاء إلى سبعمائة. ومن همّ بسيّئة فلم يعملها لم تكتب عليه حتّى يعملها ، فإن لم يعملها كتبت له حسنة ، وإن عملها أجل تسع ساعات ، فإن تاب وندم عليها لم يكتب [ عليه ] وإن لم يتب ولم يندم عليها كتبت [ عليه ] سيّئة واحدة » (٢).

وعن الصادق عليه‌السلام : « إذا همّ العبد بالسيّئة لم يكتب عليها ، وإذا همّ بحسنة كتب له » (٣).

وعن الصدوق عن أحدهما : « إنّ الله جعل لآدم في ذرّيته أنّ من همّ بسيّئة لم تكتب عليه » (٤).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٢٩ ، باب من يهمّ بالحسنة أو السيّئة ، الحديث ٤. والوسائل ١١ : ٣٥١ ، الباب ٨٥ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل.

(٢) التوحيد للصدوق : ٤٠٨ ، الحديث ٧. والوسائل ١ : ٣٩ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٢٠.

(٣) الوسائل ١ : ٣٧ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٠. وفيه : « ... عليه ، وإذا همّ بحسنة كتبت له ».

(٤) الوسائل ١ : ٣٦ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٦ ، ولكنّه عن الكافي ، ولم نعثر عليه في كتب الصدوق ، وانظر الكافي ٢ : ٤٢٨ ، باب من يهمّ بالحسنة أو السيّئة ، الحديث الأوّل.

٤٦٢

وعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ المؤمن يهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه » (١).

الثالث : ما دلّ على حرمة الرضا بما فعله العاصي.

كقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ الراضي بفعل قوم كالداخل معهم فيه ، وعلى الداخل إثمان إثم الرضا وإثم الدخول » (٢).

وروي : « أنّ من رضي بفعل فقد لزمه وإن لم يفعله » (٣).

ويكرّر في الزيارات المأثورة عنهم عليهم‌السلام (٤) : « لعن الله أمّة سمعت بذلك فرضيت به » (٥).

وقد ورد في تفسير قوله تعالى : ( فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ )(٦) « أنّ نسبة القتل إلى المخاطبين مع تأخّرهم عن القاتلين لأجل (٧) رضاهم بفعلهم » (٨) وجه الدلالة : ما عرفت من أنّ الرضا أيضا مرتبة من مراتب الإرادة والقصد ، غاية الأمر أنّه استعمل فيما وقع من الأفعال ، وهو لا يضرّ فيما نحن فيه.

الرابع : ما ورد في العقاب على فعل بعض المقدّمات بقصد ترتب الحرام ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٦ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٧.

(٢) نهج البلاغة : ٤٩٩ ، الحكمة ١٥٤. والبحار ١٠٠ : ٩٦ ، الحديث ٧.

(٣) تفسير علي بن إبراهيم ١ : ١٥٧ ، ذيل الآية ١٥٥ من سورة النساء.

(٤) في ( ط ) زيادة : قولهم.

(٥) البحار ١٠١ : ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، الحديث ٣٢.

(٦) آل عمران : ١٨٣.

(٧) في ( ط ) بدل « لأجل » : بكثير.

(٨) انظر تفسير الصافي ١ : ٣٧٤.

٤٦٣

كغارس الخمر (١) والماشي لسعاية مؤمن (٢). وجه الاستدلال : أنّ من المعلوم عدم العقاب على المشي والغرس لا بقصد ذلك ، فيكون العقاب للقصد.

ويؤيد الكلّ الأخبار الدالّة على حرمة الحسد (٣) واحتقاد الناس (٤) والآمرة على اجتناب (٥) الظنّ (٦) ونحو ذلك من الامور الباطنيّة.

هذا غاية ما يمكن الاستناد إليه في ثبوت العقاب للقصد المجرّد عن العمل ، إلاّ أنّه مع ذلك فالحكم بثبوت استحقاق العقاب محلّ إشكال.

وتوضيحه : أنّ النيّة والقصد إمّا أن يكون من الأفعال الصادرة منّا ، كما يظهر من جملة من الفقهاء في تحديدها ، حيث يقولون : إنّها إرادة تفعل بالقلب (٧). وإمّا أن لا تكون من مقولة الفعل والحركة الصادرة من الفاعل ، بل إنّما هي عبارة عمّا يدعو إلى تحريك العضلات من اعتقاد النفع في الفعل ، فيكون من الكيفيّات النفسانيّة الحاصلة تارة بأسباب اختياريّة ـ مثل النظر والاستدلال ـ واخرى بغيرها من الامور الخارجة عن الاختيار ، كما عليه جماعة من محقّقي العدليّة.

قال المحقّق الطوسي رحمه‌الله ـ بعد ذكر الإرادة والكراهة في عداد الكيفيّات

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ١٦٥ ، الباب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ و ٥.

