مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

ثمّ إنّ ما أفاده : من أنّ النهي عن التصرّف في ملك الغير على وجه الإطلاق والأمر به مشروط بالدخول ، لا يخلو عن تناقض ، فإنّ النهي على جميع التقادير ينافي الأمر على تقدير خاصّ.

ثمّ إنّه يظهر منه التردّد في صحّة صلاة النافلة حين الخروج ، حيث قال : وعلى مذهب المختار هل يصحّ منه الصلاة المندوبة وما بحكمها موميا حال الخروج؟ وجهان : من ارتفاع الخروج في تلك المدّة ، ومن أنّها كانت مطلوبة العدم (١) ، ثمّ اختار الصحّة.

وفيه أوّلا : أنّه لا وجه للقول بالصحّة على مذاقه ، فإنّ زمان الخروج زمان المعصية فعلا وإن كان زمان النهي سابقا ، كما ستعرف.

وثانيا : لا نعلم وجها لإفراد الصلاة المندوبة بالبحث بعد ما عرفت من أنّ المناط في الصحّة والبطلان على النهي وعدمه ، فلو قلنا بأنّ زمن الخروج ممّا (٢) لا يتعلّق بالمكلّف نهي وليس أيضا زمان المعصية فالصلاة صحيحة سواء كانت واجبة أو مندوبة في سعة الوقت أو في ضيقه إذا لم تكن الصلاة في الدار المغصوبة حال السعة مستلزمة لزيادة التصرّف مثلا ، فالتقييد بالضيق في كلامهم بواسطة أنّ إيجاد الصلاة في السعة فيها يوجب زيادة التصرّف لو كان المقصود إيجادها مشتملة على أجزائها وشرائطها الاختياريّة ، وذلك ظاهر في الغاية.

__________________

(١) الفصول : ١٣٩.

(٢) في ( ع ) : بأنّ في زمن الخروج لا يتعلّق.

٧٢١

خاتمة

قد عرفت في الهداية السابقة ذهاب المشهور إلى القول بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة حال الخروج (١).

وقد يتوهّم التنافي بين ذلك وبين ما يظهر منهم في مسألة الجاهل بحكم الغصب في الشريعة مع تقصيره في التعلّم ، حيث حكموا ببطلان عمله (٢) ولو حين الغفلة عمّا علم به إجمالا في أوّل الأمر أو عند عدم تمكّنه من التعلّم مع ارتفاع النهي عنه حال الغفلة وعدم التمكّن ، فلو كان المدار في صحّة العبادة ارتفاع النهي فلم لا يحكمون بها في الجاهل المزبور؟ وإن كان ارتفاع النهي لا يجدي في الصحّة فلم حكموا بها في الصلاة حال الخروج؟

ويمكن دفع التنافي بإبداء الفارق بين المقامين ؛ فإنّ الوجه في الحكم بالصحّة هو ما عرفت : من كون الخروج على وجه التخلّص مأمورا به فقط ، فلا مانع من الصحّة. والوجه في الحكم بالفساد في مسألة الجاهل هو : أنّ زمان الفعل زمان المعصية ، وكما لا يجوز الأمر بالفعل حال وجود النهي فكذا لا يجوز الأمر حال صدق المعصية وإن كان النهي مرتفعا ، فالحكم بالصحّة فيما تقدّم ليس منوطا بارتفاع النهي فقط ، بل لعدم صدق العصيان في تلك الحالة مدخل في الصحّة ، فلا منافاة بين المقامين.

__________________

(١) راجع الصفحة ٧٠٩.

(٢) انظر الشرائع ١ : ٧١ ، والقواعد ١ : ٢٥٨.

٧٢٢

ونظير الحكم بالفساد إنّما يتمشّى فيما إذا ورد نهي عن الارتماس في قليب ، فإنّ المكلّف بعد ما ألقى نفسه في القليب وحصل له الاضطرار ارتفع النهي قطعا ومع ذلك لا يصحّ منه الغسل ، لأنّ الغسل يقع منه في زمان يتحقّق فيه المعصية وإن كان النهي مرتفعا.

وهكذا الأمر في كلّ الأفعال ، فإنّ التكليف ينقطع بعد اتّصاف الفعل بالوجوب والامتناع بواسطة الاختيار ـ على ما عرفت ـ وإن كان ذلك الامتناع والوجوب مؤكّدا للاختيار الذي هو شرط في الأفعال الاختياريّة المتعلّقة للتكاليف الشرعيّة.

وقد يذكر في مقام الفرق وجوه لا محصّل لها ، والاعتماد على ما قلنا. والله المعتمد في الامور كلّها ، والله العالم.

