مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

أوّلا : إنّ المستدلّ بالدليل المذكور هو الأشعري الذي لا يقول بمقالة العدليّة من ثبوت المصالح والمفاسد وإن تابعهم في ذلك بعض العدليّة (١) أيضا ، إلاّ أنّ المناسب هو الجواب على وجه لا يبتني على قواعد العدليّة إلزاما للأشعري أيضا.

وثانيا : أنّ الكاشف عن وجود المنقصة في الفرد المكروه إمّا العقل وإمّا الشرع ، إذ لا ثالث في المقام ، وشيء منهما لا يدلّ على ذلك.

أمّا العقل فظاهر ، حيث إنّه لا سبيل له إلاّ في ما يستقلّ هو في إدراك حكمه ، وموارد النقض ليس منها.

وأمّا الشرع ، فلا نعرف منه شيئا يدلّ على المنقصة إلاّ النهي من قبيل البرهان الإنّي ، فإنّ المنقصة تستتبع النهي ، والمفروض في المقام عدم النهي ، لامتناع اجتماع الطلبين ، فالقول بثبوت المنقصة وعدم ثبوت الطلب قول بلا دليل يشبه أن يكون رجما بالغيب ، فإنّه لا يعلم إلاّ من الله ورسوله والراسخين في العلم ، كما هو ظاهر.

فإن قلت : قد علمنا من عنوان الدليل الوارد في مقام الحكم مثل قوله : « لا تتصرّف في المال المشتبه » وغيره ، أنّ هذا العنوان مشتمل على جهة منقصة تقتضي الكراهة ، وإلاّ لم يتعلّق النهي به. وقد علمنا أيضا من عروض الوجوب لفرد من الأفراد الداخلة في ذلك العنوان اشتمال ذلك الفرد على مصلحة الوجوب ، وهو لا ينافي وجود الجهة ، بل هو مانع عن تحقّق الطلب على وجه الكراهة ، فثبوت الجهة هو مقتضى الخطاب الشرعي ، وليس قولا بما لا يعلم.

قلت : بعد البناء على تخصيص النهي بالأمر وتقديم الأمر والقول بالوجوب يكون الفرد الواجب خارجا عن العنوان المذكور ، ولا دليل على ثبوت الجهة في

__________________

(١) مثل المحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٤٢.

٦٢١

مطلق ذلك العنوان ، فلعلّه مختصّ بما فيه الكراهة الفعلية ، فإنّ ثبوت حكم لطبيعة (١) مقيّدة لا دلالة فيه على ثبوته لفرد آخر لتلك الطبيعة.

فإن قلت : هب أنّ التخصيص في العنوان يوجب خروج مادّة الاجتماع عن النهي ، لكن التخصيص إنّما هو بواسطة وجود مانع عن ترتّب أثر المقتضي عليه ، كما يلاحظ في قولنا : « أكرم العلماء ولا تكرم الفساق » مثلا ، فإنّ المستفاد في العرف من الخطاب المذكور هو أنّ العلم يقتضي الإكرام والفسق إنّما يمنع منه ، ولذا لو شكّ في فسق العالم يحكم بوجوب إكرامه ، لأنّ المانع محكوم بالعدم بالأصل.

قلت : لا نسلّم اختصاص التخصيص بما إذا كان المقتضي موجودا ، إذ يحتمل أن يكون مورد التخصيص ممّا لم يجد فيه المقتضي أيضا ، كأن يكون العلّة التامّة مختصّة بغير الفرد المخصّص. وأمّا الاستناد إلى الأصل المذكور فهو إنّما يوجب إحراز ما هو العنوان لوجوب الإكرام الملازم للعلّة التامّة ، وهو العالم الغير الفاسق ، ولا دلالة فيه على أنّ العلم هو المقتضي والفسق إنّما يمنع من حصول أثره.

نعم ، لو كان العنوان ممّا يستقلّ بحكمه العقل على وجه لا ينافي تخصيص الشارع له ، كان القول ببقاء الجهة بعد ارتفاع الحكم له وجها (٢). ولكن لا يعقل التخصيص في مورد حكم العقل ، ولو كان وجه التخصيص عقليّا لم يبعد الالتزام ببقاء الجهة ، كما في موارد التزاحم بين الواجبين ، كإنقاذ الغريقين بعد تزاحمهما ، فإنّ العقل قاض بعدم تعلّق الطلب بهما معا مع العلم ببقاء المصلحة فيهما ، إلاّ أنّ ما نحن بصدده ليس من هذا القبيل.

__________________

(١) في ( ط ) : بطبيعة.

(٢) كذا ، والظاهر : وجه.

٦٢٢

فإن قيل : إنّ الوجه في التخصيص في المقام هو امتناع اجتماع الطلبين على وجه لو فرض ارتفاع الطلب من طرف ـ كما لو وقع المحرّم سهوا أو نسيانا (١) ـ لم يكن مانع من ترتيب الأثر على الطرف الآخر ، فيحكم بالصحّة. وليس التخصيص شرعيّا ، إذ على تقديره يلزم فساد الفرد الجامع للعنوانين على تقدير تقديم النهي ، من جهة عدم الأمر ، لا بواسطة امتناع اجتماع الطلبين ، ويلزم من ذلك بقاء المصلحة على تقدير (٢) ارتفاع الطلب.

قلت : فعلى ذلك ، فهو جار في مثل قولنا : « أكرم عالما ولا تكرم الفاسق » مع أنّه على تقدير التخصيص لا يعلم ببقاء المصلحة في الفرد الخارج. والوجه في ذلك : أنّ وجه التخصيص ليس إلاّ التضادّ الواقع بين الأمر والنهي في الفرد الجامع ، والمفروض أنّ ذلك لا يقضي إلاّ بعدم تعلّق الطلب بالفرد الذي تعلّق طلب مناقض له به ، فلنا أن نحكم ببقاء المصلحة بعد ارتفاع الطلب ، وقد عرفت فساده.

