مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

الغير المتصوّرة للفاعل ، وهو غير مقصود الوقوع منه ، فلا يكون اختياريّا فلا وجه للمعارضة ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون عنوان التجرّي مقتضيا للقبح كالكذب مثلا أو لم يكن كذلك بل يكون من الأفعال التي لا يدرك حسنها ولا قبحها إلاّ بعد ملاحظة لحوق الجهات والعنوانات ، وإن كان محلّ الكلام لا بدّ وأن يكون من الأوّل كما هو ظاهر.

وبالجملة ، أنّ الفعل الذي صار موردا لانتزاع التجرّي ـ وهو ترك قتل المؤمن في المثال المفروض في كلامه كفعله ـ ليس من الأفعال الاختياريّة المقصودة ، فلا يتّصف بحسن ولا قبح ، وما يكون كذلك لا يعقل تصرّفه في العنوان الذي فرضنا عدم اتّصافه بحسن ولا قبح أو اتّصافه بقبح يمكن ارتفاعه بورود جهة محسّنة بإيراث حسن فيه أو رفع قبح عنه ، ولذا اعترف في كلامه في مقامين بأنّه معذور لو فعله.

فإن قلت : قد تقرّر في الجواب عن الدليل العقلي أنّه لا امتناع في تأثير الامور الغير الاختياريّة في العقاب وعدمه ، وعلى هذا فلا مانع من ارتفاع القبح من عنوان التجرّي بواسطة فعل وقع التجرّي في ضمنه وإن لم يكن على وجه الاختيار.

قلت : الفرق ظاهر بين المقامين ؛ من حيث إنّ مدخليّة ذلك الأمر الخارج عن الاختيار في حسن الفعل وقبحه ممّا لا مناص عنها ، إذ عنوان الحسن هو شرب الخمر الواقعي الذي لا يعقل وجود هذا العنوان ولو على وجه الاختيار إلاّ بتعلّق الشرب الواقعي الاختياري بما هو خمر واقعي ، فالأمر الخارج عن الاختيار هناك محقّق لموضوع هو حسن ، لا أنّه محسّن لما لا حسن فيه. بخلافه فيما نحن بصدده ، فإنّ المفروض في كلام المفصّل كون التجرّي من العناوين الاختياريّة التي لا حسن فيها ولا قبح أو يقتضي القبح ويزيد تحسين ذلك العنوان بإيراث حسن فيه أو دفع قبح عنه بواسطة لحوق ما ليس بحسن ، وذلك ممّا يحكم بفساده ضرورة العقل ، كما لا يخفى على المنصف المتأمّل.

٤٨١

ثمّ إنّ لازم القول بقبح التجرّي من حيث الفعل هو تعدّد العقاب فيما إذا صادف المعصية الواقعيّة. اللهم إلاّ أن يقال بالتداخل بمعنى اختفائه تحت ظلّ المعصية على وجه لا ينسب إليه حكم من أحكامه لوجود ما هو أقوى منه ، كاندكاك الانقياد في جنب سطوع نور الطاعة الواقعيّة. وقد عرفته بما فيه.

وقد يستند في المقام إلى الأخبار المتقدّمة (١) الدالّة على حرمة القصد المجرّد أو مع فعل بعض المقدّمات.

ولعلّه ليس في محلّه ، إذ الكلام في تحريم الفعل الذي يعتقده معصية ، والقصد وغيره ممّا لا مدخل له فيه ولو قلنا بكونه محرّما أيضا ، مع أنّك قد عرفت الكلام فيه (٢) بما لا مزيد عليه عندنا.

اللهم إلاّ أن يجعل القصد أيضا من مراتب التجرّي ، فإنّ له مراتب ، أحدها : مجرّد القصد إلى المعصية. الثاني : القصد مع الاشتغال ببعض المقدّمات. والثالث : القصد مع التلبّس بما يراه معصية. الرابع : التلبّس بما يحتمل كونه معصية رجاء كونها معصية ، نظير الاحتياط في إحراز الواجب. الخامس : التلبّس به لعدم المبالاة لمصادفة الحرام. السادس : التلبّس به رجاء أن لا يكون معصية.

ويعتبر في صدق التجرّي في صور الاحتمال أن يكون هناك دليل شرعي أو عقلي على عدم جواز ارتكاب تلك المحتملات ، إذ لو لم يكن هناك دليل على عدم الجواز فجواز ارتكاب المحتملات ممّا لا كلام فيه عند القائلين بأصالة البراءة ، كما لا يخفى على المتدبّر.

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة : ٤٦٠ ـ ٤٦١.