٧٢٣
٧٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في اقتضاء النهي للفساد فيما إذا تعلّق بشيء

٧٢٥
٧٢٦

وتحقيق البحث في طيّ هدايات :

هداية

في تقديم امور لعلّها تنفع في توضيح المطلوب :

الأوّل : قد عرفت في المسألة السابقة الفرق بينها وبين هذه المسألة على وجه التفصيل ، ومحصّله هو : أنّ المسئول عنه في تلك المسألة هو إمكان اجتماع هذين النحوين من الطلب في مورد واحد وامتناعه ، والمسئول عنه في هذه المسألة هو ثبوت الملازمة بين تعلّق النهي بشيء وبين فساد ذلك الشيء.

نعم ، على القول بامتناع الاجتماع لا بدّ من القول باقتضاء الفساد ، وذلك لا يوجب اتّحاد العنوانين ولا إغناء أحد البحثين عن الآخر ، كيف! واقتضاء النهي الفساد أو جواز اجتماع الأمر والنهي مفهومان مختلفان لا ارتباط لأحدهما بالآخر.

ويظهر ما ذكرنا بملاحظة الفساد في المعاملات ، إذ لا فرق في اقتضاء النهي الفساد بالنسبة إلى العبادات والمعاملات ، فإنّ ذلك على تقدير التعميم بواسطة جهة مطّردة فيهما.

وحينئذ لا حاجة إلى تكلّف الفرق بينهما ، تارة : باختصاص الاولى بما إذا كان بين متعلّق الأمر والنهي عموم من وجه ـ كما أفاده المحقّق القمّي رحمه‌الله (١) ـ واخرى : باختصاص الثانية بما إذا كان المنهيّ عنه عين المأمور به في العنوان ، كما إذا قيل : « صلّ ، ولا تصلّ في الدار المغصوبة » كما أفاده غيره ؛ فإنّ الاختلاف الموردي

__________________

(١) القوانين ١ : ١٥٥.

٧٢٧

لا يصير سببا لاختلاف المسألتين بعد اتّحاد جهة البحث فيهما. نعم ، ذلك يوجب أن يكون الموردان قسمين من مسألة واحدة. وذلك ظاهر في الغاية.

ومن هنا يظهر أنّ المسألة لا ينبغي أن تعدّ من مباحث الألفاظ ، فإنّ هذه الملازمة على تقدير ثبوتها إنّما هي موجودة بين مفاد النهي المتعلّق بشيء وإن لم يكن ذلك النهي مدلولا عليه بالصيغة اللفظيّة ، وعلى تقدير عدمها إنّما يحكم بانتفائها بين المعنيين.

الثاني : ظاهر النهي المأخوذ في العنوان هو النهي التحريمي وإن كان مناط البحث في التنزيهي موجودا ، وذلك لا يوجب تعميم العنوان.

وهل يختصّ البحث بالنهي الأصلي أو يعمّ التبعي أيضا؟ والحقّ هو الثاني ؛ لما قد تقدّم من استدلالهم على فساد الضدّ بتعلّق النهي التبعي الحاصل من الأمر بضدّه الآخر. وذهب المحقّق القمّي رحمه‌الله إلى الأوّل ، فزعم عدم اقتضاء النهي التبعي الفساد قطعا ، لانحصار ما يمكن أن ينازع فيه فيما يترتّب عليه العقاب ، ولا عقاب في التبعي (١). ولا دليل على انحصاره فيه ، وكلمات القوم لا توافقه ، بل إنّما هي آبية عنه وصريحة في خلافه.

الثالث : الشيء المتعلّق للنهي إمّا أن يكون عبادة أو غير عبادة.

أمّا الأوّل ، فقد تطلق ويراد بها معناها المصدري ، ويعبّر عنها بالفارسيّة بـ « پرستيدن » فتشمل بهذا المعنى العبادات بالمعنى الأخصّ التي ستعرفها ولكلّ فعل كان المقصود منه هو الامتثال ، فغير العبادة ما لا يكون المقصود منه الامتثال ، سواء لا يقع به الامتثال لعدم الأمر ـ كالمكروهات والمحرّمات ـ أو لا يقصد به الامتثال وإن أمكن فيه ، كالواجبات التوصّلية إذا وقعت بدونه. وقد يطلق ويراد بها معناها

__________________

(١) انظر القوانين ١ : ١٥٦ ـ ١٥٧.

٧٢٨

الاسمي ، وهي الأفعال التي يقع بها الامتثال (١). والأجود في تحديدها هو ما قدّمنا في بحث المقدّمة : من أنّها ما امر به لأجل التعبّد به.

وقد تعرّف في كلام غير واحد بأنّها ما يتوقّف صحّته على النيّة (٢).

