مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

وصرّح ابن إدريس ـ فيما حكي عنه ـ بالفساد مستدلاّ : بأنّ قبح ما يستلزم القبيح إجماعي (١). ويظهر أيضا من كلماتهم في باب الدين : أنّ النهي المتعلّق بالعبادات من وجوب الأداء فورا يقتضي الفساد (٢) ، حتّى إنّ العلاّمة قد صرّح في محكيّ القواعد (٣) : بفساد الصلاة في أوّل وقتها في حقّ من عليه الدين الواجب أداؤه فورا.

وبالجملة ، معظم الأصحاب خلفا عن سلف لا يناقشون في أمثال هذه المسائل في الكبرى ، يعني في كون النهي موجبا للفساد ، بل إنّما يناقشون في الصغرى ، المراد بها ثبوت فوريّة المأمور به.

نعم ، قد صدر من المحقّق الثاني في شرح القواعد (٤) قول بصحّة العبادة ولو كان آثما في تقديمها على أداء الدين ، ثمّ تبعه بعض من متأخّري المتأخّرين كالشيخ الفقيه في كشف الغطاء (٥) ، وتبعه تلميذه الأصبهاني الشيخ محمّد تقي في حاشيته على المعالم (٦) مع زيادة تحقيق منه في تصحيح ذلك ، ثمّ تبعهما أخوه الشيخ المحقّق صاحب الفصول (٧) وغيره كصاحب القوانين (٨) ونحوه.

__________________

(١) السرائر ١ : ٢٧٣.

(٢) منهم الحلّي في السرائر ٢ : ٣٣ ، والعلاّمة في التذكرة ١٣ : ١٣.

(٣) قواعد الأحكام ٢ : ١٠٢.

(٤) جامع المقاصد ٥ : ١٤.

(٥) يأتي كلامه في الصفحة الآتية.

(٦) هداية المسترشدين ٢ : ٢٦٩ وما بعدها.

(٧) الفصول : ٩٥ ـ ٩٧.

(٨) انظر القوانين ١ : ١١٦.

٥٦١

قال في كشف الغطاء في البحث عن المقدّمات : انحصار المقدّمة في الحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة وإن استلزم المعصية (١). ومراده أنّه إذا عصى بترك المأمور به المضيّق ـ مثلا ـ فأتى بالضدّ فلا ينافي ذلك صحّة ذلك الضدّ إذا كان من العبادات.

قال : وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره : « إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا افعل كذا » كما هو أقوى الوجوه في حكم الجاهل بالقصر والإتمام ، فاستفادته من مقتضى الخطاب لا من مقتضى الدخول تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء ـ أي اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه وعدم الفساد ـ أقرب إلى السداد (٢) انتهى.

وقد ذكرنا هذه العبارة وغيرها في بحث مقدّمة الواجب وبيّنا فسادها وفساد ما قيل في توجيهها وتشييدها من كلمات الشيخ في الحاشية وأخيه في الفصول بيان مشبع (٣) ، فلا نطيل بذكر ما فيها هنا ، بل نشير إجمالا إلى حاصل كلام الفاضل المحشّي ونجيب عنها ، وحاصل كلامه :

أنّ تصادم الأمرين المضيّقين من المستحيلات الأوّليّة ، ولكن مصادمة الأمر المضيّق والأمر الموسّع لا ضير فيها ، لأنّ مرجعه إلى وجوب الموسّع على تقدير العصيان في ترك المضيّق ووجوب المضيّق مطلقا ، وهذا لا عيب فيه ، لأنّه ليس من التكليف بالأمرين في آن واحد ، ولا من التسوية بين المضيّق والموسّع في الوجوب ، بل هو تقديم للمضيّق على الموسّع ثمّ بقاء وجوب الموسّع على تقدير العصيان بترك

__________________

(١) كشف الغطاء ١ : ١٧١.

(٢) نفس المصدر.

(٣) اشارة إلى ما كتبه هذا المقرّر في بحث مقدمة الواجب ولا يوجد لدينا.

٥٦٢

المضيّق ، ولا استحالة في ذلك ، وإنّما الاستحالة في طلب شيئين في آن ، فلا بدّ من جعل الأمر فيها تخييريا عقليّا. هذا حاصل جميع كلماته تلويحا وتصريحا.

وأنت خبير : بأنّ هذا كرّ على ما فرّ ، لأنّا إذا قلنا ببقاء الأمر بالموسّع على تقدير العصيان بالمضيّق لزم أن يكون المكلّف حال إتيانه بالموسّع مكلّفا بإتيانه وبإتيان المضيّق أيضا ، لأن العصيان لا يوجب سقوط التكليف في ثاني زمان العصيان ، فيلزم اجتماع الأمرين في آن واحد ، وهو مستحيل باعترافه. هذا ، مضافا إلى استلزام القول بصحّة الموسّع على تقدير العصيان اجتماع الأمر والنهي ـ أي الوجوب والحرمة ـ في ترك المضيّق من جهة كونه محرّما ذاتا وواجبا من باب المقدّمة والوصلة إلى الموسّع ، وحاول الفاضل المحشّي المحيص عن هذا الإشكال ولم ينل مقصوده ، فإنّه باق كما كان. وقد أوردنا كلماته وفسادها في مبحث المقدّمة ، فارجع إليها (١).