(٢) راجع الصفحة : ٤٦٦ ـ ٤٦٧.

٤٨٢

هداية

إذا أعان المكلّف على إيجاد فعل محرّم أو إبقائه ، فظاهر الأصحاب الحكم بتحريمه ، كما يظهر من موارد استدلالاتهم في الفروع (١) ، بل ادّعى الإجماع على ذلك جماعة (٢).

واستدلّ عليه بقوله تعالى : ( وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ )(٣) فإنّ النهي ظاهر في التحريم.

واستفاضت على تحريمه أيضا الأخبار :

فعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه ، آيس من رحمة الله » (٤). وعن الصادق عليه‌السلام : « من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم فقد خرج عن الإسلام » (٥). وقال عليه‌السلام : « إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين الظلمة؟ أين أعوان الظلمة؟ أين أشباه الظلمة؟ فيجتمعون

__________________

(١) كالشيخ في المبسوط ٦ : ٢٨٥ ، والعلاّمة في التذكرة ١٢ : ١٤٣ ، والمحقّق الثاني في حاشية الارشاد ( مخطوط ) : ٢٠٤ ، والأردبيلي في مجمع الفائدة ٨ : ٥١.

(٢) منهم السيّد الطباطبائي في الرياض ٨ : ٧٩ ، والمحقّق النراقي في عوائد الأيّام : ٧٥ ، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة ٤ : ٦٠.

(٣) المائدة : ٢.

(٤) عوالي اللآلي ٢ : ٣٣٣ ، الحديث ٤٨.

(٥) الوسائل ١٢ : ١٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٥.

٤٨٣

في تابوت من حديد ، ثمّ يرمى بهم في جهنّم » (١). وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من علّق سوطا بين يدي سلطان جائر جعلها الله حيّة طولها سبعون ألف ذراع فيسلّط الله عليه في نار جهنّم خالدا مخلّدا » (٢).

وقد يدّعى استقلال العقل في الحكم بقبح إيجاد عنوان « الإعانة على الإثم ».

وفيه : أنّ موارد الإعانة على وجهين : أحدهما : ما يكون محرّما نفسيّا وإن كان مقدّمة لحصول فعل الغير ، مثل الأمر بقتل أحد ممّا يعدّ عند العقلاء ظلما في حقّ المقتول والمظلوم. والثاني : ما لا يعدّ في العقل من الظلم ولا من عنوان آخر محرّم نفسا ، كغرس الكرم المتّخذ منه الخمر مثلا.

فدعوى استقلال العقل إنّما يسلّم في القسم الأوّل دون الثاني ، إذ غاية الأمر أن يكون الغير آتيا بمقدّمة من مقدّمات فعل الغير ، ولا كلام في لحوق الحرمة التبعيّة الغيريّة النازلة من المحرّم النفسي بها. وأمّا الحرمة النفسيّة ـ كما هو الظاهر من القائلين بها ـ فلا يظهر وجهها عند العقل ، إذ لا فرق في نظر العقل بين إيجاد المكلّف مقدّمة من مقدّمات فعل نفسه المحرّم أو غيره.

نعم لو احتمل وجود عنوان نفسي في تلك الموارد ولو بملاحظة الأخبار المصرّحة بالتحريم والعقاب المخصوص بالمحرّمات النفسيّة تمّ ما ذكر ، لكنّه بعيد جدّا.

ثمّ إنّه وقع الإشكال من جماعة في صدق موضوع « الإعانة » على بعض الموارد ؛ من حيث اعتبار القصد إلى الفعل المعان عليه فيه ، أو اعتبار ترتّبه عليه ، أو العلم بالترتّب.

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ١٣١ ، الباب ٤٢ من أبواب ما يكتسب به الحديث ١٦ ، مع اختلاف يسير.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ١٤.

٤٨٤

وتنقيح البحث في موارد :

الأوّل : في اعتبار القصد فيه وعدمه ، فظاهر الأكثر ـ على ما نسبه إليهم الاستاذ في الفقه (١) ـ هو عدم اعتبار القصد في صدقه. ولعلّه استفاده من موارد استدلالاتهم ، كاستناد الفاضل إلى تحريم المعاونة في الحكم بحرمة بيع السلاح من أعداء الدين على وجه الإطلاق من دون تقييد بصورة القصد إلى تقويتهم (٢). واستدلال المحقّق الثاني بذلك على حرمة بيع العصير النجس من مستحلّه (٣) ... إلى غير ذلك (٤) ممّا يقف عليه الخبير.