ويمكن أن يناقش فيه : بأنّ الصحّة إن كان المراد بها الامتثال ، فيدخل جميع أفراد العبادة بالمعنى الأعمّ.

وإن كان المراد بها ما يوجب سقوط الفعل ثانيا ، فيخرج العبادات التي لا يجب فعلها ثانيا. ولو فرض اشتماله لها بنوع من العناية ، ففيه : أنّ أخذ « الصحّة » في التعريف يوجب الدور ؛ فإنّ معرفة العبادة موقوفة على معرفة الصحّة لوقوعها جزءا لحدّها ، ومعرفة الصحّة موقوفة على معرفة العبادة ؛ لأنّ الصحّة في العبادات معناها سقوط القضاء لا الصحّة على وجه الإطلاق ، ومعرفة المقيّد موقوفة على معرفة القيد والتقييد.

وإن كان المراد بها مطلق ترتّب الأثر ، فإن اريد من الأثر الامتثال لزم ما عرفت من عدم المنع. ولو سلّم كأن يقال : المراد من الامتثال موافقة الأمر ولا شكّ أنّ موافقة الأمر موقوفة على النيّة ، فليست النيّة ممّا يتوقّف عليها الصحة ، بل التحقيق على ما مرّ من أنّ القربة ليست من وجوه الفعل ، بل هي من الدواعي ، حيث إنّ وجود الفعل المأمور به في الخارج موقوف على النيّة ، فتأمّل. وإن اريد من الأثر سقوط القضاء فقد عرفت أيضا ما فيه. وإن اريد مطلق الأثر فينتقض بالعبادات الصوريّة التي يترتّب عليها الآثار العقليّة بل الشرعيّة أيضا ، كما إذا وقعت في مقام التعليم.

__________________

(١) لم ترد « وهي الأفعال التي يقع بها الامتثال » في ( ط ).

(٢) مثل المحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٥٤ ، والكلباسي في الإشارات : ١٠٣.

٧٢٩

وعرّفها في القوانين بما لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء (١).

واعترض عليه بعض الأجلّة (٢) ، تارة : بانتقاض طرده بتوجيه الميّت إلى القبلة ، فإنّه ليس من العبادات قطعا ، مع أنّ مصلحة الفعل المأمور به غير معلوم انحصارها في شيء.

واخرى : بانتقاض عكسه بنحو الوضوء ، فإنّ مصلحته معلومة ـ وهي الطهارة لأجل الدخول في المشروط بها ـ مع أنّه من العبادات قطعا.

ويمكن توجيه ما أفاده بوجه لا يتوجّه عليه شيء ، كأن يقال : إذا علم انحصار مصلحة الواجب في شيء ، فبعد العلم بوجود تلك المصلحة يعلم بسقوط الطلب ، فيكون الواجب توصّليّا مثل التوجيه إلى القبلة ، فإنّ المصلحة في التوجيه ليس إلاّ حصول التوجّه إلى القبلة ، وبعد العلم بوجود التوجّه لا يبقي للأمر محلّ. وإذا لم يعلم انحصار المصلحة في شيء فلا يعلم سقوط الطلب إلاّ أن يكون الداعي في الإتيان بالفعل هو الأمر ، فإنّه يوجب السقوط قطعا ، وهذا بعينه هي القربة.

وعلى ما ذكرنا لا يرد عليه شيء من الإيرادين ، أمّا الأوّل ؛ فلما عرفت من معلوميّة المصلحة. وأمّا الثاني ؛ فلأنّ الكلام في انحصار المصلحة في شيء معلوم ، والطهارة غير معلومة ، ولذلك كانت عبادة. وقد ذكرنا في مباحث المقدّمة ما ينفع في المقام.

وأمّا الثاني ـ وهو غير العبادة ـ فهو على قسمين : فتارة يكون من الامور التي يتصوّر فيها الاتّصاف بالصحّة والفساد كغسل النجاسات والعقود والإيقاعات ، واخرى يكون من الامور التي لا تتّصف بهما.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٥٤.

(٢) الفصول : ١٣٩.

٧٣٠

والثاني على قسمين : فإنّه تارة يكون من الامور التي يترتّب عليها الآثار الشرعيّة كالغصب والإتلاف ونحوهما ، فإنّه يترتّب عليها الضمان ووجوب الردّ ونحوهما ، وتارة لا يكون منها كشرب الماء مثلا.