وبالجملة ، لا ينبغي للمتأمّل المنصف التأمّل في الثمرة المزبورة وأنّ الضدّ على تقدير كونه من العبادات يكون فاسدا جدّا ، سواء قلنا بأنّ النهي هذا أصلي ونفسي أو قلنا بأنّه تبعي. ولا ينافي ذلك ما تقدّم منّا في مقدّمة الواجب : من أنّ الأمر الغيري لا يجعل الشيء عبادة ما لم يكن فيه رجحان ذاتي وأنّه لا يوجب صحّة العبادة ، قبالا لقول من جعل صحّة المقدّمة العباديّة وفسادها من الثمرات في وجوب المقدّمة وعدمه ؛ وذلك لأنّ الفرق بين الأمر والنهي واضح ، لأنّ النهي سواء كان غيريّا أو نفسيّا أصليّا أو تبعيّا فيه طلب ترك ، وطلب الترك لا يجتمع مع طلب الفعل ، فيكون باطلا بناء على اقتضاء النهي في العبادات الفساد ، بل يمكن الحكم بالفساد إذا كان من المعاملات أيضا بناء على اقتضاء النهي فيها أيضا الفساد.

__________________

(١) إرجاع لما قرّره في مبحث المقدمة ولا يوجد لدينا. وراجع الصفحة ٢٩٣ من هذا الكتاب.

٥٦٣

وبالجملة ، هذه الثمرة على الظاهر لا إشكال فيها.

ثم إنّ الشيخ (١) قد أحسن في الالتفات إلى الإشكال في مسألة الجهل بالقصر والإتمام ونحوها ، كالجهل بالجهر والإخفاء ، ولكنّه ما أحسن في دفعه. ووجه الإشكال على ما تفطّن له الاستاذ ثمّ وجد تفطّن الشيخ به أيضا : أنّ ظواهر الأدلّة من الكتاب والسنّة ـ بل الإجماع ظاهرا ـ أنّ الجاهل بوجوب القصر في السفر ، وبوجوب الجهر فيما وظيفته ذلك من الصلاة ، مكلّف نحو سائر مقامات الجهل بالتقصير الذي هو حكم الله الواقعي ، كما لعلّه إليه يرشد حكمهم بالمعذوريّة. ومع ذلك كيف يحكم بمعذوريّته مع تقصيره وبقاء الوقت ومع عدم إتيانه بالمأمور به؟

وهذا الإشكال ما اتّضح إلى الآن حقيقة رفعه على مذهب العدليّة من التخطئة دون التصويب.

فإن قيل : إنّ المراد بالمعذوريّة سقوط التكليف بما ليس بمأمور به عنه ، فهذا خلاف صريح الأخبار القاضية بأنّه قد تمّت صلاة من لا يدري بالجهل ـ مثلا ـ وأنّه أتى بالمأمور به.

وأمّا الجواب الذي أشار إليه الشيخ بالنظر ، وحاصله : أنّ الجاهل حالة جهله مأمور بالتعلّم وعلى تقدير العصيان به مأمور بما يعلم من الجهر أو الإخفات ، نظير مأموريّة الشخص بالصلاة على تقدير عصيانه بالإزالة ، كما ذكره وذكره أيضا جماعة. ففيه ما عرفت في غير موضع.

ومنها : ـ أي من الثمرات ـ حصول العصيان في الضدّ ، فيجري فيه الأحكام الثابتة للمعصية ، كما إذا كان الضدّ سفرا ، فإنّه إذا كان معصية يجب فيه إتمام الصلاة والصوم ، وقد أشرنا إليه آنفا.

__________________

(١) أي كاشف الغطاء.

٥٦٤

والحق أنّ ترتّب أحكام المعصية على مثل هذا العصيان الناشئ عن النهي المقدّمي مشكل ، كما أنّ صيرورتها سببا للفسق أشكل. والله العالم بحقائق الامور.

هذا أوان الشروع في ذكر أدلّة الأقوال :

حجّة القول بنفي الاقتضاء رأسا في الضدّ العامّ

ما قدّمت إليه الإشارة في تحرير الأقوال استطرادا ، وحاصله : أنّ الاقتضاء بأي وجه كان فرع ثبوت الملازمة بين طلب الشيء وطلب ترك تركه في نفس الطالب الآمر ، والملازمة ممنوعة بل منفيّة جدّا ، ضرورة غفلة الطالب للشيء كثيرا ما عن تركه فضلا عن أن يكون طالب ترك ذلك الترك ، وإذا كان الأمر كذلك فلا وجه لدعوى الاقتضاء الذي يتوقّف على كون الآمر شاعرا للترك وناهيا عنه.

قال الحاجبي : لنا أنّه لو كان الأمر نهيا عن الضدّ أو تضمّنه لم يحصل بدون تعقّل الضدّ والكفّ عنه ، لأنّه مطلوب النهي ، ونحن نقطع بالطلب مع الذهول عنهما.

واعترض : بأنّ المراد الضدّ العامّ ، وتعقّله حاصل ؛ لأنّه لو كان ذاهلا منه لم يطلبه.

واجيب : بأنّ طلبه في المستقبل ، ولو سلّم فالكفّ واضح.

وقال الشارح العضدي في توضيحه ما لفظه : هذا ، واعترض عليه : بأنّ المراد بالضدّ هو الضدّ العامّ ، لا الأضداد الجزئيّة ، والذي يذهل عنه هو الثاني لا الأوّل ، لأنّ تعقّله حاصل ، ضرورة أنّ المأمور لو كان عازما على الفعل ومتلبّسا به لم يطلب الآمر منه ، لأنّه طلب الحاصل ، فإذن إنّما يطلبه إذا علم أنّه متلبّس بضدّه لا به ، وأنّه يستلزم تعقّل ضدّه.

٥٦٥

الجواب : أنّه يطلب منه الفعل في المستقبل ، فلا يمنع الالتباس به في الحال ، فيطلب منه أن يوجده في ثاني الحال كما يوجده في الحال ، ولو سلّم فالكفّ واضح يعلم بالمشاهدة ، ولا حاجة في العلم به إلى العلم بفعل الضدّ وإنّما يلزم النهي عن الكفّ ، وذلك واضح ولا نزاع لنا فيه ، فلا يصلح موردا للنزاع والاحتجاج (١) ، انتهى.

