مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

ذهب جماعة من أصحابنا ـ ومنهم بعض الأفاضل (١) ـ إلى أنّ ظاهر الأمر قاض بالتعبّديّة.

ويظهر من جماعة اخرى أنّ الأمر ظاهر في التوصّليّة (٢). ولعلّه الأقرب.

واحتجّوا في ذلك بامور ، أقواها : أنّ العقل قاض بوجوب الامتثال بعد العلم بالأمر ، ولا يتحقّق إلاّ بقصد القربة والإطاعة.

وفيه : أنّه مصادرة محضة ؛ إذ الكلام إنّما هو في وجوب الامتثال ، فإن اريد بالامتثال مجرّد عدم المخالفة والإتيان بالفعل فهو مسلّم ، لكنّه ليس بمفيد. وإن اريد به الإتيان بالفعل على وجه التقرّب ـ كأن يكون الداعي إلى الفعل نفس الأمر ـ فهو ممنوع. والقول بأنّ العقل قاض بذلك ليس بسديد ، إذ غاية ما يحكم به العقل بعد العلم بالأمر هو عدم المخالفة وعدم ترك المأمور به في الخارج. فإن استند في ذلك إلى أنّ الإتيان بنفس الفعل في الخارج على تقدير أن يكون الامتثال به مطلوبا للآمر يعدّ من المخالفة التي يحكم بقبحها العقل ـ على ما عرفت ـ نقول : نعم ، ولكن الكلام بعد في اعتبار الامتثال في المأمور به ، وليس المستفاد من الأمر إلاّ مطلوبيّة الفعل فقط ، فلا مخالفة على تقدير الإتيان به ، كما لا يخفى. مع أنّ الاستدلال المذكور خارج عمّا نحن بصدده ، إذ الكلام إنّما هو في أنّ الأمر ظاهر في الوجوب التعبّدي أو التوصّلي. والوجه المذكور ممّا لا مساس له به على ما هو غير خفيّ.

__________________

(١) مثل العلاّمة في مبادئ الوصول : ١١٤ ، وكاشف الغطاء في كشف الغطاء ١ : ١٦٣.

(٢) منهم : الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين ١ : ٦٧٩ ـ ٦٨٣ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٦٩ ، والقزويني في ضوابط الاصول : ١٥٣ ، والسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ١٣٢.

٣٠١

واحتج بعض موافقينا (١) على التوصّليّة : بأنّ إطلاق الأمر قاض بالتوصّليّة ، إذ الشكّ إنّما هو في تقييد الأمر ، والإطلاق يدفعه. نعم ، لو كان الدليل الدالّ على الوجوب إجماعا أو نحوه من الأدلّة اللبّية لا وجه للاستناد إلى الإطلاق ، فيكون الأمر راجعا إلى الخلاف المقرّر في محلّه من الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة (٢) ، فإن قلنا بالاشتغال لا بدّ من القول بالتعبّديّة وإلاّ فلا.

وهو أيضا ليس في محلّه ؛ إذ الاستناد إلى إطلاق الأمر في دفع مثل هذا التقييد فاسد ، إذ القيد ممّا لا يتحقّق إلاّ بعد الأمر.

توضيحه : أنّ الإطلاق إنّما ينهض دليلا فيما إذا كان القيد ممّا يصحّ أن يكون قيدا له ، كما إذا قيل : « أكرم إنسانا » أو « أعتق رقبة » فإنّه يصحّ أن يكون المطلق في المثالين مقيّدا بالإيمان والكفر والسواد والبياض ونحوها من أنواع القيود التي لا مدخل للأمر فيها. وأمّا إذا كان القيد من القيود التي لا تتحقّق إلاّ بعد اعتبار الأمر في المطلق فلا يصحّ الاستناد إلى إطلاق اللفظ في دفع الشكّ في مثل التقييد المذكور ، وما نحن بصدده من قبيل الثاني.

فلا بدّ لنا في المقام من بيان أمرين : أحدهما يتكفّل بيان الصغرى ، والآخر بيان الكبرى.

أمّا الأوّل : فلأنّ القربة عبارة عن الإتيان بالفعل المأمور به على وجه يكون الداعي إليه هو الأمر ، فهذه من الاعتبارات اللاحقة للفعل بعد ملاحظة كونه مأمورا به ، وأمّا قبل أن يعقل الفعل مأمورا به لا وجه لأن يلاحظ مقيّدا بالقربة أو مطلقا ، كما يصحّ أن يلاحظ مقيّدا بوقوعه في زمان كذا أو مكان كذا أو عن آلة كذا ونحوها وأن يلاحظ مطلقا. ولعلّ ذلك ظاهر لمن له أدنى فطانة ولطافة قريحة.

__________________

(١) مثل صاحب الفصول في الفصول : ٦٩ ، والقزويني في ضوابط الاصول : ١٥٣.

(٢) راجع فرائد الاصول ٢ : ٤٠٠ ـ ٤٠٢.

