مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

بيان ذلك : أنّ الواجب هو تحصيل العلم بالامتثال بالنسبة إلى الأمر المعلوم بالإجمال المردّد بين الامور المتعدّدة ، والمقدّمة هي الصلاة بجهة خاصّة ثمّ بجهة اخرى ؛ وهما وإن كانا متعدّدين بحسب المفهوم ، إلاّ أنّ مجرّد التعدّد المفهومي الراجع إلى تعدّد الاعتبار لا يجدي بعد الاتّحاد في الحقيقة والذات ، فإنّ إيقاع الصلاة في الجهات هو عين تحصيل العلم في الخارج ؛ إذ المريد لتحصيل العلم بفراغ ذمّته ليس له بدّ من ذلك ، فإنّه عين مطلوبه.

لا يقال : إنّ الواجب هو العلم ومغايرته لهذه المقدّمات ضروريّة ، فكيف يتأتّى القول باتّحاد المقدّمة وذيها في الوجود.

لأنّا نقول : إنّ من المعلوم في محلّه أنّ من شرائط التكليف كون المكلّف به فعلا اختياريّا ، ولا يعقل أن يكون نفس العلم من الامور التي يتعلّق بها التكليف ، فالمكلّف به هو تحصيل العلم ، ولا مصداق لذلك المفهوم إلاّ إيقاع الصلاة بالجهات الأربع الذي هو ذات المقدّمة. نعم ، الحركات الخاصّة التي يعبّر عنها تارة بالصلاة واخرى بتحصيل العلم ملحوظة عند العقل بلحاظين ، يترتّب أحدهما في الملاحظة على الآخر ، فيمكن أن يقال : إنّ الداعي لإيجاد هذه الحركة الخاصّة ليس هو العنوان الملحوظ أوّلا ـ على تقدير عدم القول بوجوب المقدّمة ـ بل الداعي لذلك الفعل هو العنوان الملحوظ ثانيا والمنتزع أخيرا ؛ بخلاف ما إذا قيل بوجوب المقدّمة ، فإنّ الداعي له ذلك العنوان. وهذا وإن كان النزاع فيه أمرا معقولا ، إلاّ أنّه بعيد من أنظار العلماء ـ كما قد عرفت نظيره في حديث خروج المقدّمات الداخليّة عن حريم الخلاف ـ فلا ينبغي أن يكون هذه الامور محلاّ للخلاف.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما قد تجشّمه بعض الأعاظم (١) : من منع وجوب

__________________

(١) وهو المحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٠٨.

٢٢١

المقدّمة في استدلال المشهور بوجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ، بعد تسليمه أصل الوجوب. وليت شعري! ما ذا يقول المانع فيما لو أراد دفع الضرر المحتمل في أطراف الشبهة من نفسه ، فهل له بدّ من الأخذ بمقتضى العلم الإجمالي في الأطراف ، من إيجادها أو تركها جميعا؟ والمكابر في ذلك مباهت.

ومن جميع ما ذكرنا يهتدي الخبير بمواقع الكلام إلى تقسيم آخر للمقدّمة إلى قسمين : أحدهما ما يتّحد مع ذيها وجودا. والآخر ما يباينه. وما ينبغي أن يكون محلاّ للنزاع هو الثاني ، لا الأوّل ـ كما قد عرفت تفصيله ـ وبالله التوفيق ومنه الهداية.

٢٢٢

هداية

قد عرفت تحقيق القول في تقسيمات المقدّمة وما هو ينبغي أن يكون محلاّ للخلاف من تلك الأقسام ، فليعرف الآن محلّ الخلاف من « الواجب » الذي اضيف إليه لفظ « المقدمة ».

فنقول : إنّ الواجب باعتبارات عديدة له أقسام متعدّدة ، وليس المقصود في المقام إحصاء جميع أقسامه : من الكفائي والتخييري والعيني والموسّع والمضيّق والمحدود وغير المحدود مثلا ، بل اللازم في المقام هو بيان ما له دخل في تحقيق المسألة التي نحن بصددها ، أو ما يرتبط به ولو بنحو من العناية والتنوير ، حرصا على تكثير الفائدة.

فمن جملة التقسيمات للواجب تقسيمه إلى :

المطلق والمشروط

فالأوّل على ما عرّفه به عميد الدين في شرح التهذيب (١) ، هو : ما لا يتوقّف وجوبه على أمر زائد على الامور المعتبرة في التكليف : من العقل والعلم والبلوغ والقدرة. والمشروط : ما كان وجوبه موقوفا على أمر آخر أيضا. وعرّفه التفتازاني (٢) والمحقّق الشريف (٣) : بأنّه ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه

__________________

(١) منية اللبيب : ١٢١.

(٢ و ٣) انظر حاشية التفتازاني والسيّد الشريف المطبوعتين ضمن شرح المختصر ١ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ، طبع مكتبة الكلّيات الأزهرية ، سنة (١٣٩٣).

٢٢٣

وجوده ، والمشروط : بما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده. وزاد بعضهم قيد « الحيثيّة » في الحدّين (١).

