مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

قلت : إن اريد مجرّد المقارنة مع إمكان تبدّل العلّة المعدومة بالموجودة فهو فاسد ، لاستلزامه إمكان وجود الضدّين المستلزم لارتفاع التضادّ. وإن اريد التلازم بين وجود علّة أحدهما وانتفاء علّة الآخر فننقل الكلام إلى عدم إمكان اجتماع العلّتين ، فإن كان لتمانع بينهما ثبت المدّعى فيهما وفي معلوليهما ؛ نظرا إلى سراية التمانع من العلّتين إليهما ، وإلاّ فجاز اجتماعهما. ويترتّب عليه إمكان وجود الضدّين.

وأمّا الكبرى : فظاهرة ، فإنّ عدم المانع من أجزاء علّة الوجود ـ على ما صرّح به الكلّ ـ ولا ينافي ذلك امتناع استناد الموجود إلى المعدوم ، فإنّ ذلك يراد به أن يكون العدم معطيا للوجود ، لا أن يكون العدم شرطا لإيجاد الموجود (١) ، فإنّه لا دليل على بطلانه ، إذ لا يلزم منه سدّ باب إثبات الصانع ولا أمرا مصادما للضرورة.

ويمكن تقريب الدليل بوجه أخصر ، وهو : أنّ الوجه في امتناع وجود أحد الضدّين في مورد وجود الآخر إمّا وجوده أو أمر آخر ، والأوّل هو المطلوب. والثاني باطل ، لامتناع ذلك ولو فرض انقلاب كلّ موجود معدوما وكلّ معدوم موجودا كما هو ظاهر.

ولإثبات عدم التوقّف في طرف الفعل بما هو المقرّر عندهم في دفع قول الكعبي ، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى (٢).

احتجّ من أنكر التوقّف من الطرفين بوجوه ، أقواها وجهان :

أحدهما : أنّ من المعلوم بالوجدان أنّه إذا حصل إرادة المأمور به وانتفى الصارف عنه حصل هناك أمران : فعل المأمور به ، وترك ضدّه ، فيكونان إذن معلولي علّة واحدة ، فلا وجه لجعل ترك الضدّ من مقدّمات فعل الآخر. وذلك مثل

__________________

(١) في ( ط ) زيادة : أمرا آخرا.

(٢) في الصفحة ٥٠٢ ـ ٥٠٣.

٥٠١

السبب الباعث على حصول أحد النقيضين ، فإنّه هو الباعث على دفع الآخر من غير ترتّب وتوقّف بينهما. ومجرّد استحالة اجتماع الضدّ مع الضدّ الآخر لا يقضي بكونه مانعا عنه ، إذ الامور اللازمة للموانع ممّا يستحيل اجتماعها مع الممنوع ، مع أنّ وجودها ليس من الموانع ولا عدمها من المقدّمات.

الثاني : أنّه يلزم من القول بتوقّف الوجود على عدم الضدّ ـ لمكان الممانعة ـ القول باستناد ذلك العدم إلى ذلك الوجود ، إذ كما أنّ عدم المانع شرط فوجوده علّة لارتفاع المعلول ، وهو دور. واختلاف جهة التوقّف بالشرطيّة والسببيّة لا يدفع المحذور لو لا يؤكّده.

وقريب منه ما أورده المحقّق السبزواري ، حيث قال : ثمّ في جعل الأضداد مانعا من حصول الحرام نظر ، إذ لو كان كذلك كانت المانعيّة من الطرفين ، لاستواء النسبة ، فإذا كانت الصلاة ـ مثلا ـ مانعة عن الزنا كان الزنا مانعا أيضا ، وحينئذ كان الزنا موقوفا على عدم الصلاة ، فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا ، والحال أنّ عدم الزنا علّة لوجود الصلاة ، لأنّ رفع الموانع من علّة الوجود ، فيلزم أن يكون العلّية من الطرفين ، انتهى (١).

وإلى ذلك يرجع ما ذكره بعضهم (٢) : من أنّ القول بمقدميّة الترك يوجب ثبوت قول الكعبي. وهو ظاهر.

واجيب عن الأوّل بالمعارضة ، كما تقدّم من قضاء الوجدان بالتوقّف.

وأمّا الثاني ، فقد أجاب المحقّق الخوانساري عمّا ذكره السبزواري : بأنّ قوله : « فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا » إن أراد أنّه يتوقّف عليه ولا يحصل بدونه

__________________

(١) رسالة في مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : ٦٠ ـ ٦١.

(٢) انظر المعالم : ٦٨.

٥٠٢

فهو باطل ، لأنّ عدم الشيء ربما (١) يحصل لعدم علّته التامّة ، فوجود الزنا إذا كان علّته التامّة مجموعة يكون أحد أجزائها عدم المانع الذي هو الصلاة ، فعدمه إنّما يحصل بعدم ذلك المجموع ، وعدم المركّب إنّما يحصل بعدم أحد أجزائه ، ولا يتوقّف على خصوص عدم المانع ـ أي وجود الصلاة ـ وإن أراد به أنّه إذا فرض أنّ جميع أجزاء العلّة (٢) للزنا حاصل سوى عدم الصلاة ، فحينئذ عدم الزنا موقوف على وجود الصلاة ووجودها موقوف على عدم الزنا ، فيلزم الدور. ففيه : أنّه يجوز أن يكون هذا الفرض محالا وامتناع صلاحيّة علّية الشيء على تقدير محال ممنوع ، انتهى (٣).