٣٠٢

وأمّا الثاني : وهو أنّه إذا كان القيد من القيود التي يعتور على المطلق بعد لحوق الأمر له لا يصحّ دفعه عند الشكّ بالإطلاق ، فلأنّ المراد به إمّا الإطلاق المعتبر في المادّة ، أو الإطلاق المتوهّم في الهيئة. ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فبعد ما عرفت من معنى القربة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه ، لأنّ المفروض أنّها ليست من قيوده مع قطع النظر عن الأمر ، فالقول بارتفاع الشكّ في التقييد المذكور بالاستناد إلى إطلاق المادّة في نفسها مع عدم ملاحظة الأمر فيها يستلزم التناقض : من اعتبار الأمر ليصحّ اعتبار القيد فيها ، ومن عدمه كما هو المفروض. ومن هنا قلنا في بعض المباحث المتقدّمة بأنّ الطالب لو حاول طلب شيء على وجه الامتثال لا بدّ له من أن يحتال في ذلك ، بأن يأمر بالفعل المقصود إتيانه على وجه القربة أوّلا ، ثم ينبّه على أنّ المقصود هو الامتثال بالأمر. ولا يجوز أن يكون الكلام الملقى لإفادة نفس المطلوبيّة مفيدا للوجه المذكور.

وأمّا الثاني : فلما عرفت من أنّه لا معنى لإطلاق الهيئة ، إذ مفادها ممّا لا يتصوّر فيه الاختلاف. وذلك ظاهر.

لا يقال : إنّ التمسّك بإطلاق المادّة في محلّه ؛ إذ يصحّ أن يقيّد الفعل بعدم الدواعي المنتقشة في النفس باعتبار قواها الشهوانيّة وغيرها ممّا لا يرجع إلى الأمر ، وحيث إنّ المفروض استحالة صدور الفعل الاختياري من الفاعل من دون ما يدعوه إلى الفعل ، فلا مناص للمكلّف إلاّ إتيانه بداعي الأمر ، ففيما إذا شكّ في التعبّديّة والتوصّليّة يمكن الأخذ بإطلاق الفعل المحتمل تقيّده بعدم الدواعي النفسانيّة ؛ لأنّا نقول ذلك وهم فاسد ، إذ لا فرق فيما يمتنع تقييده بشيء بين أن يكون القيد هو ذلك الشيء أو عدم أضداده على وجه يفضي بالأخرة إليه ، وعلى تقدير عدم الإفضاء لا يجدي شيئا ، إذ لعلّه يكتفى بغيره ، كما هو ظاهر.

وبالجملة ، فالفعل الملحوظ فيه لحوق الأمر موضوع للامتثال ، ولا يعقل اعتبار شيء في نفس الفعل فيما إذا كان عروضه عليه بواسطة الأمر المتأخّر عنه رتبة.

٣٠٣

ومن ذلك يعرف أنّ التفصيل بين ما إذا كان الكاشف عن الطلب هو اللفظ وما إذا كان الطلب مدلولا عليه بوجه من الوجوه اللبّية ممّا لا وجه له ؛ إذ الدالّ على التقييد المذكور على تقدير وجوده ممّا لا يفرق فيه الأدلّة اللفظيّة واللبّية على نحو اختلاف فيهما ، كما لا يخفى. وعلى تقدير عدمه فلا فرق بينهما أيضا.

فالحقّ الحقيق بالتصديق هو : أنّ ظاهر الأمر يقتضي التوصّليّة ، إذ ليس المستفاد من الأمر إلاّ تعلّق الطلب ـ الذي هو مدلول الهيئة للفعل ـ على ما هو مدلول المادّة ، وبعد إيجاد المكلّف نفس الفعل في الخارج لا مناص من سقوط الطلب ، لامتناع طلب الحاصل. وذلك في الأدلّة اللفظيّة ظاهر.

وأمّا فيما إذا كان الدليل هو الإجماع ، ففيه أيضا يقتصر على ما هو المعلوم استكشافه منه ، والمفروض أنّه ليس إلاّ مطلوبيّة الفعل فقط ، وبعد حصوله لا بدّ من سقوطه.

وأمّا الشكّ في التقييد المذكور فبعد ما عرفت من أنّه لا يعقل أن يكون مفادا بالكاشف عن الطلب لا بدّ له من بيان زائد على بيان نفس الطلب ، والأصل عدمه. واحتمال العقاب على ترك الامتثال يدفع بقبح العقاب من دون بيان ـ كما هو المحرّر في أصالة البراءة ـ من غير فرق في ذلك بين الكواشف اللفظيّة أو غيرها ، ومن غير ابتناء له ـ على ما قرّر في محلّه من الخلاف المشهور بينهم في البراءة والاشتغال عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة (١) ـ إذ لا ينبغي للقائل بالاشتغال فيما إذا كان المكلّف به مجملا ـ كالصلاة على الصحيح مع الشكّ في اعتبار شيء فيه ـ القول به فيما إذا كان المطلوب أمرا معلوما مع الشك في اعتبار أمر آخر فيه ، كما فيما نحن فيه.

