مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

وفيه أوّلا : ما عرفت من أنّه لا ضير في وجوب المقدّمة قبل مجيء زمان ذيها ، فإنّه تابع للإرادة المتعلّقة بذيها قبل زمانه. نعم ، لا يتعقّل ذلك قبل علمه بتحقّق إرادته ، بل لا يبعد ذلك فيما إذا علم العبد تعلّق إرادة المولى بعد ذلك بفعل لا يمكن امتثاله له إلاّ بإحراز مقدّمته في الحال ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ قيام الضيق مقام دخول الوقت لو كان بلا دليل ففساده ممّا لا يحتاج إلى البيان ، وإن كان القاضي بذلك العقل فأوله إلى ما ذكرنا. ولا فرق في نظر العقل بين أجزاء الزمان الذي يمكن أن يقع فيه المقدّمة كائنا ما كان ، فالتحقيق في المقام هو القول بالتوسعة. والله وليّ التوفيق والهداية.

٢٨١
٢٨٢

هداية

يصحّ اشتراط الوجوب عقلا بفعل محرّم مقدّم عليه زمانا ، سواء كان من المقدّمات الوجوديّة لذلك أم لا ، بل ذلك واقع في الشريعة.

فمن الأوّل : الحجّ المشروط بطيّ المسافة على دابّة مغصوبة ، فإنّه من مقدّماته الوجوديّة ، ومع ذلك فعل محرّم ويشترط وجوب الحجّ بوقوعه عند انحصاره في وجه محرّم. ولا ضير في ذلك ، إذ قبل وقوعه لا وجوب وبعده يجب ، والمحرّم واقع عند ذلك ، فلا محذور.

ومن الثاني : أنواع الكفّارات المترتّبة على الأفعال المحرّمة ، من الإفطار والاصطياد في الإحرام والظهار وغير ذلك ممّا لا يمكن الإحاطة بها عن قريب.

وهل يصحّ أن يكون الواجب مشروطا بمقدّمة محرّمة مقارنة للفعل في الوجود أولا؟ وجهان ، بل قولان.

الذي يظهر من ثاني المحقّقين في جامع المقاصد هو الأوّل (١). وتبعه في ذلك الشيخ الأجلّ الفيلسوف (٢) في مقدّمات الكشف (٣) وتبعه في ذلك صهره الصفيّ التقيّ في تعليقاته على المعالم (٤) وتبعه أخوه الجليل في الفصول (٥)

__________________

(١) سيأتي كلامه في الصفحة ٢٨٦.

(٢) لم يرد « الفيلسوف » في ( م ).

(٣) سيأتي كلامه في الصفحة ٢٨٧.

(٤) سيأتي كلامه في الصفحة ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

(٥) الفصول : ٨٠.

٢٨٣

فحكم فيه بصحّة الوضوء فيما إذا انحصر الماء في آنية مغصوبة وتوقّف الوضوء على الاغتراف منها.

والمشهور على الثاني ، فحكموا بفساد الوضوء ؛ لعدم الأمر به حال انحصار مقدّمته في فعل محرّم ، إذ لا يعقل طلب فعل مع تحريم مقدّماته. وهو المنصور.

وتوضيح المقام أن يقال : إذا انحصرت مقدّمة الواجب في فعل محرّم ، فتارة يعلم تخصيص دليل الوجوب ـ إذا كان قابلا للتخصيص ـ بما دلّ على الحرمة ، فينحصر الوجوب بموارد لا يكون ذلك الواجب فيها موقوفا على فعل محرّم. وتارة يعلم تخصيص دليل الحرمة بما دلّ على الوجوب ، فلا يكون ذلك الفعل حراما فيما إذا توقّف عليه فعل الواجب ، كما في حفظ النفس الموقوف على التصرّف في ملك الغير مثلا. وتارة لا يعلم تخصيص أحدهما بالآخر ، لعدم ما يقضى بتخصيص أحدهما بخصوصه.

وحينئذ فالمقدّمة إمّا أن يكون الاشتغال بها قبل الاشتغال بذيها ، لأنّها مقدّمة عليه زمانا أيضا ، كغسل الثوب للصلاة وطيّ المسافة للحج ونصب السلّم للصعود على السطح. وإمّا أن يكون الاشتغال بها حال الاشتغال بذيها ، كترك أحد الضدّين مقدّمة لفعل الآخر وكالاغتراف من الآنية المغصوبة حال الاشتغال بالوضوء ، وإن كان بين هذين المثالين فرق آخر.

لا كلام ولا إشكال فيما إذا كان دليل الوجوب مخصّصا لدليل الحرمة ؛ إذ لا مانع في ذلك لا عقلا ولا شرعا. كما أنّه لا ينبغي أن يرتاب في عدم الوجوب إذا كان دليل التحريم مخصّصا لدليل الوجوب.