والظاهر أنّ مرادهما ما ذكرنا ، إلاّ أنّ ظاهرهما تسليم الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن الضدّ العامّ في الأمر بالمجمل ، ونحن إنّما نمنع عنها في ذلك أيضا.

ثمّ إنّه يظهر من قولهما : « ولو سلّم » أنّ الأمر إنّما يقتضي النهي عن الكفّ ، وهو ليس من الضدّ العامّ ولا من الخاصّ ، وأنّه خارج عن محل النزاع. ومن هنا احتمل أن يكون مرادهما من الضدّ العامّ أحد الأضداد الوجوديّة لا بعينه ، كما يشعر به قول العضدي في تقرير الاعتراض : « إنّما يطلبه إذا علم أنه متلبّس بضدّه » وقوله في الجواب : « ولا حاجة في العلم به ـ أي بالكفّ ـ إلى العلم بفعل الضد » وكيف كان ، فغاية ما يمكن الاستدلال به على نفي الاقتضاء في الضدّ العامّ ما ذكرنا.

وجوابه : أنّ النهي التفصيلي عن الضدّ العامّ ـ وهو الترك ـ وإن لم يكن ملازما لطلب الشيء والأمر به في التصوّر والحضور في بال المتكلّم ، إلاّ أنّ النهي الشأني المراد به أنّ الآمر لو التفت إلى الترك لكان كارها له وساخطا وناهيا عنه موجود بالضرورة والوجدان ، وهذا القدر من النهي الشأني مساوق للنهي التفصيلي الفعلي في إفادة التحريم وسائر الأحكام ، نظير ما قدّمنا في وجوب المقدّمة من كونها مطلوبة للآمر بالطلب الإجمالي الشأني وكفاية هذا القدر من الطلب في إثبات الوجوب. ولا ريب في ثبوت الملازمة بين هذا النهي الشأني وبين طلب المأمور به في نفس المتكلّم ولحاظ الذهن إما بالعينيّة أو بالاستلزام أو بالتضمّن على الاختلاف المزبور.

__________________

(١) شرح مختصر الاصول ١ : ١٩٩ ـ ٢٠٠.

٥٦٦

حجّة القول بالعينيّة في الضدّ العام

كصاحب الفصول (١) : أنّ معنى النهي عن الترك الذي هو الضدّ العامّ طلب ترك الترك ؛ لأنّ معنى النهي طلب الترك ، وطلب ترك الترك عين طلب الفعل في المعنى. وذلك ظاهر.

وفيه : أنّه إن اريد بالعينيّة اتّحاد مفهوميهما فهذا كذب واضح ، بل القائل المزبور قد صرّح أيضا بخلافه (٢) ، وكيف لا! وليسا من الألفاظ المترادفة جدّا.

وإن اريد بها الاتّحاد في الصدق الخارجي ـ بمعنى أنّ ما يصدق عليه الفعل في الخارج بعينه يصدق عليه ترك الترك ـ فطلب أحدهما يكون حينئذ عين طلب الآخر.

ففيه : أنّ ذلك بعد التسليم ـ مع أنّ طريق المنع فيه مفتوح نظرا إلى دعوى عدم كون الفعل مصداقا لترك الترك الذي ليس إلاّ مفهوما عدميّا انتزاعيّا من الفعل ـ غير مجد أيضا ؛ لأنّ اتّحاد مصداقهما في الخارج لا يصير سببا لعينيّة طلب أحدهما مع طلب الآخر ، ضرورة أنّ طلب شيء ذي عنوانين بأحدهما يغاير طلبه بالآخر مفهوما ومصداقا ، لأنّ طلبه لكلّ من العنوانين يستدعي تصوّره وتعقّله بذلك العنوان مستقلاّ ، فكيف يكون طلب ذلك الشيء بأحدهما عين مفهوم طلب الآخر أو مصداقه مع الغفلة عن ذلك؟

والحاصل : أنّ الضاحك والكاتب مثلا وإن كانا متصادقين على شيء واحد ، إلاّ أنّ طلب ذلك الشيء بعنوان الكتابة يغاير طلبه بعنوان الضحك مفهوما ومصداقا ، لأنّ تعدّد العنوان يقتضي تعدّد الطلب باعتبار اقتضائه تعدّد الالتفات.

__________________

(١ و ٢) الفصول : ٩٢.

٥٦٧

نعم ، إذا التفت الطالب حين طلبه بأحد العنوانين إلى العنوان الآخر وعلم تصادقهما في الخارج استغنى بطلبه على أحد العنوانين عن طلبه بالعنوان الآخر ، ولكنّه ليس من الاتّحاد في شيء. نعم ، إن كان مراد القائل بالعينيّة أنّ طلب الفعل طلب شيء هو عين مصداق ترك الترك فلا بأس به ، إلاّ أنّه لا يفيد ما هو بصدده من العينيّة بالنسبة إلى الكلّيين.

حجّة القول بالتضمّن في الضدّ العامّ

كصاحب المعالم (١) : أنّ الأمر يدلّ على الوجوب ، وماهيّة الوجوب مركّبة من أمرين : أحدهما المنع من الترك والآخر طلب الفعل ، فصيغة الأمر الدالّة على الوجوب دالّة على النهي من الترك بالتضمّن ، وذلك واضح.

واعترض عليه بعض المحشّين على المعالم (٢) : بأنّ المنع من الترك ليس جزءا لماهيّة الوجوب ، بل هو حكم من أحكام المأمور به وخاصّة من خواصّه ، إذ لا نتعقّل من الأمر بالشيء إلاّ الطلب الحتمي الذي هو عبارة عن بلوغ الطلب حدّا لازمه عدم الرضا بالترك واستحقاق التارك العقاب ، من دون أن يكون هناك طلب آخر متعلّق بترك الترك حتّى يكون المنع من الترك داخلا في ماهيّة الوجوب ، بل يكون خارجا عنها ولازما لها ، فيكون دلالة ما يدلّ على الوجوب على منع الترك دلالة التزاميّة دون التضمّنية.