فظهر فساد ما قرّره المستدلّ : من أنّه على تقدير أن يكون الدليل لبّيا يكون الأمر راجعا إلى الخلاف المقرّر.

__________________

(١) راجع فرائد الاصول ٢ : ٤٠٠ ـ ٤٠٢.

٣٠٤

نعم ، قد يمكن القول بالاشتغال فيما يكون الشكّ في كيفيّة الامتثال بعد معلوميّة وجوب نفس الامتثال من الشرع ، لأنّ الكيفيّات المتعلّقة بالامتثال من الامور التي وكلها الشارع إلى العقل ولا يحتاج إلى بيان منه في ذلك ، فلا قبح في العقاب عليه بعد إمكان الاحتياط.

كما أنّه يمكن القول بالاشتغال فيما إذا لم يكن الامتثال معلوما أيضا ، نظرا إلى أنّ الشكّ في المكلّف به ، حيث إنّ المقصود في الواقع هو أمر واحد وإن احتاج بيانه على تقدير التعبّدية إلى أمر زائد على بيان نفس مطلوبيّة الفعل ظاهرا ، كما لا يخفى ، فتأمّل.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من احتياج التعبّد إلى بيان زائد غير ما دلّ على الطلب لا يلازم أن يكون للفعل ثوابان : أحدهما لنفس الفعل وثانيهما للامتثال ، لتعدّد الأمر الملحوظ فيهما ، كما توهّمه بعض من لا درية (١) له ، لما عرفت من أنّ المقصود حقيقة واحدة ، فلا يعقل تعدّد الثواب والعقاب. والله وليّ التوفيق والهداية.

__________________

(١) في ط : دراية. ولعلّ الأصل : من لا دربة له.

٣٠٥
٣٠٦

هداية

بعد ما عرفت من أنّ ظاهر الأوامر قاض (١) بالتوصّليّة ، فهل هناك ما يقضي بخلافه من الأدلّة الخارجة عن مقتضى الأمر؟ قيل : نعم (٢).

والتحقيق : أنّه لا دليل على ذلك.

ويمكن الاحتجاج للأوّل بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(٣).

ونسبه بعض الأجلّة (٤) إلى العلاّمة. والموجود من كلامه في المنتهى (٥) يخالف ذلك ، حيث إنّ المطلوب في المقام هو إثبات الأصل في الأوامر ، وما رام به العلاّمة فيه إثبات اشتراط العبادة بنيّة القربة قبالا لأبي حنيفة حيث زعم عدم اشتراط الوضوء بالقربة (٦). والظاهر أنّه تبع في ذلك المحقّق في المعتبر ، حيث أفاد في بحث الوضوء : ويشترط استحضار نيّة القربة ، لقوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ولا يتحقّق الإخلاص إلاّ مع قصد القربة (٧).

__________________

(١) في ط : ظواهر الأوامر قاضية.

(٢) راجع مبادئ الوصول : ١١٤ ، ومفاتيح الاصول : ١٣٢.

(٣) البيّنة : ٥.

(٤) وهو صاحب الفصول في الفصول : ٦٩.

(٥) راجع منتهى المطلب ٢ : ٧ ـ ١٠.

(٦) راجع المجموع ١ : ٣٥٥ وبداية المجتهد ١ : ٨.

(٧) المعتبر ١ : ١٣٨ ـ ١٣٩.

٣٠٧

وكيف كان فالاستدلال بالآية على وجه ينطبق على المدّعى في المقام بأحد وجهين :

أحدهما : أنّه تبارك وتعالى حصر المأمور به لأهل الكتاب في العبادة ، ولا يتحقّق العبادة إلاّ بقصد الامتثال ، فيجب عليهم الامتثال وينسحب هذا الحكم في شريعتنا أيضا ، لما قرّر من جواز استصحاب الأحكام الثابتة في الشرائع الماضية (١). وإن أبيت عن ذلك فيدلّ عليه قوله : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(٢) أي المستقرّة الثابتة التي لا ينالها (٣) النسخ.

وثانيهما : أنّهم قد امروا بالإخلاص في الدين ، وهو عبارة عن مجموع الأعمال والعقائد الشرعيّة ، والإخلاص بها لا يتمّ إلاّ عند قصد الامتثال ، ويتمّ في حقّنا بالوجهين.

والجواب : أمّا عن الوجه الأوّل ، فبأنّه إن اريد من حصر المأمور به في العبادة أنّ التعبّد بالأوامر الواردة في الإنجيل والتوراة تنحصر غاياتها بالتعبّد ، على أن يكون كلمة « اللام » للغاية ـ كما يظهر من استدلال بعض أصحابنا بالآية في قبال الأشعري القائل بالجزاف في أفعاله تعالى ـ فهو فاسد جدّا ، لأنّ المنساق من الآية أنّها ليست للغاية ، بل من المعلوم بواسطة ملاحظة نظائره في الآيات القرآنيّة أنّها لام الإرادة (٤) الداخلة على المراد (٥) ، كما في قوله : ( وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ )(٦)

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٥.