وأمّا الصورة الأخيرة ، فلا إشكال أيضا في وجوب الفعل الموقوف على المقدّمة المحرّمة فيما إذا أقدم المكلّف بسوء اختياره على ارتكاب الفعل المحرّم وكانت المقدّمة مفارقة لذيها زمانا ، إذ لا محذور على ذلك التقدير ، فإنّ قبل وجودها لا

٢٨٤

تكليف وبعدها لا توقّف للفعل الواجب على فعل محرّم ، فلا ضير في التكليف بالحجّ فيما إذا توقّف على ركوب دابّة مغصوبة موصلة إلى الميقات بعد وجود الموقوف عليه باختيار المكلّف الفعل المحرّم.

وليس في العقل ولا في الشرع ما ينافي ذلك. أمّا الأوّل فظاهر. وأما الثاني فلاشتراط الوجوب شرعا بنفس المعصية ، فعند عدم الشرط لا تكليف بالمشروط من دون تعلّق التكليف والوجوب بالمقدّمة الوجوبيّة أيضا ، وبعد وجوب المعصية وحصول الشرط يجب المشروط ولا يعقل تعلّق الطلب بالحاصل ، فلا محذور أصلا.

وإنّما الإشكال فيما إذا توقّف الواجب على فعل محرّم مقارن له في الوجود ، كترك أحد الضدّين الموقوف عليه فعل الآخر ، وكالاغتراف من الآنية المغصوبة للوضوء الموقوف على ذلك في أثناء العمل.

فالمشهور على سقوط التكليف في هذه الصورة ؛ إذ لو كان الفعل الموقوف على المقدّمة المحرّمة واجبا : فإمّا أن يكون وجوبه مشروطا بحصول الشرط أو مطلقا أو معلّقا ، ولا رابع بحسب الفرض ، وإن كان الثالث أيضا فاسدا ؛ لما عرفت في الهداية السابقة. والكلّ فاسد.

أمّا الأوّل ، فلأنّ المفروض عدم تحقق الشرط قبل زمان الاشتغال بالفعل ، فلا تكليف بالفعل عند عدم الشرط.

وأمّا الثاني ، فلأنّ التكليف بالفعل الموقوف على مقدّمة محرّمة تكليف بما لا يطاق ، لامتناع ارتكاب مقدّمته الوجوديّة شرعا ، والمانع الشرعي كالمانع العقلي. وأيضا لو كان واجبا مطلقا يلزم أن يكون المقدّمة الوجوديّة المفضية إليه واجبة مع أنّها محرّمة ، والتالي واضح الفساد ، والملازمة ظاهرة.

وأمّا الثالث ، فلأنّ الواجب المعلّق على تقدير تعقّله فهو إنّما يثمر في غير ما هو المعلّق عليه ، وأمّا في نفس المقدّمة المعلّق عليها ، فالأمر فيها لا يخلو :

٢٨٥

إمّا (١) أن يكون متعلّقا للتكليف كما في المقدّمات الوجودية المحضة ، أولا يكون كما في المقدّمات الوجوبيّة ، وعلى التقديرين لا يعقل التكليف بالفعل المعلّق عليه. أمّا على الأوّل ، فلما عرفت من اجتماع الحرمة والوجوب في شيء واحد ، مضافا إلى التكليف بما لا يطاق. وأمّا على الثاني ـ فبعد أنّه فاسد في أصله ، لأنّ هذه المقدّمة المعلّق عليها من الأفعال الاختياريّة وطلب ذيها قاض بطلبها أيضا ، فيلزم المحذور المذكور ـ لا بدّ من القول باشتراط الوجوب بوجوده ، فيكون من المقدّمات الوجوبيّة ، ولا يعقل التكليف قبل وجود الشرط. وهؤلاء الأجلّة زعموا عدم سقوط التكليف في هذه الصورة على اختلاف يسير في ذلك بينهم ، كما ستقف عليه.

قال المحقّق الثاني في شرح قول العلاّمة رحمه‌الله : « ولا يصحّ الصلاة في أوّل وقتها ممّن عليه دين واجب الأداء فورا » مستدلاّ على الحكم المذكور بأنّ الأمر بالأداء على الفور يقتضي النهي عن ضدّه ، والنهي في العبادة يقتضي الفساد. قال : وكلّ من المقدّمتين مبيّن في الاصول. ثمّ اختار القول بالصحّة وأبطل الاستدلال بمنع الصغرى. ثمّ قال في جملة كلام له في ذلك :

فإن قيل : يمكن الاحتجاج بأنّ أداء الدين مأمور به على الفور ، ولا يتمّ إلاّ بترك العبادة الموسّعة ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به واجب ، وما وجب تركه ففعله منهيّ عنه فتثبت الصغرى. قلنا : في قوله : « وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب » بحث ، فإنّه إن اريد بذلك العموم منع ، لأنّ الواجب الموسّع لم يقم دليل على أنّ تركه يكون مقدّمة لواجب آخر مضيّق ، وظاهر الأوامر الواردة به الإطلاق في جميع وقته إلاّ ما أخرجه الدليل. وإن اريد به ما سوى ترك الواجب فهو حقّ ، إلاّ أنّ المتنازع فيه من هذا القبيل.