وثالثا (٣) : أنّ قضيّة اللطف ومراعاة المصالح والمفاسد هو اختصاص الأمر في أمثال هذه الموارد بالفرد الغير المشتمل على المنقصة ؛ لأنّ في الأمر به تفويتا للزائد من دون انجبار ، إذ المفروض حصول مصلحة الأمر في الفرد الخالي عن المنقصة أيضا.

ويمكن دفعه : بأنّ التنبيه على تلك المنقصة والأمر به موافق للّطف ، لاحتمال الانحصار فيه ، فعلى تقدير عدم الأمر يكون ذلك تفويتا في حقّه ، اللهم إلاّ أن يقال : إنّ ذلك يحصل في الأمر به على وجه الترتيب ، فتأمّل.

__________________

(١) في ( م ) زيادة : أو مضطرّا.

(٢) في ( م ) زيادة : تقديم النهي.

(٣) عطف على قوله : « أوّلا » في الصفحة ٦٢١.

٦٢٣

ورابعا : أنّه يلزم على ذلك التقدير أن يكون الفرد المباح أفضل فردي الواجب التخييري ، وهو باطل اتّفاقا منّا ومن المجيب ، إذ لا يراد منه إلاّ ما فيه مصلحة زائدة على مصلحة الواجب ، والمفروض أنّ المكروه مشتمل على مصلحة الواجب ، فيرد (١) عليه عدم الانضباط في المكروه وجريانها في مثل الصلاة في المسجد والمسجد الحرام ونحوه ، ولا سبيل إلى التزامه ، فإنّ ذلك التصرّف مقطوع الفساد في الظواهر التي تدلّ على الكراهة. ولا ينافي القطع بوجوب صرفها عن ظاهرها ، فإنّه لا يقضي بحملها على ما هو ظاهر البطلان ، كما لا يخفى.

ويمكن دفعه : بأنّ المجيب بنى جوابه على أن يكون المراد من قلّة الثواب هو قلّته بالنسبة إلى الثواب المقرّر للماهيّة ، ويستفاد منه بالمقايسة أنّ المندوب هو ما زاد ثوابه على ثواب الماهيّة والفرد المباح لا يزيد ثوابه على ثوابها ، إذ المفروض في كلامه ـ كما هنا ـ هو أنّ الكراهة في العبادة إنّما يكون لها مسرحا في العبادات التي تزيد مصلحتها على مصلحة مقتضية للوجوب.

ثم إنّه قد يستشكل في المقام أيضا : بأنّ استفادة قلّة الثواب من تلك النواهي ممّا لا سبيل إليها ، فإنّ ذلك المعنى من المعاني التي ينبغي استفادتها من الجمل الإخباريّة دون الجمل الإنشائيّة ، فلا يعقل أن يكون المراد بقوله : « لا تصلّ في الحمّام » أنّ الصلاة في الحمّام أقلّ ثوابا من غيرها ، إذ لم يعهد منهم استعمال الإنشاء في الإخبار وإن كثر استعمال الإخبار فيه ، فإنّه من محاسن الطلب ، كما لا يخفى.

وتمحّل بعض الأجلّة (٢) في دفعه ، تارة : بجعل النواهي المذكورة إرشاديّة مجرّدة عن معنى الطلب بقرينة قيام الحجّة العقليّة على استحالة تعلّق الطلب بطرفي

__________________

(١) في ( ع ) : فيعود.

(٢) الفصول : ١٣٢.

٦٢٤

النقيض ، واخرى : بالتزام كونها مستعملة في الطلب التنزيهي على وجه الغيريّة والمقدّميّة للوصلة إلى الفرد الأفضل.

وفيه ، أوّلا : أنّ القول بتجرّد الإرشاديّات عن الطلب مخالف لما هو الواقع ، كما مرّ في بعض المباحث المتقدّمة.

وثانيا : أنّ الإرشاد إلى ترك الناقص غير معقول إن لم يكن للوصلة إلى الكامل ، وإلاّ فيكون من الأمر المقدّمي ، ولعلّه تفطّن بذلك حيث حكم برجوع أحدهما إلى الآخر.

وثالثا : أنّ الكراهة المقدّميّة أيضا ينافي الوجوب ، إذ كما أنّ التضادّ واقع بين الوجوب وما يخالفه من الأحكام النفسيّة ، فكذا بينه وبين الأحكام الغيريّة ، فالمصير إليه ممّا لا يجدي.

وأجاب عن ذلك : بابتنائه على ما زعمه من اختصاص وجوب المقدّمة بما إذا كانت موصلة إلى ذيها (١).

وتوضيحه هو : أنّ الصلاة في الحمّام تارة يترك ويتوصّل بتركها إلى الصلاة في غير الحمّام من المواضع الغير المكروهة ، وتارة لا يتوصّل بها إلى الفرد الكامل ، إمّا بإيجادها في الحمّام وإمّا بعدم إيجادها مع ترك الكامل أيضا ، ففيما إذا كان الترك المذكور مطلوبا من حيث كونه مقدّمة للوصلة إلى الفرد الكامل يتّصف بمطلوبيّة الترك وليس فعله مطلوبا ، لأنّ المطلوب في الواجب المخيّر هو الفرد الذي اختاره المكلّف في مقام الامتثال ، وبعد اختياره فردا لا يكون الباقي مطلوبا. وفيما إذا كان فعله مطلوبا باختيار ذلك الفرد في مقام الامتثال بالواجب المخيّر لا يكون تركه مطلوبا ، لعدم تحقّق شرط المطلوبيّة وهو الوصلة إلى الغير ، لعدم ترتّبه عليه كما هو المفروض.

