مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

هداية

في بيان الأصل في المسألة والأقوال فيها ، فنقول :

قد عرفت أنّ النزاع إنّما هو في حكم العقل بالملازمة بين وجوب شيء وبين وجوب مقدّماته ، وأنّ وجوب المقدّمة لا يستلزم عقابا ولا ثوابا ، فلا وجه لما يظهر من البعض (١) من التمسّك بأصالة البراءة في رفع الوجوب ؛ لأنّ جريانها إنّما هو فيما يحتمل العقاب ، والمفروض عدمه في المقام.

وأمّا أصالة العدم فيمكن تقريرها بوجه ، كأن يقال : لا شكّ في أنّه قبل حدوث الطلب المتعلّق بالفعل لم يكن مقدّماته مطلوبة ـ ولو على الوجه المتنازع فيه ـ وبعد تعلّقه به نشكّ في تعلّقه بها أيضا ، والأصل يقضي بعدم تعلّقه بها ، فالأصل مع النافين. كذا افيد.

قلت : ولعلّه في غير محلّه ، فإنّ الأصل هذا على تقدير جريانه إنّما هو في غير ما عنون به المبحث ، إذ من المعلوم أنّه لا حاجة في تشخيص الأصل فيها إلى حدوث الطلب وتعلّقه بالفعل ، فكيف بمقدّماته؟

ومن هنا تعرف أنّه لا أصل في المسألة ، فإنّ العقل إمّا أن يكون حاكما بالملازمة بين الطلبين أو لا ، وعلى التقديرين لا شكّ هناك حتّى يجري الأصل (٢) ، كما لا يخفى.

__________________

(١) راجع القوانين ١ : ١٠٤.

(٢) العبارة في ( ط ) هكذا : وعلى التقديرين لا وجه للاستناد إلى الأصل لارتفاع الشك على التقديرين.

٤٠١

وأمّا الأقوال في المسألة ، فعلى ما استقصيناه (١) أربعة :

أحدها : ـ كما هو المنسوب إلى الأكثر (٢) ـ هو الوجوب مطلقا ، وقد نقل الآمدي الإجماع عليه (٣) كما حكي عنه. وناقش فيه المحقّق الخونساري : بأنّ الموجود من عبارة إحكامه دعوى اتّفاق أصحابه والمعتزلة عليه ، ونسب الخلاف إلى بعض الاصوليّة (٤).

وثانيها : النفي مطلقا ، وقد نسبه الآمدي كما تقدّم إلى البعض ، إلاّ أنّ المحقّق المذكور نفاه. والظاهر من عبارة المنهاج وجود القائل به (٥) ، ويحتمله عبارة المختصر (٦)(٧).

وثالثها : التفصيل بين السبب وغيره ، فقالوا بالوجوب في الأوّل وبعدمه في الثاني. وقد نسبه البعض (٨) إلى الواقفيّة ، واختاره صاحب المعالم (٩). وقد نسبه

__________________

(١) في ( ط ) : ما استقصاه بعض الأساطين.

(٢) نسبه المحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٠٣.

(٣) الإحكام في اصول الأحكام ١ : ١٥٣.

(٤) حاشية شرح مختصر الاصول ( مخطوط ) الورقة : ١٣٤ ، وإليك نصّه : وقد نسب إلى الآمدي ادّعاء الإجماع عليه ، وهو فرية ، بل ادّعى في الإحكام : اتفاق أصحابه المعتزلة عليه ، ونسب الخلاف إلى بعض الاصوليّة.

(٥) حاشية شرح مختصر الاصول ( مخطوط ) الورقة : ١٣٤ ، وإليك نصّه : وثانيها عدم الوجوب مطلقا ، ولم يظهر قائل به على التعيين ... لكن سينقل المحشّي وجود القول به عن المنهاج.

(٦) راجع المختصر وشرحه للعضدي : ٩٠ ـ ٩١.

(٧) في ( ط ) زيادة : على ما حكي عنها.

(٨) القوانين ١ : ١٠٤.

(٩) المعالم : ٦١ ـ ٦٢.

٤٠٢

العلاّمة (١) إلى السيّد ، وعبارته على ما نقلناها عن الذريعة (٢) ممّا لا تأباه بحسب الأنظار البادئة ، إلاّ أنّ مساق كلامه فيما بعده ـ على ما يظهر للمتأمّل ـ يأباه ، كما تفطّن له صاحب المعالم (٣) ، وقد اعترضه (٤) الكاظمي في شرح الوافية (٥) والمحصول (٦). وفيما ذكرنا سابقا غنية عن إطالة الكلام في المقام.

ورابعها : التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره. وهو المنقول عن الحاجبي (٧) ، وتبعه العضدي (٨) في ذلك. والله الهادي.

__________________

(١) نهاية الوصول : ٩٤.

(٢) الذريعة ١ : ٨٣.

(٣) المعالم : ٦.

(٤) في ( ط ) زيادة : النحرير السيّد.

(٥) الوافي في شرح الوافية ( مخطوط ) : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٦) لا يوجد لدينا ، وحكاه عنه المحقّق النراقي في المناهج : ٤٩.

(٧ و ٨) انظر المختصر وشرحه للعضدي : ٩٠ ـ ٩١.