وذلك وإن كان دفعا للدور ، إلاّ أنّه التزام بعدم التوقّف من الطرفين ؛ لأنّ توقّف فعل الضدّ على ترك الآخر إنّما جاء من جهة كون الضدّ مانعا وعلّة لعدم الآخر ، وهو فرع إمكان وجود أحدهما مع تمام مقتضى الآخر ؛ إذ لو لا ذلك لم يكن العدم مستندا إلى وجود المانع بل إلى فقد المقتضي ، وبعد أن جوّز استحالة وجود أحدهما مع مقتضي الآخر ، فمن أين يحكم بتوقّف فعل أحدهما على ترك الآخر؟ لاحتمال أن يكون ما هو منشأ لانتزاع العلّية لوجود أحدهما موردا لانتزاع العلّية لعدم الآخر بعينه من غير توقّف ، بل على تقدير الاستحالة يتعيّن ذلك ، كما هو ظاهر.

وقد يجاب عن محذور الدور أيضا : بأنّ دعوى دوام التوقّف في جانب الفعل على الترك مسلّمة ، لكن دوامه في جانب توقّف الترك على الفعل غير مسلّم ، بل قطعيّ العدم ، كما عرفت في كلام المحقّق المذكور.

فإن قلت : يكفي في الدور توقّف الترك على الفعل ولو في مورد واحد.

__________________

(١) في المصدر بدل « ربما » : إنّما.

(٢) في المصدر : العلّة التامّة.

(٣) رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : ١٤٩.

٥٠٣

قلت : نعم ، لو كان الترك الموقوف عليه الفعل عين الترك الموقوف على الفعل ، وليس كذلك بل هما مختلفان بالسبق واللحوق.

وتوضيحه ـ على ما قرّره جماعة منهم المحقّق المجيب المتقدّم (١) ـ : أنّا نفرض أنّ في وقت وجد الشوق إلى الزنا لكن لم يصل إلى حد الاجتماع ، وحينئذ عدم الزنا حاصل لعدم علّته التامّة. ويمكن في هذه الصورة أن يعلم أنّه إذا لم يشتغل بالصلاة ـ مثلا ـ يقوى ذلك الشوق ويصل إلى حدّ الاجتماع ويحصل الزنا في الزمان اللاحق ، فيشتغل بالصلاة في الوقت السابق خوفا من الوقوع في الزنا في اللاحق ، فلا دور مع توقّف الترك على الفعل ، ويزيد ذلك وضوحا بفرض آنات ثلاثة :

الأوّل : هو الآن الذي يحصل فيه الصارف عن الزنا مع العلم بأنّه لو لم يشتغل بالصلاة يصل شوقه إليه إلى حدّ الاجتماع ، وهو آن فراغ المحلّ عن الضدّين.

الثاني : هو آن الاشتغال بالصلاة ، فعلى المشهور يتوقّف فعل الصلاة على عدم الزنا ، ولا يتوقّف عدم الزنا في هذا الآن على فعل الصلاة ، بل هو مستند إلى الصارف.

الثالث : هو الآن بعد الاشتغال بالصلاة ، ففي هذا الوقت يستند الترك إلى وجود الفعل قبله ، والفعل لا يتوقّف على هذا الترك ، وإنّما هو موقوف على الترك السابق والترك المقارن له ، وقد عرفت أنّ هذين التركين مستندان إلى الصارف دون الفعل ، فما يتوقّف عليه الفعل هو سابق عليه أو مقارن له ، وما يتوقّف على الفعل هو متأخّر عنه ، فاختلف الطرفان بالسبق واللحوق. لكن ينبغي أن يكون

__________________

(١) أي المحقّق الخوانساري في الرسالة المتقدمة : ١٥٠ ، ومنهم السيّد القزويني في ضوابط الاصول : ٩٩ ، والمحقّق الشيرواني في حاشيته على المعالم ، انظر المعالم ( الطبعة الحجريّة ) : ٧٠ ـ ٧١.

٥٠٤

الاشتغال بالصلاة في الفرض رافعا لتمكّن المكلّف من فعل الزنا ولو بواسطة عدم الالتفات والشعور به ، إذ لولاه لم يعقل استناد الترك إلى الفعل في وجه ولا بدّ من وجود الزنا في وجه آخر.

بيانه : أنّه على تقدير الالتفات بالزنا وتمكّنه منه في الآن الثالث : إمّا أن يكون مقتضي الزنا موجودا أو معدوما ، فعلى الأوّل لا بدّ من وجوده ، إذ المفروض أنّ الآن الثالث زمان خلوّ المحلّ عن فعل الضدّ ، فيتمّ العلّة فيجب وجود الزنا. وعلى الثاني لا وجه لاستناد الترك إلى وجود الفعل ، بل المتّجه حينئذ أن يكون عدمه مستندا إلى عدم المقتضي كما كان.

ثم إنّ الفرق بين الجوابين ظاهر من حيث إنّ مدار الأوّل على المنع من إمكان فرض يكون الفعل مستندا إلى الترك ، ومدار الثاني على إمكان ذلك مع الاختلاف بالسبق واللحوق ، كما عرفت.

ويمكن أن يقال : إنّ قضيّة التمانع شأنيّة وجود كلّ منهما لعلّية عدم الآخر في جميع الآنات ؛ لاستحالة انفكاك اللازم عن الملزوم وإن لم يكن مقتضيا دوام العلّية فعلا ، ولا ريب أنّ المحال إنّما هذه الشأنيّة لا دوام العلّية ، لأنّه يكفي في لزوم المحال ـ وإن لم يكن دورا ـ أن يكون توقّف ترك أحدهما على فعل الآخر في زمانه أمرا جائزا ممكنا بعد فرض دوام التوقّف من الطرف الآخر ، ولا حاجة إلى فرض وقوع التوقف من الطرفين. فإن أراد المجيب استحالة هذا الفرض فهو راجع إلى الجواب الأوّل ، وإن أراد دفع الدور في المثال المفروض بواسطة عدم توقّف فيه من الطرفين فهو لا يجدي في دفع المحال على الوجه الذي قرّرناه ، من فرض إمكان التوقّف من الطرف الآخر أيضا.