وقد يوجّه ذلك بما مرّ في توجيه القول بنفي الاقتضاء عند تحرير الأقوال : من أنّ الوجوب والاستحباب مرتبتان من الطلب ممتازان بحسب مرتبتهما وأنفسهما ،

__________________

(١) المعالم : ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) انظر حاشية سلطان العلماء : ٢٨٢.

٥٦٨

وضمّ المنع من الترك إلى الوجوب في الأفواه معناه أنّ مرتبة الوجوب لازمها أنّه لو التفت الآمر إلى الترك لم يكن راضيا به ، لا أنّه داخل في ماهيّته ، كيف! ومن الواضح أنّ الدالّ على الوجوب لا يدلّ على طلبين : أحدهما ما يتعلّق بالفعل والآخر ما يتعلّق بترك الترك ، وإلاّ لكان كلّ واحد من الأحكام الخمسة مركّبة من الحكمين ، كما سبق بيانه.

وهذا الاعتراض وإن كان بظاهره واردا ، إلاّ أنّه قد يذبّ عنه : بأنّا نجد بالمشاهدة والعيان أنّ الوجوب والاستحباب مشتركان في شيء هو الجنس ، وممتازان في شيء هو الفصل ، وأنّ ذلك الفصل من مقوّمات ماهيّة كلّ واحد منهما كما هو شأن الفصول ، ولا شيء يوجب امتياز الوجوب من الاستحباب إلاّ أنّ الطلب في الأوّل بمرتبة متقوّمة بعدم الرضا بالترك ، وفي الثاني بمرتبة لم تبلغ هذا الحدّ ، فيكون ذلك المقوّم الذي به صار الوجوب ممتازا عن الاستحباب داخلا في حقيقة الوجوب دخول الفصل في النوع ، وحينئذ فالدالّ على الوجوب ـ كصيغة الأمر مثلا ـ دالّ على عدم الرضا بالترك بالتضمّن ، نحو دلالة اللفظ الموضوع للنوع على الفصل.

نعم ، إطلاق النهي عن الضدّ العامّ على هذا الفصل الذي لا بدّ من ثبوته للوجوب لا يخلو عن حزازة وركاكة ، لأنّ الظاهر من النهي كونه مقتضيا للتحريم الذي هو واحد من الأحكام الخمسة قبال الوجوب المتعلّق بالفعل ، وليس الأمر كذلك ، لأنّ فصل الوجوب ليس تحريم ترك الفعل على وجه يكون من المحرّمات الثابتة بالنواهي في قبال الواجبات ، إذ كلّ أحد يعلم أنّ الوجوب ليس إلاّ حكما وحدانيّا يعبّر عنه تارة بإيجاب الفعل ، واخرى بتحريم الترك ، نحو التعبير عن الإنسان بالحيوان الناطق تارة وبالناطق خاصّة اخرى ، لا أنّه يتضمّن حكمين من الأحكام الخمسة : أحدهما الوجوب والآخر التحريم.

٥٦٩

نعم ، تحريم الترك على الوجه الإجمالي والشأني ـ الذي عرفت ذكره آنفا ـ لا بأس بثبوته للوجوب ثبوت اللازم للملزوم ، لأنّا نعلم قطعا أنّ الآمر لو التفت إلى الترك وأراد أن يثبت له حكما من الأحكام الخمسة كان حاكما بحرمة ترك هذا الترك على سبيل النهي التحريمي ، فالمنع من الترك إذا فسّر بحدّ الوجوب ووجهه وجهة امتيازه عن الاستحباب كان الحقّ مع القول بالتضمّن ؛ لما عرفت. ولو فسّر بحرمة الترك على وجه الإجمال والشأنيّة حرمة تعدّ من الأحكام الخمسة في قبال وجوب الفعل كان الحقّ مع القول بالاستلزام.

فظهر من كلامنا هذا حجّة القول بالاستلزام في الضدّ العامّ أيضا ، كما أنّه قد ظهر أنّ المختار في الضدّ العامّ هو عدم الاقتضاء رأسا إن اريد بالنهي الفعلي التفصيلي ، والقول بالتضمّن إن اريد به وجه الوجوب وحدّه وفصله الذي ليس هو بحكم آخر في عرض وجوب الفعل ، والقول بالالتزام لو فسّر النهي بالنهي الإجمالي الشأني الموقوف على التفات الآمر وإرادته ، والقول بالعينيّة إن اريد بها اتّحاد مصداق المطلوبين في الخارج ، يعني مصداق الفعل ومصداق ترك الترك ، لا اتّحاد نفس الطلبين مصداقا أو مفهوما. والله العالم.

حجّة القول بالعينيّة في الضدّ الخاصّ

إنّ الأمر بالشيء ـ كالحركة ـ لو لم يكن عين النهي عن الضدّ الآخر ـ كالسكون ـ فإمّا أن يكون مثله أو ضدّه أو خلافه ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله. بيان الملازمة ووجه بطلان اللازم وسائر ما يرد على هذا الدليل من المناقشات مذكورة في كتب القوم مشهورة ، فلا حاجة إلى الإطناب.

٥٧٠

وأمّا حجّة القول بالتضمّن

فهي أيضا مذكورة في تلك الكتب (١) : من أنّ الوجوب طلب شيء يذمّ على تركه ، ولا ذمّ إلاّ على فعل ، وهو : إمّا الكفّ أو أحد الأضداد الخاصّة ، فكأنّهم ذكروا الترك وأرادوا به سببه الذي هو أحد الأمرين المزبورين ، فيكون دلالة ما يدلّ على الوجوب على ذمّ الترك المراد به سببه ـ من الكفّ أو أحد الأضداد ـ دلالة تضمّنية ، لكونه جزء معنى الوجوب.