ويظهر من بعضهم اعتبار القصد فيه ، قال المحقّق الثاني في ردّ من تمسّك بالآية في الحكم بحرمة بيع العنب ممّن يعمله خمرا في محكي حاشية الإرشاد : والجواب عن الآية المنع من كون محلّ النزاع معاونة ، وإنّما يظهر المعاونة مع بيعه لذلك (٥). وتبعه في ذلك جماعة من المتأخّرين (٦).

وهو الأقرب ، والوجه في ذلك هو مساعدة العرف على اعتبار القصد في صدق « الإعانة » على وجه يصحّ السلب عن المورد الّذي علم فيه عدمه. ولو سلّمنا صدق الإعانة ولو عند عدم القصد فلا إشكال في اختصاص الحرام منها بما إذا كان القصد إلى الحرام محقّقا.

__________________

(١) المكاسب ١ : ١٣٣.

(٢) تذكرة الفقهاء ١٢ : ١٣٩.

(٣) حاشية الإرشاد ( مخطوط ) : ٢٠٤.

(٤) انظر مجمع الفائدة ٨ : ٥١ ، والحدائق ١٨ : ٢٠٥.

(٥) حاشية الإرشاد ( مخطوط ) : ٢٠٥.

(٦) كالفاضل المقداد في التنقيح الرائع ٢ : ٩ ، والسبزواري في الكفاية ١ : ٤٢٦ ، والنراقي في المستند ١٤ : ١٠٠ ، والعوائد : ٧٨.

٤٨٥

وتوضيحه : أنّه قد تقدّم في المباحث السابقة من أنّ الفعل الواقع على جهات مختلفة لا تقع اختياريّا من جهة خاصّة إلاّ بعد القصد إلى تلك الجهة ، وهو من الامور الجليّة. ولا ريب في أنّ الفعل إذا كان محرّما بعنوانه الخاصّ لا يقع على صفة الحرمة إلاّ إذا وقع بذلك العنوان المحرّم على وجه الاختيار ، إذ الفعل الاضطراري ولو من جهة خاصّة لا يعقل اتّصافه بالحرمة من تلك الجهة الاضطراريّة ، فعنوان « الإعانة على الإثم » إذا اريد الحكم عليه لكونه وقع على صفة الحرمة لا بدّ أن يكون ذلك العنوان مقصودا ، وإلاّ لم يكن ذلك العنوان اختياريّا ، فلم يعقل وقوعه على صفة الحرمة ، والقصد إلى عنوان الإعانة لا ينفكّ عن القصد إلى المعان عليه ، فإذا لم يكن قاصدا للمعان عليه لم يكن قاصدا للإعانة ، نظير ما تقدّم من اعتبار القصد إلى الواجب في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب ، كما عرفت.

ويظهر من المحقّق الأردبيلي اعتبار أحد الأمرين في الإعانة : إمّا القصد كما في التجارة التي يترتّب عليها أخذ العشور للعشّار ، فإنّه لو لم يكن قاصدا إلى أخذ العشور بل كان قاصدا إلى تحصيل المنافع لنفسه لم يصدق عليه الإعانة. وإمّا الصدق العرفي وإن لم يكن قاصدا ، كما في إعطاء العصا للظالم مع طلبه منه لضرب مظلوم ، وفي طلب القلم لكتابة ظلم فيعطيه إيّاها. وعلى ذلك حمل الروايات الدالّة على جواز بيع العنب ممّن يعمله خمرا (١) ، فإنّها محمولة على صورة عدم تحقّق القصد مع عدم الصدق العرفي أيضا ، كما عليه الأكثر (٢).

أقول : وفيما أفاده نظر ؛ لأنّ الإعانة ليس مشتركا لفظيّا بين مواردها وأقسامها ، كما هو ظاهر. وحينئذ فإمّا أن يكون القصد معتبرا في حقيقته أو لا

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ١٦٨ ـ ١٧٠ ، الباب ٥٩ من أبواب ما يكتسب به.

(٢) كنز العرفان : ٢٩٨.

٤٨٦

يكون ، فعلى الأوّل لا وجه للحكم بصدق الإعانة في مورد يشكّ في وجود القصد ، فكيف بما إذا علم عدم القصد. وعلى الثاني لا وجه لجعله مناطا لصدق المفهوم ولو في بعض الموارد.

اللهم إلاّ أن يقال : إنّ القصد ليس داخلا في حقيقة الإعانة ، إلاّ أنّ عند وجوده يعلم وجود الإعانة ، فيكون القدر المتيقّن من موارده ومصاديقه مورد القصد ، لا أنّه معتبر فيه القصد.