فالأولى التعويل في الجواب على احتمال استحالة اجتماع مقتضي أحد الضدّين مع وجود الآخر ، وهو كاف في الردّ على من أراد إثبات التوقّف أو إمكانه من الطرفين ، ولا حاجة إلى إثبات الاستحالة ، كما لا يخفى.

٥٠٥

والمثال المفروض ليس من هذا القبيل ؛ إذ الوجه في الاستحالة أنّ وجود مقتضي أحدهما كاف في إعدام الموجود وإيجاد الضدّ المعدوم فلا يجامع مقتضي أحدهما وجود الآخر ، والمفروض في المثال هو وجود المقتضي للزنا بعد ارتفاع الصلاة ، لا حال وجود الصلاة ؛ لما تقدّم من أنّ عدم الزنا حال وجود الصلاة لا بدّ وأن يكون مستندا إلى عدم المقتضي لا إلى وجود الصلاة ، فإنّ القول بتوقّف الترك حال الصلاة عليها دور لا مدفع له على المشهور.

ومن هنا يندفع ما قد يتوهّم من التنافي بين ما أفاده المحقّق المذكور في المقامين.

ثم إنّ بعض أعاظم المحقّقين أورد في تعليقه على المعالم كلاما لا بأس بنقله بطوله ، حيث أجاب عن الدور : بأنّ وجود الضدّ من موانع وجود الضدّ الآخر مطلقا ولا يمكن فعل الآخر إلاّ بعد تركه ، وليس في وجود الآخر إلاّ شأنيّة كونه سببا لترك ذلك الضدّ ، إذ لا ينحصر السبب في ترك الشيء في وجود المانع منه ، فإنّ انتفاء كلّ جزء من أجزاء العلّة التامّة علّة تامّة لتركه ، ومع استناده إلى أحد تلك الأسباب لا توقّف له على السبب المفروض حتّى يرد الدور.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه قد يلزم إذا فرض انحصار سبب الترك في وجود الفعل الذي يكون مانعا ، كأن يوجد جميع الأجزاء الوجوديّة للعلّة التامّة بحيث لو لا المانع لا يبقى للوجود حالة منتظرة.

فأجاب : بأنّه لا يمكن الفرض المزبور. واستدلّ عليه بقوله : لأنّ وجود الضدّ لا بدّ له من إرادة وهي كافية في سببيّة الترك ، ضرورة أنّ السبب الداعي إلى أحد الضدّين صارف عن الآخر.

وبالجملة ، السبب الداعي إلى الإزالة كاف في حصول ترك الصلاة ، فلا يستند الترك إلى وجود الإزالة قطّ بعد لا بدّية الداعي في الإزالة قبل حصولها (١).

__________________

(١) هداية المسترشدين ٢ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

٥٠٦

قلت : قد عرفت في كلام المحقّق الخوانساري أنّه قد سبقه بالجواب المذكور ، إلاّ أنّه لم يصرّح بالاستحالة ، وهذا المجيب قد صرّح به واستدلّ عليه. وكيف كان ، ولقد أجاد فيما أفاد وأتى بما هو فوق المراد في دفع المحذور ، إلاّ أنّه غير خفيّ على الناظر أنّ ذلك حسم لمادّة التوقّف من رأس ، إذ ترك الصلاة وفعل الإزالة على ما فرضه ، كلّ واحد منهما مستند إلى الداعي ، فلا يعقل توقّف أحدهما على الآخر ، إذ التوقّف يحتاج إلى تقدّم مع أنّ المفروض أنّ أحدهما في عرض الآخر.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّه يمكن تقرير الدور بين السبب الداعي إلى الإزالة مع نفس الصلاة لمكان المضادّة بينهما أيضا ، فنقول : إنّ السبب الداعي إلى الإزالة سبب في ترك الصلاة ، فلو كان ترك الصلاة أيضا مقدّمة للسبب الداعي ـ كما هو مذهب المشهور ـ لزم الدور ، فلا بدّ من القول بعدم مقدّمية ترك الصلاة للسبب الداعي إلى الإزالة ، وهو المقصود.

ثمّ أجاب عنه بمنع التضادّ بين الصلاة والسبب ، واستند فيه تارة إلى النقض بلوازم المتضادّين ، واخرى بالحلّ : بأنّ مدار التضادّ على عدم إمكان الاجتماع الذاتي ، وإنّما هو متحقّق بين الإرادتين دون إرادة الإزالة ونفس الصلاة.