٤٠٣
٤٠٤

هداية

في ذكر حجج القائلين بالإثبات

فنقول : حجّة القول بالوجوب وجوه :

أحدها ـ وهو أسدّها وأقومها ـ : ما احتجّ به الاستاذ ـ دام بقاه ـ من شهادة الوجدان السليم والطبع المستقيم بذلك ، فإنّ من راجع وجدانه وأنصف من نفسه مع خلوّ طبيعته عن الاعوجاج الفطري وبراءة قريحته عن اللجاج الطبيعي ، يحكم حكما على وجه الجزم واليقين بثبوت الملازمة بين الطلب المتعلّق بالفعل وبين الطلب المتعلّق بمقدّماته على الوجه الذي أشرنا إليه في تحرير محلّ الكلام.

ونزيدك توضيحا في المقام : بأنّ المدّعى ليس تعلّق طلب فعلي بالمقدّمة على وجه تعلّقه بذيها ، كيف! والضرورة قضت ببطلانه ، لجواز الغفلة عن المقدّمات بل واعتقاد عدم التوقّف بينهما ، بل المقصود أنّ المريد للشيء لو راجع وجدانه يجد من نفسه حالة إجماليّة طلبيّة متعلّقة بمقدّماته على وجه لو حاول كشف تلك الحالة وتفصيلها لكان ذلك في قالب الأمر والطلب التفصيلي ، كما يرى مثل ذلك من (١) محبوبيّة إنقاذ الولد وإن لم يكن عالما به بل وبالنسبة أيضا. فمجرّد الذهول عن الشيء لا يقضي بسلب جميع أنحاء الوجود عن الشيء ، وكم من امور مركوزة في الخاطر مع انتفاء الالتفات إليه حتّى أنّ تلك الحالة حالة يمكن النزاع في كونها من سنخ الطلب

__________________

(١) في ( م ) : في.

٤٠٥

أو لا ، على ما نبّهنا عليه سابقا. مع أنّ ثمرة الكلام في أوامره تعالى ، ومن المعلوم انتفاء الاحتمال في حقّه تعالى وإن كان عنوان البحث يعمّه وغيره أيضا ، كما في سائر المباحث الاصوليّة. فما يمكن أن يكون ربطا بين المقدّمة وذيها من حيث الطلب هو ما ذكرناه وإن اختلفت شئونه وأطواره في الإجمال والتفصيل ، فتارة يتقمّص قميص الوجود الأصلي التفصيلي ويظهر في مظاهر الطلب والأمر من الامور التي يكشف عنه ، وأخرى يتجلّى (١) بكسوة الوجود التبعي الإجمالي ، وهو في هذه الحالة ممّا لا يعقل أن يكون له عبارة مستقلّة.

ولعلّ ما ذكرنا هو مراد من ادّعى الضرورة في ذلك ، كما نقل عن المحقّق الدواني (٢) ، وإلاّ فالظاهر أن ليس المراد بها ضرورة الدين على نحو ما يدّعى في أمثال المقام. ومع ذلك فلعلّ الحكم بالوجوب ليس بهذه المكانة (٣) من الظهور ، كما نبّهنا عليه فيما تقدّم (٤).

ولا أقول : إنّ الحكم بثبوت الملازمة يحتاج إلى وسط في التصديق ، كيف! وقد قلنا بشهادة الوجدان بذلك ، ومن المعلوم أنّ الوجدانيّات من القضايا الضروريّة ، بل المقصود أنّ الحكم بذلك ليس على وجه يعدّ منكره مكابرا لاحتمال تطرّق الشبهة فيه كثيرا ، بخلاف غيره ، ضرورة اختلاف مراتب المعلومات شدّة وضعفا وإن كانت من الوجدانيّات. وهذا هو المراد ممّا قرع سمعك فيما تقدّم أنّ الحكم المذكور من الأحكام النظريّة. فتدبّر.

__________________

(١) في ( م ) : يتحلّى.

(٢) نقله المحقّق النراقي في مناهج الأحكام : ٤٩.

(٣) في ( ع ) و ( م ) : المثابة.

(٤) تقدم في الصفحة : ٣٥٢.

٤٠٦

الثاني : اتّفاق جميع أرباب العقول على ذلك على وجه يكشف عن ثبوت المتّفق عليه بحسب الواقع. ولعلّ ذلك مراد من ادّعى الإجماع على ذلك ، نظير ما قد ادّعاه بعض أساطين المعقول من إجماع أرباب الملل على حدوث العالم بالحدوث الزماني وكونه مسبوقا بالعدم الواقعي (١).

ومنه يظهر فساد ما ربّما يتخيّل : من أنّ الإجماع في المسألة الاصوليّة غير ثابت الحجيّة ، إذ بعد الغضّ عن أنّ الإجماع في محلّه حقيقة لا وجه للمنع عن حجيّته وإن كانت مسألة أصوليّة.

يرد عليه : أنّ ذلك إنّما يتّجه إذا كان المراد هو الإجماع المصطلح. وأمّا على الوجه الذي قرّرناه فلا مساق للكلام المذكور بوجه.

الثالث : ما احتجّ به جماعة ، أوّلهم ـ على ما هو المنسوب إليه ـ أبو الحسين البصري (٢) ، وتبعه في ذلك من تأخّر عنه (٣) ، وهو : أنّ المقدّمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها ، فحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بالمحال ، وإلاّ يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا وقد فرضناه كذلك ، وبطلان اللازمين ممّا لا كلام فيه ، فكذا الملزوم ، فيجب أن تكون واجبة.

