مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

فعند عدم الماء يكون التكليف بالنسبة إليه هو الصلاة مع الطهارة الترابيّة ، كما أنّ المسافر تكليفه القصر ، وبعد وقوع الفعل المكلّف به في الخارج لا وجه لطلبه ؛ لسقوط الطلب بوجود المطلوب.

وببيان آخر : أنّ ما دلّ على جواز الصلاة مع السعة ورجاء الماء منضمّا إلى دليل وجوب الصلاة مع وجدان الماء ، يدلّ على أنّ المكلّف مخيّر بين إيجاد مطلق الصلاة التي هي واجبة على نحو الاتّساع في ضمن الفردين ، ومن المعلوم أنّ الإتيان بأحد أفراد الواجب المخيّر مسقط عن الإتيان بالفرد الآخر.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لا يعقل الأمر بالإعادة لمجرّد الأمر بالصلاة ؛ لاستلزامه طلب الحاصل.

وبالجملة : فالنظر في الأوامر الشرعيّة الواردة في أنواع الصلاة بحسب اختلاف أحوال المكلّفين يعطي أنّ إيجاد نوع من تلك الأنواع يكفي عن التكليف المتعلّق بكلّي تلك الأنواع ، مضافا إلى الاصول العمليّة ؛ فإنّ قضيّة الاصول أيضا ذلك ، فإنّ بعد زوال العذر يرجع الشكّ إلى ثبوت التكليف ، والأصل براءة الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ما لم يقم دليل شرعيّ عليها.

ولا يصحّ الاستناد في مقام إثبات التكليف بإطلاق الأوامر وعموم الأدلّة ، كأن يقال : إنّ إطلاق ما دلّ على وجوب الوضوء عند إرادة الصلاة قاض بتحصيله في كلّ صلاة ، خرج من العموم ـ بواسطة دليل الضرورة ـ حالة الضرورة ، وإذا زالت لا بدّ من الرجوع إلى العموم والأخذ بأصالة عدم التخصيص ؛ لأنّ المقام من موارد استصحاب حكم المخصّص ؛ إذ ليس في المقام عموم زمانيّ على وجه يؤخذ كلّ زمان فردا للعامّ الزماني ، حتّى لو قيل بالتخصيص الزماني لزم عدم الأخذ بأصالة الحقيقة في العام.

ثمّ إنّ ما تقدّم من اعتبار القدر المشترك ، إنّما يلائم قول الأعمّي والصحيحي

١٢١

في بعض الوجوه. وأمّا على المختار من وجوهه فلا بدّ في تقرير الدليل المذكور من تمحّل لا يخفى على الفطن (١).

المقام الثاني : في أنّ الإتيان بالمأمور به الواقعي الاضطراري هل يجزي عن الإتيان به قضاء أولا؟

قد يقال : إنّ مقتضى عموم دليل القضاء هو عدم الإجزاء ؛ فإنّ ما يقضي بالقضاء ليس هو الأمر الأوّل ، بل قوله : « اقض ما فات » ونحوه من الأدلّة التي اقيمت عليه في مقامه ممّا يتوقّف صدقه على صدق الفوت ، وهو معلوم في المقام ؛ ضرورة عدم وصول المكلّف إلى المنفعة الحاصلة من الأمر الاختياري ، وفوات المصلحة المترتّبة على المأمور به الواقعي الأوّلي.

فإن قلت : إنّ فوت المصلحة إنّما هو فرع لأن يكون المكلّف في معرض الوصول إليه ، ومع عدم توجّه الخطاب الواقعي الاختياري إلى المكلّف ليس في معرض الوصول إليه ، فلا يصدق الفوت بالنسبة إليه.

قلت : لا نسلّم كونه تابعا للخطاب الفعلي ، بل يكفي فيه وجود المصلحة في الفعل مع كونه ممّن يصلح لأن يخاطب بإيجاده ؛ كما يشهد به ملاحظة ما عدّوه من أسباب القضاء : من الجنون والحيض والتعمّد والنوم والإغماء ، فإنّ أغلب تلك الأسباب ممّا لا يصلح (٢) معها وجود الخطاب الفعلي ، فما هو الملاك في الأمر بالقضاء في تلك الأسباب موجود في المقام أيضا.

وتوضيح ذلك : أنّ مراتب الفوت متفاوتة مختلفة :

فتارة : يكون بسبب الترك العمدي بعد وجود الطلب الفعلي.

__________________

(١) لم ترد عبارة « ثمّ إنّ ما تقدّم ـ إلى ـ على الفطن » في « ع » و « م ».

(٢) في « ع » بدل « يصلح » : « يصحّ ».

١٢٢

وثانيتها : أن يكون بواسطة وجود مانع عن إدراك تلك المصلحة ، كما في ذوي الأعذار الشرعيّة أو العقليّة ، كالإغماء والجنون والنوم ونحوها من السهو والنسيان.

وثالثتها : أن يكون بواسطة كون المكلّف أهلا لأن يتحصّل منه الفعل المشتمل على المصلحة ، كما في الحيض ، فإنّ المرأة أهل ـ ولو بحسب نوعها ـ لأن يوجد منها الصلاة ـ مثلا ـ أو الصوم.