(٢) في النسخ وi ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ E والصواب ما أثبتناه ، وإن ورد في سورة يوسف الآية ٤٠i ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ E لأنّ الكلام في آية سورة البيّنة.

(٣) في ( ع ) و ( م ) : المستقرّ الثابت الّذي لا يناله.

(٤) في ط زيادة : والأمر.

(٥) في ط زيادة : والمأمور به.

(٦) الأنعام : ٧١.

٣٠٨

و ( أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ )(١) و ( أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ )(٢) و ( يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ )(٣) فمدخول اللام هذه يكون مفعولا به ـ على ما صرّح به بعضهم (٤) ـ حتّى أنّ المصرّح به في كلام ابن هشام (٥) ـ على ما حكي ـ : أنّ القائل بعدم التقوية في مثل هذه إنّما زعم ذلك لعدم قصور الفعل وعدم الحاجة إلى التقوية ، فالمفعول به عنده مقدّر ، لكنّه لا يخالف المذكور ، بل يكون من جنسه. فالتقدير في آية التطهير : يريد الله الإذهاب ليذهب.

وكيف كان فلا ينبغي التأمّل في أن اللام هذه ليست للغاية ، لما عرفت. مضافا إلى عدم استقامة العطف في قوله تعالى : ( وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ )(٦) فإنّهما معطوفان على قوله : ( لِيَعْبُدُوا ) وقضيّة ذلك تكرار العامل كما يؤذن به حذف النون (٧) منهما أيضا ، مع أنّهما ليسا غايتين بل هما مأمور بهما. وذلك ظاهر.

ومع التنزّل فلا دلالة في الآية على المطلوب ، لاحتمال أن يكون الأوامر المتعلّقة بهم لطفا في التعبّد ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ )(٨) فتكون العبادة والتذلّل من الغايات المترتّبة على الأوامر ، سواء كانت تعبّدية أو توصّليّة.

__________________

(١) الأنعام : ١٤.

(٢) الشورى : ١٥.

(٣) الأحزاب : ٣٣.

(٤) راجع مغني اللبيب ١ : ٢٨٥.

(٥) لم نعثر عليه.

(٦) البيّنة : ٥.

(٧) في ( ع ) و ( م ) : حذف المفعول.

(٨) العنكبوت : ٤٥.

٣٠٩

وإن اريد (١) من حصر المأمور به في العبادة أنّ العبادة هي المأمور بها فقط على وجه لا يكون غيرها مأمورا به كأن يكون اللام للصلة والتقوية ـ كما هو الظاهر ـ ففيه : أنّ المراد بالعبادة على وجه الإخلاص ليس إلاّ التوحيد ، كما فسّرت بذلك في لسان بعض أهل التفسير ، فعن الطبرسي أنّه قال بعد قوله : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ ... : ) أي لم يأمرهم الله تعالى إلاّ لأن يعبدوا الله وحده لا يشركون بعبادته ، فهو ممّا لا يختلف فيه ملّة ولا يقع فيه التبدّل (٢).

قلت : ولعلّه يشير بذلك إلى تفسير قوله تعالى : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ. )

وعنه أيضا بعد قوله : ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) لا يخلطون بعبادته عبادة ما سواه (٣).

وعن الصافي بعد ذكر الآية : أي لا يشركون به (٤).

ويساعد ذلك ورودها في مقابلة المشركين ، ويعاضده نظائرها من الآيات القرآنيّة ، كقوله تعالى : ( فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ )(٥) وقوله تعالى : ( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ )(٦)(٧) وقوله عزّ من قائل : ( قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي* فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ )(٨) فإنّ ملاحظة مساقها يكفي عن الاستدلال في إرادة التوحيد منها.

وكيف كان ، فالآية مفادها نفي الشرك ، فهي مشتملة على أمّ المسائل الإلهية

__________________

(١) عطف على قوله : « فبأنّه إن اريد من حصر المأمور به » في الصفحة ...

(٢ و ٣) مجمع البيان ٥ : ٥٢٣.

(٤) تفسير الصافي ٥ : ٣٥٤.

(٥) الزمر : ٢.

(٦) الزمر : ٣.

(٧) لم ترد « وقوله تعالى : i أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ » E في ( ط ).

(٨) الزمر : ١٤ و ١٥.

٣١٠

والأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، وهي الصلاة والزكاة ، على حسب ما يقتضيه المقام. كما أنّه جمع بين التوحيد وحقوق الوالدين في قوله تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً )(١).

وبالجملة ، فالمنصف لا مجال له من تسليم ذلك ؛ إذ العبادة ليست على ما اصطلح عليها الفقهاء بحسب اللغة ، فإنّ المراد بها لغة هو : التذلّل والانقياد ، ويعبّر عنه بالفارسيّة بـ « پرستش وبندگى كردن ، وستودن وستايش كردن » ونحو ذلك ممّا لا مدخل لها بالأفعال التي اصطلح عليها الفقهاء. ولعلّ ذلك ظاهر لا ينبغي الإطالة فيه.