ثمّ نقل الكلام إلى نفس الإرادتين وقرّر الدور فيهما ، ودفعه : بأنّ إرادة الفعل وعدمها إنّما يتفرّع على حصول الداعي ، فقد لا يوجد الداعي إلى الضدّ أصلا فيتفرّع عليه عدم إرادته من غير أن يتسبّب ذلك عن إرادة ضدّه بوجه من الوجوه ، وقد يكون الداعي إلى الضدّ موجودا ، لكن يغلبه الداعي إلى المأمور به. وحينئذ فلا يكون عدم إرادة الضدّ مستندا أيضا إلى إرادة المأمور به ليكون توقّف إرادة المأمور به على عدم إرادته موجبا للدور ، بل إنّما يستند إلى ما يتقدّمها من غلبة الداعي إلى المأمور به ومغلوبيّة الجانب الآخر الباعث على إرادة المأمور به وعدم إرادة الآخر ، فيكون وجود أحد الضدّين وانتفاء الآخر مستندا في الجملة إلى علّة واحدة من غير

٥٠٧

أن يكون وجود أحدهما علّة في رفع الآخر ليلزم الإيراد. قال : ولا ينافي ذلك توقّف حصول الفعل على عدم إرادة ضدّه حسبما يجيء بيانه.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّا نجري الكلام بالنسبة إلى غلبة الداعي إلى المأمور به وغلبة الداعي إلى ضدّه ؛ لكونهما ضدّين أيضا ، وقد صار رجحان الداعي إلى الفعل سببا لانتفاء رجحان الداعي إلى ضدّه ، والمفروض توقّف حصول الضدّ على انتفاء الآخر ، فيلزم الدور.

فأجاب عنه : بأنّه لا سببيّة بين الأمرين ، بل رجحان الداعي إلى الفعل إنّما يكون بمرجوحيّة الداعي إلى الضدّ ، فهو حاصل في مرتبة حصول الآخر من غير توقّف بينهما لنقدّم (١) لذلك أحدهما على الآخر في الرتبة ، فرجحان الداعي إلى المأمور به يتكافأ في الوجود بمرجوحيّة الداعي إلى ضدّه ، إذ الرجحانيّة والمرجوحيّة من الامور المتضايفة ومن المقرّر عدم تقدم أحد المتضايفين على الآخر في الوجود.

ثمّ قال : وتوضيح المقام أنّ الأمرين المتقابلين إن كان تقابلهما من قبيل الإيجاب والسلب ، فلا توقّف لحصول أحد الطرفين على ارتفاع الآخر ؛ إذ حصول كلّ من الجانبين عين ارتفاع الآخر. وكذا الحال في تقابل العدم والملكة ، وقد عرفت عدم التوقّف في تقابل التضايف أيضا. وأمّا المتقابلان على سبيل التضادّ فيتوقّف وجود كلّ على عدم الآخر ، إلاّ أن يرجع الأمر فيهما إلى أحد الوجوه الأخر كما في المقام (٢) ، انتهى ما أفاد.

قلت : وما أفاده وإن كان دفعا للدور ، إلاّ أنّه أيضا التزام بعدم التوقّف ، كما

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : لتقدّم.

(٢) هداية المسترشدين ٢ : ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

٥٠٨

عرفت في صدر كلامه. وتوضيحه : أنّ التقدّم إمّا أن يعتبر في نفس الضدّين في الأفعال الاختياريّة ـ كالصلاة والإزالة ـ وإمّا أن يعتبر في إرادتيهما ، سواء قلنا بأنّها عين الداعي كما هو المتحقّق عندنا على ما تقدّم ، أو غيره كما يظهر ممّا أفاده في جواب الدور الوارد في الإرادتين وإن كان واردا على خلاف التحقيق ، إذ على تقدير الاختلاف وكونها ناشئة منه ينقل الكلام إليه ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ تقدّم شيء على آخر إنّما يلازم تقدّم علّته على علّته ، إذ على تقدير التساوي بين العلّتين لا وجه للتقدّم ، وإلاّ لزم تساوي المعلول والعلّة في الرتبة والتقدّم ، واستحالته ضروريّة ، والمفروض في كلامه أنّ علّة وجود أحد الضدّين غلبة الداعي إليه ورجحانه المكافئ وجودا لمرجوحيّة الداعي الآخر ، وهو بعينه علّة عدم الآخر ، فالعلّتان لا تقدّم فيهما ، ولازمه عدم التقدّم في المعلولين ، وهو بعينه ما قصده المستدلّ.

وأمّا الثاني : فلاعترافه بأنّ العلّتين في مرتبة واحدة ؛ مضافا إلى أنّ من المقرّر في مقامه أنّ الأصل في التقابل والتنافي هو التناقض وتقابل السلب والإيجاب ، والأقسام الباقية إنّما هي راجعة إليه بنحو من الاعتبار والعناية ، وهو أيضا ممّا لا ينبغي خفاؤه على الأذهان المستقيمة ، لأنّ الوجودين من دون اعتبار أمر عدميّ بينهما لا يعقل التنافي بينهما ، ومن الامور الظاهرة عدم توقّف أحد النقيضين على عدم الآخر كما أفاده المحقّق المجيب (١) وأشار إليه المحقّق المستدلّ (٢) بقوله : « وذلك مثل السبب الباعث على حصول أحد النقيضين ... » فلا وجه للتوقّف.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن أدلّة المشهور.

__________________

(١) أي المحقّق الخوانساري.

(٢) أي الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين ٢ : ٢٢٤.

٥٠٩

أمّا عن الوجدان : فبأنّ المنصف إذا راجع وجدانه في صدور الأفعال الاختياريّة يجد من نفسه عدم التوقّف ؛ فإنّ بعد تصوّر الفعل والقطع بأنّ فيه منفعة غير معارضة لا يتوقّف صدور الفعل على حالة منتظرة ، إذ النفس إمّا أن تكون فارغة عن فعل من الأفعال المضادّة لذلك الفعل المتصوّر أو لا يكون ، وعلى الوجهين لا بدّ من حصول ذلك. أمّا على الأوّل فظاهر. وأمّا على الثاني ، فلأنّ المفروض عدم مقاومة النفع المحرّك لصدوره للنفع الموجود في ذلك الفعل ، فلا بدّ من انقطاعه والاشتغال بما هو أتمّ نفعا في الأفعال المنوطة بالإرادة والدواعي ، وما يتخيّل من التوقّف فهو إنّما هو بواسطة عدم التعمّق في كيفيّة صدور الأفعال الإراديّة. نعم ، لو لم يكن وجود علّة صدور أحدهما كافيا في عدم الآخر كان الحكم بالتوقّف بحسب الوجدان في محلّه.