واجيب (٢) عنه تارة : بمنع كون الترك مسبّبا عن الكفّ أو أحد الأضداد ، لأنّ الشيء إنّما يترك باعتبار عدم الداعي إليه ، بل هو كذلك في الأغلب ، فما صار الكفّ سببا لتركه نظرا إلى اعتبار الزجر في مفهومه بعد وجود الداعي ، ولا أحد الأضداد وإن كان لازما للترك في الوجود الخارجي من باب المقارنة الاتّفاقية. واخرى : بمنع المقدّمة الأخيرة من أنّه لا ذمّ إلاّ على فعل ؛ لأنّ الترك مقدور نحو مقدوريّة الفعل ، فهما في جواز الذمّ وعدمه سواء.

حجّة القول بالاستلزام الوضعي

لا بدّ أن تكون إحدى الأمارات وليس جوابها إلاّ المنع.

حجّة القول بالاستلزام المعنوي وجهان :

أحدهما : أنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الواجب ، ومقدّمة الواجب واجبة ،

__________________

(١) راجع مناهج الأحكام : ٦١.

(٢) راجع القوانين ١ : ١١٤.

٥٧١

فيكون فعله حراما ، وهذا معنى النهي عنه. وإنّما يكون بالاستلزام ؛ لأنّ وجوب المقدّمة ليس مدلولا تضمّنيّا أو مطابقيّا لما دلّ على وجوب ذيها ، بل إنّما هو مدلول التزامي بيّن ، بالمعنى الأعمّ أو غير بيّن ، كما مرّ تفصيله.

ولا محيص عنه إلاّ بمنع وجوب المقدّمة كما صنعه صاحب المعالم (١) ، أو بمنع وجوبها عند عدم إرادة المأمور به كما ذكره بعد التسليم والمماشاة ، أو بمنع كون الترك مقدّمة كما هو الحقّ المختار عند السلطان (٢) والسبزواري (٣) وغيرهما. وتفصيل كلّ ذلك قد مرّ في تضاعيف الكلمات السابقة ، خصوصا الأخير الذي قد بسطنا الكلام فيه بذكر كلمات العلماء وجوابها وتوضيحها في أوّل المسألة.

والثاني : أنّ فعل الضدّ مستلزم لترك المأمور به ، وهو قبيح حرام ، فكذا ما يستلزمه.

وأجاب عنه صاحب المعالم : بأنّه إن اريد بالاستلزام الاقتضاء والعلّية أو الاشتراك في علّة واحدة ، فدعوى الاستلزام ممنوعة ؛ لأنّ فعل الضدّ ليس سببا لترك المأمور به ، لأنّ سببه إنّما هو الصارف ـ نعم هذا مستمرّ مع فعل أحد الأضداد في الخارج ومقارن معه ، ولكن (٤) غير الاقتضاء والعلّية ـ ولا مسبّبا لما هو سبب للترك حتى يشتركا في علّة واحدة ، لأنّ علة الترك الصارف وعلّة الفعل الإرادة.

وإن اريد به مجرّد عدم الانفكاك في الخارج من غير أن يكون بينهما علّية أو اشتراك في العلّة ، فدعوى الاستلزام مقبولة ، ولكن القول بأنّ المستلزم للحرام حرام

__________________

(١) المعالم : ٦٢ و ٦٨.

(٢) حاشية سلطان العلماء : ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

(٣) كما تقدّم عنه في الصفحة : ٥١٩.

(٤) كذا ، والمناسب : لكنّه.

٥٧٢

حينئذ ممنوعة ، لأنّ مجرّد التلازم من دون أحد الوصفين لا يقتضي الاشتراك ، وإنّما يقتضيه إذا كان ذلك التلازم ناشئا عن أحد الوصفين. هذا خلاصة ما ذكره في المعالم من الجواب عن هذا الاستدلال (١).

والظاهر أنّ مراده بـ « مجرّد عدم الانفكاك » محض المقارنة من دون استحالة الانفكاك ، بل لعلّ في كلامه تصريح بذلك ، إذ لو كان المراد به استحالة الانفكاك لم يتصوّر قسم ثالث للتلازم ، لأنّ استحالة الانفكاك لا بدّ لها من سبب ، وليس ذلك إلاّ العلّية أو الاشتراك فيها.

ولا ينافي ما ذكرنا من كون المراد بالتلازم المقارنة الاتّفاقية ، اعترافه بكون ترك الضدّ مقدّمة لفعل المأمور به في الجواب من الدليل الأوّل ، حيث أجاب عنه بمنع وجوب المقدّمة ، لا بمنع المقدّميّة ؛ لأنّ القول بمجرّد مقدّمية الترك للفعل لا يقتضي الاستحالة مع إنكار مقدّمية الفعل للترك ، لأنّه إذا لم يكن الفعل مقدّمة للترك وعلّة له ـ كما يقول به المشهور ـ جاز مفارقة الترك حينئذ من الفعل عقلا ، نظرا إلى عدم كونه معلولا للفعل حتّى يمنع انفكاكه عنه.

وكيف كان ، فتحقيق أصل المسألة موقوف على معرفة حكم المتلازمين في الوجود الخارجي من حيث جواز اختلافهما في الحكم وعدمه.

فنقول : أمّا المتقارنان من حيث الاتّفاق ، فمن ضروريّات حكم العقل جواز الاختلاف فيهما ، لإمكان انفكاك كلّ منهما عن الآخر كما هو المفروض ، وما لا يجوز فيه الانفكاك لأمر عرضيّ فهو مندرج في أحد القسمين المزبورين.