وأمّا الجواب عن الوجه الثاني (٢) ، فبأنّ « الدين » له احتمالات وإطلاقات.

فتارة : يكون المراد به ما عرفت من معنى العبادة ، كما يظهر من الآيات السابقة.

واخرى : يكون المراد به الطاعة ، كما قيل في قوله تعالى : ( وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ )(٣) أي لا يطيعون طاعة الحق (٤).

ومرّة : يكون المراد به الجزاء ، كما في قوله تعالى : ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )(٥).

وتارة : يكون المراد به الإسلام ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ )(٦).

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

(٢) عطف على قوله : « والجواب أمّا عن الوجه الأوّل » في الصفحة ...

(٣) التوبة : ٢٩.

(٤) حكاه في مجمع البيان ( ٣ : ٢٢ ) عن أبي عبيدة.

(٥) الفاتحة : ٤.

(٦) آل عمران : ١٩.

٣١١

وقيل : إنّه وضع إلهيّ لاولي الألباب يتناول الاصول والفروع (١).

لا إشكال في أنّ المراد به في الآية ليس هو الجزاء ، لعدم تعقّله فيها على ما هو ظاهر ، والكلّ محتمل ، وعلى التقادير لا يتمّ التقريب ، إذ الاستدلال موقوف على أن يكون المراد بـ « الدين » خصوص الأعمال الفرعيّة المأمور بها في الشريعة. ولا دليل على أنّ المراد به في المقام هو خصوص ذلك مع كونه معنى مجازيّا غير ظاهر من مساق الاستعمال.

لا يقال : يتمّ التقريب على تقدير إرادة المعنى الأعمّ من الأعمال الفرعيّة والعقائد الأصليّة ، كما هو أحد الوجوه المحتملة فيما سبق.

لأنّا نقول : ذلك يتمّ على تقدير أن يكون المراد بالإخلاص هو قصد التقرّب ، وهو غير معقول في العقائد.

فإن قلت : لعلّ المراد بـ « الدين » هو الأعمال التي يجزى بها ، تسمية للسبب باسم المسبّب.

قلت : بعد كونه مجازا لا يصار إليه إلاّ بعد دلالة ، لا يجديك شيئا ؛ إذ يكون محصّل مفاد الآية على ذلك التقدير : وما امروا إلاّ بالعبادة والانقياد حال كونهم قاصدين للتقرّب بالأعمال التي يجزى بها ، فيكون قصد القربة معتبرا فيما يترتّب عليه الجزاء. وظاهر أنّ استحقاق الثواب مشروط بالامتثال ، كما نبّهنا على ذلك فيما تقدّم. والكلام في اشتراط سقوط التكليف بالقصد ، وأين أحدهما من الآخر؟ لجواز سقوط التكليف مع عدم ترتّب الثواب والجزاء.

والإنصاف : أنّ الظاهر من « الدين » هو العبادة التي يرادف الانقياد ، والإخلاص فيه عبارة عن عدم اختلاطه بالانقياد لغير وجهه الكريم ، فيكون المراد

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٣١٢

به أنّهم مأمورون بالانقياد والتذلّل حال كونهم مخلصين له التعبّد والانقياد من غير اختلاطه بانقياد غيره ، كما ينظر إلى ذلك التفاسير المنقولة والآيات المشابهة لها في المساق ، على ما عرفت.

ولو تنزّلنا وأغمضنا عن ذلك كلّه ، فيجب حمل الآية على الاستحباب ، إذ على تقدير إرادة وجوب نيّة القربة يلزم تخصيص مستبشع لا يمكن التزامه ، إذ الأغلب في الأوامر الواردة في شريعتنا أنّها واجبات توصّليّة. ولعلّ ذلك ممّا لا يقبل الإنكار.

الثاني : قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(١).

وجه الدلالة : أنّ الإطاعة ممّا قد امر بها في هذه الآية ، ولا تصدق إلاّ بقصد الامتثال ، فيجب ذلك في الأوامر نظرا إلى وجوب الإطاعة. فتكون هذه الآية حاكمة على ظواهر الأوامر الواردة في المقامات الخاصّة ، نظير ورود قوله تعالى : ( وَسارِعُوا )(٢) على الأوامر الخاصّة على القول بدلالتها على الفور.

والجواب عنه : أنّ الإطاعة تارة تطلق ويراد بها ما لا يصدق بدون قصد الامتثال على ما هو مناط الاستدلال ، وتارة يطلق ويراد بها مجرّد عدم المعصية.