والمراد من عدم الوجوب المذكور في المقدّم في الشرطيّة الاولى أعمّ من أن يكون بفقد الجنس والفصل ـ أعني المنع من الترك ـ أو بفقد الفصل فقط ، والمراد من الجواز المأخوذ في التالي فيها هو مجرّد اللاحرج الملحوظ في

__________________

(١) انظر گوهر مراد : ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٢) نسبه إليه الآمدي في الأحكام ١ : ١٥٣.

(٣) منهم المحقّق في المعارج : ٧٤ ، والعلاّمة في نهاية الوصول : ٩٤ ، ومبادئ الوصول : ١٠٧ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٨٤.

٤٠٧

أفعال الصبيان والمجانين ، فإنّ ارتفاع الوجوب (١) يوجب عدم الحرج في الترك ، ضرورة استحالة ارتفاع النقيضين ، فالترك عند عدم الوجوب يكون ممّا لا حرج فيه.

وبذلك يندفع ما عسى أن يتوهّم : من أنّ عدم الوجوب لا يوجب الجواز على وجه الإباحة الشرعيّة ، لأنّ اللابدّية التي مرجعها إلى معنى المقدّمة يمنع من ورود حكم شرعي عدا الوجوب ـ ولو كان إباحة ـ على المقدّمة إذا كان ذوها موردا للوجوب الشرعي ـ على ما قرّرنا في دفع بعض الثمرات المتقدّمة ـ فالملازمة في الشرطيّة الاولى ممّا لا غبار عليها. وما اضيف إليه الظرف في قوله : « فحينئذ » يحتمل وجوها :

أحدها : ما استفاده صاحب المعالم ، وهو الجواز (٢). ومن هنا اورد عليه : بأنّ الإيجاب لا يعقل أن يكون مؤثّرا في القدرة.

وثانيها : ما نسبه البعض إلى السبزواري (٣) ، وهو الترك. والظاهر أنّ مجرّد الترك لا يلازم اللازمين المذكورين ؛ إذ الترك على تقدير الوجوب بمنزلة ترك نفس الواجب ، فيختار ارتفاع التكليف ولا يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا ، لأنّ ارتفاعه إمّا بالامتثال أو بتحقّق المعصية ، وعند الوجوب إنّما يرتفع بواسطة تحقّق العصيان.

وثالثها : أن يكون المراد هو الترك على وجه الجواز. وهو الظاهر من الدليل ، فيترتّب عليه أحد المحذورين بحسب الظاهر ، لأنّ جواز ترك المقدّمة مع وجوب

__________________

(١) في ( ع ) ، ( م ) بدل « الوجوب » : الحرج.

(٢) المعالم : ٦٢ ـ ٦٣.

(٣) حكى عنه في ضوابط الاصول : ٨٤.

٤٠٨

ذيها عند الترك يوجب التكليف بما لا يطاق على تقدير ثبوت التكليف ، وخروج الواجب عن وجوبه على تقدير عدمه. كذا افيد (١).

قلت : الظاهر منه ـ دام بقاه ـ إرادة توجيه الدليل على وجه لا يعدّ هجرا من الكلام ، وإلاّ فالحقّ أنّ ذلك لا يجدي في دفع الاعتراض.

أمّا أوّلا : فلأنّ تفسير الجواز بمجرّد اللاحرج ـ بعد أنّه خلاف الظاهر من « الجواز » المأخوذ في الدليل فإنّه ظاهر في الجواز بمعنى الترخيص ـ ممّا لا وقع له ، فإنّ ذلك يوجب خلوّ الواقعة عن الحكم ، والتزامه لعلّه ليس في محلّه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ تقييد الترك بالجواز بمعنى اللاحرج لا يجدي في ترتّب أحد المحذورين ، لأنّ الوجه في لزوم الشقّ الثاني من الترديد في الحقيقة هو التناقض الثابت على تقدير الترخيص ووجوب الفعل ـ كما لا يخفى على الملاحظ في لبّ الدليل ـ وعلى تقدير انتفاء الحكم الترخيصي لا يلازمه ، لأنّ ارتفاع الوجوب إنّما هو بواسطة تحقّق المعصية عند ترك المقدّمة ، وذلك ظاهر عند التأمّل.

وكيف كان ، فقد أجيب عن الدليل تارة بعد اختيار الشقّ الأوّل من الترديد بمنع الملازمة ، إذ الممتنع إنّما هو الإتيان بذي المقدّمة بشرط عدم المقدّمة لا في حال عدمها ، ضرورة ثبوت الفرق بين المشروطة بشرط الوصف وبينها ما دام الوصف ، كما في تكليف الكفّار بالفروع حال الكفر. وتارة اخرى بمنع بطلان التالي ، نظرا إلى ما اشتهر : من أنّ الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فإنّ المكلّف بالفعل بعد ما أقدم على ترك المقدّمة وصار بنفسه سببا لامتناع الفعل في حقّه لا مانع من تعلّق التكليف به ووجوبه عليه.

وبعض المحقّقين قد تكلّف في دفعه وجها آخر ، حيث أفاد في حاشيته على المعالم ـ بعد ما أورد على نفسه : بأنّ الامتناع من أيّ جهة كان يوجب قبح الطلب

__________________

(١) انظر إشارات الاصول : الورقة ٧١ ، وضوابط الاصول : ٨٧.