(٢) البحار ٧٢ : ١٢٢ ، الحديث ١٨ ، و ٧٨ : ٢٧٢ ، الحديث ١١٢. والوسائل ١٩ : ٨ ، الباب ٢ من أبواب القصاص في النفس.

(٣) راجع الوسائل ١١ : ٢٩٢ ، الباب ٥٥ من أبواب جهاد النفس.

(٤) راجع البحار ٧٥ : ٢٠٩ ، الباب ٦٤ ، والصفحة ١٩٣ ، الباب ٦٢.

(٥) في ( ع ) بدل « اجتناب » : إحسان.

(٦) راجع البحار ٧٥ : ٢٠٩ ، الباب ٦٤ ، والصفحة ١٩٣ ، الباب ٦٢.

(٧) كالمحقّق في الشرائع ١ : ٢٠ ، والعلاّمة في منتهى المطلب ( الطبعة الحجريّة ) ١ : ٥١٦.

٤٦٤

النفسانيّة ـ : « وهما نوعان من العلم » (١) وهو الظاهر من التأمّل في الوجدان أيضا ، بل ويقتضيه البرهان أيضا ؛ من حيث إنّ النيّة والإرادة ونحوهما لو كان فعلا لكان اختياريّا عند القائل بكونها معصية ، إذ لا يعقل العقاب على الفعل الحاصل بغير الاختيار عند العدليّة ، وذلك يلازم كونها مسبوقة بالإرادة ، فيلزم الدور أو التسلسل.

والقول بأنّ الارادة مرادة بنفسها على قياس « الوجود » (٢) الموجود بنفسه ، مدفوع بأنّ ضرورة العقل يحكم بالتساوي بين أفراد الفعل الاختياري في الحاجة إلى الإرادة والنيّة ، وعدم احتياجها إليها إنّما يكشف عن خروجها عن سلسلة الأفعال.

وبذلك يظهر فساد قياسه بالوجود ؛ فإنّه خارج عمّا يصير موجودا به وهو الماهيّة. مضافا إلى أنّ الكلام في الإرادة التي يتوقّف عليها صدور الفعل الاختياري عن المختار ، وصدور الفعل غير محتاج بعد تصوّر الفعل والتصديق بمنفعته ـ على وجه لا تعارض تلك المنفعة الملحوظة في نظر الفاعل منفعة اخرى في نظره موجودة في تركه مساوية للمنفعة القاضية بوجوده في نظره ـ إلى أمر آخر ، وذلك كاف في صدوره ، ولا حاجة إلى أمر آخر كما هو ظاهر عند المتأمّل المنصف. فعند التحقيق يختلف مراتب ذلك الاعتقاد الداعي إلى صدور الفعل ، ويختصّ في كلّ مرتبة باسم. وربّما يتسامح في إطلاق اسم بعض المراتب على بعضها نظرا إلى ظهور المراد.

وما ذكرنا وإن كان بعيدا عن أنظار طلبة أهل العصر ، إلاّ أنّه بعد موافقته لما ذهب إليه الأكابر من أرباب التحقيق والعدل ولما نجده من أنفسنا لا بأس به.

__________________

(١) كشف المراد : ٢٥٢.

(٢) لم يرد ( الوجود ) في ( ع ) و ( م ).

٤٦٥

وكيف كان ، فعلى الثاني لا ينبغي الإشكال في الحكم بعدم استحقاق العقاب فيما إذا قصد الفعل واعتقد النفع فيه ، ولا سبيل إليه إلاّ بوجهين :

أحدهما : أن يعاقب على تحصيل ذلك الاعتقاد بالنظر أو بما يوجبه من أعمال الحواسّ الظاهرة الموجبة للعلم.

والثاني : أن يقال : إنّه لا إشكال في سوء سريرة من قصد العصيان وخبث طينته ، ومن الجائز أن يعاقب من كان على تلك الحالة الخبيثة والملكة الرذيلة وإن لم يفعل فعلا محرّما.

والأول غير مطّرد ؛ لجواز حصول الاعتقاد بواسطة مقدّمات خارجة عن القدرة ، بل ولا يبعد دعوى أنّه الغالب في العلم الحاصل بمنافع الأفعال.

والثاني ممّا لا يلتزم به العدليّة ؛ لاقتصار العقاب عندهم على مخالفة الأمر الممتنع تعلّقه بغير ما هو من مقولة الأفعال.

وعلى الأوّل ـ فبعد ما عرفت من أنّه خلاف ما يصل إليه فهمنا القاصر ـ لا وجه للعقاب على القصد ، إذ لا يزيد القصد من سائر الأفعال التي يتوقّف عليها الفعل المحرّم. وقد مرّ أنّ الأحكام الغيريّة وجوبا وتحريما لا تؤثّر ذمّا ولا يستتبع عقابا ، ولا يرى في العقل ما يوجب اختصاص القصد من سائر المقدّمات الاختياريّة ، فلا وجه للقول بعدم العقاب في غيره بل وامتناعه من حيث إنّها مقدّمات ـ كما مرّ ـ والعقاب في خصوص القصد.