وإذ قد عرفت ما ذكرنا : من تقسيم الشيء إلى العبادة وغيرها ـ وقد يسمّى بالمعاملة ـ وتقسيم العبادة إلى الأعمّ والأخصّ ، وتقسيم المعاملة إلى ما يترتّب عليه الأثر الشرعي وإلى غيره ، والأوّل إلى ما يتّصف بالصحّة والفساد وإلى غيره ، فهل المراد بـ « الشيء » الواقع في العنوان جميع هذه الأقسام أو مختصّ ببعضها؟

فنقول : إنّ الظاهر أنّ العبادة بالمعنى الأعمّ داخل في عنوان النزاع ، كالمعاملة التي يترتّب عليها الآثار الشرعيّة مع صحّة اتّصافها بالصحة والفساد. وأمّا المعاملة التي يترتّب عليها الآثار من دون الاتّصاف المذكور فلا كلام فيه ، إذ بعد عدم اتّصاف المحلّ بالصحّة والفساد لا وجه للبحث عن اقتضاء النهي للفساد فيه. ولا ينافي ذلك ترتّب الآثار على الإتلاف واليد والجنايات وأسباب الوضوء ونحوها ، فإنّها تعدّ من الأحكام المترتّبة على وجود هذه الأسباب في الخارج.

ومنه يعلم خروج ما لا يترتّب عليه الأثر الشرعي وإن ترتّب عليه الأثر العقلي أو العادي ، إذ لا يعقل تأثير النهي فيما يترتّب على الشيء عقلا أو عادة.

فالمراد بـ « الشيء » هو العبادة بالمعنى الأعمّ والمعاملة التي تتّصف بالصحّة والفساد شرعا ، وقد عرفت وجه التخصيص في الثاني.

وأمّا وجه التعميم فيه بالنسبة إلى ما يتّصف بالصحّة فأمران : أحدهما عموم الأدلّة ، كما ستعرف. الثاني ما ذكره الشيخ في محكيّ المبسوط في الاستدلال على عدم حصول الطهارة فيما لو استنجى بالمطعوم ونحوه ممّا تعلّق النهي بالاستنجاء عنه ، قال : كلّ ما قلنا لا يجوز استعماله لحرمته أو لكونه نجسا ،

٧٣١

إن استعمل في ذلك ونقي به الموضع لا يجزي ، لأنّه منهيّ عنه ، والنهي يقتضي الفساد (١). وقد نقله في المعتبر (٢) ولم يعترض عليه بخروجه عن محلّ الكلام كغيره ، وإنّما اعترضوا بعدم اقتضاء النهي الفساد.

وأمّا وجه التعميم في العبادة : فلأنّه أفيد وأشمل وإن كان الظاهر من قولهم : « العبادة » هو المعنى الأخصّ ، فيشمل الواجبات التوصّلية ، فيقال : إنّ الغسل إذا وقع على وجه محرّم فهل يقتضي النهي عنه عدم وقوع الامتثال به إذا كان قاصدا للامتثال ، أو لا؟

الرابع : صحيح العبادة قد يفسّر بـ « ما يوافق الأمر » وهو المنسوب إلى المتكلّمين (٣). ولا يراد بالأمر خصوص الإلزامي ، فلا يرد النقض بالعبادة الصحيحة المندوبة. ولا حاجة إلى تبديل « الأمر » بـ « الشريعة » ليرد النقض بالمباح ؛ مع أنّه أيضا في غير محلّه ، لأنّ الموصولة كناية عن العبادة والمباح ليس بها. ولا يلزم استدراك موافقة الشريعة ، لأنّ العبادة كما تتّصف بالصحّة تتّصف بالفساد أيضا.

وقد يفسّر بـ « ما يسقط معه القضاء » وهو المنسوب إلى الفقهاء (٤). ولا يرد أنّ حال الفعل لا ثبوت للقضاء حتّى يسقط به ؛ لأنّ الإسقاط لا يصحّ إطلاقه في مثل المقام ولو بنحو من العناية. والمراد سقوطه على تقدير ثبوته ، فلا يرد النقض بصحيح العيدين والجمعة. ولا بأس به لعدم ظهور المراد.

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٧.

(٢) المعتبر ١ : ١٣٣.

(٣) نسبه في الفصول : ١٤٠ ، وانظر القوانين ١ : ١٥٧ ، أيضا.

(٤) نسبه في القوانين ١ : ١٥٧ ، والفصول : ١٤٠ ، وراجع تفصيله في مفاتيح الاصول : ٢٩٦.

٧٣٢

وأمّا ما يقال : من أنّ المراد بالقضاء هو الإعادة أو الأعمّ منها ، فلا يدفع الضيم ؛ لورود النقض بالعيدين عند ضيق الوقت إذ لا يتصوّر الإعادة أيضا ، وكذا الصوم المندوب في كلّ يوم كالصلوات المبتدأة.