__________________

(١) انظر الفصول : ١٣٢.

٦٢٥

وفيه ـ بعد الغضّ عن فساد المبنى كما أوضحنا سبيله في بعض مباحث المقدّمة ـ : أنّ بعد ما فرض من اختصاص مطلوبيّة الترك بفرد خاصّ من الصلاة في الحمّام وهو الترك المتوصّل به إلى الفرد الكامل ،

يلزم أن لا يكون مطلق الترك مطلوبا ، فلا دليل على وجود المنقصة في فعله.

لا يقال : إنّ مطلوبيّة ترك خاصّ يوجب مرجوحيّة الفعل.

لأنّا نقول : قد تقدّم منه أنّ المرجوح هو ترك هذا الترك الخاصّ ، وهو أعمّ من الفعل ، وهو لا يرى سراية تلك المرجوحيّة إلى الأفراد ، كما تقدّم في المباحث السابقة. مضافا إلى أنّ القول بعدم مطلوبيّة أفراد الواجب المخيّر بعد الإتيان بفرد غيرها في مقام الامتثال لا يخلو عن حزازة ؛ حيث إنّ جميع الأفراد في نظر المولى والآمر متساوية النسبة ، والاختيار إنّما هو في مقام سقوط الطلب المتعلّق بالماهيّة مجرّدا ، أمّا (١) بالنظر إلى طلب الآمر فلا يعقل مدخليّة للاختيار ، والمحذور إنّما هو الثاني دون الأوّل ، فتامّل.

ورابعا : أنّ المناط في الإرشاد المذكور الذي مرجعه إلى الكراهة الغيريّة موجود في جميع أفراد الواجب المخيّر مع اختلافها في الثواب ، فيلزم النهي عن الصلاة في البيت للإيصال إلى الفرد الكامل منها وهو الصلاة في المسجد ، والنهي عنها للصلاة التي تقع في المسجد الحرام. ولا سبيل إلى دفعه : بأنّ مجرّد وجود المناط لا يكفي في الحكم بالكراهة ما لم يرد فيه النهي ؛ لما قد تقدّم في مباحث المقدّمة من أنّ الطلب الغيري يتبع ما هو المناط في المقدّمية ، ولا يتفاوت فيه وجود الأمر الأصلي ، كما إذا صرّح بوجوب بعض المقدّمات كقولك : « ادخل السوق » عند إرادة اشتراء اللحم ، وعدمه كما في سائر المقدّمات.

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : وأمّا.

٦٢٦

وبالجملة. فالنهي عن الناقص للوصلة إلى الكامل وإرشادا إليه ، مناطه متحقّق في جميع الأفراد المختلفة ثوابا ، وقضيّة ذلك التزام الكراهة فيها. اللهم إلاّ أن تكون الكراهة في مثل المقام مجرّد اصطلاح.

وقد يجاب (١) عن الإيراد المذكور : من لزوم الكراهة في جميع الأفراد التي يختلف ثوابها :

تارة : بأنّه يمكن أن يشترط في إطلاق الكراهة وصول الفعل في المرجوحيّة الإضافيّة وأقلّية الثواب حدّا خاصّا تشبه به المرجوح في نفسه وما لا ثواب له.

واخرى : بأنّ لفعل كلّ طبيعة مأمور بها ـ مع قطع النظر عن جميع المنضمّات ـ قدرا معيّنا من الثواب والرجحان بالنسبة إلى تركه ، وقد يزيد ذلك من جهة بعض الخصوصيّات كالصلاة في المسجد ، وقد ينقص مع بقاء أصل الرجحان والثواب كالصلاة في الحمّام ، وقد يبقى بحاله كالصلاة في البيت ، فما زاد رجحانه وثوابه عن أصل الطبيعة اطلق عليه اسم « المستحبّ » وما نقص عنه « المكروه » وما بقي بحاله « المباح » ، انتهى (٢).

أقول : أمّا ما أفاده أوّلا من اشتراط إطلاق الكراهة بوصول الفعل حدّا ، فممّا لا يرجع إلى حاصل ، فإنّ ذلك ليس من الامور التوقيفيّة ، بل المناط في الإطلاق المذكور هو المرجوحيّة بالنظر إلى ما ليس فيه تلك المرجوحيّة من أفراد الطبيعة ، ومن المعلوم عدم اعتبار الوصول إلى حدّ خاصّ في الإطلاق المذكور.

وأمّا ما أفاده ثانيا : فإن اريد منه أنّه قد ينضمّ إلى الماهيّة الراجحة عنوان آخر من عناوين الأفعال اللاحقة التي تقتضي نقص الثواب لأجل مصادمة

__________________

(١) أجاب عنه المحقّق النراقي.

(٢) مناهج الأحكام : ٥٧ ـ ٥٨.

٦٢٧

ومدافعة تقع بينهما من حصول الفعل والانفعال فيهما ، فهو راجع إلى ما أفاده المجيب المتقدّم. فيرد عليه ما أوردنا عليه سابقا ، مضافا إلى أنّه لم يعقل معنى محصّل لتأثير جهة الكراهة في المأمور به وإيراثها فيه نقصا ، غاية الأمر وجود العنوانين ، ويلحق بهما أحكامهما من غير إحباط وتكفير فيهما ، فاللازم وجود المنقصة بتمامها ووجود المصلحة كذلك.

وإن اريد منه أنّ الخصوصيّة من غير أن تكون آئلة وراجعة إلى فعل من الأفعال توجب نقصا في الثواب المقرّر للطبيعة ، فإن اريد منه ما قد يوجد في كلمات غير واحد منهم أنّ فعل الصلاة مثلا يترتّب عليها ثواب وإيقاعها في مكان خاصّ له ثواب آخر (١).