فإن قلت : لا إشكال في ظهور الأخبار في الاستحقاق ، ويجعل ذلك دليلا على وجود عنوان نفسي في القصد إذا تجرّد عن وجود المقصود وإن لم يكن معلوما عندنا ، فيصحّ الحكم باستحقاق العقاب.

قلت : لا إشكال في أنّ القصد عند العقلاء لا يلازم عنوانا محرّما نفسيّا عندهم لو لم يكن نفس القصد كذلك كما هو المفروض ، ولم يظهر من الأخبار شيء يزيد على

٤٦٦

ما عليه العقلاء كما لا يخفى على الملاحظ والناظر فيها ، فلا بدّ إمّا من القول بجواز العقاب على مقدّمة الحرام كائنا ما كانت ، أو الالتزام بعدم استحقاق عقاب القاصد في قصده ، وإلاّ لزم تعدّد العقاب على تقدير وجود المقصود أيضا.

ويمكن أن يقال : إنّ الهمّ بالمعصية والميل إليها والعزم عليها وقصدها مرتبة من مراتب المخالفة والمعصية ، فإنّ المخالفة قد يشتدّ وجودها وهي ما إذا وقعت المعصية بإيجاد الفعل المنهيّ عنه ، وقد تكون ضعيفة.

فإن لوحظت تلك المرتبة الضعيفة في حدّ نفسها على وجه ملاحظة المرتبة الضعيفة من السواد المأخوذة بشرط عدم اندكاكها واضمحلالها تحت مرتبة شديدة من السواد ، يترتّب عليها أحكام المخالفة من العقاب وغيره ، كما يترتّب على المرتبة الضعيفة من السواد أحكام السواد من اجتماع البصر ونحوه.

وإن لوحظت من حيث اندراجها وانطماسها تحت المرتبة الشديدة من المخالفة ، فالحكم إنّما هو لتلك المرتبة ، ولا ينسب إلى الضعيفة المنطمسة شيء من آثار المخالفة ، كما هو كذلك في السواد أيضا.

وبذلك يظهر عدم وجوب التزام العقاب على القصد فيما إذا قارن وجود المقصود. نعم ، لازم ذلك أن يكون العقاب على القصد أضعف من العقاب على أصل الفعل.

هذا ، ولكنّه لا يخلو عن نظر ، ووجهه ـ بعد أنّ المخالفة إنّما هو عنوان لفعل المنهيّ عنه أو لترك المأمور به وليست أمرا يمكن انتزاعها من غير ذلك ـ : أنّ اختلاف الشديد مع الضعيف ـ على ما تقرّر في محلّه ـ ليس إلاّ بمجرّد الشدّة والضعف الراجع إلى زيادة ظهور أصل المعنى بعد كونه محفوظا في مقامه ونقصانه كذلك ، فلا بدّ أن يكون الضعيف من سنخ الشديد ومن تلك الحقيقة ، لا أمرا مغايرا له في الحقيقة

٤٦٧

بل وفي المقولة أيضا. وعلى هذا فإن قلنا بأنّ حقيقة القصد راجعة إلى اعتقاد النفع ، فعدم إمكان كون القصد من حقيقة الفعل أو مرتبة من مراتبه أمر ظاهر. وإن قلنا بأنّه من مقولة الفعل فلم يظهر لنا أنّه يعدّ من مراتب وجود شرب الخمر ونحوا من أنحاء وجوده.

نعم ، لو كان المراد به تصوّره صحّ جعله نحوا من وجود الفعل ، لأنّ الوجود الذهني نحو من أنحاء وجود الشيء وظلّ له ، إلاّ أنّه لم يظهر من أحد الالتزام بأنّ تصوّر الشيء المحرّم حرام.

وكيف كان ، فنحن وإن استقصينا التأمّل فما وقفنا على وجه وجيه به يحكم بخروج القصد عن قاعدة عدم إيراث المقدّمة ذمّا ولا عقابا ؛ على أنّ فتح ذلك الباب توجب انسداد باب الإلزام على الأشعري القائل بالكسب ، فإنّ له أن يقول : مع أنّ العبد معزول عن الفعل بواسطة تعلّق قدرة البارئ وإرادته بصدور الفعل أنّه قاصد للفعل على وجه لو لم يسبقه إرادة البارئ كان الممكن فاعلا ، وهذا يكفي في العقاب. إلاّ أن يقال : إنّ القصد ـ بناء على أنّه فعل أيضا ـ مخلوق لله ، ولا يجوز أن يكون ذلك القصد منشأ للعقاب ، فإنّ الوجه في ذهابهم إلى هذه المقالة السخيفة دعوى امتناع صدور الوجود من الممكن نظرا إلى قولهم : « لا مؤثّر في الوجود عدا الله » بناء على ما زعموه من معنى هذه القضيّة الصادقة فهو آت في القصد أيضا مطلقا ؛ مضافا إلى أنّ استنادهم إلى ذلك ينافي القول بأنّه لو لا سبق إرادته تعالى لكان فاعلا ، فإنّ ذلك محال حينئذ ، كما لا يخفى.