وملاك الحدّ الأوّل للمطلق والمشروط على ملاحظة مطلق التقييد والإطلاق ، سواء كان القيد من المقدّمات الوجوديّة أو لا ، فالواجب بالنظر إلى ملاحظة الامور التي لا دخل لها في تحقّق الواجب مطلق ، فإنّ الصلاة بالنسبة إلى طيران الغراب والنظر إلى السماء مطلق. وملاك الحدّ الثاني على ملاحظة الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى ما له دخل في وجود الواجب ، فيتحقّق الواسطة على التعريف الثاني بين القسمين ، فإنّ الصلاة بالنسبة إلى النظر إلى السماء لا تعدّ من الواجب المطلق ولا من المشروط.

ومن لوازم الأوّل : امتناع اجتماع وصفي الإطلاق والتقييد في الواجب ؛ لأنّ المأخوذ في الحدّ عدم التوقّف على شيء بعد الامور الأربعة ؛ ومفاد ذلك سالبة كلّية ، وهي تناقض الموجبة الجزئيّة ؛ وهو التوقّف في مورد خاصّ.

ومن لوازم الثاني : إمكان اجتماعهما في الواجب ؛ لأنّ المقدّمة الوجوديّة التي لا مدخل لها في الوجوب يوجب انتزاع وصف الإطلاق على تحديدهم عن الواجب ، ولا يضرّ في ذلك توقّف وجوبه على شيء آخر الذي هو يوجب انتزاع وصف التقيّد منه ؛ إذ لا تناقض بين الموجبة الجزئيّة وسالبتها.

ومن هنا يمكن أن يناقش في التحديد الأوّل : بأنّه لم يظهر منهم إطلاق الواجب المطلق بالنسبة إلى غير الامور التي لها مدخل في وجود الواجب ، فإنّ ذلك غير معهود منهم ، كما لا يخفى. إلاّ أنّ ذلك مدفوع : بأنّه لم يثبت في ذلك للقوم

__________________

(١) انظر شرح المعالم للمولى صالح المازندراني : ٧٧ ، ومناهج الأحكام : ٤٨ ، وضوابط الاصول : ٧٣.

٢٢٤

اصطلاح جديد ، بل المراد بالمطلق والمقيّد هو المراد بهما في غير المقام ؛ فإنّ لفظ « الواجب » مثل لفظ « الرجل » فكما أنّ إطلاقه لا يلاحظ بالنسبة إلى شيء دون آخر بل المطلق منه ما هو مطلق كذلك ، فكذلك لفظ « الواجب » المطلق منه ما هو كذلك مطلقا.

وأما التقييد بالامور الأربعة : فبملاحظة مفروغيّة التقييد (١) بالنسبة إليها ، فممّا لا يضرّ في إطلاق المطلق على الواجب ، بل قد يقال : بأنّ بعضا منها ممّا لا يمكن توجيه الخطاب بدونه إلى المكلّف ، فلا مفرّ من التقييد المذكور.

فظهر : أنّ الأقرب هو ما عرّفه السيّد رحمه‌الله (٢) ؛ لكونه ملائما لما هو المعهود منه في غير المقام. وذلك ظاهر جدّا (٣).

مضافا إلى أنّه يرد على التحديد الثاني للمطلق والمشروط انتقاضهما ـ منعا في أحدهما وجمعا في الآخر ـ بدخول الحجّ المشروط وجوبه بالاستطاعة الشرعيّة في تعريف المطلق ؛ إذ ليس مقدّمة الوجوب فيه هو مقدّمة الوجود ـ لإمكان وجود الحجّ بدون ما هو وجوبه مشروط به ـ وخروجه عن تعريف المشروط.

وقد يذبّ عن ذلك : بأنّ المراد هو ما يتوقّف عليه وجود الواجب من حيث إنّه واجب ، فإنّ تحقّقه بعنوان الوجوب يتوقّف على الاستطاعة الشرعيّة ، فإنّ الوصف المعنون به ذات الفعل هو الواجب ، فلا بدّ أن يكون تحقّقها بهذا العنوان موقوفا على المقدّمة المفروضة.

وذلك ركيك في الغاية! فإنّ الظاهر هو تقسيم الواجب بالنسبة إلى المقدّمات التي يتوقّف عليها وجود ذات الواجب ؛ ولا مدخل للعنوان فيه ، إذ على تقديره

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : التقيّد.

(٢) تقدّم كلامه في الصفحة ٢٢٣.

(٣) لم ترد عبارة « وذلك ظاهر جدّا » في ( ع ) و ( م ).

٢٢٥

يكون المراد بالحدّ في الواجب المشروط هو ما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده أو وجوبه ؛ وذلك مع أنّه تفكيك ـ إذ المراد بلفظ « الوجود » الواقع في الحدّين لعلّه واحد كما هو الظاهر ـ ممّا لا يرجع إلى محصّل.

وإلى ذلك يرجع ما أفاده المحقّق القمّي في الحدّ ، من اعتبار قوله : « وإن كان في العادة أو في نظر الآمر » (١).

قلت : يمكن توجيهه بما مرّ من رجوع المقدّمة الشرعيّة إلى المقدّمة العقليّة. ولا ينافيه استحباب الحجّ بدون الاستطاعة ؛ إذ لعلّ وجود ما هو حجّة الإسلام في الواقع موقوف على الاستطاعة الشرعيّة ، كما قرّرنا. ومن ذلك القبيل اشتراط وجوب العبادات بالبلوغ على تقدير القول بشرعيّة عبادات الصبيّ ، فتدبّر.