وأمّا العلّة والمعلول ، فقد عرفت في البحث عن المقدّمات أنّ حرمة المعلول يقتضي حرمة العلّة عقلا ، وقد تقدّم هناك تفصيل الكلام في ذلك ، وقلنا : إنّ قبح علّة

__________________

(١) المعالم : ٦٧ ـ ٦٨.

٥٧٣

الحرام من أوّليّات حكم العقل ولو كان غيريّا غير موجب للعقاب غير العقاب المترتّب على فعل المعلول. ويدلّ على ذلك تعليل تحريم بعض المحرّمات في الشريعة بقبح المعلول ، كما يستفاد من الآية الشريفة ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ )(١) الآية : أنّ حرمة الخمر والميسر لأجل كونهما سببين لقبائح اخرى من البغضاء والعداوة ونحوهما. ولا يرد أنّ الآية ونحوها إنّما تدلّ على الحرمة النفسيّة وأين هذه من الحرمة الغيريّة التي أنت بصدد إثباتها؟ لأنّ غرضنا الاستظهار من الشرع على صدق حكم العقل بقبح علّة القبيح في الجملة ولو كان حكم الشرع أزيد من حكم العقل من حيث التقبيح.

وأمّا حرمة العلّة ، فالظاهر أنّها بمجرّدها لا يقتضي حرمة المعلول في شيء ؛ لأنّ المنقصة المقتضية للنهي لعلّها تكون مختصّة بالعلّة ، فلا شيء من مقتضى (٢) حرمة المعلول ، لا المنقصة الذاتية ولا الجهة المقدّميّة. نعم ، إنّما (٣) يكشف حرمة العلّة عن حرمة المعلول ، فينتقل من قبح شرب الخمر مثلا إلى قبح معلوله الذي هو السكر ، ولكنّه خارج عن فعل المكلّف الذي هو متعلّق الخطابات. ومن هنا قلّت الجدوى في البحث عن اقتضاء حرمة العلّة أو كشفها عن حرمة المعلول ؛ لأنّ فرض كون العلّة المحرّمة ومعلولها من أفعال المكلّفين معا في المحرّمات عزيز أو عديم. نعم ، قبح المعلول بمعنى المنقصة التي تعرض لغير الأفعال أيضا لا بأس باستفادته من تقبيح الشارع العلّة. ولعلّ جميع المحرّمات كاشفة عن هذا القبح على مذهب العدليّة. وقريب من هذا الاستكشاف إناطة الحكم بالوصف في العلل المنصوصة غالبا ، فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) سورة المائدة : ٩١.

(٢) في ( ع ) كتب فوق كلمة « من » : ح. والصواب في العبارة : فلا شيء حينئذ يقتضي ...

(٣) في ( ع ) زيادة : « ربما » استظهارا. وهو الصواب.

٥٧٤

وممّا ذكرنا ظهر حكم المعلولين لعلّة واحدة ، فإنّه إذا قلنا باقتضاء حرمة المعلول حرمة العلّة وبالعكس ، فلا بدّ من اقتضاء حرمة أحد المعلولين حرمة الآخر بالضرورة.

ومن جميع ذلك ظهر فساد قول الكعبي ، وزالت شبهته : من وجوب المباحات الذاتيّة بالعرض ، لأنّ غاية ما يستدلّ على ذلك امور ثلاثة :

أحدها : أنّ فعل المباح مقدّمة لترك الحرام ، وهذا واجب ، فيكون فعل المباح كذلك.

وثانيها : أنّ ترك الحرام وفعل المباح متلازمان في الوجود الخارجي ، فيكونان متّحدين في الحكم ، لاستحالة اختلاف المتلازمين في الحكم.

وثالثها : أنّ ترك الحرام عين فعل المباح ، فوجوب تركه ليس إلاّ وجوب فعل المباح.

وفساد الكل واضح.

أمّا الأوّل ، فقد اجيب عنه تارة : بفرض الكلام في حال خلوّ المكلّف من شرائط التكليف ، كالغفلة والاضطرار ونحوهما ممّا لا تكليف معه ، فإنّ ترك الحرام في تلك الحالة غير مأمور به ، لعدم توجّه النهي إلى الغافل أو المضطرّ ـ مثلا ـ حتى يكون ترك المنهيّ واجبا. وحينئذ فلا يعرض الوجوب المقدّمي للأضداد المباحة للفعل المحرّم ، فلا يلزم من وجوب ترك الحرام وتوقّفه على فعل المباح نفي المباح رأسا ، وإنّما يلزم وجوب المباح أحيانا ، كما في حال تعلّق التكليف بترك الحرام.

وهذا الجواب منقول من السلطان في حاشيته على المعالم (١) ، وليس بمرضيّ على التحقيق ؛ لأنّ عروض الإباحة للمباحات بالعرض وحال خلوّ المكلّف عن

__________________

(١) حاشية سلطان العلماء : ٢٨٥.

٥٧٥

شرائط التكليف لا يقدح في مدّعى الكعبي ، لأنّ غرضه أنّ الشارع لم يجعل أحكاما خمسة ، بل إنّما جعل أحكاما أربعة أو حكمين مثلا (١) ؛ لأنّ ما عدا الواجب والمحرّم واجب نحو وجوب ترك الحرام ، فكما أنّ خروج ترك الحرام عن وصف الوجوب أحيانا لا يقدح في كون حكم الله الأوّلي في حقّه (٢) هو الوجوب وفي فعله هو التحريم ، كذلك سقوط التكليف عن فعل المباحات باعتبار عدم تعلّق التكليف بما هو مطلوب لأجله من ترك الحرام لا يوجب اتّصافه بالإباحة وخروجه عن صفة الوجوب الغيري بحسب جعل الله الأوّلي وحكمه الواقعي. نعم ، هذا الجواب سديد ممّن ادّعى عدم اتّصاف شيء في العالم بالإباحة أبدا. ولعله لا يقول به الكعبي ، وإلاّ فالجواب في محلّه.