وفيه : أنّ ذلك يتمّ فيما إذا لم يستدلّ بعدم القصد على عدم الإعانة ، كما عرفت من استناده في التجارة إلى عدم (١) صدق الإعانة عليها.

فإن قلت : قد يكون من المفاهيم العرفيّة ما نقطع بكونها على هذا الوجه كما في القتل العمدي ، فإنه صادق مع القصد إليه ولو لم يكن العمل الذي يقع في ضمنه القتل ممّا يترتّب عليه القتل في العرف والعادة ، بإدخال إبرة في عضو من أعضائه على وجه لو لم يكن قاصدا لا يقال إنّه عمد إلى القتل ، فمناط الصدق في المقام هو القصد ، وهو صادق أيضا فيما إذا أدخل السيف أو السكّين في جوفه وإن شكّ في وجود القصد إلى القتل ، بل ولو قطع بعدم قصده إليه.

قلت : بعد ما عرفت أنّه غير معقول في صورة اتّحاد المعنى ، نقول : إنّ الوجه في ذلك هو استكشاف القصد عند إيجاد ما هو موصل إلى القتل بحسب العادة وإن كان قصدا تبعيّا ، كأن يكون مقصوده من إدخال السيف في جوفه اختبار سيفه ، لكنّه لا ينفكّ عن القصد إلى قتله ولو تبعا. وأمّا دعوى صدقه بدون القصد ومع العلم بعدمه في الصورة المفروضة فظاهرة الفساد ، كيف! والقتل العمدي معناه القصد إلى القتل كما هو ظاهر. نعم ، لو جهل الفاعل كونه موصلا إلى القتل لم يصدق معه القتل العمدي ، لعدم القصد استقلالا وتبعا فيه.

__________________

(١) في ( م ) و ( ط ) زيادة : القصد في عدم.

٤٨٧

وبالجملة ، لو فرض فيما ذكره المحقّق الأردبيلي من المثال وجود داع آخر غير الضرب على وجه احتمل كونه داعيا إلى إعطاء القلم لا نسلّم فيه صدق الإعانة ، وهو ظاهر على المتأمّل.

الثاني : الظاهر عدم اعتبار ترتّب الفعل المعاون عليه في صدق الإعانة. ويدلّ على ذلك أنّ العرف بعد إحراز القصد إلى حصول ذلك الفعل لا يتوقّفون في الحكم بكونه إعانة ، ولا يتوقّعون في ذلك حصول المعاون عليه. ولازم اعتبار الترتّب هو توقّفه في جواز الحكم عليه بكونه إعانة ، إلاّ مع العلم بترتّبه فيما إذا قلنا بأنّ الترتّب كاشف عن كونه إعانة (١) ، كما يظهر من بعض الأفاضل في عوائده (٢) حيث إنّه تخيّل أنّه لو فعل شخص فعلا بقصد تحقّق الإثم الفلاني من الغير فلم يتحقّق منه لم يحرم من جهة صدق الإعانة وإن أثم من جهة القصد إلى حصول فعل المعاون عليه ، بناء على أنّ الاشتغال بمقدّمات الحرام بقصد تحقّقه حرام ، وأنّه لو تحقّق الفعل كان حراما من جهتين : من جهة القصد إلى المحرّم ، ومن جهة الإعانة. وصرّح في بعض عوائده (٣) بأنّه لو سافر بقصد فعل محرّم ـ كالقتل ـ وحصل له مانع عنه يكون آثما ، ولو فعل يكون له العقاب والإثم لأجلهما.

وفيه نظر يظهر وجهه ممّا قرّرنا من حيث صدق الإعانة ولو مع عدم العلم بالترتّب ، كما في صورة احتمال وجود المعاون عليه ، ولا يتوقّف الحكم على العلم بالترتّب.

ومنه يظهر عدم اعتبار العلم بالترتّب أيضا وإن لم يترتّب في الواقع في صدق الإعانة ، بل لو فرض ثبوت حرمة نفسيّة لعنوان الإعانة كان إيجاد الفعل الذي

__________________

(١) لم ترد عبارة « إلاّ مع العلم ـ الى ـ إعانة » في ( ع ).

(٢) عوائد الأيّام : ٧٨.

(٣) عوائد الأيّام : ٧١.

٤٨٨

يحتمل توقّف الحرام عليه أو ترتّبه عليه بقصد التوصّل إلى الحرام أولى بأن يكون حراما ، كما لا يخفى. مضافا إلى أنّ القول بثبوت الحرمة النفسيّة للمشتغل بمقدّمات الحرام ممّا لم نقف له على وجه ، كما عرفت.