ثمّ إنّ « الحيثيّة » التي زادها بعضهم في الحدّين (٢) ، فالظاهر أنّه أراد بذلك بيان أنّ الإطلاق والتقييد في الواجب من الامور الإضافيّة التي تختلف باختلاف أطراف الإضافة ، كما في الفوقيّة ، فإنّها تقاس بالنسبة إلى ما هو تحتها وإن كان بالقياس إلى شيء آخر تحتا ، إلى غير ذلك من الأعراض الإضافيّة. وكأنّه حاول بذلك دفع ما قد نبّهنا عليه ممّا هو لازم حدّ المشهور : من اجتماع الوصفين في شيء واحد ؛ ومع ذلك فلا وجه لذكرها في الحدّ ، لأنّ الغالب في القيود التي تذكر في الحدود من الحيثيات إنّما هو تعلّقها بالفعل المذكور فيها على وجه يقيّد ذلك الفعل بها ، وليس يصحّ تعلّق الحيثيّة المذكورة على الفعل المذكور في الحدّ وهو قولهم : « يتوقّف » ؛ لأنّ التوقّف غير متحيّث بتلك الحيثيّة ، إذ لا تعدّد في التوقّف. والمتعارف في ذكر القيود في الحدود من الحيثيّات هو صدق الحدّ بتمامه على فرد صادق عليه حدّ آخر ، يراد بتلك الحيثيّة تميّزه عنه ، وليس المقام من هذا القبيل.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٠٠.

(٢) تقدّم في الصفحة ٢٢٤.

٢٢٦

نعم ، الحيثيّة المذكورة مثمرة في صدق ماهيّة المحدود ومفهومه على أفراده ومصاديقه ؛ لما عرفت : من أنّ الإطلاق والتقييد من الامور الإضافيّة. فالوجه في ذلك ذكرها بعد تمام ماهيّة المحدود وتميّزها عمّا عداها عند ما يراد تشخيص الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى مقدّمة مخصوصة ، كأن يقال مثلا : الصلاة من حيث إنّها لا يتوقّف وجوبها على الطهارة التي يتوقّف وجودها عليها من الواجبات المطلقة ، ومن حيث إنّها يتوقّف وجوبها على كذا من الواجبات المقيّدة.

وعرّف بعض الأجلّة (١) الواجب المطلق ـ بعد ما ذكر تعريف السيّد المذكور على اختلاف يسير ـ : بأنّه ما لا يتوقّف تعلّقه بالمكلّف على أمر غير حاصل ، سواء توقّف على غير ما مرّ من الامور العامّة وحصل كالحجّ بعد الاستطاعة ، أو لم يتوقّف كالمعرفة. ثمّ قال : ويقابله المشروط ، وهو ما يتوقّف تعلّقه بالمكلّف على حصول أمر غير حاصل. والنسبة بين كلّ من المطلقين مع مشروطه تباين ، وبين كلّ منهما وكلّ من الآخرين عموم من وجه.

وبيّن بيان النسبة بتمامها فيما علّقه على المقام ، قال : النسبة بين المطلقين عموم من وجه ، لاجتماعهما في المعرفة في واجد الشرط ، وافتراق الأوّل عن الثاني في الحجّ بعد الاستطاعة ، وافتراق الثاني عن الأوّل في المعرفة قبل البلوغ. وكذلك النسبة بين المشروطين ؛ فإنّه يصدق الأوّل بدون الثاني في الحجّ بعد الاستطاعة ، ويصدق الثاني بدون الأوّل في المعرفة قبل البلوغ ، ويتصادقان في الحجّ قبل الاستطاعة. وكذلك النسبة بين المطلق بالمعنى الأوّل والمشروط بالمعنى الثاني ؛ لتصادقهما في المعرفة قبل استكمال الشروط ، وصدق الأوّل بدون الثاني في المعرفة بعد الشرائط ، وصدق الثاني بدون الأوّل في الحجّ قبل الاستطاعة. وكذلك النسبة بين المطلق بالمعنى الثاني والمشروط بالمعنى الأوّل ؛ لتصادقهما في الحجّ بعد الاستطاعة ،

__________________

(١) وهو صاحب الفصول ، انظر الفصول : ٧٩.

٢٢٧

وصدق الأوّل بدون الثاني في المعرفة بعد الشرائط ، وصدق الثاني بدون الأوّل في الحجّ قبل الاستطاعة (١) ، انتهى.

وظنّي أنّ ما دعاه إلى التحديد المذكور هو ملاحظة أنّ الحجّ بعد الاستطاعة ممّا يبعد أن يكون واجبا مشروطا (٢) لزعمه أنّ وصفي الإطلاق والتقييد إنّما يعتبران في الواجب بالنسبة إلى ما تنجّز تعلّقه على المكلّف ، وبعد حصول الشرط فالواجب منجّز على المكلّف ، فيجب أن يكون مطلقا. إلاّ أنّه زعم في غير محلّه ؛ لأنّ الملحوظ في الإطلاق والتقييد هو الأوامر الواردة في أصل الشرع ، وإلاّ فما الذي حمله على جعل المعرفة قبل البلوغ من الواجب المطلق مع أنّه لا تعلّق لها على المكلّف؟ وحيث إنّ الخطاب بها مشروط (٣) بالبلوغ في الشريعة صحّ إطلاق الواجب عليها بتلك الملاحظة.