وليس يجوز أن يكون المراد بها في المقام هو الأوّل ، إذ على تقديره يلزم أن يكون إطاعة الرسول واجبة أيضا بمعنى قصد التقرّب إليه تعالى ، مع أنّ الإجماع قائم بعدم وجوب إطاعة الرسول بهذا المعنى ، إذ لم يقل بوجوب قصد التقرّب إليه تعالى أحد من العلماء ، ولا يكفي في ذلك أنّ إطاعة الله بعينها هي إطاعة الرسول ، إذ الظاهر من تكرار الأمر في الآية تكرار المأمور به ، ولذلك أوردنا في الاستدلال هذه الآية ، مع أنّه يمكن الاستدلال بآية لم يكرّر فيها الإطاعة ، فتدبّر.

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) آل عمران : ١٣٣.

٣١٣

سلّمنا ولكنّه تخصيص للأكثر على وجه لا يكاد يلتزم به المنصف ، فلا بدّ من أن يحمل على المعنى الثاني ، كما يشعر بذلك ورودها بهذا المعنى في كثير من الموارد في القرآن الكريم وغيره ، كما في الأمر بإطاعة الوالدين (١) ، إذ ليس المراد بها فيه إلاّ مجرّد عدم المخالفة. وكما في قوله تعالى : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً )(٢) فإنّ مقابلة التولّي بالإطاعة من أقوى الشواهد على أنّ المراد بها في الآية عدم المخالفة ، وقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا )(٣) ، وقوله : ( أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ )(٤) ، وفي الزيارات : « من أطاعكم فقد أطاع الله ومن عصاكم فقد عصى الله » (٥) فإنّ مقابلة العصيان ـ كمقابلة التولّي ـ يؤذن بالمراد منها.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من أنّ المراد بالإطاعة هو عدم المعصية ، ليس على وجه المجازيّة ، لما ستعرف : من أنّه قد يمكن أن يكون المقصود أعمّ من مدلول اللفظ بحسب الظاهر ، على وجه لا سبيل إلى التأدية عن ذلك المعنى المقصود الأعمّ إلاّ على الوجه الغير المفيد لخصوص المراد ، على خلاف الواجبات التعبّديّة ، فإنّ المقصود منها التعبّد بها ، مع أنّه لا يمكن أن يكون المفاد للأمر الدالّ عليه.

وبالجملة ، فالمقصود بهذه الأوامر ليس إلاّ مجرّد عدم الترك ، إلاّ أنّ اللفظ المفيد لذلك المعنى يفيد معنى آخر ليس مرادا. وإن أبيت عن ذلك فالمجاز ممّا يجب

__________________

(١) الإسراء : ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) النساء : ٨٠.

(٣) النور : ٥٤.

(٤) آل عمران : ٣٢.

(٥) كما في الزيارة الجامعة ، انظر الفقيه ٢ : ٦١٧.

٣١٤

أن يصار إليه إذا دلّ عليه الدليل كما عرفت ذلك. ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا : بأنّ المراد من الإطاعة معناها الحقيقي ، فلا نسلّم أنّها حاكمة على الأدلّة الخاصّة ؛ إذ لعلّها واجبة في حدّ ذاتها من غير أن يكون مناطا لأمر آخر ، فالامتثال واجب مستقلّ وفعل الصلاة واجب آخر ، ويمكن سقوط الأمر الأوّل مع عدم سقوط الأمر الثاني بمعنى حصول المكلّف به فيها ، إذ الأمر الأوّل موضوع للإطاعة ـ على ما عرفت ـ فيكون سقوط الأمر الأوّل رافعا للعقاب المترتّب على مخالفته وإن كان موجبا للعقاب المترتّب على العصيان بواسطة الأمر بالإطاعة.

إلاّ أنّ ذلك خلاف الإنصاف ، إذ الالتزام بمثل ذلك لعلّه خلاف الإجماع ، فإنّ سقوط الواجب لو كان موجبا لعدم ترتّب العقاب المترتّب على تركه ، لا يعقل أن يكون موجبا للعقاب المترتّب على ترك الإطاعة بواسطة ارتفاع موضوعه كما لا يخفى. فتدبّر في المقام جدّا.

الثالث : قوله عليه‌السلام : « لا عمل إلاّ بنيّة » (١) ونظيره قوله عليه‌السلام : « إنّما الأعمال بالنيّات » (٢) وقوله عليه‌السلام : « لا قول إلاّ بالعمل ، ولا عمل إلاّ بالنيّة ، ولا نيّة إلاّ بإصابة السنّة » (٣) وقوله عليه‌السلام : « لكلّ امرئ ما نوى » (٤).

وجه الدلالة : أنّ العمل عبارة عن مطلق الأفعال التي يتعلّق بها الأمر والطلب من الامور الواجبة ، والنيّة عبارة عن قصد القربة ، ونفي العمل بدون النيّة يوجب الكذب ، فلا بدّ من حمله على نفي الأثر كما في روادفه ، كقوله : « لا صلاة

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٣ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١ ـ ٣.

(٢) المصدر المتقدم : ٣٥ ، الحديث ١٠.

(٣) المصدر المتقدم : ٣٣ ، الحديث ٢.