وأمّا عن الدليل الثاني : فبأنّ التمانع وامتناع الاجتماع في محلّ واحد إنّما يقضي بالتوقّف فيما إذا لم يكن ذلك العدم مساويا في الرتبة لوجود الضدّ الآخر ، وبعد ما عرفت من التساوي فلا وجه للحكم بالتوقّف ، بل يكفي في ردّ الدليل احتمال التساوي كما لا يخفى على الناظر ، فنختار الشقّ الأوّل من الترديد الواقع في دفع السؤال هناك مرّة ونقول : إنّ التمانع بمعنى عدم إمكان اجتماعهما في الوجود لا يقضي بالتوقّف كما في سائر أقسام التقابل ، والشق الثاني مرّة اخرى ونقول : إنّ عدم التمانع بمعنى عدم توقّف وجود أحدهما على عدم الآخر لا يقضي بالاجتماع في الوجود كما في سائر أقسام التقابل أيضا ؛ مضافا إلى أنّ الكبرى في ذلك الدليل لا يخلو عن منع ، فإنّ الموارد التي حكموا فيها بأنّ عدم الشيء شرط ووجوده مانع يحتمل أن يراد به التعبير والعنوان ، كأن يكون الشرط واقعا أمرا وجوديّا وإنّما جعل ذلك العدم عنوانا عنه.

وأمّا الجواب عن الوجه الثالث : أنّ فرض انقلاب كلّ موجود معدوما

٥١٠

يوجب انقلاب وجود علّة (١) الموجود بالعدم ، كما أنّ فرض انقلاب كلّ معدوم موجودا يوجب انقلاب عدم علّة الآخر بالوجود ، ومع ذلك يجب وجود المعدوم وعدم الموجود من دون توقّف ، فذلك الفرض مع فرض وجود الضدّ محال موجب للتناقض. وإن اريد عدم كلّ موجود ما عدا علّة وجود الموجود ووجود كلّ معدوم ما عدا علّة عدم المعدوم ، فهو ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، لكونه خارجا عن المباحث العلميّة ، كما لا يخفى على من له دربة بها. وإن اريد وجود كلّ معدوم من أجزاء علّة المعدوم مع فرض وجود علّة الموجود فهذا مع أنّه تفكيك لعدم صحّة الفقرة الاخرى محال أيضا ، إذ فرض وجود مقتضى المعدوم لا يجامع وجود علّة الموجود كما تقدّم. فليتأمّل في المقام ، فإنّه من مزالّ الأقدام.

بقي الكلام فيما أفاده المحقّق الخوانساري في المقام : من التفصيل بين الرفع والدفع ، فأحد الضدّين إذا فرض وجوده في محلّ لا يمكن وجود الضدّ الآخر إلاّ بعد رفعه فالرفع ممّا يتوقف عليه وجود الضدّ ، وأمّا لو فرض المحلّ خاليا من الأضداد وفارغا عنها ، فاتّصاف المحلّ بأحدها لا يتوقّف على عدم الآخر ، لاستواء نسبة المحلّ إليها ، والأضداد متساوية الأقدام بالنسبة إليه ، فالتمانع إنّما يسلّم فيما إذ كان الضدّان موجودين ولا يتوقّف وجود أحدهما على عدم الآخر عند عدمها ، لعدم التمانع حينئذ.

قال بعد الإيراد بما نقلنا عن السبزواري : وهنا كلام آخر وهو أنّه يجوز أن يقال : إنّ المانع إذا كان موجودا فعدمه ممّا يتوقّف عليه وجود الشيء ، وأمّا إذا كان معدوما فلا. نظير ما قال المحقّق الدواني : إنّ عند إمكان اتّصاف شيء بالمانعيّة يكون عدم المانع موقوفا عليه ، وأما إذا لم يمكن اتّصاف الشيء بالمانعيّة فلا يكون حينئذ عدمه موقوفا عليه.

__________________

(١) في ( ط ) و ( ع ) : علّته.

٥١١

قال : وعلى هذا لا يلزم على المجيب دور إن حمل كلامه على ظاهره أيضا.

قال : وبالجملة ، الحكم بمانعيّة (١) الأضداد ممّا لا مجال لإنكاره وفي كلام الشيخ الرئيس أيضا التصريح بمانعيّتها (٢) ، كيف! وأيّ شيء أولى بالمانعيّة من الضدّ؟ فلا وجه للإيراد على المجيب بأنّه جعل الضدّ مانعا. نعم ، لو قيل : إنّ عدم المانع مطلقا ليس موقوفا عليه ، بل هو من المقارنات للعلّة التامّة ـ كما ذهب إليه بعض ـ لم يكن بعيدا ، لكن هذا بحث لا اختصاص له بالمجيب وبمقامنا هذا (٣) ، انتهى كلامه.

قلت : وجه ارتفاع الدور بما ذكره من التفصيل ، هو : أنّه إذا فرضنا اشتغال المحلّ بوجود أحد الأضداد كالسواد ـ مثلا ـ كان وجود الآخر كالبياض موقوفا على ارتفاع الموجود ، لمكان التضادّ. وأمّا وجود السواد في ذلك المحلّ لم يكن موقوفا على عدم البياض ، لأنّ هذا العدم سابق على علّة السواد ومقارن معها ، فلا توقّف من الطرف الآخر ، فلا دور.