وبالجملة : فالظاهر أنّ ما ذكره ممّا لا وجه له ، فلا فرق بين الحدّين. إلاّ أنّ المعتبر في تحديد العميدي (٤) هو اعتبار التوقّف وعدمه بعد الامور العامّة ، والمعتبر فيما ذكره مطلق الامور ، فيكون الثاني أعمّ مطلقا ممّا ذكره العميدي بعد ملاحظة أنّ الإطلاق في الواجب (٥) إنّما هو بواسطة ملاحظة وروده في أصل الشرع من دون مدخليّة في خصوصيّات التكاليف المتعلّقة بآحاد المكلّفين. ومن ذلك تطّلع (٦) على فساد ما ذكره في ساير النسب ، كما لا يخفى.

__________________

(١) الفصول : ٧٩ ، في الهامش.

(٢) في ( ع ) و ( م ) : ممّا يبعد أن لا يكون واجبا مطلقا.

(٣) في ( ع ) و ( م ) : به غير مشروط.

(٤) المتقدّم في الصفحة ٢٢١.

(٥) لم يرد « في الواجب » في ( ع ) و ( م ).

(٦) في ( ع ) و ( م ) : تقطع.

٢٢٨

والأسدّ الأخصر هو أن يقال : إنّ الإطلاق والتقييد إن جعلناهما من الامور الإضافيّة ، فينبغي أن يقال : إنّ الواجب بالنسبة إلى كلّ شيء يلاحظه الملاحظ معه ، إمّا أن يكون وجوبه موقوفا عليه أو لا ، فعلى الأوّل هو واجب مشروط ، وعلى الثاني هو واجب مطلق. وإن لم نجعلهما من الامور الإضافيّة ، فينبغي أن يقال : إنّ الواجب المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على شيء والمشروط ما كان وجوبه موقوفا على شيء.

إلاّ أنّ ذلك يوجب أن لا يكون للواجب المطلق مصداق ، إذ لا أقلّ من الاشتراط بالامور العامّة. ولا ضير في ذلك بعد ما عرفت من أنّه الملائم لما هو المعهود من لفظي « الإطلاق » و « التقييد » في غير المقام وعدم ثبوت وضع جديد له منهم في المقام. وإن كان ولا بدّ فالأقرب هو ما عرّفه العميدي ، كما نبّهنا عليه (١).

وإذ قد عرفت ذلك ، فهل النزاع المذكور يعمّ مقدّمة كلتا القبيلتين من الواجب ، أو يخصّ بمقدّمة الواجب المطلق؟ الّذي صرّح به غير واحد منهم هو الثاني ، فقالوا بأنّ مقدّمة الواجب المشروط ليست واجبة إجماعا (٢) ؛ ولذلك اعتبر بعضهم (٣) الإطلاق في عنوان النزاع ورام بذلك التعريض على من لم يعتبره فيه ، بل صرّح بعضهم بلزوم التقييد واعترض على من لم يقيّد العنوان بذلك (٤).

واعتذر عنهم شيخنا البهائي : بأنّ النزاع وإن كان في مقدّمات الواجب المطلق ، إلاّ أنّ لفظ « الواجب » حقيقة فيه ، فلا حاجة إلى التقييد ، لخروج الواجب

__________________

(١) في الصفحة ٢٢٥.

(٢) كالمحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٠١ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٨٢.

(٣) مثل المحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٠٠ ، وراجع المعالم : ٦٠ ، والفصول : ٨٢.

(٤) وهو المحقّق الشيرواني في حاشيته على المعالم ، انظر المعالم ( الطبعة الحجريّة ) : ٥٧.

٢٢٩

المشروط عن العنوان بواسطة لفظ « الواجب » المحمول على الحقيقة (١). وفرّع على ذلك عدم الحاجة إلى ما أخذه بعضهم في العنوان من قيد القدرة (٢) ؛ لأنّ الواجب بالنسبة إلى المقدّمة الغير المقدورة مشروط ولا نزاع في مقدّمات الواجب المشروط ، كما استكشفنا من أصالة الحقيقة المعمولة في لفظ « الواجب » ، فلا حاجة إلى التقييد المذكور.

والتحقيق في المقام : أنّ القائلين باختصاص النزاع بمقدّمات الواجب المطلق إن حاولوا بذلك إخراج الواجب المشروط بالنسبة إلى مقدّماته الوجوبيّة مع عموم النزاع بالنسبة إلى مقدّمات وجوده فهو كلام سديد لا محيص عنه ، إلاّ أنّ ذلك تخصيص في المقدّمة لا في الواجب ؛ ولقد نبّهنا على خروج المقدّمات الوجوبيّة فيما مرّ (٣) ، والمتراءى منهم تخصيص الواجب ، كما يظهر ممّا قدّمنا من أخذ بعضهم قيد الإطلاق في العنوان ؛ فإنّ الظاهر منه أنّ مقدّمة المشروط لا نزاع فيها سواء كانت وجوبيّة أو وجوديّة.