__________________

(١) في ( ط ) بدل « إمّا » : « من ».

٢٨٦

فإن قيل : وجوب القضاء على الفور ينافي وجوب الصلاة في الوقت الموسّع ، لأنّه حين وجوب الصلاة إذا تحقّق وجوب القضاء على الفور يلزم التكليف بما لا يطاق ، وإن لم يبق خرج الواجب عمّا ثبت له من صفة الوجوب الفوري. قلنا : لا نسلّم لزوم التكليف بما لا يطاق ، إذ لا يمتنع أن يقول الشارع : أوجبت عليك كلاّ من الأمرين ، لكن أحدهما مضيّق والآخر موسّع فإن قدّمت المضيّق فقد امتثلت وسلمت من الإثم ، وإن قدّمت الموسّع فقد امتثلت وأثمت بالمخالفة في التقديم. قال : والحاصل أنّ الأمر يرجع إلى وجوب التقديم وكونه غير شرط في الصحّة ، انتهى ما أفاده (١).

ويظهر مراده إجمالا ممّا أفاده الشيخ في الكشف ، قال في مبحث اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه : انحصار المقدّمة بالحرام بعد شغل الذمّة لا ينافي الصحّة وإن استلزم المعصية ، وأيّ مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره : « إذا عزمت معصيتي في ترك كذا افعل كذا » كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، فاستفادته من مقتضى الخطاب ، لا من دخوله تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء وعدم الفساد أقرب إلى الصواب والسداد (٢) ، انتهى.

قلت : وكأنّه يشير بقوله : « كما هو أقوى الوجوه » إلى الإشكال المعروف بينهم ، من صحّة صلاة الجاهل بهما ولو كان مقصّرا مع التكليف بالواقع. وحلّه ـ على ما زعمه ـ هو : أنّ التكليف بالواقع مقدّم على تكليفه بما يخالفه ، فعلى تقدير المخالفة يصحّ صلاته وإن كان آثما في التأخير. ومنشأ هذا التوهّم هو الخلط بين اشتراط الوجوب بمقدّمة محرّمة مقدّمة على الواجب زمانا ـ كما عرفت في طيّ المسافة إلى الميقات للحجّ ـ وبين اشتراطه بمقدّمة مقارنة له في الوجود.

__________________

(١) جامع المقاصد ٥ : ١٢ ـ ١٤.

(٢) كشف الغطاء ١ : ١٧١.

٢٨٧

ويظهر من بعضهم ـ تقريبا للمطلب المذكور ـ تمثيل في المقام ، وهو أنّه لا يمتنع عند العقل أن يقول المولى الحكيم لعبده : « احرّم عليك الكون في دار زيد ، ولكن لو عصيتني وكنت فيها فيجب عليك الكون في زاوية خاصة منها » فالعبد حال كونه في تلك الزاوية منهيّ عن الكون فيه مطلقا ومأمور به بشرط الكون فيها.

أقول : فساده غير خفيّ ، إذ لا يعقل أن يكون الأمر متعلّقا بالكون الخاص على تقدير تعلّق النهي بمطلق الكون. وأمّا ما يرى من تجويز ذلك في بعض المراتب ، فذلك ممّا لا يجدي ، إذ الموارد التي لا يستقبح فيها ذلك إنّما هي فيما إذا كانت المراتب المنهيّ عنها مختلفة شدّة وضعفا بواسطة اختلاف المفسدة الموجودة فيها ، ألا ترى أنّ مراتب الضرر الواردة على الإنسان كلّها مكروهة له ، ومع ذلك فلو خيّرنا بين الأقلّ والأكثر فالمختار هو الأقلّ ، وليس في ذلك محبوبيّة أبدا ، بل الأقلّ أيضا مكروه جدّا ، وحيث إنّه لا سبيل إلى دفعه يختار الأقلّ. وعلى قياسه اعتبار النفع.

ولا وجه لقياس ما نحن فيه بذلك ، إذ المقصود هو حصول الامتثال بالواجب الموسّع وموافقة الأمر وتحصيل المطلوب ، وامتناع هذه الامور ضروري فيما إذا كانت المقدمة منهيّة ، كما لا يخفى.