٤٠٩

من الحكيم ـ أنّ أوامر الشارع للمكلّفين (١) ليس على قياس (٢) أوامر الملوك والحكّام الّذين غرضهم حصول نفس الفعل ودخوله في الوجود لمصلحة لهم في وجوده حتّى إذا فات وامتنع حصوله كان طلبه سفها وعبثا ، بل أوامر الشارع من قبيل أوامر الطبيب للمريض : أنّ اللائق بحاله كذا ، وإن فعل كذا كان أثره كذا ، وإن فعل بخلافه كان أثره بخلافه. وهذا المعنى باق في جميع المراتب لا ينافيه عروض الامتناع بالاختيار للفعل ، إذ بعد ذلك أيضا يصحّ أن يقال : « إنّه فات عنه ما هو لائق بحاله » ويترتّب على ذلك الفوت الأثر الذي كان أثره ، وليس معنى كونه مكلّفا حينئذ إلاّ هذا ، ولا يتعلّق للشارع غرض بحصول ذلك الفعل ووجوده حتّى قيل : إنّه لا يتصوّر حينئذ (٣) ، انتهى ما أفاده.

والجواب : أمّا عن الأوّل : فبأنّ الفرق بين المشروطتين إنّما يجدي فيما إذا كان الإتيان بالفعل في الآن الثاني من زمان الامتناع ممكنا ، كما إذا كانت المقدّمة الّتي صار تركها موجبا لامتناع الفعل من الأفعال الاختياريّة مع بقاء الاختيار بالنسبة إليها أيضا ، كما في مثال تكليف الكفّار. وأمّا إذا كانت المقدّمة المتروكة ممّا لا يتمكّن المكلّف من الإتيان بها في الآن الثاني من الامتناع ـ كما هو المفروض في الدليل ـ فلا وجه للفرق بين المشروطتين.

وتحقيق ذلك : أنّ ملاك الفرق بينهما إنّما هو بواسطة إمكان انقلاب الوصف إلى نقيضه في المشروطة ما دام الوصف ، وامتناعه في الاخرى. وبعد ما فرضنا من أنّ الكلام في المقدّمة المتروكة الّتي لا يمكن للمكلّف الإتيان بها وإدخالها في الوجود

__________________

(١) في ( م ) : على المكلّفين.

(٢) في ( ع ) : على طرز.

(٣) حاشية سلطان العلماء : ٢٨٠.

٤١٠

ولو بالعرض فلا وجه للفرق المذكور ، ألا ترى أنّ الوجه المذكور لا ينهض مصحّحا للقول بتكليف المرتدّ الفطري بناء على عدم قبول التوبة منه.

ومن هنا ينقدح فساد ما قد يظهر من المعالم وبعض الناظرين في كلامه : من أنّ الكلام إنّما هو فيما هو مقدور بالنظر إلى ذات المكلّف به والزمان والمكان وسائر الامور الخارجة سوى إرادة المكلّف واختياره ، فكيف يصير ممتنعا امتناعا مانعا عن تعلّق التكليف بمجرّد إرادته واختياره؟ كيف! ولو كان كذلك لما تحقّق عاص بترك الواجبات مثلا ، إذ الفعل ممتنع فيه بالنظر إلى إرادته واختياره عدمه (١) ، انتهى.

وليت شعري! فهل يذهب وهم إلى أنّ مدار الاستدلال على ترك مقدّمة اختياريّة يمكن الإتيان بها في الآن الثاني ، ومع ذلك اختلط عليهما الأمر؟ فتدبّر.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من تسليم ذلك في مثل تكليف الكفّار بالفروع إنّما هو على سبيل التنزّل وفي بادئ النظر ، وإلاّ فالنظر الدقيق ممّا يحيل ذلك فيه أيضا.

وبيانه : أنّ إمكان الفعل حال عدم المقدّمة إن اريد به الإمكان الذاتي مع قطع النظر عن وقوعه في الوجود ، فلا يفرق ذلك بين أن يؤخذ بشرط الوصف أو في حال الوصف ، ضرورة اجتماع الإمكان الذاتي مع الامتناع العرضي. وإن اريد به الإمكان بمعنى وقوعه في الخارج ووجوده فيه فالضرورة قاضية بامتناع الوجود حال العدم ، وإنّما الفرق إنّما هو بالنسبة إلى الآن الثاني من زمان الامتناع. وذلك ظاهر في الغاية.

وأمّا الجواب عن الثاني : فيتوقّف على تحقيق القول فيما تداول بينهم ، من أنّ الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار. فقيل بالمنافاة مطلقا (٢). وقيل بها فيما إذا لم يكن

__________________

(١) حاشية سلطان العلماء : ٢٨٠.

(٢) لم نعثر على قائله.

٤١١

الاختيار باقيا ، كما في تكليف الكفّار (١). وقيل بالتفصيل بين الخطاب فقال بها ، والعقاب فقال بعدمها (٢).