وبالجملة ، لا ينبغي الإشكال في ظهور الأخبار والأدلّة اللفظيّة في حرمة العزم ، وكلماتهم مشحونة بذلك (١). إلاّ أنّ دعوى استقلال العقل باستحقاق العقاب

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة : ٤٥٧ وما بعدها.

٤٦٨

على القصد ممنوعة ، بل ما لم يثبت عنوان يقيني عقلي أو شرعي لا يحسن في العقل العقاب عليه وعلى غيره من المقدّمات.

نعم ، من قصّر نظره على ما يراه من منافع الفعل الراجع إلى متابعة هواه ولم يصرف نفسه عن عدم المبالاة في تحصيل رضاء مولاه يعدّ سيّئ السريرة وخبيث الطينة ، فإن جاز في العقل أو في الشرع العقاب على مثله وإن لم يتحقّق منه مخالفة صحّ مفاد الأخبار ، وإلاّ فلا بدّ من حملها على ما لا ينافيه العقل ، كما هو الشأن في أمثاله.

والظاهر أنّ العقاب بدون المخالفة ليس من العدل ، كما يظهر من رواية عبد الله بن جعفر الحميري المرويّة في قرب الإسناد عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « لو كانت النيّات من أهل الفسوق يؤخذ بها لاخذ كلّ من نوى الزنا بالزنا وكلّ من نوى السرقة بالسرقة وكلّ من نوى القتل بالقتل ، ولكنّ الله عدل كريم ليس الجور من شأنه » (١) ومع ذلك فليس فيه كثير فائدة ، لثبوت العفو قطعا في المقام ، بل وذلك ممّا يتعاطونه أهل الأسواق من العوام.

فلا حاجة إلى تصرّف في الأخبار بحمل الدالّة منها على العقاب على صورة بقاء القصد والعجز عن الفعل لا باختياره ، وأخبار العفو على من ارتدع عن قصده بنفسه ، كما يومئ إليه بعض الأخبار المتقدّمة ، كقول الصادق عليه‌السلام : « إنّ المؤمن يهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا يكتب عليه » (٢) فإنّه ظاهر في أنّه لا يعملها اختيارا بارتداعه عن قصده بنفسه. أو بحمل الأخبار المحرّمة

__________________

(١) قرب الإسناد : ٤٨ ، الحديث ١٥٨. والوسائل ١ : ٤٠ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٢١.

(٢) الوسائل ١ : ٣٦ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٧.

٤٦٩

على ما إذا تلبّس بفعل بعض المقدّمات ، وحمل الأخبار الدالّة على العفو بمجرّد القصد ، كما يشعر به أخبار سفر المعصية (١) والساعي للسعاية (٢) وغارس الكرم (٣) من حيث إنّ موردها هو القصد مع التلبّس. أو بحمل أخبار المؤاخذة على غير المؤمنين وأخبار العفو على المؤمنين ... إلى غير ذلك.

والوجه في عدم الحاجة هو أنّه لم يظهر من أخبار المؤاخذة سوى استحقاق العقاب دون فعليّته ، عدا رواية الخلود المخصوصة بالكفّار (٤) ، ولا ينافي ذلك ثبوت العفو تفضّلا من الله الكريم على تلك الامّة المرحومة.

ثمّ إنّه بما ذكرنا يظهر عدم جريان النزاع في أنّ القصد إلى المعصية هل هي كبيرة أو صغيرة ، إذ بعد عدم كونه معصية لا وجه لذلك ، وعلى تقديره فتعيين ذلك موقوف على تعيين معنى الكبيرة ، وهو خارج عمّا نحن بصدده. ولكن ذلك جار بالنسبة إلى المعاصي الّتي لها خارج غير الاعتقاد. وأمّا القصد إلى الامور المبغوضة الاعتقاديّة ، كالقصد إلى الكفر ، فهو عين الكفر بناء على ما قرّرنا من أنّ مرجع القصد إلى الاعتقاد بالنفع ، وهو ظاهر بعد الإحاطة بما مرّ.

ثمّ إنّ بعضهم (٥) قد استشهد على كون العزم عصيانا بتقسيم الفقهاء الإصرار على الصغائر إلى الفعلي وهو المداومة عليها ، والحكمي وهو العزم على فعلها عند التمكّن منها. وبعدّ قصد الإفطار من المفطرات في رمضان.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٥٠٩ ، الباب ٨ من أبواب صلاة المسافر.