ولذلك سلك بعض أصحاب هذا القول مسلكا آخر في تعليقاته على المعالم ، ومحصله : أنّه زعم أنّ العصيان إنّما هو من مقدّمات الوجوب فلا يتّصف بالوجوب ، لما عرفت من أنّ المقدّمة الوجوبيّة غير واجبة ، فالأمر بالصلاة ليس منجّزا ما لم يحصل الشرط (١).

وهو وإن استقام كلامه بما زعمه من جهة عدم لزوم التكليف بما لا يطاق ولا اجتماع الأمر والنهي في المقدّمة ، إلاّ أنّه مع ذلك غير مستقيم ، إذ الكلام في جواز

__________________

(١) سينقل كلامه في الصفحة الآتية.

٢٨٨

الدخول في الفعل قبل حصول الشرط. واستغربه ودفعه بأمر غير معقول عندنا ، وهو جواز تأخّر الشرط عن المشروط. قال في جملة كلام له في ذلك :

فإن قلت : إنّ ترك الأهمّ لمّا كان مقدّمة للإتيان بغير الأهمّ وكان وجوب الشيء مستلزما في حكم العقل لوجوب مقدّمته بحيث يستحيل الانفكاك بينهما ، كما مرّ الكلام فيه ، وكيف يعقل وجوب غير الأهمّ مع انحصار مقدّمته إذا في الحرام؟ فيلزم حينئذ أحد الأمرين : من اجتماع الوجوب والحرمة في المقدّمة المفروضة أو القول بانفكاك وجوب المقدّمة عن ذيها ، ولا ريب في فسادهما.

قلت : ما ذكرناه من كون تعلّق الطلب على فرض عصيان الأهمّ إنّما يفيد كون الطلب المتعلّق به مشروطا بذلك ، فيكون وجوب غير الأهمّ مشروطا بترك الأهمّ وإخلاء ذلك الزمان عن اشتغاله به. ومن البيّن عدم وجوب مقدّمة الواجب المشروط ، فلا مانع من [ توقّف ](١) وجود الواجب على المقدّمة المحرّمة إذا توقّف وجوبه عليها.

فإن قلت : لو كانت المقدّمة المفروضة متقدّمة على الفعل المفروض تمّ ما ذكر ، لتعلّق الوجوب به بعد تحقّق شرطه فيصحّ تلبّسه. وأمّا إذا كان حصول المقدّمة مقارنة لحصول الفعل ـ كما هو المفروض في المقام ـ فلا يتمّ ذلك ، إذ لا وجوب للفعل المفروض قبل حصول مقدّمة وجوبه ، فلا يصحّ صدوره من المكلّف ، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك.

قلت : إنّما يتمّ ذلك إذا قيل بلزوم تقدّم حصول الشرط على المشروط بحسب الوجود وعدم جواز توقّف الشيء على الشرط المتأخّر بأن يكون وجوده في الجملة كافيا في حصول المشروط. وأمّا إذا قيل بجواز ذلك ـ كما هو الحال في الإجازة

__________________

(١) في النسخ : « تقديم » ، وما أثبتناه من المصدر ، وهو الصواب.

٢٨٩

المتأخّرة الكاشفة عن صحّة عقد الفضولي ، وتوقّف صحّة الأجزاء المتقدّمة من الصلاة على الأجزاء المتأخّرة منها ـ فلا مانع من ذلك أصلا ، فإذا تيقّن المكلّف على حسب العادة بحصول الشرط المذكور تعلّق به الوجوب وصحّ عنه الإتيان بالفعل.

فإن قلت : من أين يستفاد كون الشرط الحاصل في المقام من هذا القبيل حتّى يصحّ الحكم بصحّة العمل مع أنّ الأصل عدمها.

قلت : إنّ ذلك قضيّة إطلاق الأمر المتعلّق بالفعل ، إذ أقصى ما يلزم في حكم العقل تقييده بصورة الإتيان بالأهمّ ، وأمّا مع خلوّ زمان الفعل عن الاشتغال به بحسب الواقع فلا مانع من تعلّق التكليف بغير الأهمّ ، فالتقييد حينئذ ممّا لا قاضي به (١) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه بتفاوت قليل.

وفيه ما عرفت : من أنّه لا يعقل اشتراط الشيء بالشرط المتأخّر ، إذ حال عدم الشرط يمتنع وجود المشروط ، وإلاّ لم يكن شرطا. وأمّا الإجازة في الفضولي فقد بيّنّا في محلّه (٢) أنّ القاعدة تقضي بالنقل فيها ، وعلى القول بالكشف لا بدّ من الكشف الحكمي ، وأمّا الكشف الحقيقي فممّا لا واقع له وإن بالغ فيه بعض الأفاضل (٣).