والتحقيق أن يقال : هذه القضيّة إنّما اشتهرت بين العدليّة كقضيّة اخرى قائلة : بأنّ الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار. وهاتان القضيّتان إنّما سيقتا (٣) في قبال الأشعري القائل بأنّ بعد وجود العلّة التامّة لأحد طرفي الممكن لا يعقل القول ببقاء الاختيار لامتناع التخلّف ـ ومن هنا التجأ بعض الأخباريّة من أصحابنا (٤) إلى جواز التخلف ـ وعند عدمها يمتنع وجود الفعل لبطلان الأولويّة الذاتيّة ، فإنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد وما لم ينسدّ جميع أنحاء وجوده ولم يمتنع لم يعدم. والمقصود منها هو : أنّ الامتناع الحاصل بسبب اختيار الفاعل أحد طرفي الفعل الممكن صدوره وعدمه منه لا ينافي كون الفعل اختياريّا للمكلّف والفاعل ، فيعاقب عليه أو يثاب لأجله ؛ ومن هنا تراهم يعقّبونه بقولهم : « بل يؤكّده » فإنّ التأكيد إنّما هو بواسطة أنّ الامتناع إنّما هو بواسطة اختيار المكلّف صدور الفعل ، ولا مدخل لذلك فيما نحن بصدده.

وتوضيحه : أنّ هناك مطلبين ، أحدهما : أنّ الفعل الاختياري هل يخرج عن كونه اختياريّا بواسطة عروض الامتناع عليه حين اختيار الفاعل أحد طرفي الفعل أولا؟ والثاني : أنّ بعد عروض الامتناع له ولو بواسطة الاختيار هل يصحّ التكليف بذلك الفعل الممتنع أولا؟ والقضية المذكورة إنّما هي مسوقة في المقام

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) قاله القزويني في ضوابط الاصول : ٨٢ و ١٥١ ، والسيد الكاظمي في الوافي : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٣) في ( ط ) : إنّما هما مسوقتان في كلامهم.

(٤) راجع لما قاله الأشاعرة وما التجأ إليه بعض الأخبارية ، الفوائد المدنيّة : ٢٤٤.

٤١٢

الأوّل ، ولا مدخل لها بالمقام الثاني ، كيف! وقضيّة القواعد العدليّة فسادها في الثانية مع أنّها موروثة عن الأساطين ، بل وعليه أساس اصول الدين.

وبالجملة ، أدلّة امتناع التكليف بالمحال قائمة فيها من لزوم السفه على الآمر ، بل عدم تأتّي الطلب مع العلم بامتناع المأمور به ، وتقبيح العقلاء لمن طلب أمرا ممتنعا من غير انتظار منهم لأن يستعلم بأنّ الامتناع إنّما نشأ من المأمور أو من غيره ، ولو اريد استكشاف ذلك لكان المستكشف ملحقا بأصحاب السوداء ويكون كلامه من مقالة أرباب الجنون ، فإنّه فنون.

لا يقال : إنّ الدليل على اعتبار الإمكان في المأمور به ليس إلاّ أن يكون الفعل متعلّقا لقدرة المكلّف ، والمفروض أنّ القدرة باقية بعد الاختيار ، إذ لولاه لزم خروج الفعل بعد صدوره عن مقدرة المكلّف.

لأنّا نقول : ذلك كلام خال عن التحصيل جدّا ، فإنّ الدليل على اعتبار القدرة في الفعل المأمور به هو العقل ، وهو قاض باعتبار صفة في الفعل على وجه يمكن أن يكون ذلك متعلّقا لاختيار المكلّف أحد طرفيه بالفعل ، وهذا هو المراد بالقدرة. ولو سلّم أنّ بعد الاختيار لا يخرج الفعل عن المقدوريّة ـ كما هو المذكور في الاعتراض ـ فلعلّه بواسطة أنّ المراد بها ليس ما ذكرنا ، وإلاّ فعلى ما عرفت المراد منها كيف يعقل القول ببقاء القدرة بعد الاختيار وعروض الامتناع ولو بواسطة الاختيار؟

ومن هنا ينقدح لك أنّ القولين الآخرين (١) في المسألة ممّا لا مساق لهما.

أمّا الأوّل : فلأنّه مبنيّ على اشتباه نبّهنا عليه في الجواب عن الاعتراض الأوّل.

__________________

(١) في ( م ) : الأخيرين.

٤١٣

وأمّا الثاني : فلأنّ العقاب على فعل غير مقدور ممّا لا يستحسنه العقلاء. نعم ، لو اريد بالعقاب هو العقاب بواسطة تفويته التكليف وتسبيبه لعروض الامتناع لم يكن بعيدا عن الصواب.

فالّذي يتأتّى على مذهب العدليّة هو القول الأوّل ، ولا وجه للمنع عن بطلان التالي في الاستدلال المذكور ، كما هو ظاهر.

وأمّا الجواب عمّا تكلّفه المحقّق المزبور (١) ففي غاية الظهور ، إذ على ما زعمه لا فرق بين التكليف بالامور المستحيلة الذاتيّة وبين المطالب الممتنعة بالعرض ، فإنّ بيان المصالح المودعة في الأشياء لا يختصّ بالأمور الممكنة.

لا يقال : ذلك بواسطة إمكان صدورها عن المكلّفين.