(٤) المصدر المتقدم : ٣٥ ، الحديث ١٠.

٣١٥

إلاّ بطهور » (١) فالمعنى : أنّه لا يترتّب على واجب من الواجبات أثر من الآثار المطلوبة منها ـ من سقوط الأمر وفراغ الذمّة واستحقاق الثواب ـ إلاّ بقصد القربة. وهو المطلوب.

والجواب عنه : أوّلا : منع كون المراد من العمل مطلق الأفعال الواجبة ، بل الظاهر بملاحظة ورود لفظ « العمل » في مقامات عديدة نظائر (٢) المقام : أنّ المراد بالعمل خصوص العبادات ، كما في قوله : « والعالمون كلّهم هالكون إلاّ العاملون » (٣) وفي قوله : « لا عمل لي أستحقّ به الجنّة » (٤) وإن أبيت عن ذلك فلا بدّ من حمله على ظاهره لغة ، وهو مطلق الأفعال من دون اختصاص له بالواجبات ، ولازمه عدم ترتيب الأثر على كلّ فعل ولو كان من الأفعال المحرّمة إلاّ بنيّة القربة. وفساده غنيّ عن البيّنة.

وثانيا : نمنع كون المراد بالنيّة هو قصد القربة ، إذ المقصود من لفظ « النيّة » عرفا ولغة ليس إلاّ مجرّد القصد إلى الفعل ، ولا دليل على أنّ المراد بها في المقام هو قصد القربة. غاية ما في الباب دلالته حينئذ على اعتبار قصد العنوان في العمل ، فما لم يتحقّق قصد الفاعل إلى عنوان الفعل والعمل لا يتحقّق عمل منه ولا فعل.

ومع ذلك فليس يجوز حمله على هذا المعنى أيضا ، ضرورة وجود ذات العمل مع عدم القصد إلى عنوان الفعل ، فلا يصحّ رجوع النفي إلى الذات ،

__________________

(١) المصدر المتقدم : ٢٥٦ ، الباب ٦ من أبواب الوضوء ، الحديث ١ و ٦.

(٢) في ( ع ) و ( ط ) : تناظر.

(٣) تنبيه الخواطر ٢ : ٤٣٧ مع تفاوت يسير.

(٤) لم نعثر عليه.

٣١٦

فلا بدّ أن يحمل العمل على الأفعال الاختياريّة من حيث إنّها اختياريّة ، فيكون المراد : ليس الفعل الاختياري موجودا ما لم يكن مقصودا.

ومع ذلك ، فلا يجوز حمله على هذا المعنى أيضا ، ضرورة وجود الفعل الاختياري من غير قصد إلى عنوان الفعل إذا كان له عناوين متعدّدة مع تعلّق القصد بأحدها ، فإنّه يكفي في وقوع الفعل اختيارا أن يكون أحد عناوينه مقصودا للفاعل.

نعم ، لا يكون اختياريّا باعتبار عنوانه الغير الملتفت إليه ، كما هو ظاهر. فلا بدّ من أن تحمل الرواية على أنّ الفعل الاختياري بعنوانه الاختياري غير واقع إلاّ بالقصد إلى ذلك العنوان. هذا ما تقتضيه قواعد اللغة.

وأمّا ما يمكن استظهاره من الرواية فهو ما عرفت من أنّ المراد بها خصوص الأفعال العباديّة ، ويدلّ على اعتبار القربة فيها ، فلا دلالة فيها على المطلوب بوجه. على أنّه لو حمل على ما زعم يلزم تخصيص بشيع (١) لا يكاد يلتزم به من له مسكة ، فالأمر دائر بين التصرّف في الرواية بأحد الوجوه المذكورة.

ونحن لو لم ندّع ظهور الاحتمال الأخير لا نسلّم ظهورها في غيره ، فلا وجه للاستدلال ؛ لمكان الإجمال.

وأمّا قوله : « إنّما الأعمال بالنيّات » فقد ادّعي تواتره لفظا (٢). إلاّ أنّ بعض أصحابنا (٣) ـ على ما حكاه الاستاذ ـ قال باتّصال إسناده إلى الخليفة الثاني. وكيف كان ، فهو بمنزلة أن يقال : « كلّ عمل بالنيّة » وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : « كلّ ما ليس متلبّسا بالنيّة ليس بعمل » فيكون مفادها مفاد الرواية السابقة في الاحتمالات المتصوّرة. وعلى قياسه الرواية الاخرى.

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : شنيع.

(٢) كشف الغطاء ٤ : ٢٣.

(٣) وهو المحقّق في المعتبر ١ : ٣٩٠ ، وراجع السنن الكبرى للبيهقي ١ : ٢١٥.

٣١٧

وأمّا قوله : « لكلّ امرئ ما نوى » فمن الظاهر عدم انتهاضه بشيء من المقصود ، فلا وجه للاستناد إليه.