(٢ و ٣) تقدّم تخريجهما في الصفحة : ٤٦٤.

(٤) الوسائل ١ : ٣٦ ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٤.

(٥) استشهد به شيخنا البهائي ، كما نقل عنه الكلباسي في إشارات الاصول : الورقة ٩٨ ، وانظر الأربعون حديثا : ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

٤٧٠

وضعفه ظاهر ؛ فإنّ ذلك يوجب كونه إصرارا فعليّا كنفس المداومة ، بل وكبيرة من الكبائر بناء على أنّ الإصرار بالصغيرة كبيرة. وأمّا الإفطار فهو ممّا لا يرتبط بالمقام ، لأنّ الوجه في كونها من المفطرات ارتفاع حقيقة الصوم بواسطة القصد إلى الإفطار ، فإنّ الصوم عبارة عن إمساك زمان محدود مخصوص تقرّبا إلى الله تعالى ، وذلك لا يتحقّق مع قصد الإفطار ، وأين ذلك من كون القصد عصيانا؟ كما لا يخفى.

وقد يستدلّ على حرمة العزم : بأنّ التوبة واجبة عقلا وشرعا ، وهي عبارة عن الندم على العمل والعزم على عدم العود ، فيكون هذا العزم واجبا فيكون تركه حراما ، فإذا كان ترك العزم على العود حراما فما ظنّك بالعزم على العود؟

وفيه : أنّ تحصيل اعتقاد النفع على عدم العود وتخليصه عن الموانع والعوارض الشهوانيّة التي يمنع عن ترتّب مقتضى الاعتقاد بالنفع واجب ، ولكنّه لا يستلزم عقابا ، لأنّه من الواجبات العقليّة الإرشاديّة التي هي مبنيّة على لزوم دفع الضرر ، وقد قرّر في بعض المباحث المتقدّمة أنّ الأوامر المسوقة للإرشاد وبذل النصح عقليّة كانت أو شرعيّة لا تورث ذمّا ولا يستتبع عقابا على مخالفة الهيئة وطلبها ؛ على أنّه لو لم يكن من الواجبات الإرشاديّة أيضا لم يستحقّ العقاب ، لأنّ أجزاء الواجب بمنزلة المقدّمات لا يستلزم تركها عقابا في نفسه ، كما مرّ.

ثمّ إنّ محلّ الكلام إنّما هو في العزم والتصميم. وأمّا الخطرات العقليّة (١) التي لا ينفكّ عنها الإنسان في الأغلب ، فقد ادّعي الضرورة في عدم كونها معصية ، لكونها تكليفا بما لا يطاق. عصمنا الله وإخواننا من المعاصي.

__________________

(١) في هامش ( ط ) : القلبيّة ، ظ.

٤٧١
٤٧٢

هداية

إذا قارن القصد بفعل بعض مقدّمات الحرام ، فإن لم يحتمل وجود عنوان آخر غير عنوان المقدّميّة فيه لم يعقل العقاب ، وإن احتمل وجوده ولو بملاحظة استكشافه من الأخبار فلا بأس به ، مثل الأخبار الدالّة على تحريم القصد المقارن لفعل بعض المقدّمات ، مثل الأخبار الدالّة على حرمة الغرس للخمر (١) والمشي للسعاية (٢) ، وما دلّ على حرمة المعاونة على الإثم كقوله : « من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة أكبّه الله على منخره في النار » (٣) فيما لو قلنا بشمول عنوان « الإعانة » لإيجاد مقدّمات فعل النفس ، كما لعلّه يظهر من الشيخ الأجلّ كاشف الغطاء (٤) ، ويحتمل أن يكون استناده بواسطة الفحوى أو تنقيح المناط.

ولكنّ الإنصاف أنّ الأخبار ظاهرة في أنّ عنوان الحرام ليس أمرا خارجا عن عنوان المقدميّة (٥) التي قد مرّ أنّها لا يعقل استتباعها الذمّ والعقاب. وأمّا

__________________

(١ و ٢) تقدّم تخريجها في الصفحة : ٤٦٤.

(٣) لم نعثر عليه في المصادر الحديثيّة من العامّة والخاصّة ، نعم ورد أنّه : « من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله » عوالي اللآلي ٢ : ٣٣٣ ، الحديث ٤٨.

(٤) شرح القواعد ( مخطوط ) : الورقة ١٦ ـ ١٧ ، ولم يرد « كاشف الغطاء » في ( ع ) و ( م ).

(٥) في ( ع ) و ( م ) : المقدّمة.

٤٧٣

الاستناد إلى بناء العقلاء فقد ظهر ما فيه (١) فيما تقدّم : من أنّ غاية الأمر أنّ العقلاء يذمّونه ويعيّرونه بواسطة خبث الباطن وفساد السريرة.