لأنّا نقول : وهذا هو الوجه في امتناع التكليف في الممتنعات العرضيّة أيضا ، لعدم إمكان صدورها عنهم ، على أنّ الضرورة تشهد بأنّ أوامر الله تعالى ليست من قبيل أوامر الطبيب على وجه تكون خالية عن المولويّة ، بل التحقيق أنّها من قبيل أوامر المولى الطبيب بالعبد (٢) المريض ، ولا يعقل إنكار الطلب رأسا في الأوامر الشرعيّة. ولعلّ الّذي دعاه إلى ذلك هي الشبهة المعروفة في تصحيح تكليف الكفّار والعصاة ، حيث إنّه بعد العلم بعدم وقوع المكلّف به في الخارج لا وجه للتكليف والطلب. وقد تعرّض أصحابنا لدفعها في الكتب الكلاميّة (٣) بما لا مزيد عليه.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إن أراد المستدلّ من بقاء التكليف حال ترك المقدّمة كون الفعل بحيث ينتزع منه وصف الوجوب وإن لم يكن موردا للطلب الفعلي

__________________

(١) تقدّم كلامه في الصفحة : ٤٠٩ ـ ٤١٠.

(٢) كذا ، والمناسب : للعبد.

(٣) راجع كشف المراد : ٣٢٢ ـ ٣٢٤.

٤١٤

على وجه يستلزم تركه العقاب حال عدم المقدّمة فهذا ضروري الوجود ، فنحن نختار بقاء التكليف ولا يلزم محذور ، إذ المرجع فيما ذكرنا إلى أنّ وجوب الفعل الموقوف على المقدّمة ممّا لا يختلف بالنسبة إلى وجود المقدّمة المتروكة وعدمها. وليس ذلك من التكليف بالممتنع ، بل هو تكليف بأمر مقدور عرضه الامتناع ، فكما أنّ هذه الصفة تنتزع من الفعل حال الإتيان بالمقدّمة بل ونفس الفعل ، فكذا ينتزع منه حال عدمها. ولعلّه إلى ذلك يشير عبارة المعالم من قوله : « بعد القطع ببقاء الوجوب المقدور كيف يكون ممتنعا » (١).

وإن أراد أنّ الطلب الفعلي موجود حال عدم المقدّمة نحو وجوده قبل زمان العدم عند الاقتدار عليه ، فنحن نختار عدم البقاء نظرا إلى امتناع صدور هذا النحو من التكليف ـ على ما عرفت في الجواب عن الاعتراض السابق ـ ولكن نمنع لزوم اللازم ، فإنّ ذلك يلزم لو قلنا بأنّ عدم المقدّمة تكشف عن عدم كون ذيها مطلوبا عند العدم فيكون الواجب مشروطا ، أو قلنا بانخلاعه عن وصف الوجوب مطلقا. ونحن في سعة من ذلك ، فنقول بوجوبه على الإطلاق وبعدم انخلاعه عن صفة الوجوب مع سقوط الأمر ، لأنّ سقوط الأمر تارة بحصول الامتثال ، واخرى بحصول العصيان. والثاني يتحقّق عند ترك المقدّمة ، فلا يلزم المحذور مع سقوط الأمر والتكليف بمعنى الطلب الفعلي ، وذلك ظاهر.

فإن قلت : قبل زمان الفعل كيف يتحقّق المعصية ولو مع ترك المقدّمة؟ فإنّ التارك للسير إلى الحجّ قبل مجيء العرفة لا يعقل أن يكون مخالفا للأمر بالوقوف فيها ؛ لأنّه موقّت بوقت مخصوص.

قلت : لا غبار على ذلك بعد ما مرّ مرارا ، من أنّ المدار في طريق الإطاعة

__________________

(١) المعالم : ٦٢.

٤١٥

والعصيان هو العرف وطريقة العقلاء في استخدام الموالي عبيدهم ، ونحن بعد ما راجعناهم نجدهم مطبقين على عقاب عبد مأمور بشيء في وقت مع ترك مقدّمته قبل ذلك الوقت ، بل الانتظار إلى ذلك الوقت إنّما يعدّ لغوا عندهم فيما هو المفروض من امتناع الفعل بعده.

نعم ، فيما لو كان الفعل محتمل الحصول بعد ترك المقدّمة كان الوجه هو عدم الاستحقاق إلى أن يحصل الامتناع ، إمّا بحضور الوقت أو بغيره. لكن قد عرفت أنّ الكلام ليس على هذه الملاحظة.

وقد يقال : إنّه يصدق على التارك للمقدّمة قبل حضور زمان ذيها أنّه حقيقة ترك نفس الفعل في وقته فليس ذلك من قبيل تقدّم المعلول على العلّة ، فيصدق على من لم يخرج مع القافلة الأخيرة أنّه ترك الحجّ في ذي الحجّة.

وفيه نظر ؛ لأنّ الفعل الملحوظ وقوعه في وقت تارة يكون انتفاؤه بواسطة انتفاء الوقت ـ إمّا لعدم حضوره ، وإمّا لانقضائه ـ وتارة يكون بواسطة انتفاء نفس الفعل في ذلك الوقت. ولا شكّ أنّ عدم الفعل المذكور بواسطة عدم حضور زمانه ، فلا يصحّ استناده حقيقة إلى اختيار المكلّف ، لعدم اقتداره عليه بعد انتفاء القيد والوقت ، فيكون العدم مستندا إلى ما هو الأسبق من أجزاء العلّة في العدم ، وهو انتفاء الوقت.

نعم ، بعد حضور الوقت تنقلب النسبة فيصير الترك مستندا إلى الاختيار ، كما هو الشأن في أجزاء العلّة فيما إذا انقلبت نسبة الوجود والعدم فيها ، بأن ينعدم الموجود بعد وجود المعدوم ، وذلك ظاهر.