ثمّ إنّ الالتزام بتعدّد العقاب ممّا لا وجه له قطعا. نعم ، خصوص مسألة السفر لا يخلو عن شيء ، بل المدقّق الشيرواني أنكر وجود القول به في أقوال العلماء (١) وإن كان إنكاره في غير محلّه ؛ لما يظهر من الصالح المقدّس المازندراني (٢) نسبته إلى أكثر العامّة والمتكلّمين والمحدّثين ومنهم القاضي. وقد تقدّم الكلام فيه بما لا مزيد عليه (٣).

الثالث : إذا قصد الفاعل بفعله وصول الغير إلى مقدّمة مشتركة بين المعصية وغيرها مع العلم بصرف الغير إيّاها في المعصية ، فهل يعدّ ذلك معاونة على تلك المعصية أو لا؟ كما إذا أراد البائع تملّك المشتري للعنب بواسطة حصول ثمنه في ملكه مع العلم بأنّه يعمله خمرا. وقد يجعل من ذلك ما مثّل به المحقّق الأردبيلي (٤) من إعطاء العصا بيد الظالم وإعطاء القلم بيده. وهو قريب من وجه ، لاحتمال أن يكون وجود العصا بيده مطلوبا نفسيّا للمعطي ، إلاّ أنّه بعيد في الغاية ، فيستكشف من بعد سائر الدواعي أنّ الداعي إلى الفعل المذكور هو قصد الضرب والظلم ، فيحكمون بكونه إعانة ، كما تقدّم.

وكيف كان ، فالظاهر بناء على ما تقدّم من اعتبار القصد إلى المحرّم في صدق الإعانة أنّه لا يكون معاونة على المعصية.

__________________

(١) لم نعثر عليه في حاشيته على المعالم ، ولا توجد لدينا حاشيته على المختصر.

(٢) لم نعثر عليه في حاشيته على المعالم ، ولا في شرحه على الزبدة.

(٣) راجع الصفحة : ٤٧٥ وما بعدها.

(٤) زبدة البيان ١ : ٢٩٨.

٤٨٩

نعم ، لو فرض أنّ إيجاد شرط الحرام بقصد التوصّل إلى الحرام حرام ـ كما تقدّم من بعض الأفاضل في عوائده (١) ـ صحّ الحكم بأنّ البيع إعانة على الحرام ، وهو تملّك المشتري للعنب بقصد التخمير ، فلو اشترى لا بقصده وإن علم البائع أنّه سيجعله خمرا بإرادة جديدة لم تكن إعانة لا على التخمير ولا على التملّك المحرّم. أمّا الأوّل فلعدم القصد إليه ، وأمّا الثاني فلأنّ الشراء المحرّم هو ما قصد به التوصّل إلى الحرام ، والمفروض خلافه. إلاّ أنّك قد عرفت المنع من الحرمة النفسيّة في مقدّمات الحرام ، والحرمة الغيريّة لا يستلزم ذمّا ولا عقابا ، فلا يكون إثما وعدوانا حتّى يكون الإعانة عليه إعانة على الإثم والعدوان.

نعم ، لو قصد الإعانة على تلك المقدّمة من حيث إيصالها إلى ذيها كان إعانة على الإثم من حيث إنّ القصد إلى المقدّمة على الوجه المذكور يلازم القصد إلى المحرّم النفسي ، فيكون إعانة على الإثم والعدوان من هذه الجهة. ولو قلنا بأنّ الإتيان بشرط الحرام حرام من حيث كونه داخلا في عنوان التجرّي بعد قصد التوصّل به إلى الحرام ، فإيجاد الشراء يكون محرّما وإثما لكونه تجرّيا. وأمّا البيع مع عدم القصد إلى حصول التملّك الموقوف عليه الحرام لا يكون حراما ، لا من حيث الإعانة على المحرّم الواقعي لعدم القصد إليه ، ولا من حيث الإعانة على حصول التجرّي المحرّم ، لأنّ التجرّي ليس نفس الشراء بل الشراء المتلبّس بالقصد ، والبيع إنّما هو إعانة على نفس الشراء لا على المتلبّس بالقصد ، لأنّ ذلك لا ينفك عن قصد المحرّم الواقعي كما لا يخفى ، والمفروض خلافه.

فإن قلت : إنّ المحرّم من جهة التجرّي حيث كان أمرا مركّبا من الشراء والقصد كان البيع إعانة على الشراء ، وهو جزء من المركّب الحرام ، فيكون إعانة على الحرام.

__________________

(١) راجع الصفحة : ٤٨٨.