وبالجملة ، فنحن لا نؤمن بما لا نعقله بعد كونه من الامور التي من شأنها التعقّل كما في المقام ؛ ولذلك قد أعرض عن هذا المسلك أيضا بعض من تبعهم في أصل المطلب (٤) وزعم تفريع ذلك على ما توهّمه من الفرق بين الواجب

__________________

(١) هداية المسترشدين ٢ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

(٢) راجع المكاسب ٣ : ٤٠٨.

(٣) وهو صاحب الفصول في الفصول : ٨٠ ، وراجع المكاسب ٣ : ٤٠٢ أيضا.

(٤) وهو صاحب الفصول كما سيجيء كلامه.

٢٩٠

المشروط والواجب المعلّق ، وتصدّى لدفع ما ذكرنا من عدم معقوليّة تأخّر الشرط عن المشروط : بأنّ الشرط هو الوصف الاعتباري المنتزع عن الشيء باعتبار لحوق الشرط له.

قال بعد إبداء الفرق بين ما تخيّله من نوعي الوجوب :

واعلم أنّه كما يصحّ أن يكون وجوب الواجب على تقدير حصول أمر غير مقدور ـ وقد عرفت بيانه ـ كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور ، فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله ، وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله ، وذلك كما لو توقّف الحجّ المنذور على ركوب دابّة مغصوبة ، فالتحقيق أنّ وجوب الواجب حينئذ ثابت على تقدير حصول تلك المقدّمة ، وليس مشروطا بحصولها ، كما سبق إلى كثير من الأنظار.

ثمّ فرّع على ذلك صحّة العبادة الموقوفة على المقدّمة المحرّمة الأثنائيّة (١) واستدلّ على ذلك بإطلاق الأدلّة الواردة في هذه العبادات مع عدم ما يقضي بتقييدها من العقل وغيره.

ثمّ قال : فتوقّف الواجب على حصول هذه المقدّمة الاختياريّة من قبيل توقّفه على حصول المقدّمة الغير الاختياريّة ، كتذكّر المكلّف وقت الفعل ، وقدرته فيه بمعنى خلوّه في تمام الوقت من الموانع الاضطراريّة بالنسبة إلى زمن التكليف مع ثبوت الوجوب على تقدير حصولها قبله أيضا ، وأمّا القدرة مطلقا فليس حصولها معتبرا ؛ لجواز أن يمتنع الفعل في الوقت مع ثبوت التكليف قبله ، كما في المتقاعد عن الحجّ. فالموقوف عليه في الحقيقة في هذه الصورة هو كون المكلّف بحيث يأتي بالمقدّمة ولو في زمن لا حق ، أو كونه بحيث يكون وقت الفعل متذكّرا خاليا من الموانع الغير

__________________

(١) في ( م ) : الإنشائية.

٢٩١

المستندة إليه. وهذا وصف اعتباريّ ينتزع من المكلّف باعتبار ما يطرأ عليه في الزمن المستقبل من هذه الصفات ، وهو غير متأخّر عن زمن الوجوب ، وإن تأخّرت عن الصفة التي ينتزع عنه باعتبارها. ولو كان نفس العلم والخلوّ من الموانع شرطا لتأخّر زمن الوجوب عن زمن الفعل ، فلا يبقى مورد للتكليف.

قال : ومن هذا القبيل كلّ شيء يكون وقوعه مراعى بحصول شيء آخر ، كالصحّة المراعاة بالإجازة في الفضولي ، فإنّ شرط الصحّة فيه كون العقد بحيث يتعقّبه الإجازة ، وليست مشروطة بنفس الإجازة ، وإلاّ لامتنعت قبلها (١) ، انتهى ما أفاده قدس‌سره.

وفيه أوّلا : ما عرفت من فساد أصل المبنى ، أقول : مضافا إلى تناقض صريح كلماته ؛ إذ الكلام إنّما هو في الواجب المعلّق ـ على ما زعمه ـ وهو يغاير المشروط ، فكيف يقول : بأنّ الشرط والموقوف عليه في الحقيقة هو كون المكلّف بحيث يأتي بالمقدّمة؟

وثانيا : أنّ التعليق إنّما يتصوّر في الامور الغير المقدورة. وأمّا الأفعال الاختياريّة ، فالتعليق فيها غير معقول ؛ لأنّ الواجب إمّا أن يكون على وجه يجب مقدّماته الاختياريّة كما في الواجب المطلق ، وإمّا أن يكون على وجه لا يجب مقدّمته لكونها من شروط الوجوب. ولا يعقل أن يكون الفعل الاختياري الذي يتوقّف عليه الواجب خاليا عن هذين القسمين ، فعلى الأوّل يلزم التكليف بما لا يطاق واجتماع الحرمة والوجوب فيه ، وعلى الثاني يلزم عدم صحّة العبادة لعدم تحقّق الشرط.

وأمّا القول بأنّ الشرط هو الصفة الانتزاعية ، وإن احتمل استقامته على تقدير التعقّل من حيث اندفاع ما أوردنا عليهم من بطلان تأخّر الشرط عن

__________________

(١) الفصول : ٨٠.