نعم ، فيما استقلّ العقل أو الشرع بثبوت عنوان آخر ـ كما لا يبعد دعواه في مثل رواية الإعانة على القتل بشطر كلمة ، فإنّه يعدّ في العقل ظلما على المقتول ـ لا بأس بالعقاب. ولا ينافيه ثبوت المبغوضيّة الغيريّة ، لاضمحلالها تحت المبغوضيّة الذاتيّة ، كما تقرّر فيما تقدّم (٢) وستعرفه في بعض المباحث الآتية (٣) ، والله الهادي.

__________________

(١) لم يرد « ما فيه » في ( ع ) و ( م ).

(٢) راجع الصفحة : ٤٦٧.

(٣) انظر الصفحة : ٤٨٢.

٤٧٤

هداية

إذا تلبّس بما يراه معصية ولم يكن كما يراه في الواقع وهو المراد بـ « التجرّي » ، فهل فعل فعلا محرّما ، أو لم يفعل ، أو فيما إذا لم يعارض الجهة الواقعيّة الجهة الظاهرية ، أو التوقّف؟ وجوه ، بل أقوال :

فظاهر كلماتهم في بعض المقامات الاتّفاق على الأوّل ، كما يظهر من دعوى جماعة الإجماع على أنّ ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر الصلاة عصى وإن انكشف بقاء الوقت (١).

واستوجه العلاّمة في التذكرة عدم العصيان لو انكشف الخلاف ، فقال : لو ظنّ ضيق الوقت عصى لو أخّر إن استمرّ الظنّ ، وإن انكشف خلافه توجّه عدم العصيان (٢). وتبعه في ذلك بعض أجلّة سادات الأواخر في مفاتيحه (٣) حيث استقرب العدم. وقال بعض الأجلّة (٤) بالتحريم عند عدم معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة وبعدمه عند عدمها ، كما ستعرف تفصيله. وتوقّف جماعة ـ منهم شيخنا البهائي (٥) ـ في ذلك.

__________________

(١) منهم العلاّمة في منتهى المطلب ٤ : ١٠٧ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٣ : ١٠٩ ، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٦١.

(٢) تذكرة الفقهاء ٢ : ٣٩١.

(٣) مفاتيح الاصول : ٣٠٨.

(٤) الفصول : ٤٣١.

(٥) زبدة الاصول : ٤١ ، ومنهم العلاّمة في نهاية الوصول : ١١ و ٩٤ ، والشهيد في القواعد والفوائد ١ : ١٠٧.

٤٧٥

واستدل (١) للأوّل : باستقرار بناء العقلاء على الذمّ والحكم بالاستحقاق. وبأنّا لو فرضنا شخصين قاطعين بأن قطع أحدهما بكون مائع معيّن خمرا وقطع الآخر بكون مائع آخر خمرا فشرب كلّ منهما ما اعتقده خمرا ، فاتّفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر ، فإمّا أن يستحقّا العقاب ، أو لا يستحقّ كلّ واحد منهما ، أو يستحق المصادف دون غيره ، أو العكس. والرابع بديهيّ البطلان كالثاني ، والثالث أيضا باطل لاستلزامه إناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار وهو مناف لما يقتضيه العدل ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب.

أمّا الجواب عن الأوّل : فبأنّه إن اريد الذمّ على نفس الفعل المنتزع عنه عنوان التجرّي ، فالضرورة تقضي بعدم جواز الذمّ عليه ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ شرب الماء واقعا ممّا لا قبح فيه بحسب الواقع كما هو المفروض ، اللهم إلاّ أن يكون مورد التجرّي فعلا من الأفعال القبيحة ، كما إذا اعتقد شرب النبيذ شرب الخمر مثلا. وأمّا ثانيا : فلأنّه واقع على غير جهة الاختيار أو هو غير مقصود للفاعل المعتقد كونه شرب خمر ، فلا يقع على وجه الاختيار ، فلا وجه للذمّ عليه اتّفاقا ، من غير فرق بين أن يكون المورد مباحا واقعا أو حراما.

وإن اريد الذمّ على عنوان التجرّي والإقدام بما يعتقده معصية ، ففيه أنّ التجرّي له موردان ، أحدهما : مورد العصيان الواقعي المفروض انتفاؤه في المقام. وثانيهما : مورد تخيّل العصيان الواقعي ـ كما هو المفروض في المقام ـ ومن المعلوم أنّه بهذا الوجه غير واقع على جهة الاختيار ، إذ المتجرّي يعتقد أنّه العصيان ، لا أنّه تخيّل العصيان ، فهو غير مقصود له ، فلا يجوز الذمّ عليه اتّفاقا.

وإن اريد الذمّ على الفاعل من حيث إنّ هذا الفعل يكشف عن وجود ملكة

__________________

(١) المستدلّ هو المحقّق السبزواري في الذخيرة : ٢٠٩ و ٢١٠.