٤٩٠

قلت : ذلك مسلّم إذا أوجد البيع قصدا إلى حصول عنوان التجرّي ، وهو لا ينفكّ عن القصد إلى المحرّم الواقعي ، وأمّا بدون القصد إليه فلا نسلّم ذلك.

ثمّ إنّه يظهر من المحقّق الأردبيلي الاستناد إلى قاعدة وجوب دفع المنكر (١) في الموارد التي منع من صدق الإعانة. ويشهد له ما ورد من « أنّ بني اميّة لو لا وجدوا من يجبي لهم الصدقات ويشهد جماعتهم ما سلبونا حقّنا » (٢) دلّ على مذمّة الناس في فعل ما لو تركوه لم يتحقّق المعصية.

وفيه : أنّ الذمّ في الخبر بواسطة أنّ نفس الرجوع إلى الطاغوت من أعظم المعاصي ، لما قد امروا أن يكفروا به (٣).

إلاّ أنّ الإنصاف أنّه خلاف الظاهر ، فإنّ المنساق حرمة أفعالهم من حيث ترتّب المفاسد عليها وهو سلب حقوقهم عليهم‌السلام ، ولا ينافيه تحريم نفس الرجوع إلى مخالفيهم أيضا.

إلاّ أنّه مع ذلك لا يمكن التعويل إلى تلك القاعدة في جميع موارد المسألة ، إذ لا يبعد دعوى القطع على عدم وجوب تعجيز من يعلم أنّه سيهمّ بالمعصية ، وإنّما الثابت بالعقل القاضي بوجوب اللطف وجوب ردع من همّ بها وأشرف على الوقوع فيها حدوثا وبقاء ؛ مضافا إلى اختصاص ذلك بصورة العلم بعدم حصول المعصية ، فلو لم يعلم البائع بأنّ منعه منه ينفع في دفع المنكر أو علم أنّه لا ينفع ، لا دليل على وجوب الردع.

فإن قلت : إنّ البيع حرام على كلّ أحد فلا وجه للاعتذار بأنّه لو تركه لم يعلم نفعه في دفع المنكر.

__________________

(١) مجمع الفائدة ٨ : ٥١.

(٢) الوسائل ١٢ : ١٤٤ ، الباب ٤٧ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

(٣) النساء : ٦٠.

٤٩١

قلنا : حرمة البيع إنّما هو بواسطة عدم وقوع المنكر في الخارج ، وهو أمر واحد يجب على عامّة المكلّفين دفعه على وجه الاجتماع ، لعدم الاقتدار عليه إلاّ بالاجتماع ، فإذا علم واحد بعدم الاجتماع أو شكّ فيه علم بعدم الاقتدار أو شكّ في الاقتدار ، وعلى الوجهين لا دليل على المنع ، أمّا على الأوّل فظاهر ، وأمّا على الثاني فللتعويل على أصالة عدم الاجتماع الخارجي في المقام من غير توقّف على فحص على تقدير قياسه بسائر الاصول المعمولة في تشخيص الموضوعات. لكنّه لا يخلو عن تأمّل.

نعم ، لو كان ذلك مطلوبا من كلّ أحد على وجه الاستقلال كأن يكون المطلوب امورا متعدّدة ، لم يحسن الاعتذار.

وأمّا الرواية المذكورة ، فبعد ما عرفت من إمكان دعوى القطع على عدم وجوب الردع في جميع مراتبه ، لا بدّ أن يحمل على حرمة إعانتهم بالامور المذكورة (١) فيها ، وقد قرّر في محلّه حرمة إعانة الظلمة حتّى في المباحات ، فضلا عن جباية الصدقات وإعطائها عليهم وحضور الجماعات.

وفذلكة المرام من البداية إلى النهاية : أنّه لا إشكال في حرمة الإعانة على وجه الإجمال. كما لا إشكال في صدقها عند القصد إلى المعان عليه من غير فرق في ذلك بين إيجاد العلّة التامّة للمعان لو فرض أو السبب أو الشرط أو غيره من وجوه ما يتوقّف عليه الشيء. وعدم صدقها عند عدم القصد إليه ، من غير فرق بين الأقسام أيضا ، إلاّ أنّ فرض عدم القصد مع إيجاد السبب والعلّة بعيد ؛ ولذا يستكشف من إيجادهما القصد ، فيحكم بكونه إعانة من غير توقّف على الترتّب أو العلم بالترتّب أو العلم بالمدخليّة ، بل يكفي احتمال الترتّب والمدخليّة. ومن غير فرق أيضا في ذلك بين الإعانة على فعل المقدّمات وغيرها ؛ إذ ما لم يرجع إلى القصد بفعل المحرّم الواقعي لم يحرم ، ومع رجوعه إليه كان الفرق لغوا.