٢٩٢

المشروط ، إلاّ أنّه لا يجدي في دفع الإشكال بالنسبة إلى نفس العصيان الذي ينتزع باعتبار لحوقه الشرط المذكور ، فإنّ ذلك فعل اختياريّ مقدّمة لفعل واجب ، ووجوب ذيها دليل على وجوبها. وأمّا الاستناد في ذلك إلى إطلاق الأدلّة الدالّة على تلك الامور الموقوفة على المقدّمات المحرّمة فإنّما يصحّ التعويل عليها فيما أمكن التكليف بها عقلا ، وأمّا عند امتناعه فالتقييد لازم عقلا. وقد نبّهنا على مثل ذلك في بعض مباحث التراجيح.

فالإنصاف أنّه بعد القول بوجوب المقدّمة واقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضدّه الخاصّ وتسليم مقدّميّة ترك أحد الضدّين لفعل الضدّ الآخر ، يشكل تصحيح العبادة الموسّعة ؛ لبطلان جميع أقسام التكليف المتصوّرة فيها ، إذ التكليف التنجيزي ظاهر البطلان ، والتكليف التعليقي بقسميه أيضا باطل ، أمّا الشرطي فلامتناع تحقّق المشروط قبل حصول الشرط ، وأما التعليقي ـ على ما زعمه بعض ـ فبالنسبة إلى الصفة المنتزعة من لحوق العصيان فهو مشروط ، كما صرّح به في العبارة المنقولة. وأمّا بالنسبة إلى نفس العصيان فكأنّه غفل عنه ، مع أنّه هو منشأ الإشكال ، فلا بدّ من أوله إمّا إلى الوجوب المطلق أو إلى المشروط ، وعلى كلّ تقدير يلحقهما حكمهما.

وليت شعري ما أبعده عن الواقع ؛ حيث إنّ الفعل الاختياري الذي يتوقّف عليه الواجب لا يخلو عن القسمين ، كما هو غير خفيّ على أوائل العقول.

نعم ، يمكن تصحيح التكليف في المقام بوجه آخر ، وهو : أنّ تعلّق الطلب بشيء إنّما يكون بواسطة حثّ المطلوب منه على الفعل المطلوب وحمله عليه ، وعلى تقدير علم الطالب بأنّ المطلوب منه لا محالة يشتغل بما هو مطلوبه فلا وجه لطلبه منه ، لكونه لغوا ، إلاّ إذا كان المقصود التعبّد بذلك المطلوب ، فلا ضير في الأمر به وحمله عليه ، إذ على تقدير عدم الطلب والأمر يمتنع أن يكون الداعي إليه هو الأمر كما هو المقصود ، وحيث إنّ الطلب المتعلّق بالمقدّمة ليس إلاّ طلبا توصّليّا لا يحتمل

٢٩٣

فيه التعبّد ، فعند علم الطالب بتحقّق المطلوب لا يتعلّق به الطلب حذرا عن اللغويّة ، ففيما إذا توقّف الفعل على المقدّمة المحرّمة مع علم الطالب بأنّ تلك المقدّمة ممّا تقع لا محالة ولو عصيانا ، ليس تلك المقدمة موردا للطلب اللازم من طلب ذيها ، فلا يلزم محذور.

قلت (١) : وذلك على تقدير التسليم إنّما يجدي بالنسبة إلى لزوم اجتماع الأمر والنهي ، وأمّا بالنسبة إلى المحذور الآخر ـ وهو التكليف بما لا يطاق ـ فلا يجدي قطعا ، إذ التكليف بالفعل حال تحريم مقدّمته تكليف بما لا يطاق ، إذ لا كلام في حرمة المقدّمة المفروضة. وستعرف لذلك زيادة تحقيق في بعض المباحث الآتية.

فإن قلت : على ما بنيت عليه الأمر في الهداية السابقة من وجوب المقدّمة قبل مجيء زمان ذيها ، لا مانع من التكليف المذكور ؛ إذ نلتزم بأنّ الوجوب فيه وجوب شرطي وشرطه العصيان ، وبعد علم المكلّف بتحقّق الشرط يجب عليه الإتيان بمقدّمات المشروط فيما إذا انحصرت ، كما هو المفروض.

قلت : ليس الكلام في مقدّمات ذلك الواجب المشروط ، بل المقصود هو الاشتغال بنفس الواجب ، ولا يعقل الاشتغال بالواجب قبل تحقّق الشرط. مع أنّ القول بامتناع اشتراط الواجب بمقدّمة محرّمة مقارنة لذيها في الوجود ، حيث إنّ تمام الشرط لا يمكن إلاّ بتمام الفعل ، كما في مثال الاغتراف وكذلك في مثال الصلاة والإزالة ، وذلك ظاهر ، فلا يجب المقدّمات أيضا.