فالحقّ في الجواب عن الشبهة المذكورة هو ما قلنا : من أنّ العقلاء يستحسنون المذمّة على عبد ترك المقدّمة مع امتناع ذيها في حقّه وإن لم يكن وقت الفعل حاضرا ، ولا حاجة إلى صدق قولنا : إنّه ترك الواجب حقيقة ، حتّى يرد عليه ما ذكرنا.

٤١٦

ويمكن أن يجاب عن الدليل بوجه أخصر ، كأن يقال : المستدلّ إن أراد إثبات وجوب المقدّمة مع الحكم بعدم وجوب ذيها فهو ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ، وإن كان قد يظهر من المدارك (١) والكفاية (٢) تبعا للأردبيلي (٣) حيث حكموا بعقاب الجاهل على ترك الفحص والتعلّم دون الواقع. ومن هنا أورد عليهم المحقّق الجمال (٤) : بأنّه يلازمه القول بوجوب المقدّمة دون ذيها.

وبالجملة ، فإنّ ذلك وإن أمكن القول به عقلا على أن يكون العقاب على الحركة الصادرة من المكلّف ابتداء كما في التوليديّات ، إلاّ أنّه خروج عن الظاهر ومصير إلى خلافه مع انتفاء دلالة عليه. على أنّ التحقيق أيضا هو استناد الأفعال التوليديّة إلى المكلّف نحو استناد غيرها من الأفعال الصادرة لا بواسطة.

والظاهر أنّ المستدلّ أيضا لم يكن مقصوده ذلك ، حيث إنّه بصدد إثبات وجوب المقدّمة بواسطة وجوب ذيها وإن كان يعطيه ظاهرا لدليل ؛ كذا افيد ، فتأمّل.

وإن أراد المستدلّ إثبات وجوب المقدّمة مضافا إلى وجوب ذيها فالدليل لا ينهض بإثباته ، لجريان الدليل على تقدير الوجوب أيضا ، كأن يقال : لو وجبت المقدّمة فلو تركها عصيانا ، فإمّا أن يكون الوجوب باقيا أو لا ، وعلى التقديرين يلزم المحذوران ، على ما عرفت من لزوم كلّ منهما على تقدير. ولا فرق في ذلك إلاّ فيما لا تأثير له في المقام من استناد الترك تارة إلى سوء الاختيار ، واخرى إلى غيره. وقد عرفت فساد الفرق المذكور بما لا مزيد عليه ، فالحكم بوجوب المقدّمة لا يؤثّر في دفع شيء من المحذورين.

__________________

(١) المدارك ٢ : ٣٤٥.

(٢) لم نعثر عليه في الكفاية ، نعم ذكره في الذخيرة : ١٦٧.

(٣) مجمع الفائدة ٢ : ١١٠.

(٤) الحواشي على شرح اللمعة : ٣٤٥.

٤١٧

الرابع من الأدلّة : ما استند إليه بعضهم (١) ، من أنّها لو لم تجب لجاز التصريح بجواز تركها ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة ، فلأنّ انتفاء الوجوب إمّا بانتفاء فصله أو جنسه أيضا ، وعلى التقديرين يجوز الترك ، لأنّ جواز الترك يعمّ الأحكام الأربعة (٢).

وأمّا القول بالجواز عقلا لا شرعا ـ بعد تسليم التفكيك بين الحكمين ـ ممّا لا يجدي ، لما عرفت : من أنّ المقدّمة شرعا لا بدّ من أن تكون محكومة بأحد الأحكام الخمسة ، إذ لا وجه لأن يكون مثل أفعال البهائم والمجانين ممّا لا حكم له.

وأمّا بطلان التالي ، فلأنّه لا يستريب أحد في قبحه من الحكيم.

والجواب عنه : أنّ التصريح بجواز الترك يقع على وجهين : فتارة يكون على وجه يناقض التصريح بوجوب ذي المقدّمة ، واخرى على وجه لا يعدّ مناقضا للخطاب الدالّ على وجوب ذي المقدّمة ، فالتالي في الشرطيّة المذكورة بطلانه مسلّم على الوجه الأوّل ، لكن لا يستلزم الوجوب ، لأوله إلى عدم جواز التصريح بعدم وجوب الفعل بعد التصريح بوجوبه ، لاستلزام ذلك القبح على الحكيم ، وذلك أمر ضروري لا ينكر. ولا نسلّم (٣) بطلانه على الوجه الثاني بعد قطع النظر عمّا قدّمنا لك من حكم الوجدان الصحيح بوجوب المقدّمة. وإن أراد المستدلّ بذلك ما قلنا من حكم الوجدان فهو في محلّه ولا غبار عليه.

الخامس : ما تمسّك به المحقّق السبزواري ـ في رسالته المعمولة في خصوص المسألة ـ وهو : أنّها لو لم تكن واجبة بإيجابه يلزم أن لا يكون تارك الواجب المطلق عاصيا مستحقّا للعقاب أصلا ، لكن التالي باطل ، فالمقدّم مثله.

__________________

(١) وهو أبو الحسن الأشعري ، انظر ضوابط الاصول : ٨٩.

(٢) أي ما عدا الحرام من الأحكام الخمسة التكليفيّة.

(٣) في ( ع ) و ( م ) : ونسلّم.