ويظهر ذلك في الغاية بملاحظة كلام المعترض ، ويتّضح غاية الوضوح من التأمّل فيما أورد المعتذر من إعمال أصالة الحقيقة في لفظ « الواجب » ، وكفاك شاهدا في المقام ملاحظة جميع عنواناتهم ، فإنّ المنساق من قولنا : « مقدّمة الواجب » أو « ما لا يتمّ الواجب إلاّ به » هو ما يتوقّف عليه الوجود ، فإنّ المقدّمة الوجوبيّة يتوقّف عليها الوجوب لا الوجود ، فعلى ذلك لا وجه لقيد الإطلاق ؛ إذ ينحصر النزاع على تقديره في مقدّمات وجود الواجب المطلق.

__________________

(١) الزبدة : ٤٦.

(٢) كما في مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ١٠٦ ، وتهذيب الوصول : ٢٧ ، والمعالم : ٦٠.

(٣) راجع الصفحة ٢١٦.

٢٣٠

وبالجملة : فلو أنّهم حاولوا إخراج المقدّمة الوجوبيّة لم يكن محتاجا إلى هذه التكلّفات ، كما هو ظاهر ؛ مع أنّ ذلك أمر سهل ، كما عرفت ممّا صنعنا فيما مرّ.

وإن أرادوا بذلك تعيين الواجب الذي يقع النزاع في وجوب مقدّماته ليكون الكلام في مقدّمات الواجب المشروط خارجا عمّا هو عقد الباب له ـ كما يظهر ذلك من ملاحظة كلماتهم في تعليلاتهم ذلك بأن وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها وحيث لم يتعلّق الوجوب إلى ذيها لا يعقل وجوبها ، إلى غير ذلك ممّا هو صريح فيما ذكرنا ـ فهو تخصيص من دون ما يقضي بذلك ؛ إذ كما عرفت محصّل النزاع يرجع إلى ثبوت الملازمة العقليّة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته. ولا يفرق في ذلك أنحاء الوجوب على تقدير أن يكون الطلب المتعلّق بشيء على نحو الإطلاق مغايرا له على نحو الاشتراط ؛ فكلّما ثبت الوجوب على أيّ نحو كان يمكن النزاع في وجوب مقدّمات المتّصف بذلك الوجوب ، فإنّه لا يراد من إثبات الوجوب لمقدّمة المشروط إثبات الوجوب المطلق لها ؛ فكما أنّ وجوب نفس الواجب مشروط بالمقدّمة الوجوبيّة ، كذا وجوب مقدّمته بمعنى تنجّزه وفعليّته ـ على وجه لم يكن للمكلّف بدّ من فعله ـ مشروط بذلك الشرط. وما ذكر من التعليل إنّما ينفي الوجوب الزائد على الوجوب الثابت لنفس الواجب ، لا وجوبا على نحو ذلك الوجوب إن مطلقا فمطلقا وإن مقيّدا فمقيّدا ، فالسعي للحجّ داخل في حريم الخلاف كالطهارة للصلاة ، مع أنّ الأوّل مشروط والثاني مطلق.

ولو لا عموم النزاع للمقدّمات الوجوديّة للواجب سواء كان مشروطا أو مطلقا لم يكن وجه لتحرير المسألة عن أصل ؛ إذ قد عرفت أنّ جميع الواجبات مشروط ولو بالامور العامّة التي هي شرائط التكليف ؛ اللهمّ إلاّ أن يكون النزاع في المقدّمات بعد حصول شرائط الوجوب ، فيكون النزاع في وجوب السعي بعد

٢٣١

حصول الاستطاعة ـ كما زعمه بعض الأجلّة (١) ـ ولعمري! إنّ ذلك تقييد بارد وترويج (٢) كاسد لا يقضي به دليل ولا يساعده اعتبار.

ومن هنا تعرف الوجه في عدم تقييد العنوان في كلام جماعة من القدماء في تحرير المسألة بقيد « الإطلاق » (٣) لأنّ ذلك ـ على ما عرفت ـ مخلّ.

ومن هنا يظهر فساد ما أورده المعتذر عذرا لعدم التقييد : من أنّ الواجب حقيقة في الواجب المطلق فلا حاجة إلى التقييد (٤) ؛ لأنّ ذلك ـ بعد ما ستعرف (٥) فساد نفس التعليل المذكور في كلامه ـ ممّا ينادي باختصاص النزاع كما عرفت بالواجب المطلق ، مع أنّ كلماتهم خالية عنه ؛ اللهم إلاّ أن يكون مراد المعتذر هو ما ذكرنا : من أنّ المقصود بالقيد المذكور إخراج المقدّمة الوجوبيّة عن حريم الخلاف ، فيتوجّه عليه ـ على ذلك التقدير ـ أنّ التعليل المذكور في كلامه ممّا لا مساس له بما نحن فيه ، كما هو ظاهر ؛ مضافا إلى أنّ التأويل المذكور مناف لتفريعه عدم الحاجة إلى التقييد بالمقدورة ، فإنّ ذلك إن (٦) أمكن تطبيقه على التأويل المذكور ـ كأن يقال : إنّ المقصود من ذلك إخراج نفس القدرة لا ذات المقدّمة الموصوفة بعدم القدرة إذ الواجب مشروط بالنسبة إلى القدرة ـ إلاّ أنّه كلام عار عن التحصيل ؛ إذ لا يعقل وجوب القدرة ، فالمقصود من ذلك إخراج المقدّمة الغير المقدورة ،

__________________

(١) انظر ضوابط الاصول : ٨٣.