واخرى (٣) : بمنع المقدّمية ؛ نظرا إلى منع علّية فعل المباح لترك الحرام حتّى يكون مقدّمة سببيّة له ، لأنّ ترك الشيء مستند إلى وجود الصارف عنه ، فمع وجوده يكون فعل المباح من مقارنات ترك الحرام اتّفاقا من غير استناد الترك إلى فعله. ولو فرض انتفاء الصارف ووجود الداعي إلى الحرام كان فعل المباح حينئذ مقدّمة سببيّة لترك الحرام. فعلى القول بوجوب المقدّمات لا بدّ من الالتزام بوجوبه ، ولكنه لا ينهض بإثبات دعوى الكعبي ؛ لأنّه لا يلزم من كون فعل المباحات مقدّمة لترك الحرام حال انتفاء الصارف نفي المباح رأسا ، بل إنّما يلزم وجوب أحدها في بعض الأحيان ، ولا ضير فيه.

واعترض على هذا الجواب : بأنّه على هذا التقدير يثبت الوجوب التخييري

__________________

(١) في ( م ) بدل « مثلا » : متلازمين.

(٢) في ( ع ) كتب فوق « حقّه » : تركه. وتحتها : صفته.

(٣) عطف على قوله : فقد اجيب عنه تارة.

٥٧٦

للمباحات دائما ؛ لأنّ ترك الحرام على ما قرّر يكون له علّتان : إحداهما وجود الصارف والاخرى فعل شيء من الأضداد المباحة ، فكلّ منهما يجب بالوجوب التخييري ، فيثبت قول الكعبي.

وجوابه : أنّ فرض استناد الترك إلى الفعل أمر غير ممكن ، لأنّ فعل الضدّ مسبوق بإرادته أبدا ، وهي مضادّة مع إرادة الحرام ، فيكون من مقدّمات إرادة الفعل وجود الصارف عن الحرام ، ففعل الضدّ أبدا مسبوق بالصارف الذي فرض كونه سببا أيضا لترك الحرام ، فالترك دائما مستند إلى الصارف ، فيبقى فعل المباح على حالة الإباحة لكونه من المقارنات الاتّفاقيّة المحضة.

لا يقال : إذا توقّف الصارف عن الحرام على فعل الضدّ المباح وجب حينئذ من باب المقدّمة ، فيصدق أنّ الواجب إمّا فعل الضدّ أو الصارف ، فيكون فعل أحد المباحات واجبا بالوجوب التخييري.

لأنّا نقول : هذا الفرض غير جائز ، وإلاّ لزم الدور ، لأنّ وجود الصارف من أحد الضدّين من مقدّمات وجود فعل الضدّ الآخر ، لأنّ فعل الضدّ مسبوق بإرادته لا محالة ، وهذه الإرادة باعتبار مضادّتها مع إرادة الحرام موقوفة على عدمها جدّا ، ولا نعني بالصارف عن الحرام إلاّ انتفاء إرادته ، فلو فرض توقّف هذا الصارف على فعل الضدّ المباح أيضا توقّف المعلول على العلّة لزم الدور.

والحاصل أنّه إذا كان الصارف موجودا فلا إشكال في عدم كون فعل المباح مقدّمة كما عرفت ، وإذا فرض انتفاء الصارف كان التكليف حينئذ ساقطا بالنسبة إلى ترك الحرام إذا كان هذا الانتفاء بحيث لا يقتدر المكلّف على إيجاده ، وبعد سقوط التكليف عنه لا معنى لوجوب المباحات مقدّمة ، كما عرفت في الجواب الأوّل. ولا يمكن فرض توقّف انتفاء الصارف على فعل المباح ، للزوم الدور. نعم ، قد يتوقّف انتقاء الصارف عن الحرام في الزمان اللاحق على فعل شيء من الأضداد في الزمان

٥٧٧

السابق عليه ، فيكون فعل المباح في الزمان السابق واجبا من باب المقدّمة ، ولكنّه لا يفيد نفي المباح رأسا ، كما ذكره جماعة من المجيبين عن شبهة الكعبي (١).

وفيه نظر ؛ لأنّ توقّف ترك فعل اختياري على فعل اختياري آخر ممّا لا معنى له ؛ لأنّ حاصله أنّ المكلّف لو لم يأت بالفعل المباح لدخل في الحرام بسوء اختياره ، وهذا لا يستلزم توقّف ترك ذاك الحرام على فعل المباح لا عقلا ولا عادة ولا شرعا ، لأنّ المفروض أنّه لو لم يفعل المباح لكان قادرا على ترك الحرام ومختارا فيه ، فلا يتوقّف حينئذ على فعل المباح حتّى يجب من باب المقدّمة. وهذا واضح.

نعم ، يمكن الاستدلال على وجوب المباح في هذه الحالة بوجهين :

أحدهما : قاعدة اللطف ؛ لأنّ إيجاب نحو هذا الفعل المباح المفروض كونه سببا لترك الحرام ولو اختيارا لطف من الله تعالى ، ووجوب اللطف عليه ثابت عند العدليّة ، من غير فرق بين أن يكون متعلّقه فعله سبحانه أو فعل العبد ، وحينئذ أمكن القول بوجوب المباح إذا اقتضى ترك الحرام من باب الاتّفاق ولو اختيارا.