٤٧٦

نفسانيّة رذيلة وحالة طبيعيّة خبيثة ، فإن اريد بالذمّ العقاب فهو موقوف على أنّ عقاب هذا العبد الذي لم يفعل قبيحا ينافي العدل أو لا. وإن اريد به توبيخه وتعييره بإظهار ما فيه من الشقاوة والرذالة فهو لا يبعد تسليمه ، لكنّه لا يجدي في كون الفعل محرّما شرعا ، لأنّ استحقاق الذمّ على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل ، ولا سيما الذمّ على الوجه المذكور ، إذ من المعلوم أنّ الحكم العقلي باستحقاق الذمّ إنّما يلازم استحقاق العقاب شرعا إذا تعلّق بالفعل لا بالفاعل.

وأمّا الجواب عن الثاني : فهو ـ على ما أفاده الاستاذ في الرسالة (١) ـ أنّه يلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع ، لأنّه عصى اختيارا دون من لم يصادف. قولك : « إنّ التفاوت بالاستحقاق والعدم لا يحسن أن يناط بما هو خارج عن الاختيار » ممنوع ، فإنّ العقاب بما لا يرجع بالأخرة إلى الاختيار قبيح ، إلاّ أنّ عدم العقاب لأمر لا يرجع إلى الاختيار قبحه غير معلوم ، كما يشهد به الأخبار الواردة في أنّ « من سنّ سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له مثل وزر من عمل بها » (٢) فإذا فرضنا أنّ شخصين سنّا سنّة حسنة أو سيّئة واتّفق كثرة العامل بإحداهما وقلّة العامل بالاخرى ، فإنّ مقتضى الروايات كون ثواب الأوّل أو عقابه أعظم ، وقد اشتهر أنّ « للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا » (٣) والأخبار في مثل ذلك في طرفي الثواب والعقاب بحد التواتر ، انتهى ما أفاد.

وفيه : أنّ ما ذكره في سند المنع غير وجيه ، فإنّ مدخليّة بعض الامور الغير الاختياريّة في العقاب والثواب ممّا لا بدّ منه ، وإلاّ لم يعقل الاستشهاد بالأخبار

__________________

(١) راجع فرائد الاصول ١ : ٤٠.

(٢) راجع البحار ٢ : ٢٤ ، الحديث ٧٥ ، و ٧١ : ٢٥٨ ، الحديث ٥ و ٦.

(٣) كنز العمّال ٦ : ٧ ، الحديث ١٤٥٩٧.

٤٧٧

المذكورة ، فإنّ كثرة العامل وقلّته على ما فرضه ممّا له مدخل في العقاب والثواب ، وهما من الامور الغير الاختياريّة بالنسبة إلى من سنّ السنّة الحسنة أو السيّئة ، وإن كان لنا كلام في كون العقاب والثواب في مورد الأخبار من هذا القبيل ، كما ستعرف.

وتوضيح المقام : أنّ الثواب والعقاب من لوازم الإطاعة والعصيان ، وتحقّقهما يتوقّف على امور بعضها اختياريّة وبعضها غير اختياريّة على وجه لو فرض انتفاؤهما أو انتفاء أحدهما لم يتحقّق شيء منهما.

فالأوّل : هو الحركة الصادرة من المكلّف التي هي من مقولة الأفعال ، فإنّه لا بدّ وأن تكون اختياريّة مسبوقة بالقصد واعتقاد النفع فيه ، كما هو المراد بالفعل الاختياري ، فلو لم يكن كذلك لم يتحقّق عصيان ولا إطاعة.

والثاني : امور كثيرة ، منها : تعلّق الأمر من المولى إلى الفعل المأمور به. ومنها : تعلّق الحركة الاختياريّة بما تعلّق به الفعل في عنوان الأمر ، فإنّ تعلّق الشرب بما هو خمر واقعا ـ بمعنى أن يكون متعلّق الشرب هو الخمر واقعا ـ من الامور الغير الاختياريّة ، إلاّ أنّه لا بدّ من ذلك في تحقّق الإطاعة والعصيان ، والقدر المسلّم من اعتبار الاختيار في التكليف هو أن تكون الحركة اختياريّة ، بل لا وجه لاعتبار الأزيد من ذلك كما هو ظاهر. وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن الاستدلال أيضا ، فإنّا نختار الثالث.