والفرق بينه وبين الجواب الأوّل ظاهر ؛ حيث إنّ مدار الأوّل على تسليم توقّف وجود السواد على عدم البياض ، إلاّ أنّ عدم البياض ـ مثلا ـ لا يستند إلى وجود المانع في المقام. ومدار الجواب الثاني على عدم تسليم التوقّف في صورة عدم اشتغال المحلّ به ، لما عرفت من استواء نسبة الأضداد إليه.

هذا خير (٤) ما قيل ويقال في هذا المجال ، ومع ذلك فلا يخلو عن النظر.

__________________

(١) في المصدر : بتمانع.

(٢) في المصدر : بتمانعها.

(٣) رسالة مقدمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : ١٥٠ ـ ١٥١.

(٤) في ( ع ) و ( م ) بدل « خير » : حاصل.

٥١٢

أمّا أوّلا : فلأنّ الفرق بين حالة وجود الضدّ وحالة عدمه والتزام التوقّف في الأوّل دون الثاني ممّا لا سبيل إليه ، إذ غاية ما هناك أن يكون الموقوف عليه حاصلا في الثاني ، ولا معنى لمنع التوقّف في المقدّمات الحاصلة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الالتزام بالتوقّف فيما إذا كان الضدّ موجودا خلاف التحقيق ، كما عرفت في تقريب ما أفاده أوّلا من إمكان استحالة الفرض. وتوضيحه : أنّ رفع الضدّ الموجود إنّما يجوز أن يكون مقدّمة لمجيء الضدّ المعدوم إذا كان وجود الضدّ مانعا عنه ليكون العدم مستندا إلى وجود المانع ، وهو فرع وجود تمام أجزاء علّة وجود المعدوم ، وإلاّ كان استناد العدم إلى عدم المقتضي ، فإنّه أسبق في المعدوميّة.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره لو تمّ فهو إنّما يتمّ في الأضداد التي هي من قبيل الأحوال والصفات. وأمّا في الأفعال الاختياريّة التي هي من (١) مقولة الحركة التي يتدرّج وجودها وينقضي شيئا فشيئا فلا يعقل ذلك ، فإنّ الحركة في كل آن غير الحركة في الآن الأوّل ، فإذا حصل مقتضى السكون يرتفع الحركة ويكونان من باب معلولي علّة واحدة ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ ما ذكرنا في المقام من عدم التوقّف والاستناد وإن كان بعد حكومة الإنصاف والاجتناب عن الاعتساف أمرا معلوما ، إلاّ أنّه ربما يمنع منه مانع فيقول : إنّ الشك في ثبوت التوقّف يكفي في المقام.

بيان ذلك : أنّ المقصود من إثبات التوقّف ونفيه هو إثبات تحريم الضدّ وبطلانه وعدمهما ، فعلى القول بالتوقّف والمقدّمية يكون ترك الضدّ واجبا فيكون فعله حراما فيكون فاسدا ، وعلى القول بعدم التوقّف لا يتوجّه إليه النهي الحاصل

__________________

(١) في ( ط ) بدل « هي من » : ينتهي إلى.

٥١٣

من الأمر بتركه الناشئ من كونه مقدّمة. وعند الشكّ في التوقّف لا مانع من التزام الصحّة بعد وجود الأمر بحكم الإطلاق وعدم العلم بالمانع.

ثمّ إنّه لا فرق في التزام الصحّة بين احتمال عدم التوقّف رأسا وبين احتماله على وجه يراه المحقّق الخوانساري عند خلوّ المحلّ عن الضدّين ، فإنّ من حاول إيجاد أحد الضدّين عند فراغ المحلّ عنهما لا يتوقّف إيجاده على عدم الآخر حتّى يصير واجبا من باب المقدّمة ، فيصير فعله حراما وفاسدا (١).

__________________

(١) في ( ط ) زيادة : « كما لا يخفى ، والحمد لله » وفي هامشها أيضا زيادة ما يلي : إلى هنا جفّ قلم صاحب مطارح الأنظار ـ طاب ثراه ـ في مسألة الضدّ وأمّا ما يأتي في هذه المسألة فليس من تقريراته وتحريراته ، بل إنّما هو من بعض الأساطين من المستفيدين من بحث الشيخ ـ طاب ثراه وجعل الجنّة مثواه ـ ولعمري أفاد بما فوق المراد.

٥١٤

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على خير خلقه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد ، فهذه مسألة معروفة معركة للآراء ، يبحث فيها عن اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه.

وتنقيح الكلام فيه يستدعي رسم مقدّمات :

الاولى

النسبة بين هذه المسألة وسابقتها ـ التي هي مسألة مقدّمة الواجب على الظاهر ـ عموم من وجه ، يعني أنّ المثبت في كلّ من المسألتين يمكن أن يكون مثبتا في الاخرى ونافيا. أمّا المثبت في المسألة السابقة فان اعترف بكون ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه ثمّ اعترف بوجوب المقدّمات العدميّة نحو المقدّمات الوجوديّة ، فهو مثبت في المسألتين. وإن لم يعترف بشيء من الأمرين أو بأحدهما كان مثبتا هناك ونافيا هنا. وأمّا المثبت في هذه المسألة فإن كان وجه الإثبات عنده كون ترك أحد الضدّين مقدّمة لفعل الآخر كان مثبتا في المقامين ، وإن كان وجهه دعوى عينيّة ترك أحدهما لفعل الآخر وبالعكس أمكن أن يكون نافيا في تلك المسألة ومثبتا في هذه. وهكذا الكلام في الثاني ، فإنّ نفي الوجوب أو الاقتضاء يمكن أن يجتمع مع النفي في الآخر ومع الإثبات بعين ما ذكر.