وثانيهما : أنّ العقل قاض بوجوب نحو هذا الفعل مع قطع النظر عن جهة توقّف الترك الواجب عليه بحكم الوجدان والعرف ؛ فإنّا إذا راجعنا إلى أنفسنا وجدنا تحريك العقل إلى مباشرة الفعل الذي فيه اجتناب عن الحرام ولو من باب الاتّفاق ، فإن تمّ الوجهان أمكن القول بوجوب المباح حينئذ ، وإلاّ فلا يمكن الاستدلال عليه من باب المقدّمة ، كيف! والأمر كذلك في جميع المباحات بالنسبة إلى فعل المحرّمات ؛ لأنّ المكلّف إذا لم يأت بأحد المباحات لوقع في الحرام قطعا ولو بسوء اختياره ، فلو كان مجرّد عدم انفكاك فعل المباح من ترك الحرام مقتضيا

__________________

(١) راجع المعالم : ٦٨ ـ ٦٩ ، وحاشية سلطان العلماء : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ، والقوانين ١ : ١١٢ ، وهداية المسترشدين ٢ : ٢٣٣ ـ ٢٤٩ ، والفصول : ٨٩.

٥٧٨

لوجوبه فلا وجه لمنع المقدّميّة رأسا إلاّ فيما إذا توقّف ترك الحرام على فعل المباح ، ضرورة ثبوت هذا النحو من التوقّف الراجع إلى أنّ المكلّف لو لم يأت بالمباح لعصى بسوء اختياره بين ترك الحرام وفعل أحد المباحات في جميع المقامات ، فما وجه تكذيب الكعبي في دعوى التوقّف مطلقا؟

نعم ، يمكن أن يعرض الوجوب للمباح في بعض الأحيان ، كما إذا توقّف ترك الحرام مطلقا ـ ولو اضطرارا ـ على فعل من المباحات ، مثل ما إذا علم أنّه لو لم يتحوّل من مكانه إلى داره يشرب الخمر كرها ، وحينئذ يجب عليه التحوّل من باب المقدّمة. ولا يرد أنّ التحوّل لا بدّ أن يكون مسبوقا بالصارف عن الشرب في الزمان المستقبل أيضا لكونه من مقدّماته وترك الشرب إنّما يستند إلى هذا الصارف دون فعل الضدّ ؛ لأنّ المفروض صدور الفعل عنه إلجاء أو عدم كفاية الصارف الفعلي في تركه ، فضلا عن الصارف الموجود في الزمان المتقدّم ، لكن قد يتوقّف في بقاء التكليف في صورة الإلجاء. اللهم إلاّ أن يقال : إنّ هذا الإلجاء إنّما نشأ من اختياره لعلمه به وتمكّنه من دفعه ، فيكون كمن فوّت القدرة في الامتثال قبل مجيء زمان الفعل ، مثل ما سمعت في إراقة ماء الوضوء قبل الوقت وإعجاز النفس عن الحجّ قبل ذي حجّة في مبحث وجوب المقدّمة.

وأمّا الجواب عن الاستلزام (١) فغير خفيّ على من أحاط خبرا بما تلونا في إثبات جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.

وأمّا الجواب عن العينيّة (٢) فأوضح من البيان ؛ إذ كلّ أحد يعلم أنّ الأمر بترك الزنا ليس عين الأمر بضدّه الوجودي ـ كالسفر مثلا ـ في شيء لا مفهوما ولا مصداقا. والعجب من الشهيد الثاني! حيث حكي عنه أنّ الأمر بالحركة عين النهي

__________________

(١ و ٢) عطف على قوله : « أمّا الأوّل » في الصفحة ٥٧٥.

٥٧٩

عن السكون (١). ولعلّ الذي أوقعه في هذا الخيال كونهما ضدّين لا ثالث لهما ، ولعمرك! إنّ الأمر كذلك في سائر المقامات إذا أخذنا الضدّ أحد الامور الوجوديّة ؛ لأنّه لا ثالث له ولفعل المأمور به ، كما لا يخفى. نعم ، لا خفاء في كون ترك الحرام مقارنا للأضداد الوجوديّة في الخارج بحيث يتوهّم مثل الشهيد أنّ الأمر بالأوّل عين الأمر الثاني. هذا تمام الكلام في الأقوال المعروفة.

بقي الكلام في قولين آخرين :

أحدهما لبعض المحقّقين من متأخّري المتأخّرين ، والثاني لشيخنا البهائي وقد تقدّم لذلك ذكر (٢).

أما القول الأوّل : فهو التفصيل بين ما إذا كان الضدّ من أسباب امتناع المأمور به في حقّ المكلّف كالمسافرة في البحر بالنسبة إلى إيصال الدين الواجب المضيّق ونحوه ، وبين ما إذا لم يكن كذلك كقراءة القرآن بالنسبة إلى أداء الشهادة. فإنّ الضدّ في الأوّل ـ وهو السفر ـ فعله يوجب امتناع المأمور به أعني أداء الدين في حقّ المكلّف أبدا إذا كان من المعجّلات (٣). بخلافه في الثاني ؛ فإنّ قراءة القرآن وإن كان ضدّا لأداء الشهادة ، إلاّ أنّه في كلّ آن من الآنات يقتدر على قطع القراءة وأداء الشهادة. ومثله ما إذا ترك أداء الحقّ المضيّق وتشاغل بالصلاة ، فإنّه يتمكّن في كلّ حال من أحوالها أن يتركها ويتشاغل بالواجب لسبق الحقّ المضيّق على الدخول فيها ، فيجوز الإبطال ، كالإبطال لغيره من الامور المقرّرة. وهذا المثال منقول عن صاحب هذا التفصيل ، ولعلّ مثالنا أحسن ؛ لما فيه من المناقشة والتأمّل.

__________________

(١) انظر تمهيد القواعد : ١٣٥ ، القاعدة ٤٠.

(٢) راجع الصفحة : ٤٩٩.

(٣) في ( ط ) : المؤجّلات ، وفي ( م ) : الموصلات. والصواب : إذا كان معجّلا.

٥٨٠