__________________

(١) في ( ع ) ، ( م ) : حرمة الهمّ بالمذكورة.

٤٩٢

وأمّا القصد إلى إيجاد مقدّمة فعل الغير مع قصد الغير التوصّل به إلى الحرام ، فإن كان ترك ذلك الفعل علّة تامّة لترك الحرام في الخارج فيجب ، وإلاّ فلا دليل على وجوبه ، كما عرفت.

تمّت المسألة بعون الله تعالى ، ختم الله لنا ولإخواننا المؤمنين بالخير والسعادة بحق محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين الغرّ الميامين ، صلّى الله عليهم وسلّم تسليما كثيرا.

٤٩٣
٤٩٤

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

القول في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟

٤٩٥
٤٩٦

وتوضيح المقام في طيّ هدايات :

هداية

لا إشكال في أنّ هذه المسألة ممّا لا يتوقّف تحريرها على أن يكون الأمر مدلولا عليه بدلالة لفظيّة ؛ لجريان السؤال على تقدير غيره أيضا ، فهل هي ـ كما عرفت في المسألة المتقدّمة ـ من المبادئ الأحكاميّة كما صنعه جماعة (١) ، أو من الأدلّة العقليّة وإن كان الأمر لفظيّا أيضا؟ وقد مرّ الكلام فيما هو بمنزلة المعيار لتمييز المباحث ، فراجعه (٢).

ثمّ إنّه قد يستشكل في وجه إفراد المقام بالبحث ، مع أنّ القول بالاقتضاء وعدمه من فروع القول بوجوب المقدّمة وعدمه.

وقد يجاب : بأنّ النسبة بين المقامين عموم من وجه ، لإمكان القول بوجوب المقدّمة مع القول بعدم الاقتضاء ؛ لإنكار المقدميّة مطلقا كما عليه السلطان (٣) ، أو على التفصيل كما عليه المحقّق الخوانساري (٤) ، أو يسلّم المقدميّة وينكر وجوبها مطلقا ، أو على أحد التفاصيل ، أو القول بالاقتضاء والقول بعدم وجوب مقدّمة الواجب نظرا إلى دعوى العينيّة أو التلازم ، إلاّ أنّ التعويل على قاعدة التلازم يوجب القول بوجوب المقدّمة أيضا كما لا يخفى. وفساد المبنى لا دلالة فيه على فساد الابتناء.

__________________

(١) كالحاجبي والعضدي ، انظر شرح مختصر الاصول : ٣ و ١٩٩.

(٢) راجع أول مبحث مقدّمة الواجب.

(٣) حاشية سلطان العلماء : ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(٤) انظر رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : ١٤٧ ـ ١٥١.

٤٩٧

فلا وجه لما قد أورده بعضهم (١) : من ضعف القول المذكور ، وأيّده بما أفاده المحقّق الخوانساري (٢) : من أنّه لا يبعد كونه خرقا لمركّب الإجماع ، فإنّ مدرك القول المزبور أنّ الأمر بالإزالة مثلا يرجع إلى النهي عن الضدّ العامّ وهو الترك ، ومرجع النهي المزبور إلى النهي عن الضدّ الخاصّ ، لعدم صحّة تعلّق التكليف بالتروك ، وهو خرق للإجماع ؛ لانحصار القول في مسألة النهي في أنّ مرجع النهي إلى طلب الترك أو إلى طلب الكفّ ، وأمّا أنّ مرجع النهي إلى طلب ترك الضدّ الخاصّ فهو قول حادث.

وأنت خبير بأنّ التأييد في غير محلّه بعد فرض صحّة ما أفاده المحقّق.

وقد يفرق : بأنّ الكلام في تلك المسألة في المقدّمات الوجوديّة وفي المقام في المقدّمات العدميّة ، وهو كما ترى ممّا لا شاهد له بعد عموم العنوان والأدلّة.

وقد يفرق أيضا : بأنّ الكلام هناك كبرويّ والنزاع في المقام في أنّ الترك مقدّمة أم لا فيرجع إلى إثبات الصغرى ، وهو أيضا مناف لظاهر العنوان والأدلّة.