٥١٥

وحينئذ فعلى تقدير كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الآخر يكون هذه المسألة فردا من أفراد المسألة السابقة وشعبة من شعبها. لكن لمّا كان ظاهر عناوينهم في المسألة السابقة اختصاص البحث بالمقدّمات الوجوديّة انفردت هذه المسألة منها في الذكر والعنوان ؛ مضافا إلى ما في مقدّميّة ترك الضدّ في البحث والنظر المقتضي لعقد باب مستقلّ (١).

فإذن لا بأس في تحقيق هذا المقام ـ يعني كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل الآخر أم لا ـ ثمّ الخوض في أصل المرام.

فنقول ـ وبالله الاستعانة وعليه الاعتماد ـ : قد اختلف العلماء في توقّف فعل الضدّ على ترك الآخر وبالعكس على أقوال :

فعن البهائي والكاظمي وسلطان العلماء : نفي التوقّف مطلقا (٢) ، وبه قال السبزواري فيما حكي عنه في الرسالة المعمولة ، وسنذكر عبارتها (٣).

وذهب الحاجبي والعضدي إلى : التوقّف من الطرفين ، حيث إنّهما ذكرا شبهة الكعبي الآتية ـ إن شاء الله ـ وأجابا عنها بمنع وجوب المقدّمة (٤). وهذا اعتراف صريح بكون فعل أحد الأضداد مقدّمة لترك الضدّ الآخر المحرّم. ثمّ لما جاءا في بحث اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه أجابا عن الدليل المعروف الذي يأتي ذكره ـ إن شاء الله ـ بمنع وجوب المقدّمة. وهذا أيضا اعتراف بأنّ ترك أحد الضدّين مقدّمة للآخر.

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) زيادة : عليها.

(٢) حكاه عنهم المحقّق الكلباسي في إشارات الاصول : ٧٨ ، وانظر زبدة الاصول : ٨٢ ، والوافي في شرح الوافية : ٢٦٤ ، وحاشية سلطان العلماء على المعالم : ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(٣) انظر الصفحة ٥١٩.

(٤) راجع شرح مختصر الاصول : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٥١٦

والمشهور بين المتأخّرين (١) من أصحابنا ـ على ما قيل (٢) ـ والمتأخّرين منهم ـ كصاحب القوانين (٣) والفصول (٤) وأخيه في حاشيته على المعالم (٥) ـ : إثبات التوقّف من طرف الوجود دون العدم ، فقالوا بكون الترك مقدّمة للفعل دون العكس ؛ حذرا من شبهة الكعبي المبنيّة على توقّف الترك على الفعل. فالمذاهب مع مذهب الكعبي القائل بكون الفعل مقدّمة للترك أربعة.

ويلوح من استاذ الكلّ المحقّق الخوانساري تفصيل آخر ، وهو : توقّف وجود الضدّ المعدوم على رفع الضدّ الموجود ، وعدم توقّف رفعه على وجود الآخر (٦).

حجّة الأوّلين يظهر من جواب حجّة المشهور. وحجّتهم على كون ترك الضدّ مقدّمة للفعل : أنّ اجتماع كلّ منهما مع الآخر محال للمضادّة ، فيكون وجود كلّ منهما مانعا من حصول الآخر ، وعدم المانع من جملة المقدّمات.

واورد عليه بوجوه :

منها : دعوى المقارنة الاتّفاقية بين وجود أحد الضدّين وعدم الآخر من دون توقّف الوجود على العدم ، بمنع كون وجود كلّ منهما مانعا من وجود الآخر ؛ لأنّ مجرّد استحالة اجتماع الضدّ مع الضدّ الآخر لا يقتضي كونه مانعا منه ليكون عدمه مقدّمة لفعله ، إذ الامور اللازمة للموانع ممّا يستحيل اجتماعها مع الممنوع ، مع أنّ وجودها ليس من الموانع ولا عدمها من المقدّمات.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : المتقدّمين.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) القوانين ١ : ١٠٨.

(٤) الفصول : ٩٦.

(٥) هداية المسترشدين ٢ : ٢٠٠ و ٢٢٣ وما بعدها.

(٦) سيأتي كلامه في الصفحة ٥١٩ ـ ٥٢٠.

٥١٧

ومنها : أنّ من المعلوم بالوجدان أنّه إذا حصل إرادة المأمور به وانتفى الصارف عنه حصل هناك أمران : فعل المأمور به وترك ضدّه ، فيكونان إذا معلولي علّة واحدة ، فلا وجه لجعل ترك الضدّ من مقدّمات فعل الآخر. وذلك مثل السبب الباعث على حصول أحد النقيضين ، فإنّه هو الباعث على رفع الآخر من غير ترتيب وتوقّف بينهما جدّا.

ومنها : أنّه لو كان ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه لزم الدور ؛ فإنّ مقدّميّة الترك للفعل مبنيّة على كون وجود أحدهما مانعا عن وجود الآخر ـ كما تقرّر في تقرير الحجّة ـ والتزام المانعيّة من طرف يقتضي المانعيّة من الطرفين ، لاستواء النسبة في المضادّة. فكما أنّ ترك المانع من مقدّمات حصول الفعل ، فكذا وجود المانع سبب لارتفاع الفعل ، فيكون فعل الضدّ مثلا موقوفا على ترك الضدّ توقّف الشيء على عدم مانعة ، وترك الضدّ موقوفا على فعل ضدّه لكونه سببا لذلك الترك. وتوقّف المسبّب على سببه أولى من توقّف الشيء على عدم المانع الذي هو الشرط.