ثم إنّه يرد على أصحاب هذه المقالة الفاسدة أمران آخران :

__________________

(١) الظاهر كونه جوابا عن قوله : « نعم ، يمكن ... ».

٢٩٤

أحدهما : التزام تعدّد العقاب في المسألة المفروضة ؛ لأنّه إذا غصب (١) ولم يتوضأ فقد ارتكب فعلا محرّما وترك أمرا واجبا. وكذلك إذا ترك الواجبين المضيّقين مع أهميّة أحدهما من الآخر.

وثانيهما : التزام صحّة العمل فيما إذا تعلّق النهي بنفس العمل والعبادة ؛ ضرورة ممانعة غير الأهم عن فعل الأهمّ ـ ومن هنا كان تركه مقدّمة له ـ والمانع عن العبادة منهيّ عنه ، فغير الأهمّ بنفسه منهيّ عنه.

ولقد تصدّى لدفعه في التعليقة. وستعرف التحقيق فيه إن شاء الله تعالى. وهو وليّ التوفيق والهداية.

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : عصى.

٢٩٥
٢٩٦

هداية

قد عرفت فيما سبق أنّ للواجب أقساما عديدة باعتبارات مختلفة ، وقد عرفت الكلام في تحقيق الواجب المطلق و (١) المشروط وما يتفرّع عليه.

وينقسم باعتبار آخر إلى تعبّدي وتوصّلي.

وقد يعرّف الأوّل بـ « ما لا يعلم انحصار مصلحته في شيء » والثاني بـ « ما يعلم انحصارها في شيء ». والثاني غير منعكس ؛ لخروج جملة من التوصّليّات التي لا يعلم وجه المصلحة فيها فضلا عن انحصارها في شيء ، كتوجيه الميّت حال الاحتضار إلى القبلة ، ومواراته ، ونحو ذلك.

فالأوجه أن يعرّف أنّ التعبّدي « ما يشترط فيه القربة » والتوصّلي « ما لا يشترط فيه القربة » سواء في ذلك كون الواجب من الماهيات المخترعة كالصلاة والحجّ ونحوهما ، أو لا كالذبح والنحر والحلق والتقصير ونحوهما.

وبين كلّ من التعبّدي والتوصّلي والنفسي والغيري عموم من وجه ، والصور أربع ، والأمثلة ظاهرة غير خارجة عن الوضوء والصلاة وتوجيه الميّت إلى القبلة وغسل الثوب.

ومنه يظهر فساد ما قد زعمه بعضهم (٢) في تحديدهما : أنّ التوصّلي ما كان الغرض من الأمر به الأمر بشيء آخر ، والتعبّدي بخلافه.

__________________

(١) لم يرد « المطلق و» في ( ع ) و ( م ).

(٢) مثل المحقّق القمي في القوانين ١ : ١٠٣.

٢٩٧

فإنّ ذلك سهو ظاهر. وكأنّه تشابه الأمر عليه في إملاء التوصّل بـ « الصاد » مع التوسّل بـ « السين » وهو يساوق الوجوب الغيري ، وإلاّ فكيف يعقل أن يكون تغسيل الأموات وتكفينها ودفنها من الواجبات التوصّليّة.

فحاصل الفرق بين القسمين : أنّ التعبّدي مشروط بالقربة والتوصّلي لا يشترط فيه ذلك.

وقد يفرق بينهما بوجهين آخرين :

أحدهما : لزوم المباشرة في الأوّل بخلاف الثاني ، إذ يجري فيه حصول الفعل في الخارج ولو بمباشرة من غير المكلّف.

الثاني : اجتماع الثاني مع الحرام بخلاف الأوّل ، إذ لا يعقل أن يكون العبادة (١) محرّمة.

وكلاهما فاسدان (٢).

أمّا الأوّل : فلأنّ القائل بالفرق المذكور إن أراد به أن ظاهر الأوامر التوصّلية يقضي بعدم لزوم المباشرة من المخاطب بالخطابات الدالّة على هذه الواجبات ، فهو ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ؛ ضرورة أنّ ظاهر الصيغ الأمريّة توجّه التكليف المستفاد منها إلى خصوص المخاطب بها ، كيف! وحال الفاعل ونفس الفعل سواء ، فلو احتمل أن لا يكون الفاعل المخاطب مباشرا له ، فيحتمل أن لا يكون نفس الفعل مأمورا به أيضا. وذلك ظاهر جدّا.

وإن أراد بذلك أنّ مجرّد كون الواجب توصّليّا يقضي بأن لا يكون المباشرة للفعل المأمور به واجبا وإن كان ظاهرا في المباشرة بحسب القواعد اللفظيّة ، فهو

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) زيادة : التعبّديّة.