ثمّ إنّهم قد ذكروا أنّ النسبة بين التفسيرين عموم مطلق ؛ لأنّ العبادة التي توجب سقوط القضاء يجب مطابقتها للأمر ، وليس كلّ ما يطابق الأمر مسقطا للقضاء ؛ لأنّ الصلاة بالطهارة المستصحبة مطابقة للأمر وليست مسقطة للقضاء ، لأنّه يجب إذا انكشف الخلاف. وكأنّه مبنيّ على التفكيك بين التفسيرين ، كأن يكون المراد بالأمر في تفسير المتكلّمين الأعمّ من الظاهري والواقعي وفي تفسير الفقهاء خصوص الواقعي.

وتوضيح المقام : أنّ قضيّة أعمّية تفسير الفقهاء أن يكون القيود المعتبرة في التفسير الأوّل معتبرة فيه أيضا لتحقّق الأعمّية بذلك ، والظاهر أيضا (١) فلا بدّ من اعتبار موافقة الأمر في تفسير الفقهاء أيضا كما هو مقتضى القضاء ، فإنّه فرع للأمر.

و « الأمر » في كلّ واحد من التفسيرين يحتمل وجوها :

أحدها : أن يحمل فيهما على الأمر الواقعي الاختياري ، فكلّ فعل يكون مطابقا للأمر الواقعي الاختياري يجب أن يكون مسقطا للقضاء قطعا ، وتنعكس هذه القضية كلّيا من دون إشكال ، فيكون التفسيران متلازمين في الصدق.

وثانيهما : أن يراد بـ « الأمر » فيهما الأعمّ من الاختياري والاضطراري الواقعيّين كما في الصلاة بالطهارة المائيّة الواقعيّة وبالطهارة الترابيّة ، فالتفسيران أيضا متطابقان. أمّا بالنسبة إلى الاختياري فظاهر. وأمّا بالنسبة إلى الاضطراري ـ كما إذا صلّى بالطهارة الترابيّة ـ أمّا عند استقرار العذر وعدم زواله فلإطباقهم على

__________________

(١) كذا ، والعبارة ناقصة.

٧٣٣

إطلاق الصحيح على مثل هذه العبادة. وامّا عند ارتفاع العذر فعلى القول بعدم وجوب الإعادة وحصول الإجزاء ـ كما هو التحقيق ـ فظاهر أيضا إطلاق الصحيح عليها. وأمّا على القول الآخر فلا يتّصف بالصحّة بمعنى سقوط القضاء والفعل ثانيا ، فيكون التفسير الأوّل أعمّ من التفسير الثاني ، لمطابقة تلك العبادة للأمر الاضطراري مع عدم إسقاط القضاء بالنسبة إلى الأمر الواقعي.

وثالثها : أن يحمل « الأمر » فيهما على الأعمّ من الظاهري والواقعي ، فتارة على وجه يعتبر في أحدهما ما يعتبر في الآخر من دون اختلاف فيكون التفسيران متلازمين في الصدق ، واخرى على وجه الاختلاف. فإن اعتبرنا في الأوّل خصوص الواقعي وعمّمنا الثاني إلى الظاهري أيضا يكون الثاني أعم ؛ لصدق الصحيح على الصلاة بالطهارة المستصحبة بالنسبة إلى الأمر الظاهري وعدم صدقه عليها بالمعنى الأوّل. وإن اعتبرنا في الأوّل الأعم من الواقعي والظاهري وفي الثاني خصوص الواقعي يكون الأوّل أعمّ ؛ لصدقه على الصلاة بالطهارة المستصحبة ـ على ما رامه القوم ـ وعدم صدقه عليها بالمعنى الثاني ، لعدم إسقاطه القضاء بالنسبة إلى الأمر الواقعي. وإن عمّمنا الأوّل وخصّصنا الثاني بالظاهري فقط يكون الثاني أعمّ. وبالجملة ، إنّ ملاحظة اختلاف النسبة في الأمر واتّحادها يوجب الاختلاف والاتّحاد.

ولكن الحقّ أنّ أعمّية التفسير الثاني ـ وهو تفسير الفقهاء ـ في غاية البعد ، فإنّ مجرّد مطابقة العبادة للأمر الظاهري لا يوجب اتّصاف الفعل بالصحّة عندهم ، فإنّ الصحيح عندهم هو ما يوجب سقوط القضاء بالنسبة إلى الأمر الواقعي ولو كان اضطراريّا حتّى على القول بلزوم الإعادة بعد زوال العذر ، فإنّ ثبوت الإعادة والقضاء أعمّ من الفساد كما زعمه القائل بعدم الإجزاء في نفس الأمر الواقعي أيضا. والفرق بين ذلك وبين الصلاة بالطهارة المستصحبة في غاية الوضوح بعد

٧٣٤

ما عرفت من أنّ الاستصحاب إنّما هو مأخوذ طريقا ولا تأثير له في الواقع ، وبعد كشف الخلاف لا وجه لالتزام الصحّة. وقد مرّ في مباحث الإجزاء (١) ما يوضّح المقام ، فراجعه.