ففيه : أنّ الإيقاع إنّما هو عنوان ينتزع من الفعل ، وليس وراء نفس الفعل شيئا آخر كما في مثل الشروع في الفعل ، فإنّه ليس أمرا آخر غير الفعل ، ولا يعقل اختلافهما في الثواب بعد عدم لحوق عنوان آخر للفعل كما هو المفروض.

وإن اريد منه أنّ نفس الإيقاع والفعل في مكان له ثواب دون نفس الفعل ، فمرجعه إلى التزام أنّ الفعل من دون تقييده بوقوعه في مكان خاصّ لا ثواب له ، وإنّما الثواب بإزاء الإيقاعات الخاصّة والأفراد المختلفة باختلاف المشخّصات التي بها يتحقّق أفراد ماهيّة الفعل ، وإذن يعود المحذور من عدم الانضباط وصحّة الكراهة في الفرد الناقص ثوابا من الفرد الآخر ، فيصحّ القول بكراهة الصلاة في البيت بالنسبة إلى المسجد ، وفي مسجد المحلّة بالنسبة إلى المسجد الجامع ، وفيه بالنسبة إلى المسجد الكبير في الكوفة ... إلى غير ذلك. وستعرف لهذه الكلمات توجيها وجيها إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) منهم الملاّ صالح في حاشية المعالم : ١٢٠ ، والمحقّق النراقي كما تقدّم ، وراجع مناهج الأحكام : ٥٨.

٦٢٨

الثاني من وجوه الحلّ (١) : ما وجدناه في الرسالة المنسوبة إلى بعض سادات مشايخ مشايخنا ، وحاصله : أنّ النهي في العبادات المكروهة متعلّق بالوصف أعني خصوصيّة الفرد مثل « وقوعها في الحمّام » ومتعلق الأمر هو الطبيعة ، فيختلف مورد الأمر والنهي.

واستند في ذلك بما محصّله : أنّ متعلّق الأوامر على ما هو التحقيق هو الطبائع دون الخصوصيّة والأفراد ، فيكون الأمر نصّا في طلب الماهيّة. بخلاف النهي ، فإنّه في معنى السلب ، وسلب المركّب عن الطبيعة والخصوصيّة قد يكون برفع الجزءين ـ أعني الماهيّة والخصوصيّة ـ معا ، وقد يكون برفع أحدهما ، كما هو الشأن في رفع المركّبات ، فيكون تعلّقه بالطبيعة ظاهرا لا نصّا ، ومن القواعد المقرّرة وجوب صرف الظاهر بالنصّ حيثما يقع التعارض بينهما.

وفيه ، أوّلا : أنّ الإشكال المذكور إنّما هو وارد على المانع من اجتماع الأمر والنهي ، والتفكيك بين خصوصيّة الفرد والطبيعة إنّما يلائم مذاق المجوّز ، كما هو ظاهر.

وثانيا : أنّ الاستدلال المذكور ممّا لا مساس له بالدعوى المذكورة ، إذ لا كلام لنا الآن في أنّ النهي كيف يقدّم على الأمر ، حتّى يقال : بأنّ النهي نصّ ويجب صرف الظاهر به. وليت شعري! ما المناسبة بين قاعدة انتفاء المركّب بانتفاء جزئيه معا أو أحدهما وبين ما نحن فيه؟

وثالثا : أنّ الخصوصيّة إن لم تكن راجعة إلى عنوان مغاير لعنوان الفعل لا يكون إلاّ نحو وجود الماهيّة ، فإنّ وجودات الأشياء هي التي بها يظهر آثار الماهيّات وخواصّها المطلوبة منها ، فتكون وعاء لآثارها كالحسن والقبح والحلاوة

__________________

(١) عطف على قوله : « الأوّل » في الصفحة ٦١٨.

٦٢٩

والمرارة والبرودة والحرارة ونحوها ، وليست الخصوصيّة وراء تلك الوجودات شيئا حتّى يتعقّل تعلّق النهي بها ويصير منشأ لاختلاف الأفراد في الثواب ، وعلى تقديره فاللازم هو ما عرفت فيما تقدّم من عدم الاطّراد وجريانه فيما ليس بمكروه إجماعا.

والظاهر أنّ الرسالة المزبورة ليست من تصانيف السيّد المزبور ، وما عرفت من أقوى الشواهد على ذلك ، فتدبّر.

الثالث (١) : أنّ النواهي التنزيهيّة راجعة إلى شيء خارج عن العبادة بحكم الاستقراء ، كالتعرّض عن الرشاش والتعرّض في موارد السيل (٢) ... إلى غير ذلك. وكونه خلاف الظاهر ممّا لا ضير فيه بعد قيام الحجّة على خلافه ، وليكن ذلك من باب الحكمة لعدم الاطّراد في كثير من الموارد وإن كان بعيدا ، ولا يلزم منه كراهة الكون في الحمّام مطلقا ؛ لأنّ المنقصة إنّما هي في الكون المتّحد مع الصلاة.