(٢) في ( ع ) : ترجيح.

(٣) مثل السيّد المرتضى في الذريعة ١ : ٨٣ ، والشيخ الطوسي في العدة ١ : ١٨٦.

(٤) راجع الزبدة : ٤٦.

(٥) في ( ع ) و ( م ) : عرفت.

(٦) كذا ، والظاهر : وإن.

٢٣٢

من حيث إنّ الواجب قبل القدرة واجب مشروط ، ولا نزاع في مقدّمات الواجب المشروط ، لأنّ الواجب المأخوذ في العنوان واجب مطلقا بمقتضى أصالة الحقيقة ، كما هو ظاهر كلامه.

ويرد عليه ما أوردنا عليهم : من أنّه لا قاضي للتخصيص المذكور في كلامهم بعد عموم الدليل وشمول عناوين جماعة من القدماء لذلك ، كما ينادي به الاعتراض المذكور واعتذاره عن ذلك. نعم ، كلام المعتذر موجّه على مذاق المشهور القائلين باختصاص النزاع ؛ وكأنّه منهم فنسج على منوالهم.

وينبغي أن يعلم في المقام : أنّ المقدّمة الغير المقدورة على تقدير عموم النزاع لا ينبغي إخراجها عن النزاع ، لأنّ القدرة شرط الوجوب لا المقدّمة الغير المقدورة ، فإنّ المقدّمة ليست إلاّ ذات المقدّمة والواجب المشروط بالقدرة واجب مطلق بالنسبة إلى ذات المقدّمة ؛ غاية ما في الباب أنّ عدم القدرة المتعلّق بذيها بواسطة عدم الاقتدار عليها ، وذلك لا يقضي بأن لا تكون متّصفة بالوجوب على نحو اتّصاف ذيها بالوجوب الشرطي. فتدبّر في المقام كي لا يشتبه عليك حقيقة المرام فإنّه من مزالّ الأقدام ، وتهتدي إلى ما هو المقصود من هذا الكلام بعون الله الملك العلاّم.

٢٣٣
٢٣٤

هداية

قد عرفت في كلام شيخنا البهائي : أنّ لفظ الواجب حقيقة في المطلق منه وأنّه مجاز في المشروط (١) ، ويظهر منه أيضا : أنّ العلاقة فيه هي المشارفة أو علاقة الأول.

والتحقيق : أنّ ذلك مبنيّ على كون التقييد مجازا أو حقيقة.

فعلى الأوّل : فالواجب المشروط مجاز تقييدي ولا مدخل للأول والمشارفة فيه ؛ لأنّ المدار في صدق المشتقّ على وجه الحقيقة هو قيام المبدأ بمورده في الحال ، والوجوب في الواجب المشروط حاليّ إلاّ أنّ الواجب شيء مخصوص بتقدير خاصّ ، وذلك لا يوجب أن لا يتّصف المورد بالوجوب في الحال.

وعلى الثاني ـ كما هو الحقّ ـ فهو حقيقة ، كما في سائر المطلقات. نعم ، عند تجرّده عن القيود يحمل على أنّ المورد متّصف بالوجوب على جميع التقادير ـ كما في غيره من المطلقات أيضا ـ ولا إشكال في ذلك.

وهل هيئة الأمر حقيقة في الطلب على وجه الإطلاق ومجاز في الطلب المشروط أو بالعكس؟ أو مشترك بينهما لفظا أو معنى؟ وعلى الأخير : فعند الإطلاق هل يحمل على الإطلاق أو يتوقّف؟ وعلى الأوّل : فهل ذلك بواسطة الانصراف أو بواسطة عدم البيان؟ وجوه :

لا إشكال في فساد الأوّلين ولا سيّما الثاني منهما ؛ إذ لم يجوّزه عاقل ولا تعرّض للخلاف فيه ناقل (٢).

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٢) العبارة في المطبوع : ولا خلاف فيه أيضا ولا ناقل.

٢٣٥

ويدلّ على فساد الأوّل : أنّه لو كان الأمر موضوعا للطلب لا على وجه التقييد يلزم أن يكون جميع الأوامر مجازات ؛ إذ لا أقلّ من اشتراطها بالامور العامّة ، فلا يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له من الطلب المطلق ؛ على أنّه غير معقول قطعا ، إذ لا فرق بين التقييد على وجه الاشتراط أو غيره من القيود المتعلّقة بالمأمور به بحسب القواعد العربيّة ؛ فهل ترى أنّ أحدا يقول بأنّ قولنا : « اضرب زيدا في المسجد أو راكبا أو ضربا شديدا أو بالسوط أو نحو ذلك » مجاز ، وقولنا : « اضرب زيدا » حقيقة؟

وتوضيح المقال وتفصيل هذا الإجمال هو أن يقال : إنّ هيئة الأمر موضوعة ـ بالوضع النوعي العامّ والموضوع له الخاصّ ـ لخصوصيّات أفراد الطلب والإرادة الحتميّة الإلزاميّة التي يوقعها الآمر ويوجدها عند ما ينبعث في نفسه دواعي وجود الفعل المطلوب من المأمور ، ولا اختلاف في تلك الأفراد من حيث ذواتها إلاّ فيما يرجع إلى نفس تعدّد ذواتها من تعدّد الوجودات الخاصّة ، فإنّها يجمعها عنوان واحد هو الطلب والإرادة.