٤١٨

أمّا الملازمة ، فلأنّا نقول : إذا كلّف الشارع بالحجّ ولم يصرّح بإيجاب المقدّمات فرضا ، فتارك الحجّ بتركه قطع المسافة الجالس في بلده إمّا أن يكون مستحقّا للعقاب في زمان ترك المشي إلى مكّة عند التضيّق ، أو في زمان ترك الحجّ في موسمه المعلوم. لا سبيل إلى الأوّل ، لأنّه لم يصدر عنه في ذلك الزمان إلاّ ترك الحركة ، والمفروض أنّه غير واجب عليه فلا يكون مرتكبا للقبيح فلا يكون مستحقّا للعقاب. ولا إلى الثاني ، لأنّ الإتيان بأفعال الحجّ في ذي الحجّة ممتنع بالنسبة إليه ، فكيف يكون مستحقّا للعقاب بما يمتنع صدوره عنه ، إذ لا يتّصف بالحسن والقبح إلاّ المقدور ، وأفعال الحجّ في ذي الحجّة للجالس في البلدان النائي عن مكّة غير مقدورة. ألا ترى أنّ الإنسان إذا أمر عبده بفعل معيّن في زمان معيّن في بلد بعيد ، والعبد ترك المشي إلى ذلك البلد ، فإن ضربه المولى عند حضور ذلك الزمان معترفا بأنّه لم يصدر عنه إلى الآن فعل قبيح يستحقّ به التعذيب لكن القبيح أنّه لم يفعل في هذه الساعة هذا الفعل في ذلك البلد ، لنسبه العقلاء إلى سخافة الرأي وركاكة العقل ، بل لا يصحّ الضرب إلاّ على الاستحقاق السابق قطعا.

ثم نقول : إذا فرضنا أنّ العبد بعد ترك المقدّمات كان نائما في زمان الفعل ، فإمّا أن يكون مستحقّا للعقاب أو لا. لا وجه للثاني ، لأنّه ترك المأمور به مع كونه مقدورا ، فثبت الأوّل ، فإمّا أن يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم أو حدث قبل ذلك ، لا وجه للأوّل ، لأنّ استحقاق العقاب إنّما يكون لفعل القبيح ، وفعل النائم والساهي لا يتّصف بالحسن والقبح بالاتّفاق ، فلا وجه للثاني ، لأنّ السابق على النوم لم يكن إلاّ ترك المقدّمة ، والمفروض عدم وجوبها.

لا يقال : نختار أنّه يستحقّ العقاب في زمان الحجّ ـ مثلا ـ قلتم : إنّ الحجّ في ذلك الزمان ممتنع بالنسبة إليه ، فكيف يستحقّ العقاب بتركه؟ قلنا : إن أردتم أنّ الحجّ في ذلك الزمان بشرط عدم المقدّمات ممتنع بالنسبة إليه فمسلّم ، لكن لا يجدي

٤١٩

نفعا ، لأنّه لم يجب عليه الحجّ بهذا الشرط. وإن أردتم أنّ الحجّ في ذلك الزمان الّذي اتّفق فيه عدم المقدّمات ممتنع بالنسبة إليه فممنوع ، إذ يمكن مع انتفاء المقدّمات ، إذ فرق بين المشروطة بشرط الوصف والمشروطة ما دام الوصف ، فإنّ سكون الأصابع في زمان الكتابة ممكن وبشرط الكتابة ممتنع.

لأنّا نقول : غاية ما ذكرت أنّ الحجّ في ذلك الزمان ممكن لذاته ، والإمكان الذاتي لا يكفي مصحّحا للتكليف إذا تحقّق امتناع الفعل لعلّة سابقة على ذلك الزمان ، سواء كانت العلّة من قبل المكلّف أو من قبل غيره. والقائلون بامتناع التكليف بما لا يطاق لا يخصّونه بالممتنع الذاتي على ما صرّحوا به ؛ مع أنّ أدلّة ذلك ـ من القبح والسفه العقلي ، وانتفاء غرض التكليف ، وعدم إمكان تعلّق الإرادة من الميل النفساني (١) ـ جار هنا ، ألا ترى أنّه إذا قيل يوم النحر للساكن في البلد النائي عن مكّة : « طف بالبيت في هذه الساعة » لنسب القائل إلى ضعف الحكم ووهن اللبّ. وليس المانع عن هذا القول لفظيّا ، بل المانع معنوي.

وبالجملة ، من أنصف من نفسه وراجع إلى عقله ولم يخالف (٢) استقامة فطرته لا يشكّ في ذلك أصلا ، فإذا قيل : « لم يفعل قبيحا يلومه العقلاء إلى يوم النحر ، لكن فعل في يوم النحر ما يلومه العقلاء ويعاقبونه ، وهو أنّه لا يطوف في هذا اليوم مع أنّه في البلد النائي عن مكّة » لحكمت بكذبه وخروجه عن القول المنقول والكلام المعقول من غير توقّف على أنّ التقرير السابق الّذي ساق إليه الكلام أخيرا لم يجر فيه هذا الاعتراض (٣) ، انتهى ما أردنا نقله.

__________________

(١) في المصدر : والميل النفساني.

(٢) في ( ط ) زيادة : بالتشكيك.

(٣) رسالة في مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : ٤٨ ـ ٥٠.

٤٢٠