وفيه : أنّ الجواب المذكور ممّا لا يجدي نفعا ؛ لأنّه إن اريد من تعلّق النهي بأمر خارج عن العبادة تعلّقه به على وجه لا يجامع عنوانهما فرد ، كما يقال : إنّ النظر إلى الأجنبيّة منهي عنه ولكنّه خارج عن الصلاة ، فيقال : إنّ التعرّض عن الرشاش أمر خارج عن حقيقة العبادة ، فهو وإن كان يجدي في دفع اجتماع الأمر والنهي ، لكن يرد عليه : أنّ ذلك الأمر الخارج لا بدّ أن يكون مقارنا للعبادة ملازما لها ، إذ مع المفارقة لا وجه لتعلّق النهي بالعبادة ، ومع عدم الملازمة أيضا لا وجه للنهي على وجه الإطلاق ، فلا بدّ أن يكون ملازما ، فيبنى على جواز اختلاف المتلازمين في الحكم ، فلو قيل بالمنع مطلقا أو على وجه خاصّ شامل للمقام فهو ، وإلاّ فيرد الاحتمال المذكور ، وهو أنّ المعلوم من النواهي الواردة في العبادات كفتاوى من أفتى بالكراهة

__________________

(١) من وجوه الحلّ.

(٢) كذا ، والظاهر : للرشاش و ... لموارد السيل. وكذا في ما يأتى.

٦٣٠

فيها هو وجود المنقصة في نفس العبادة ، فيكون ذلك من التأويل المعلوم بطلانه ، وهو ظاهر عند التأمّل.

وإن اريد من تعلّق النهي بالخارج تعلّقه به على وجه يجتمعان في فرد واحد ، سواء كان بين الخارج والعبادة عموم من وجه أو عموم مطلق ، فالمحذور باق بحاله (١).

والظاهر أنّ إيراد الجواب المذكور في دفع النقض فيما نحن بصدده ليس في محلّه ، بل هو جواب عن إشكال آخر يشبه النقض المذكور ، وهو ما ذكره شيخنا البهائي في الزبدة (٢) والمحقّق الداماد في السبع الشداد : من أنّ وجود المكروه في العبادات يوجب تسديس الأحكام أو تسبيعه. فأجابوا عن ذلك بعدم تعلّق النهي بالعبادة ، بل بأمر خارج ، فليس مكروه العبادة قسما سادسا ، لأنّ نفس العبادة مستحبّة أو واجبة ، وذلك الأمر الخارج المجامع لها في الوجود مكروه ، فلا ضير فيه ، حيث إنّ الأحكام باقية على حصرها.

قال المحقّق الداماد بعد إيراده ضروبا من الإشكال ما لفظه : ثمّ إنّه إذا صحّ ذلك يصحّ قسم آخر سوى الخمسة المشهورة ، وهو ما يثاب تاركه من حيث هو تاركه وفاعله أيضا من حيث هو فاعل له ، ولكن يكون ثواب تركه أكثر من ثواب فعله ، وبإزاء هذا قسم آخر أيضا ، وهو ما يثاب فاعله من حيث هو فاعله وتاركه أيضا من حيث هو تارك له ولكن يكون ثواب فعله أكثر من ثواب تركه ، فإذن يفسد عليهم الحكم على الأحكام الشرعيّة التكليفية بالتخميس (٣) ، انتهى.

__________________

(١) في ( ع ) زيادة : وهو لزوم اجتماع الأمر والنهي.

(٢) زبدة الاصول : ٣٠.

(٣) السبع الشداد ( المطبوع ضمن رسالة اثنا عشر ) : ٦١.

٦٣١

وبالجملة ، فالجواب المذكور ألصق بالإشكال ، فلعلّه يكون إيراده في دفع الإشكال في المقام خبطا من الناقل ، فتدبّر.

الرابع من وجوه الحلّ : ما أفاده بعض الأجلّة وجعله من منفرداته وأطال في بيانه. ومحصّله : أنّ كراهة العبادة عبارة عن رجحان تركها بقصد القربة على وجه يكون القيد المذكور داخلا في المطلوب. ولا غائلة في ذلك ، لأنّ رجحان الفعل يقتضي مرجوحيّة الترك على وجه الإطلاق لأنّه نقيضه. وأمّا الترك المقيّد فليس نقيضا للفعل ، لثبوت الواسطة بينهما ، فرجحان الفعل لا يقتضي مرجوحيّة الترك المقيّد بقصد القربة ، فلا ضير في اتّصافه بالرجحان مع القيد المذكور ، كما أنّ الصوم راجح فعله ، وتركه مقيّدا بإجابة المؤمن أيضا راجح ، ولا مناقضة بينهما لاختلاف محلّي الرجحان والمرجوحيّة. وبالجملة ، فالصلاة في الحمّام فعله راجح بقصد القربة ، وتركها أيضا راجح بقصد القربة من دون مدافعة ، وإنّما التدافع بين رجحان الفعل ورجحان الترك على وجه الإطلاق (١). هذا ملخّص كلامه وإن أطال في بيان مرامه.

وفيه ، أوّلا : أنّ ذلك منه مبنيّ على أن يكون القربة من القيود اللاحقة للمأمور به ، كأن يكون القيد المذكور من وجوه المطلوب ، وقد تقدّم في بحث المقدّمة ما يوضح فساد هذا التوهّم.

لا يقال : ما ذكره لا يبنى (٢) على ذلك ، بل يتمّ على تقدير كونه من لواحقه بعد طريان الأمر عليه أيضا.

لأنّا نقول : إنّ اختلاف الماهيّة بالقيد لا يعقل إلاّ أن يكون ذلك القيد من لواحقه ، وإلاّ فكيف يختلف تلك الماهيّة بطريان ذلك القيد؟ وهو ظاهر.

__________________

(١) الفصول : ١٣٢ ـ ١٣٣.

(٢) في ( ط ) : « لا يبني » والظاهر : لا يبتني.

٦٣٢

وقد صرّح أيضا في مباحث الأوامر : أنّ إطلاق الأمر ممّا يمكن التمسّك به عند الشكّ في التعبّدية ، فراجعه (١).