نعم ، الاختلاف إنّما هو فيما تعلّق به الطلب بعد اجتماع شرائط وجوده : من الطالب والمطلوب والمطلوب منه في الجملة ؛ فتارة : يكون المطلوب شيئا عامّا ، كالضرب المطلق على أيّ نحو وقع وعلى أيّ وجه حدث زمانا ومكانا وآلة وحالة ووجها ، إلى غير ذلك. وتارة : يكون المطلوب أمرا خاصّا ـ على اختلاف مراتب الخصوصيّة ـ ففي جميع هذه الأقسام صيغة الأمر وهيئته مستعملة في الطلب الواقع والإرادة الحادثة في نفس الأمر. ولا يعقل أن يكون الفرد الموجود من الطلب مطلقا ، إذ الإطلاق إنّما هو واسطة في التعقّل ، لا في الوجود ؛ والألفاظ إنّما تتّصف بالإطلاق والتقييد باعتبار المعنى ، وبعد ما فرضنا من أنّ المعنى المقصود بالهيئة هو خصوصيّات الطلب وأفراده فلا وجه لأن يقال : إن الهيئة مطلقة أو مقيّدة ، بل

٢٣٦

المطلق والمقيّد هو الفعل الذي تعلّق به الطلب ؛ فإنّ معنى الضرب في حدّ ذاته معنى كليّ ، واللفظ الكاشف عنه مطلق ، والضرب الواقع في الدار مقيّد.

فظهر من ذلك : أنّ معنى الهيئة ممّا لا يختلف باختلاف المطلوب وإن كان لهذه الاختلافات مدخل في تعدّد أفراد الطلب ـ كما لا يخفى ـ إلاّ أنّه لا دخل له بما نحن بصدده.

ولا خفاء أيضا في أنّ الشرط أيضا من الامور الراجعة إلى المطلوب ، فإنّ الفعل تارة : يكون متعلّقا للطلب على جميع تقاديره ـ من قيام عمرو وقعود بكر وحياة زيد وموت خالد ونحو ذلك ـ وتارة : يكون متعلّقا للطلب على تقدير خاصّ ؛ فلا اختلاف في حقيقة الطلب ، كما لا اختلاف فيها عند اختلاف سائر قيود الفعل من الزمان والمكان.

وإذ قد تحقّقت ذلك عرفت أنّه لا وجه للقول بكون هيئة الأمر حقيقة في الوجوب المطلق مجازا في المشروط ، فإنّ ذلك ممّا لا يرجع إلى طائل ، بل التحقيق : أنّها موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ للأعمّ من الطلب الواقع على الماهيّة المطلقة أو المقيّدة. نعم ، عند عدم القيد بواسطة القاعدة ـ التي قد شيّدنا أركانها في المطلقات ـ يحمل الفعل المطلوب على المطلق من دون مدخل لذلك فيما دلّ على الطلب.

فإن أراد القائل بالاشتراك المعنوي ما ذكرنا فهو حقّ لا محيص عنه. وإن أراد بذلك الاشتراك المعنوي بمعنى أن يكون هيئة الأمر موضوعة لمفهوم الطلب الشامل للطلب المشروط والطلب المطلق فذلك ممّا لا يعقل.

أمّا أوّلا : فلأنّ المعقول عندنا عدم اختلاف الطلب المشروط للطلب المطلق إلاّ بالإطلاق والتقييد ، فلا بدّ أن يكون الطلب المطلق ـ الذي وقع قسيما (١) ـ شاملا

__________________

(١) في ( ط ) : قسما.

٢٣٧

له على نحو شمول الماهيّة المطلقة التي هي قسم (١) للماهيّة المأخوذة بشرط شيء أو بشرط لا ، فيكون الاختلاف اعتباريّا ويكون هيئة الأمر موضوعة للطلب المقسم المخالف للقسم اعتبارا ، وذلك ممّا لا يقضي به دليل ولا يساعده اعتبار.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المتبادر من الهيئة هو خصوصيّات الطلب والإرادة ، فلا وجه للقول بكونها موضوعة لمفهوم الطلب ؛ وذلك أمر ظاهر بعد تصوّر أطرافه.

ومن هنا يظهر فساد القول بالانصراف أيضا ؛ إذ لا إطلاق في الهيئة حتى يقال بالانصراف. وأمّا إطلاق الفعل المطلوب فالانصراف فيه إلى المطلق غير معقول ؛ إذ الانصراف إنّما هو يلاحظ فيه بالنسبة إلى أفراده ، والمطلق هو عين الفعل فلا ينصرف إليه. وذلك أيضا ممّا لا ينبغي أن يتأمّل فيه.

بقي احتمال الاشتراك اللفظي في هيئة الأمر بالنسبة إلى الطلب المطلق والطلب المشروط ، كأن يقال : إنّ الواضع تارة لاحظ أفراد الطلب المتعلّق بالمطلوب المطلق وجعل هيئة الأمر لها ، واخرى لاحظ أفراد الطلب الواقع على الماهيّة المقيّدة وجعل الهيئة لها أيضا بوضع مستقلّ.