فالتحقيق أنّ مقتضى الأوامر الخاصّة ـ على ما عرفت ـ لا يزيد على التوصّليّة ، والأدلّة المذكورة لا تنهض حجّة على إثبات الأصل الثانوي ، فعند الشكّ لا بدّ من الأخذ بمقتضى أصالة البراءة أو أصالة العدم ، على ما نبّهنا عليه في الهداية (١).

__________________

(١) لم ترد عبارة « على ما نبّهنا عليه في الهداية » في ( ع ) ، وفي ( م ) ورد بدله : والله الهادي.

٣١٨

هداية

بعد ما عرفت من أنّه لا دليل على لزوم قصد القربة في الأوامر ، فهل هناك ما يدلّ على اعتبار قصد العنوان في المأمور به ، أم لا؟ وجهان ، بل قولان ، فذهب جماعة إلى الأوّل (١). والحق هو الثاني.

وقبل الدخول في الاستدلال ينبغي أن يعلم أنّه لا إشكال في أنّ الفعل إذا لم يصحّ استناده إلى المكلّف بوجه من الوجوه ليس مجزيا في الأمر ، مثل ما إذا فرض الإكراه والإجبار في صدور الفعل ، دون ما إذا حصل له الداعي إكراها ، للفرق الظاهر بين الوجهين ؛ وذلك لأنّ المنساق من الفعل المأمور به هو ما يكون مستندا إلى المكلّف ، إمّا بدعوى أنّ لفظ « الفعل » حقيقة فيما يصحّ انتسابه إليه وإن كان بعيدا عن التحقيق ، لما قرّر في مقامه من تقسيم الفعل إلى الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الفاعل المختار وغيرها ممّا يصدر عن الفاعل الموجب ؛ مضافا إلى أنّ لفظ « الفعل » ممّا لا يجدي كونه حقيقة ، إذ ليس المأمور به عنوان الفعل بل مصاديقه كالضرب ونحوه ، فلا بدّ من التكلّم فيها. وإمّا بواسطة أنّ الضرب المأمور به منصرف عرفا إلى ضرب يصحّ استناده إلى الضارب ، فلو أمر المولى عبده بالضرب مثلا وأخذ يده واحد من غلمانه وأوقعها على واحد لم يكن العبد ممتثلا. ولعلّ ذلك مفروغ عنه عندهم.

ويلحق بذلك ما إذا صحّ استناده إليه ولكن لم يكن الفعل واقعا على شعور ،

__________________

(١) كالعلاّمة في مبادئ الوصول : ١١٤ ، ولم نعثر على غيره.

٣١٩

كما إذا وقع منه نائما. ولا ينافيه أدلّة الضمانات ، إذ الفعل لا يصحّ سلبه عنه حينئذ ، وهو كاف في تصحيح الضمان. إلاّ أنّ الواقع في تلو الأوامر التكليفيّة لعلّه ينصرف إلى ما هو مقصود (١) له ولو بوجه ، فلو وقع من غير أن يكون مشعورا به لا يبعد دعوى عدم الإجزاء فيه وإن لم يكن في الظهور بمرتبة القسم الأوّل ، كما لا يخفى.

ولا إشكال أيضا في لزوم القصد إذا كان الفعل ممّا لا يقع إلاّ بالالتفات إليه.

وتحقيق ذلك : أنّ الفعل ذاته عبارة عن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق مثلا ، وتحقّق تلك الذات لا يتوقّف على قصد ، إلاّ أنّ لذلك الفعل وجوها واعتبارات ، يلحقها بعضها من غير أن يكون مقصودا ، كـ « الضرب » فإنّه اسم للحركة المخصوصة وإن لم يقع على وجه الضرب ، ويلحقها بعضها إذا كان ذلك الوجه مقصودا ، فلا يقال للحركة : إنّها تعظيم ، ما لم يكن التعظيم مقصودا. فإذا تعلّق الأمر بمثل هذا العنوان فلا مناص من القصد إليه تحصيلا للموافقة بعد العلم بالاقتضاء. فالفرق بين الضرب وبين التعظيم : أنّ الضرب بدون القصد صادق ، فيمكن القول بالإجزاء ، بخلاف التعظيم. ولعلّ ذلك أيضا ظاهر.

وإنّما الإشكال في عنوان يقع على وجه الاختيار مع وقوع ذات الفعل ولو بعنوان آخر اختياريّا وصدق العنوان الذي لم يقع على وجه الاختيار.

وكيف كان ، فاحتجّ الذاهب إلى اعتبار القصد بوجوه ، أقواها امور :

أحدها : دعوى تبادر الفعل الواقع على وجه (٢) الاختيار بعنوانه من الفعل الواقع في تلو الأوامر. فإن اريد منه أنّ الضرب حقيقة في الواقع مقصودا منه فذلك دعوى محالة ، وإن اريد الانصراف وإن كان يمكن ذلك إلاّ أنّه ممنوع أشدّ المنع.

__________________

(١) في ( ع ) : المقصود.

(٢) في ( ط ) : جهة.

٣٢٠