وثانيا : لو أغمضنا عن ذلك ، وقلنا بأنّه يصحّ أن يكون القربة قيدا للمأمور به ، فنقول : ما أفاده فاسد أيضا ، حيث إنّ المحذور كلّ المحذور في التقرّب بترك ما هو فعله ممّا يتقرّب به ، فإنّه هو التناقض اللازم في المقام ، ومن الواضح أنّ اتّصاف طرفي النقيض بالتقرّب أمر محال لا يمكن أن يعقل.

نعم ، يصحّ ذلك في القيود التي يكون من قبيل الإجابة ، فالصوم من حيث كونه صوما مستحبّ فعله ، وتركه من حيث إنّه إجابة للمؤمن يمكن أن يكون مستحبّا ، فالتقرّب به ليس تقرّبا بترك الصوم بل بعنوان الإجابة المتّحدة مع الترك. وبذلك يظهر بطلان المقايسة المذكورة كما لا يخفى.

الخامس (٢) : ما نسب إلى الوحيد البهبهاني (٣) ، من أنّ المراد بكراهة العبادات مرجوحيّتها بالإضافة إلى غيرها من الأفراد. ولا ينافي ذلك رجحانها في حدود ذواتها. ولا ضير في ذلك ؛ فإنّه واقع في الشرع كثيرا ، فإنّ الغسل واجب نفسيّ على القول به ، ولا ينافي ذلك وجوبه الغيري ، ولا أقلّ من استحبابه النفسي مع وجوبه الغيري. ومثل ما نحن فيه (٤) الاتّزار فوق القميص في الصلاة وحمل الحديد فيها ، فإنّهما لا مرجوحيّة فيهما بحسب الشرع ، إلاّ أنّهما مرجوحان في الصلاة.

والإيراد على هذا الجواب ممّا لا حاجة إلى بيانه بعد ما عرفت.

__________________

(١) انظر الفصول : ٦٩.

(٢) من وجوه الحلّ.

(٣) راجع الفوائد الحائرية : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٤) في ( م ) : وما نحن فيه مثل.

٦٣٣

وهذه جملة من الكلمات التي أوردوها في النقض بالعبادات المكروهة التي بين عنوان المنهيّ عنه والمأمور به عموم مطلق.

وأمّا الكلام في العموم من وجه : فظاهرهم جريان الأجوبة المذكورة فيه أيضا ، بل وهو صريح المجيب الأوّل في حاشية المعالم ، حيث إنّه بعد ما أورد الجواب المذكور في المقام الأوّل طرّد الكلام في المقام أيضا.

وفيه ـ مضافا إلى الوجوه السابقة ـ : أنّ ذلك يوجب في العموم من وجه استعمال النهي في أكثر من معنى ، حيث إنّ المستفاد منه في غير مورد الاجتماع هو الكراهة المصطلح عليها ، فلو استفيد منه فيه معنى آخر لزم ما ذكرنا ، سواء في ذلك ما لو قيل بأنّ النهي للإرشاد أو مستفاد منه قلّة الثواب أو غير ذلك من وجوه التصرّف الراجع إلى اختلاف المعنى ، وهو ظاهر.

والإنصاف أنّ شيئا من الوجوه المذكورة لا يشفي العليل ولا يروي الغليل ، كما عرفت مفصّلا. مضافا إلى أنّ شيئا من الوجوه المذكورة لا ينهض بدفع النقض في العبادات المكروهة التي لا بدل لها ، كالتطوّع ونحوها (١).

فلا بدّ من تحقيق المراد من الكراهة في العبادات من بسط الكلام في طيّ مقامات ، فإنّ العبادات المكروهة على أقسام :

فتارة : يكون المنهيّ عنه أخصّ من المأمور به مع وجود البدل له من جنسه ، كالصلاة في الحمّام.

وتارة : لا يكون لها بدل من جنسه (٢) ، كالصوم في السفر ، والصلاة عند طلوع الشمس حيث إنّه يستحبّ التطوّع بها في كلّ زمان يسعها.

__________________

(١) كذا ، والمناسب : ونحوه.

(٢) كذا ، والمناسب : جنسها.

٦٣٤

وتارة : يكون المنهي عنه أعمّ من وجه من المأمور به مع اتّحادهما في الصدق في الخارج ، كاستعمال الماء المشتبه في الوضوء والصلاة في بيوت الظالمين.

المقام الأوّل

في تحقيق المراد من الكراهة في العبادات التي لها بدل مع كون المأمور به أعمّ من المنهيّ عنه ، كالصلاة في الحمّام.

وتنقيح البحث فيه لعلّه موقوف على تمهيد ، وهو : أنّ المستفاد من إطلاق الأمر المتعلّق بطبيعة من الطبائع في موارده امور ثلاثة :

الأوّل : ترخيص الآمر للمكلّف إيجاد تلك الماهيّة بالإتيان بها في ضمن أيّ فرد كان من أفرادها.

الثاني : حصول الامتثال وسقوط الطلب المتعلّق بتلك الماهيّة بالإتيان بها في ضمن أيّ فرد كان ، وهذا إنّما هو من لوازم الترخيص المستفاد منه كما عرفت ، فجميع أفراد تلك الماهيّة متساوية في مقام الامتثال.

الثالث : أنّ هذه الأفراد متساوية فيما يترتّب على تلك الماهيّة من الأجر والثواب ، فإذا فرضنا تعلّق نهي بفرد من أفراد تلك الماهيّة :

فإمّا أن يكون ذلك النهي ناظرا إلى الترخيص المستفاد من إطلاق الأمر ، فلا محالة يكون ذلك النهي تحريميّا. وهل يستفاد منه عدم وقوع الامتثال عن تلك الماهيّة بالفرد المنهيّ عنه أو لا بل النهي مفاده التحريم فقط ، أو لا يستفاد منه التحريم ، بل هو مسوق لعدم الاكتفاء به في مقام الامتثال ، فليس نفي الترخيص ، بل هو نفي ترخيص وضعي (١)؟ وجوه يبحث عنها في

__________________

(١) لم ترد « بل هو نفي ترخيص وضعي » في ( م ).