قولك : إنّ ذلك يوجب إناطة العقاب بما هو خارج عن الاختيار ، قلنا : إن اريد قبح إناطة العقاب بما هو خارج عن الاختيار على وجه الاستقلال ـ بأن يكون جميع ما يعتبر فيه من الامور الغير الاختياريّة ـ فهو مسلّم ، لكنّه غير لازم في الحكم بالعقاب في من صادف قطعه الواقع ، لأنّ الحركة المتعلّقة بما هو متعلّق الأمر واقعا اختياريّة فلا استقلال. وإن اريد قبح استقلاله في الحكم بعدم العقاب في من لم يصادف الواقع فهو غير مسلّم ، إذ بذلك يرتفع موضوع العصيان ، والعقاب موقوف

٤٧٨

عليه. وإن اريد أنّ مدخليّة ما هو خارج عن الاختيار في الاستحقاق قبيحة فهو ممنوع ، ضرورة توقّف الإطاعة والعصيان الموجبين للاستحقاق على امور غير اختياريّة شتّى ، منها : كون متعلّق الحركة الاختياريّة ما تعلّق به الفعل في عنوان الأمر والنهي بحسب الواقع.

وأمّا دعوى الإجماع من جماعة على العصيان (١) فلا سبيل إليها في المسائل العقليّة. واحتمال انكشاف جهة تعبّديّة من الإجماع ، مدفوع بأنّ المسألة من فروع الإطاعة والعصيان التي لا تعقل فيها التعبّديّة بوجه ، ولو فرض ورود أمر أو نهي شرعي فيها لا بدّ من حملها على الإرشاد. مضافا إلى مخالفة جماعة من الفحول في ذلك ، كما عرفت من العلاّمة (٢) حيث حكم بعدم العصيان فيما لو انكشف خطاء ظنّه. وقال الشهيد رحمه‌الله : لو نوى المعصية وتلبّس بما يراه معصية فظهر خلافها ففي تأثير هذه النية نظر (٣). وتقدّم حكاية التوقّف عن شيخنا البهائي (٤).

وممّا مرّ يظهر وجه القول بعدم العصيان ، إذ يكفي فيه عدم الدليل عليه.

وأمّا التفصيل ، فيظهر من بعض الأجلّة التفصيل في صورة القطع بتحريم شيء غير محرّم واقعا ، فرجّح استحقاق العقاب بفعله ، إلاّ أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة ، فإنّه لا يبعد عدم استحقاق العقاب عليه مطلقا أو بعض الموارد ، نظرا إلى معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة ، فإنّ قبح التجرّي عندنا ليس ذاتيّا بل يختلف بالوجوه والاعتبار ، فمن اشتبه عليه مؤمن ورع بكافر واجب

__________________

(١) كما تقدّم عنهم في الصفحة : ٤٧٥.

(٢) راجع الصفحة : ٤٧٥.

(٣) القواعد والفوائد ١ : ١٠٧.

(٤) راجع الصفحة : ٤٧٥.

٤٧٩

القتل فحسب أنّه ذلك الكافر وتجرّى فلم يقتله ، فإنّه لا يستحقّ الذمّ على هذا الفعل عقلا عند من انكشف له الواقع وإن كان معذورا لو فعل. وأظهر من ذلك ما لو جزم بوجوب قتل نبيّ فتجرّى ولم يقتله. ألا ترى أنّ المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدوّ له فصادف العبد ابنه وزعمه ذلك العدوّ فتجرّى ولم يقتله أنّ المولى إذا اطّلع على حاله لا يذمّه على هذا التجرّي ، بل يرضى به وإن كان معذورا لو فعل. وكذا لو نصب له طريقا غير القطعي إلى معرفة عدوّه فأدّى الطريق إلى تعيين ابنه فتجرّى ولم يفعل. وهذا الاحتمال حيث يتحقّق عند المتجرّي لا يجديه إن لم يصادف الواقع ، ولذا يلزمه العقل بالعمل بالطريق المنصوب ، لما فيه من القطع بالسلامة من العقاب ، بخلاف ما لو ترك العمل به ، فإنّ المظنون فيه عدمها. ومن هنا يظهر أنّ التجرّي على الحرام في المكروهات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ منه في مندوباتها ، ويختلف باختلافهما ضعفا وشدّة كالمكروهات. ولك أن تراعي في الواجبات الواقعيّة ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجرّي (١) ، انتهى كلامه.

وفيه أوّلا : أنّه لو سلّم قبح الفعل في التجرّي فلا شكّ في كونه ذاتيا لا يختلف بالوجوه والاعتبار ، فإنّ منشأ الحكم المذكور على ما نراه غير قابل للاختلاف. وكذلك على ما يراه غيرنا من قبح الفعل في صورة التجرّي ، فإنّه يزعم أنّ ذلك ظلم في حقّ من يستحقّ الطاعة ، ولا شكّ في أنّ موضوع الظلم ممّا يمتنع عروض جهة محسّنة له.

وثانيا : لو سلّم إمكان عروض جهة محسّنة فلا إشكال في لزوم كون تلك الجهة من عناوين الأفعال الاختياريّة حتّى يعقل اتّصافها بالحسن ، فيصير بذلك محسّنة للجهة المقبّحة. ولا ريب في أنّ ما زعمه معارضا للجهة المقبّحة من الأفعال

__________________

(١) الفصول : ٤٣١ ـ ٤٣٢.

٤٨٠