ومنها : أنّه لو كان كذلك لزم صحّة قول الكعبي بانتفاء المباح على القول بوجوب جميع المقدّمات ـ كما هو المشهور المنصور ـ والملازمة قد اتّضحت من بيان الملازمة المتقدّمة ، إذ على تقدير كون فعل الضدّ من مقدّمات ترك الآخر يكون فعل المباحات لترك الأضداد المحرّمة واجبا.

وهذه الإيرادات الأربعة قد ذكرها الشيخ في حاشيته على المعالم (١) ، وتصدّى لجواب بعضها بما يرجع إلى كلام المحقّق الخوانساري في جواب كلام السبزواري. والوجهان الأخيران جوابان عن الدليل المزبور على سبيل النقض الإجمالي ،

__________________

(١) هداية المسترشدين ٢ : ٢٢٣ وما بعدها.

٥١٨

وهما دليلان على القول بعدم التوقّف. كما أنّ الوجهين الأوّلين أوّلهما منع لدعوى التمانع ، وثانيهما ادّعاء قضاء الوجدان بعدم التوقّف ، فهو حينئذ دليل أيضا على عدم التوقّف.

ومنها : ما ذكره السبزواري في الرسالة المعمولة في البحث عن وجوب المقدّمة ، حيث استدلّ النافي على عدم وجوبها : بأنّها لو وجبت لزم صحّة قول الكعبي لعين ما ذكر آنفا. وأجاب عنها بما أجاب. وقال في جملة كلامه ما لفظه هذا : ثمّ في جعل الأضداد مانعا من حصول الحرام (١) نظر ، إذا لو كان كذلك كانت المانعيّة من الطرفين لاستواء النسبة ، فإذا كانت الصلاة مثلا مانعة من الزنا كان الزنا أيضا مانعا منها ، وحينئذ كان الزنا موقوفا على عدم الصلاة فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا ، والحال أنّ عدم الزنا علّة لوجود الصلاة ؛ لأنّ رفع الموانع علّة لوجوده ، فيلزم أن يكون العلّية من الطرفين ، وهذا خلف (٢) انتهى.

وهذا الإيراد على مانعيّة الضدّ قريب من الدور المزبور ، إلاّ أنّ المأخوذ في هذا الإيراد كون عدم المانع أيضا علّة وأنّ جهة التوقّف في الطرفين هو العلّية ، والمأخوذ في تقرير الدور : أنّ عدم المانع شرط وأنّ جهة التوقّف في أحد الطرفين على نحو الاشتراط كما في توقّف فعل الضدّ على ترك الآخر ، وفي الطرف الآخر على جهة العلّية كما في توقّف تركه على فعل الآخر توقّف الشيء على علّته وسببه.

وأجاب عنه المحقّق الخوانساري بقوله : وأمّا ثانيا ؛ فلأنّ قوله : « فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا » إن أراد أنّه يتوقّف عليه ولا يحصل بدونه فهو باطل ، لأنّ عدم الشيء إنّما يحصل بعدم علّته التامّة ، فوجود الزنا إذا كان علّته التامّة

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : المرام.

(٢) رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : ٥٩ ـ ٦١.

٥١٩

مجموعة يكون أحد أجزائها عدم المانع الذي هو الصلاة ، فعدمه إنّما يحصل بعدم ذلك المجموع ، وعدم المركّب إنّما يحصل بعدم أحد أجزائه ولا يتوقّف على خصوص عدم المانع ، أي وجود الصلاة.

وإن أراد به أنّه إذا فرض أنّ جميع أجزاء العلّة للزنا حاصل سوى عدم الصلاة ، فحينئذ عدم الزنا موقوف على وجود الصلاة ، ووجود الصلاة موقوف على عدم الزنا ، فيلزم الدور. ففيه : أنّه يجوز أن يكون هذا الفرض محالا وامتناع صلاحيّة علّية الشيء على تقدير محال ممنوع (١) انتهى كلامه.

وخلاصة معناه : أنّ المحال إنّما يلزم على تقدير علّية وجود أحد الضدّين لعدم الآخر ، وهذا إمّا (٢) غير لازم أو غير جائز.

بيانه : أنّ عدم أحد الضدّين قد يكون باعتبار انتفاء شيء من (٣) أجزاء علّة الوجود أو شروطه ، وحينئذ لا يكون العدم معلولا لوجود الضدّ الآخر المفروض كونه مانعا. وقد يكون باعتبار وجود الضدّ ومن جهته ، وذلك إنّما يكون إذا كان أجزاء علّة الوجود وشرائطه مجتمعة إلاّ عدم المانع الذي هو وجود الضدّ الآخر ، فحينئذ يستند عدم الضدّ إلى وجود ضدّه ويكون معلولا منه. ولكن هذا الفرض ممّا أمكن دعوى استحالته ، فالدور المحال غير وارد. وقوله : « وامتناع صلاحيّة عليّة الشيء على تقدير محال ممنوع » كأنّه دفع لإيراد متوهّم ، وهو أنّ جعل الأضداد مانعا حينئذ يكون محالا ؛ لأنّه موقوف على فرض محال ، وهو اجتماع وجود أحد الضدّين مع أجزاء علّة وجود الآخر وشرائطه عدا عدم المانع.

__________________

(١) رسالة مقدّمة الواجب المطبوعة ضمن « الرسائل » : ١٤٩.

(٢) لم ترد « إمّا » في ط.

(٣) كذا في نسخة بدل ( ع ) ، وفي غيرها : في.

٥٢٠