وأمّا المتكلّمون فيحتمل أن يكون مرادهم من « الأمر » الأعمّ من الظاهري والواقعي من حيث إنّ نظرهم إنّما هو في الفعل من حيث إنّه يترتّب عليه الثواب والعقاب ، وموافقة الأمر الظاهري يحتمل أن يكون منشأ للثواب كما أنّ مخالفته يحتمل العقاب وإن كان التحقيق قد يقضي بخلافه.

ومن هنا يظهر أنّ اختلاف الفقهاء والمتكلّمين في معنى « الصحّة » و « الصحيح » ليس اختلافا في المعنى ، بل معنى « الصحيح » ليس إلاّ ما هو المراد منه في العرف واللغة ويعبّر عنه بالفارسيّة بـ « درست » وحيث إنّ الأنسب بمقاصد الكلام هو البحث عن الفعل من حيث إنّه منشأ للثواب والعقاب فلذلك عبّر أهله عن الصحيح بما يوافق الأمر والشريعة ، والأنسب بمقاصد الفقه هو البحث عن الفعل من حيث إنّه يوجب فراغ الذمّة ولذا عبّر أربابه عنه بما يوجب سقوط القضاء ، فلا وجه لما قد يظهر منهم من الاختلاف بينهم على وجه لا يشعر باتّحاد المعنى حقيقة.

والإنصاف أنّ الثمرة أيضا غير موجودة بينهما ، فإنّ التفكيك في غاية البعد.

ثمّ إنّه لو قلنا بأنّ المناط في الاتّصاف بالصحّة في سقوط القضاء هو مطابقة الأمر الظاهري ، فلا إشكال في صحّة اتّصاف الفعل بالصحّة بعد مطابقته للأمر الظاهري.

وأمّا لو قلنا بأنّ المناط فيه هو مطابقة الأمر الواقعي فهل يصحّ الاتّصاف قبل انكشاف الخلاف أو لا يصحّ؟ وعلى الأوّل فبعد انكشاف الخلاف هل يحكم بالفساد

__________________

(١) راجع الصفحة ١٤٦.

٧٣٥

من حين الانكشاف أو من الأصل؟ وجوه ، أقواها الثاني ؛ لأنّ المفروض إناطة الصحّة بالواقع ، وحين عدم العلم به لا وجه لاتّصاف الفعل بالصحّة. ولا سبيل إلى إحراز المطابقة بأصالة عدم كشف الخلاف ؛ لأنّه على تقديره لا يجدي في الاتّصاف المذكور ، فإنّ ذلك ليس من الآثار المترتّبة على المستصحب شرعا. ولا يجب إتيان الفعل في الظاهر نظرا إلى أصالة عدم المطابقة ، فإنّها مقطوعة بأصالة بقاء الطهارة كما هو المفروض. فالفعل يبقى في مرحلة الظاهر غير محكوم بالصحّة والفساد ، ولا يوجب الإعادة ، لأنّ الموجب هو العلم بعدم الاتّصاف بالصحّة الواقعيّة ، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بعد الكشف فيما قامت الأمارة الظنّية على الواقع. هذا تمام الكلام في الصحّة في العبادات.

وأمّا الصحّة في المعاملات : فقد يقال بأنّها عبارة عن « ترتّب الأثر » (١). وليس على إطلاقه ، لصدقه على الآثار العقليّة المترتّبة على الموضوعات العقليّة ، وعلى الضمان المترتّب على الإتلاف مثلا. وقد يقيّد بكون الأثر « شرعيّا » (٢) فيخرج الآثار العقليّة ، و « مقصودا » (٣) فيخرج مثل الضمان ، فإنّه ليس من الآثار المقصودة نوعا ، ولا عبرة بما إذا اتّفق كونه مقصودا.

ويكفي في شرعيّة الأثر كونه ممّا أمضاه الشارع وإن لم يكن من الآثار المخترعة المجعولة ، كالطهارة المترتّبة على الغسل.

وممّا ذكرنا يعرف الوجه فيما قيل : من أنّ الصحّة عبارة عن ترتّب الأثر

__________________

(١) فوائد الاصول لبحر العلوم : ١٣٠ ، ومناهج الأحكام : ٧٢٠ ، وراجع تفصيله في مفاتيح الاصول : ٢٩٦.