٦٣٥

المسألة الآتية من اقتضاء النهي الفساد ، كما ستعرف الحقّ إن شاء الله تعالى.

وإمّا أن لا يكون ذلك النهي تحريميّا بل هو نهي تنزيهيّ ، فيكون ناظرا إلى عدم استواء تلك الأفراد التي يقع بها الامتثال عن تلك الماهيّة في الأجر والثواب والمترتّب على تلك الماهيّة. كما أنّ الحقّ أنّ النهي التحريمي المتعلّق بفرد من العبادة ـ كالنهي عن الصلاة في الحرير ـ يستفاد منه مجرّد المانعيّة ولا يستفاد منه في العرف التكليف ، فيكون الفرد المنهيّ عنه حراما من جهة التشريع ، وليس من المحرّمات الذاتيّة.

وإذ تمهّد هذا ، فنقول : إنّ تلك النواهي ليست على حقائقها المصطلح عليها من رجحان الترك ومرجوحيّة الفعل ، بل إنّما هي إرشاد إلى أنّ تلك الأفراد أقلّ ثوابا عن الأفراد الأخر ، وليس خاليا عن معنى الطلب ـ كما توهّمه بعض الأجلّة (١) ـ بل مفاد الأمر والنهي الإرشاديّين هو الطلب ـ والداعي إليه هو بذل النصح للمطلوب منه وإراءة طريق له إلى اختيار الفرد الكامل في مقام الامتثال ليتوصّل به إلى الفوز بأعلى مراتب الثواب المقرّر لتلك الماهيّة.

فإن قلت : فما تقول في دفع ما اورد على الجواب المذكور من عدم الانضباط وكراهة العبادات الناقصة الثواب؟

قلت : ليس مجرّد قلّة الثواب منشأ للكراهة ، بل كان ذلك بواسطة وجود مانع عن ترتّب الثواب المقرّر لتلك الماهيّة.

وتوضيح ذلك : أنّ لماهيّة الصلاة قدرا معيّنا من الثواب يترتّب على الامتثال بها عند إيجاد أفرادها ، وقد يكون لتلك الماهيّة باعتبار وجود خاصّ لها ثوابا زائدا على ما هو مقرّر للماهيّة في ضمن وجوداتها الآخر ، وقد يكون لها باعتبار

__________________

(١) انظر الفصول : ١٣١ و ١٣٣.

٦٣٦

انوجادها (١) بوجود مخصوص ثواب أقلّ من الثواب المقرّر للماهيّة ، ولا بدّ أن تكون تلك الزيادة والنقيصة باعتبار انضمام حيثيّة خارجة عن حقيقة العبادة لازمة للوجود الخاصّ الذي به يتحقّق تلك الماهيّة ، فيكون الزيادة بواسطة تلك الحيثيّة ، وكذلك النقيصة. فإن لم يكن وجود تلك الماهيّة ملازما لحيثيّة منقّصة أو مرجّحة ، فإيجاد الماهيّة بهذا الوجود يعدّ من الأفراد الغير مكروهة (٢) والمستحبّة ، وإيجادها بالوجود الملازم لتلك الحيثيّة المنقّصة ـ كإيجاد الصلاة في الحمّام ـ يعدّ مكروها ناقص الثواب بواسطة وجود المانع ، وإيجادها بالوجود الملازم لحيثيّة مرجّحة يعدّ مستحبّا زائد الثواب بواسطة وجود مقتضي الزيادة مع عدم ما يقتضي النقصان ، فليس كلّ ما هو ناقص الثواب مكروها حتّى يرد النقض بالصلاة في البيت والمسجد بالنسبة إلى الفرد الكامل ، ولا كلّ ما هو زائد الثواب مستحبّا حتّى يرد النقض أيضا بالصلاة في البيت بالنسبة إلى الصلاة في الحمّام ، بل النقصان لو كان بواسطة وجود المانع فهو المكروه ، والنقصان في الصلاة في البيت بواسطة عدم المقتضي لا بواسطة وجود المانع. والزيادة لو كان منشؤها وجود مقتضي الزيادة كان مستحبّا ، لا فيما إذا كانت الزيادة مستندة إلى عدم المانع ، كما في الصلاة في البيت.

وحينئذ يندفع المحذور بحذافيره ، ولا يرد عليه شيء من الإيرادات السابقة ؛ لعدم ابتنائه على المصالح والمفاسد ، ولا يلزم استعمال النهي في الإخبار فإنّ الإرشاد من المعاني المتعارفة ، ولا يلزم عدم الانضباط لوجود المعيار في البين ، وليس الأمر بالكلّي خلاف اللطف كما عرفت فيما تقدّم ، ولا يلزم اجتماع الأمر والنهي في مورد واحد إذ النهي الإرشادي المسوق لبذل النصح وصلاح المسترشد ليس من الطلب

__________________

(١) لا تخفى غرابة هذا الاستعمال.

(٢) كذا ، والصواب : غير المكروهة.

٦٣٧

الحقيقي المناقض للأمر. نعم ، ذلك لا يتأتّى في العبادة التي يعلم بعدم زيادة ثوابها على القدر المترتّب على واجبها ، ولا يعلم بمثلها في العبادات المكروهة. واحتمال كون بعضها كذلك لا يجدي ؛ للنقض أوّلا إذ مورد النقض ينبغي أن يكون معلوما كما هو ظاهر ، وهو مدفوع ثانيا بما ستعرف : من أنّ العرف قاض بحمل النهي الوارد في مقام توهّم الاستواء على ما ذكرنا من القلّة.