وهو أيضا في غاية الضعف والسقوط ؛ إذ نحن لا نجد من أنفسنا فرقا بين استكشافنا معنى الهيئة في المقامين ، ولو كان ذلك فيهما بوضعين يجب أن يكون الانتقال إلى أحدهما من اللفظ مغايرا ـ ولو بنحو من الاعتبار ـ عن الانتقال إلى الآخر ، وهو ظاهر في الغاية.

فإن قلت : إنّ سنخ الطلب وماهيّته ممّا يختلف عند الإطلاق والاشتراط ، بحيث إنّه لا يجمعهما عنوان واحد في الملاحظة إلاّ مفهوم الطلب الشامل لهما ، فيكون المطلق والمشروط نوعين من مطلق الطلب ؛ وحيث قد ظهر لك أنّ الهيئة ليست

__________________

(١) كذا ، والظاهر : قسيم.

٢٣٨

موضوعة لمفهوم الطلب ، فالموافق للاعتبار هو أن يكون الآلة في ملاحظة الواضع خصوصيّات أفراد الطلب في كلّ من النوعين هو ذلك النوع ، ولازم ذلك الاشتراك اللفظي. كما أن « من » ـ مثلا ـ موضوعة تارة لخصوصيّات التبيين وتارة لأفراد التبعيض ؛ فالهيئة الأمريّة موضوعة للقبيلتين بوضعين.

قلت : أمّا أوّلا : فلا نسلّم أنّ الطلب مختلف بحسب أصل الماهيّة في المقامين ، والوجه في هذا المنع يظهر عند ملاحظة نظير المقام في الجمل الإخباريّة ، فإنّ حقيقة التصديق في القضية الحمليّة والقضيّة الشرطيّة ليست مختلفة على وجه يكون أحدهما نوعا من العلم والآخر نوعا آخر. وكيف ذلك! مع أنّ رجوع القضية الشرطيّة إلى القضيّة الحمليّة (١) :

إمّا على ما يراه البعض : من أنّ المطلوب فيها هو الحكم بالملازمة وأنّ المقدّم ملزوم للتالي (٢) ، وإن كان قد يناقش في ذلك : بأنّ المقصود بالإخبار في المقام ليس الإخبار عن الملازمة ، فإنّها ملحوظة تبعا ومرآة ، فلا يكون من موارد الحكم.

وإمّا ما زعمه التفتازاني : من أنّ المقصود فيها هو التصديق بثبوت المحمول للموضوع في التالي على تقدير المقدّم (٣). وبيان ذلك : أنّ المخبر عن ثبوت شيء لشيء قد يكون في صدد الإخبار عن ثبوت المحمول للموضوع على جميع التقادير المتصوّرة لذلك الموضوع من الوقائع المربوطة به ، وقد يكون مقصوده الإخبار عنه لكن على تقدير خاصّ كطلوع الشمس للحكم بوجود النهار ، فعلى الأوّل : لا مناص من التعبير بالقضيّة الحمليّة ، فإنّها تفيد ثبوت المحمول للموضوع على أيّ

__________________

(١) في ( ط ) زيادة : الصرفة.

(٢) راجع الفصول : ١٤٧ ـ ١٤٨ ، وهداية المسترشدين ٢ : ٤٢١.

(٣) لم نعثر عليه.

٢٣٩

تقدير فرض. وعلى الثاني فلا بدّ من إيراده على وجه الاشتراط ، وذلك أمر ظاهر فيهما (١). وعليك بملاحظة ذلك في المقام أيضا.

فالقول باختلاف حقيقة الطلب في الطلب المطلق والمشروط لا بيّن ولا مبيّن ، بل الوجدان الخالي عن شوائب الوهم قاض بعدم الاختلاف النوعي فيهما.

وأمّا ثانيا : فعلى تقدير التسليم فلا نسلّم أنّ ذلك يمنع عن الاشتراك المعنوي على وجه قلنا به ؛ إذ الآلة في الملاحظة قد يمكن أن يكون أعمّ من النوعين ، فيكون كلّ واحد من خصوصيّات الأفراد موضوعا له بوضع واحد ، ولا ضير في ذلك.

ودعوى الغلبة على خلافه بأنّ الغالب هو أنّ المرآة للمعنى هو القدر المشترك القريب ـ على تقدير تسليمها ـ ممّا لا دليل على اعتبارها ، فإنّه مبنيّ على اعتبار الظنّ المطلق في تشخيص الأوضاع ، وقد منعنا عن ذلك في محلّه (٢) ، وإن بالغ فيه جماعة كثيرة (٣).

فظهر : أنّه لا وجه للقول المذكور في وجه.

ثمّ إنّ هذا القول ممّا قد نسب إلى السيّد المرتضى (٤) ولعلّه بواسطة ما قد وجدوا من عادة السيّد (٥) الحكم بالاشتراك في أمثال المقام ، وإلاّ فكلام السيّد في الذريعة والشافي ممّا لا دليل فيه على هذه الحكاية.

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : فيها.

(٢) راجع فرائد الاصول ١ : ١٧٣ ـ ١٧٦.

(٣) كالسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٦١ ، وقد بالغ في الاستدلال عليه ونسبه إلى المعظم.

(٤) لم نعثر على من نسبه إلى السيّد المرتضى ، نعم حكاه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٦١ ، عن السيّد الاستاذ.

(٥) في ( ع ) و ( م ) زيادة : كثيرا.

٢٤٠