(٢) في ( ع ) و ( م ) : فاسد.

٢٩٨

أوضح فسادا من سابقه ؛ إذ ليس فيها ما يقضي بذلك ، إذ لا نعني بالتوصّليّة إلاّ ما لا يكون قصد القربة معتبرا فيه ، وذلك لا يقتضي شيئا.

وإن أراد بذلك أنّ أدلّة جواز الاستنابة إنّما هي حاكمة على ظاهر الأوامر الواردة في الأفعال الخاصّة ، وهي لا تجري في التعبّديّات ، فهو منقوض بجملة من التوصّليّات التي لا يجوز فيها الاستنابة كالمضاجعة والجماع ، وبجملة من التعبّديّات التي يصحّ الاستنابة فيها كالحجّ والزيارة ونحوهما. والوجه في ذلك أنّ أدلّة النيابة لا اختصاص لها بواجب دون واجب ، ففيما يكون محلّه لا يفرق بين التعبّدي والتوصّلي.

فإن قلت : لا ينبغي إنكار عدم لزوم المباشرة في الواجبات التوصّلية ، ضرورة حصول الواجب فيها بفعل الغير ، كما في غسل الثوب إذا التزم غسله غير المكلّف ، بل ولو حصل من دون مباشرة آدميّ أيضا كان مجزئا.

قلت : فرق ظاهر بين حصول الواجب في الخارج وبين ارتفاع موضوعه ومحلّه في الخارج ، وما يرى من الأمثلة إنّما هي من قبيل الثاني ، كما إذا ارتفع موضوع التعبّدي أيضا ، مثل ما إذا احترق الميّت فلا يجب عليه الصلاة.

وبالجملة ، ظاهر الأمر هو المباشرة ، والقائل بعدم لزوم المباشرة إنّما اختلط عليه الأمر بين الوجهين مع ظهور افتراقهما.

وغاية ما يمكن أن يقال في المقام توجيها لكلامه ، هو : أنّ الأمر وإن كان ظاهرا في تعلّق الطلب بشخص خاصّ ، إلاّ أنّ الغرض تعلّقه بحصول الفعل في الخارج على أيّ وجه وقع. وهو فاسد جدّا ، إذ حقّ التعبير حينئذ هو التأدية بكلام لا يكون مفاده التخصيص بالمخاطب ، كأن يقال : « فليفعل كذا » وغير ذلك.

لا يقال : يصحّ أن يكون المراد بالأمر إيجاد المأمور به ولو بفعل غيره في الخارج.

٢٩٩

لأنّا نقول : إن اريد بذلك من غير تأويل في نفس الفعل فهو فاسد قطعا ، لامتناع إرادة فعل الغير عن المأمور. وإن اريد به ذلك مع التأويل ـ كأن يكون المراد التسبيب ـ فهو مجاز لا ينبغي أن يصار إليه من دون دليل ، على ما صرّح به جماعة في أمثال قوله تعالى : ( يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً )(١) وذلك ظاهر جدّا.

وأمّا الثاني : فلأنّ الفرق المذكور لو تمّ ـ على ما ستعرف الوجه فيه ـ فهو من فروع الفرق الأوّل ، وهو اشتراط التعبّدي بالنيّة دون التوصّلي ، وليس بفرق آخر.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه متى ما علمنا بامتياز أحدهما عن الآخر مصداقا فلا إشكال ، فإنّه يجب الإتيان بالتعبّدي على وجه الامتثال ، كأن يكون الداعي إلى إيجاد الفعل في الخارج هو الأمر ، وهو المراد بالقربة التي قلنا باعتبارها في التعبّدي. ولا يجب الإتيان بالتوصّلي على وجه الامتثال ، فلو أتى بالفعل المأمور به في الخارج لا بداعي الأمر ، بل بواسطة الدواعي الموجودة في نفسه ممّا لا يتعلّق بالأمر ، لم يجز في الأوّل ويجزئ في الثاني.

أمّا الأوّل ، فللإخلال بما هو المقصود من الفعل وعدم وقوعه على وجهه ، فيجب الإتيان به ثانيا على ما هو المطلوب.

وأمّا الثاني ، فلأنّ المفروض حصول المطلوب من المكلّف في الخارج على وجهه ، فلا بدّ من سقوط الأمر.

نعم ، استحقاق العبد للثواب المترتّب على الفعل ـ على ما هو المصرّح به في كلام المتكلّمين ـ إنّما هو فيما إذا أتى بالفعل على وجه الامتثال والقربة ، والكلام ليس في ذلك.

وإذا شكّ في واجب من الواجبات أنّه من الأوّل أو من الثاني ، فهل ظاهر الأمر قاض بأيّهما؟

__________________

(١) غافر : ٣٦.

٣٠٠