وأمّا ما أورده المحقّق القميّ رحمه‌الله على الجواب (١) المذكور : من الترديد بين كون الأقلّ ثوابا مطلوب الفعل أو مطلوب الترك أو مطلوبهما (٢) ، فنختار الأوّل. قوله : « فليس بمكروه » إن أراد منه المعنى المصطلح عليه فهو غير مفيد ، وإن أراد منه المعنى الذي حاولناه فهو غير سديد.

وبالجملة ، فما ذكرنا في توجيه العبادة المكروهة هو المطابق للنصوص الواردة في مقام كراهة العبادات ، ولكلمات الفقهاء في بيانها أيضا كاستحبابها وإباحتها ، ولم نجد موردا ينافي ذلك. فعليك بالتأمّل في مواردها والتتبّع في مطاويها حتّى يظهر لك صدق المقال وحقيقة الحال ، فتدبّر.

ثمّ إنّه لو ظهر رجوع النهي إلى إحدى المراتب المستفادة من الأمر وعلمنا به فهو ، وإلاّ فعند الشكّ فهل يحكم بالتحريم ويتبعه الفساد على القول بامتناع الاجتماع ، أو بالفساد فقط ، أو بالكراهة بالمعنى المصطلح عليه ، فيحكم بعدم الصحّة على القول بامتناع الاجتماع ، أو بالكراهة بالمعنى المذكور؟ وجوه ، أظهرها الثاني ؛ لأنّ الكراهة بالمعنيين خلاف ظاهر النهي ، والتحريم وإن كان مفاد النهي إلاّ أنّ المستفاد من النهي الوارد بعد توهّم الصحّة المستفادة من الإطلاق هو الفساد ، كما

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) بدل « الجواب » : الجواز.

(٢) القوانين ١ : ١٤٤ ، وفيه بدل « مطلوبهما » : مجتمعهما.

٦٣٨

يستفاد من الأمر الوارد عقيب الحظر غير معناه الحقيقي ، ولذا لا يحكم بحرمة كثير من المعاملات مع ورود النهي عنها ، وليس إلاّ لتخصيص العمومات الدالّة على ترتّب الأثر عليها وصحّتها.

والقول بأنّ النهي كما يمكن أن يكون ناظرا إلى الصحّة المستفادة كذا يمكن أن يكون ناظرا إلى الجواز المستفاد من الأمر أيضا ، يدفعه :

أنّ رفع الجواز يلازم رفع الصحّة على القول بالامتناع ، فيكون نظير دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، والأصل قاض بعدم التحريم عرفا ، كما يستفاد من الأوامر الواردة في مقام الأجزاء والشرائط الوجوب الغيري اللازم للجزئيّة والشرطيّة مع ظهور الأمر في الوجوب النفسي ، وحيث إنّ ظهور الأمر في الصحّة لعلّه أكثر من ظهوره في تساوي الأفراد ، فلذلك قلنا بأنّ الكراهة بالمعنيين خلاف ظاهر النهي.

نعم ، يصحّ ذلك فيما لو علم بالإجماع ونحوه عدم الفساد ، فإنّ المنساق من النهي حينئذ عدم التساوي في المرتبة.

المقام الثاني

في تصوير الكراهة في العبادات التي لا بدل لها من جنسها ، كالصوم في السفر ؛ بناء على عدم تحريمه المستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليس من البرّ الصيام في السفر » (١).

واعلم أوّلا : أنّ الإشكال في هذه العبادات ليس مختصّا بالمانع من اجتماع الأمر والنهي ، بل هو وارد على المجوّز أيضا ، حيث إنّ الكلام منهم إنّما

__________________

(١) المستدرك ٧ : ٣٨٣ ، الباب ٩ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث ٢.

٦٣٩

هو في الوجوب التخييري العقلي مع عدم انحصار الفرد الواجب في المحرّم ، ومثله المستحبّ والمكروه أيضا.

وبالجملة ، فلا بدّ أن يكون للمكلّف مندوحة في الامتثال ، على ما هو المصرّح به في كلامهم في تحرير محلّ النزاع.

وقد أجيب عنه بوجوه :

الأوّل : ما أفاده الشهيد السعيد في المسالك ، من أنّ المراد من كراهة الصوم في السفر أنّه أقل ثوابا من الصوم في الحضر (١).

وظاهره ـ على ما حكي ـ عدم النهي ولو على وجه الإرشاد ، بل يمكن القول بعدم تعقّل الإرشاد فيه ، حيث إنّه لا إرشاد إلى النهي عن الصوم في السفر والأخذ به في الحضر ، لاحتمال عدم الاقتدار عليه ، فهي منفعة عاجلة لا تترك لاحتمال ما هو أنفع منها في الآجل.

ودعوى اختصاص النهي بحالة الاقتدار عليه مدفوعة ؛ لمخالفتها للنصّ والفتوى معا ، حيث إنّ ظاهرهما النهي على وجه الإطلاق ولو مع العجز عن تحصيله في الحضر ، ولذا التزم في محكيّ الروض باستعمال النهي في مجرّد قلّة الثواب (٢) ، فإنّه حكم بكراهة الوضوء بالماء المسخّن بالشمس عند الانحصار قائلا : بأنّ علّة الكراهة موجودة في حال الانحصار ، فإنّ ذلك ينافي الإرشاد جدّا ، كما هو ظاهر.

وكيف كان ، فيرد عليه : أنّ ظاهر النصوص خلاف ذلك ، سيّما ما اشتمل منها على لفظ « الكراهة » كقول أبي جعفر عليه‌السلام : « أكره أن أصومه ـ يعني به عليه‌السلام

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤٧.

(٢) انظر روض الجنان ١ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

٦٤٠