والأولى أن يقال : إنّ المراد بالضدّ إن كان هو الضدّ العامّ فالفرق ظاهر ، وإن كان الضدّ الخاصّ فالنسبة بين المسألتين عموم مطلق ؛ لأنّ المقام بناء على المشهور ـ من القول بمقدميّته ـ من فروع المسألة المتقدّمة ، وأمّا على القول بعدم المقدميّة ، فالفرق ظاهر. وهو وليّ التوفيق والهداية.

__________________

(١) لم نقف عليه.

(٢) رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : ١٤٨.

٤٩٨

هداية

في تحقيق مقدميّة ترك أحد الضدّين لوجود الآخر (١)

فنقول : قد اختلف أنظار الأعلام في ذلك ، فذهب الأكثر إلى توقّف الوجود على العدم وعدم توقّفه على الوجود (٢) ، واختار جماعة ـ منهم السيّد المحقّق السلطان (٣) وشيخنا البهائي (٤) والكاظمي (٥) ـ عدم التوقّف من الطرفين. ويظهر من المحقّق الخوانساري توقّف وجود الضدّ المعدوم على رفع الضدّ الموجود وعدم توقّف وجود الضدّ على عدم الآخر إذا كان معدوما (٦) ، فهو تفصيل بين وجود الضدّ وعدمه والتزام بالتوقّف في صورة الوجود وبعدمه في صورة العدم.

ولازم الحاجبي والعضدي (٧) الالتزام بالتوقّف من الطرفين ، حيث استندا في دفع شبهة الكعبي إلى منع وجوب المقدّمة ، بل وجعلا ذلك دليلا على عدم وجوب المقدّمة. وهذا صريح في التزام التوقّف ، إذ لو لم يكن مقدّمة كيف يجعل ذلك دليلا

__________________

(١) في ( ط ) زيادة : فإنّ هذا هو الشأن في المقام.

(٢) انظر ضوابط الاصول : ٩٧ ، وإشارات الاصول : ٧٨ ، ومناهج الأحكام : ٥٩.

(٣) حاشية سلطان العلماء : ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(٤) زبدة الاصول : ٨٢.

(٥) الوافي في شرح الوافية : الورقة ٢٦٤ ( مخطوط ).

(٦) يأتي كلامه في الصفحة ٥٠٩.

(٧) راجع شرح مختصر الاصول : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٤٩٩

على عدم وجوبها؟ لاحتمال إبطالها بمنع المقدميّة في طرف الفعل للترك. وأجابا عن الدليل الآتي أيضا بمنع وجوب المقدّمة. وهذا أيضا يتأتّى بعد تسليم المقدميّة. ثمّ إنّه لو التزم باطّراد توقّف الترك على الأفعال الوجوديّة لزمه الدور على وجه لا مدفع له ، كما ستعرف عن الكعبي.

واحتجّ الأكثرون (١) لإثبات التوقّف في طرف الترك بوجهين :

أحدهما : قضاء صريح الوجدان بذلك ، فإنّا نجد بعد المراجعة والإنصاف من أنفسنا ترتّبا بين ترك الضدّ ووجود الآخر ، كما هو قضيّة الوجدان في الحكم بالتوقّف في جميع الامور التي يتوقّف عليها شيء.

الثاني : أنّ الضدّين متمانعان عن الآخر ، وعدم المانع من الامور التي يتوقّف عليها المعلول ، فعدم الضدّ مما يتوقّف عليه وجود الآخر.

أمّا الصغرى : ـ وهو التمانع بين الضدّين ـ فهو ضروريّ بعد تصوّر معنى التضادّ ، فإنّ عدم اجتماعهما في الوجود مأخوذ في حقيقة التضادّ ، فلا يجوز اتّصاف المحلّ بأحدهما إلاّ بعد خلوّه والفراغ عن الآخر ، وإلاّ لم يكونا ضدّين.

فإن قلت : إنّ مجرّد عدم إمكان اجتماعهما في محلّ واحد ـ كما هو قضية التضادّ ـ لا يجدي في الحكم بالتمانع ، وهو أن يكون عدم أحدهما شرطا لوجود الآخر ووجوده مؤثّرا في عدم الآخر ، لجواز استناد عدمه إلى عدم علّته ووجود الآخر إلى وجود علّته ، غاية الأمر أن يكون علّة عدم أحدهما مقارنة لعلّة وجود الآخر ، فيمتنع وجودهما في محلّ واحد ، لعدم وجود علّتيهما معا مع انتفاء التمانع بالمعنى المتنازع فيه.

__________________

(١) راجع الفصول : ٩٢ ، ومناهج الأحكام : ٥٩ ، والقوانين ١ : ١٠٨ ، وإشارات الاصول : ٧٨ ، وضوابط الاصول : ٩٧.

٥٠٠