(٢) كما قيّده في القوانين ١ : ١٥٨ ، والفصول : ١٤٠.

(٣) كما في الفصول : ١٤٠ ، وفوائد الاصول لبحر العلوم : ١٣٠.

٧٣٦

مطلقا (١) ، ففي العبادات الأثر المترتّب هو سقوط القضاء ، وفي المعاملات هو التملّك والتذكية والطهارة ونحو ذلك ، غاية الأمر أنّ سقوط القضاء في العبادات من الآثار العقليّة ، والتملّك من الشرعيّة. ولا ينافي ذلك اختلاف الأثر المترتّب على العبادات للأثر المترتّب على المعاملات بالعقليّة والشرعيّة.

وبالجملة ، فلم يعلم أنّ لفظ « الصحّة » و « الصحيح » قد استعمل في هذه الموارد على غير ما يستعمل فيه في العرف. واختلاف الآثار لا يقضي باصطلاح جديد.

تذنيب :

الحقّ أنّ الصحّة والفساد وصفان اعتباريّان ينتزعان من الموارد بعد ملاحظة العقل انطباق المورد لما هو المأمور به وعدمه ، أو لما هو المجعول سببا وعدمه مطلقا ، سواء كان في العبادات أو في المعاملات ، وسواء فسّرت الصحّة بما فسّرها المتكلّمون أو بما فسّرها الفقهاء.

وقيل : إنّهما من الأحكام الوضعيّة مطلقا (٢).

وفصّل ثالث بين العبادات والمعاملات : فزعم أنّهما في العبادات عقليّان وفي المعاملات من أحكام الوضع. ذهب إليه الحاجبيّان (٣) وتبعهما بعض الأجلّة (٤).

وحكي التفصيل بين التفسيرين في العبادات ، فقيل بكونهما حكمين على تفسير الفقهاء ، وأنّهما وصفان اعتباريّان على تفسير المتكلّمين (٥).

__________________

(١) انظر القوانين : ١٥٨.

(٢) انظر تمهيد القواعد : ٣٧.

(٣) لم نعثر عليه.

(٤) وهو صاحب الفصول : ١٤٠.

(٥) لم نعثر عليه.

٧٣٧

ثمّ إنّه ليس الكلام في المقام في أصل مجعوليّة الأحكام الوضعيّة وعدمها ، فإنّ ذلك قد أوردنا الكلام فيها على وجه الاستطراد في مباحث الاستصحاب على وجه لا مزيد عليه ، بل الكلام في المقام إنّما هو في خصوص وصفي الصحّة والفساد على تقدير القول باختلاف حكمي التكليف والوضع ، فإنّهم أيضا اختلفوا في كونهما من الأحكام أو لا.

لنا : أنّ الصحّة في العبادات على تفسير المتكلّمين عبارة عن موافقة الأمر ، وهذا المعنى يحصل بعد إيجاد المكلّف الفعل مطابقا لما هو المأمور به ، من غير حاجة إلى جعل هذا الوصف وإنشائه على وجه يحتاج إليه في إنشاء أحكام التكليف. وعلى التفسير الآخر عبارة عن كون المأمور به بوجه يسقط معه القضاء ، وهو حاصل على تقدير الإتيان بما يعتبر في المأمور به على وجه يكون الفعل من مصاديق الصحيح في العرف من دون احتياج إلى تكلّف الجعل والإنشاء ، نظير حصول الزوجيّة بعد حصول الأربعة من غير حاجة إلى تحصيل الزوجيّة بتحصيل مغاير لتحصيل الأربعة.

وأمّا الصحّة في المعاملات فهي عبارة عن كون المعاملة على وجه يترتّب عليها الأثر المقصود منها شرعا ، وهذه الصفة يصحّ انتزاعها بعد إيجاد المكلّف ما هو سبب في الشريعة لذلك الأثر. وكون الآثار ممّا حكم بترتّبها الشارع لا يقضي بأن يكون الصحّة مجعولة للشارع.

وبالجملة ، أنّ المجعول الشرعي في العبادة ليس إلاّ إيجاب الفعل الكذائي ، وفي المعاملة ليس إلاّ تسبّب العمل الكذائي للأثر الكذائي ، وهذا لا يقضي بمجعوليّة الصفة المنتزعة عن الفعل والعمل على تقدير المطابقة لما هو المجعول الشرعي كما هو الحقّ.

وعلى تقدير الاقتضاء فلا فرق بين العبادة والمعاملة ، فالقول بالتفصيل مطلقا ممّا لا وجه له ، وهو ظاهر.

٧٣٨

واستدلّ من ذهب بأنّهما من أحكام الوضع : بأنّ المدار في شرعيّة الحكم على أن يكون بيانه وظيفة الشارع وإن كان العقل مستقلاّ فيه ، والمقام منه ؛ فإنّ الحكم بترتّب آثار السبب الشرعي عليه حكما وظيفة الشارع ، سواء كان بموافقة الأمر أو إسقاط القضاء أو غيرهما.

وفيه أولا : أنّ المدار في الشرعيّة ليس على البيان الصرف وإن لم يكن مشتملا على الإنشاء كما في الأحكام التكليفية ، فإنّ ذلك مجرّد إخبار عمّا هو ثابت في الواقع. نعم ، ذلك يوجب تصحيح النسبة والإضافة إلى الشارع والشرع فيما إذا لم يكن وجود ذلك الأمر الثابت معلوما بوجه وأين ذلك من الجعل الموجود في أحكام التكليف؟

وثانيا : أنّ الصحّة والفساد ليس بيانهما من وظيفة الشارع على تقدير اكتفاء ما ذكر في الحكم الشرعي ، فإنّ ما هو من وظيفة الشارع هو الإخبار والإعلام عن ترتّب هذه الآثار المخترعة أو غيرها على تلك الأفعال عبادة كانت أو معاملة. وأمّا كون الفعل ممّا يترتّب عليه الأثر أو لا فليس من وظيفة الشارع بيانه. ويظهر وجه التفصيلين وجوابهما ممّا ذكرنا في حجّة المختار ، فتدبّر.

الخامس : ذكر المحقّق القمّي رحمه‌الله تبعا لغيره : أنّ محلّ النزاع إنّما هو فيما إذا ورد النهي مع وجود ما يقضي بالصحّة شرعا ، فلا نزاع فيما ليس فيه جهة صحّة ـ كالزنا والقمار ونحوهما ـ لكونه فاسدا بالأصل (١).

أقول : ما ذكره إنّما يتمّ في العبادات ، إذ لا يعقل العبادة بدون الأمر. وأمّا في المعاملة فلا دليل على تخصيص النزاع بماله جهة صحّة ، بل قضيّة الأدلّة والعناوين عموم النزاع لكلّ ما له الاتّصاف بالصحّة والفساد ، سواء كان له في الشرع جهة

__________________

(١) القوانين ١ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

٧٣٩

صحّة أو لا ، غاية الأمر تطابق الأصل والنهي في الدلالة على الفساد فيما ليس فيه جهة صحّة. وبعبارة واضحة : توهّم الصحّة مع صحّة الاتّصاف بالصحّة يكفي في صحّة النزاع ، فيخرج كثير من المعاصي من جهة عدم الاتّصاف ، كجملة من الأفعال التي تترتّب عليها أحكام شرعيّة ، كالضمان المترتّب على الإتلاف ونحوه.

السادس : قال المحقّق القمّي رحمه‌الله أيضا : الأصل في العبادات والمعاملات هو الفساد ، لأنّ الأحكام الشرعيّة كلّها توقيفيّة ومنها الصحّة ، والأصل عدمها ، وعدمها يكفي في ثبوت الفساد ، وإن كان هو أيضا من الأحكام الشرعيّة ، لأنّ عدم الدليل دليل العدم (١).

وأورد عليه بعضهم : بأنّ الكلام في أنّ النهي هل يقتضي رفع الصحّة عمّا من شأنه الصحّة أو لا؟ وشيء من طرفي الحكم لا يرتبط بالأصل المذكور ، إذ الكلام إنّما هو بعد ثبوت الصحّة ـ كما اعترف به ـ فلا وجه لإيراد الكلام المذكور في مقدّمات المسألة المفروضة. اللهم إلاّ أن يكون ذلك منه حرصا على ضبط المطالب وإيراد المقاصد. نعم ، لو كان مثل القمار وغيره ممّا لم يثبت له جهة صحّة داخلا في النزاع كان لإيراده وجه ، لكونه بيانا للأصل في المسألة بعد عدم دلالة النهي على الفساد (٢).

ثمّ إنّ ما ذكره من أصالة الفساد إنّما يتمّ بإطلاقه في المعاملات ، إذ عند الشكّ في ترتّب الأثر الشرعي على المعاملة بعد عدم دليل يقضي به ، لا إشكال في لزوم الاستناد إلى أصالة عدم الترتّب (٣) ، ولا يراد بالفساد إلاّ ذلك.

__________________

(١) القوانين ١ : ١٥٥.

(٢) انظر الحاشية المسمّاة بالتوضيح المطبوعة في هامش القوانين ١ : ١٥٥.

(٣) العبارة في ( ع ) هكذا : لزوم الاستناد إلى الأصل ، لكون الأصل عدم الترتّب.

٧٤٠