لا إشكال في صدق الفوت على الاوليين.

وأمّا الثالث ، فالظاهر ذلك فيها أيضا ؛ كما يشهد به ما ورد في حقّ النساء :

من أنّهن « ناقصات العقول والحظّ والأديان » (١) وعلّل الأخير : بأنّها تمكث شطرا من دهرها لا تصلّي (٢)(٣).

وبالجملة : فالظاهر صدق الفوت في المقام ، بل يظهر من العلماء صدق الفوت مع عدم اجتماع شرائط التكليف وعدم الشأنيّة ؛ حيث إنّهم عدّوا عدم البلوغ والعقل من أسباب الفوت (٤) ، فمقتضى عموم دليل القضاء وجوب القضاء وعدم الإجزاء بالنسبة إليه.

وعلى هذا فيمكن القول بعدم الإجزاء بالنسبة إلى الإعادة ؛ للإجماع المركّب بين وجوب القضاء ووجوب الإعادة ، بل وبالأولويّة القطعيّة.

__________________

(١) نهج البلاغة : ١٠٥ ـ ١٠٦ ، الخطبة ٨٠. وفيه : « إنّ النساء نواقص الإيمان ، نواقص الحظوظ ، نواقص العقول ... ».

(٢) في « ط » : « ولا تصلّي ».

(٣) نهج البلاغة : ١٠٦ ، وفيه : « فأمّا نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصلاة والصيام في أيّام حيضهنّ ».

(٤) انظر المبسوط ١ : ١٢٥ ، والشرائع ١ : ١٢٠ ، وإرشاد الأذهان ١ : ٢٧٠.

١٢٣

ولا يمكن القلب بأن يقال : إنّ قضيّة ما ذكرناه هو الإجزاء بالنسبة إلى الإعادة ، والإجماع المركّب منضمّا إلى الأولويّة يوجب الإجزاء بالنسبة إلى القضاء ؛ لأنّ ما يوجب القضاء ـ وهو عموم دليله ـ أقوى من دليل عدم (١) وجوب الإعادة.

هذا غاية ما يمكن الانتصار به للقول بوجوب القضاء.

لكنّك خبير بما فيه ؛ لعدم صدق الفوت بعد إحراز المصلحة المترتّبة على الفعل الاضطراري على وجه يوجب قضاء ذلك الفعل. وكونها أكمل من المصلحة المترتّبة على الاضطراري لا يوجب ذلك ؛ لعدم عموم في دليل القضاء ، فإنّ الموجود في كتب الرواية ـ على ما أفاده الاستاذ ـ ليس ما هو المشهور في الألسنة ، من قولهم (٢) : « اقض ما فات كما فات » بل الموجود فيها قوله عليه‌السلام : « ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك » (٣) ، ومن المعلوم عدم صدقه في المقام ، سيّما بعد ملاحظة وروده (٤) في مقام بيان الكيفيّة. نعم ، يصدق الفوت بالنسبة إلى الزيادة المترتّبة على الفعل الاختياري ، ولا دلالة في الرواية على وجوب تدارك كلّ فائتة ، والمقدار المذكور ليس من الفرائض كما لا يخفى.

فظهر من جميع ما ذكرنا : أنّ قضيّة القواعد الشرعيّة هو الإجزاء. وهذه هي الدعوى الاولى.

__________________

(١) في « ع » بدل « من دليل عدم » : « من عدم دليل ».

(٢) لم يرد « من قولهم » في « م ».

(٣) لم نعثر عليه بلفظه في المصادر الحديثيّة من الخاصّة والعامّة ، نعم ورد ما يقرب منه ، انظر عوالي اللآلي ٣ : ١٠٧ ، الحديث ١٥٠ ، والوسائل ٥ : ٣٥٩ ، الباب ٦ من أبواب قضاء الصلوات ، الحديث الأوّل.

(٤) في « م » بدل « وروده » : « ما ورد ».

١٢٤

وأمّا الثانية ـ أعني إمكان عدم الإجزاء بواسطة ورود دليل على وجوب الإعادة ـ فلأنّه لا استحالة عقلا وشرعا وعرفا في أن يقول الآمر للفاقد للماء : متى قدرت على الماء فتطهّر ؛ إذ المفروض أكمليّة المصلحة الموجودة في الطهارة المائيّة ، فيصحّ الأمر بها إحرازا لها.

ودعوى عدم صدق الإعادة على مثل المفروض بعد كونه ممّا لا فائدة يتعلّق بإثباتها أو نفيها (١) ـ لظهور المراد بها في المقام ـ دعوى فاسدة ؛ إذ لا يراد من الإعادة إلاّ ما يكون تداركا وتلافيا للفعل الواقع أوّلا وإن لم يكن مستفادا من الأمر الأوّل ، وإن كان الظاهر من عنوان الإعادة ذلك ؛ ولذلك قلنا : بأنّ القول بوجوب الإعادة في الأمر الاختياري أفسد من القول بوجوب القضاء ، ولكنّه قد تستعمل في عرفهم في مجرّد التدارك ولو بأمر آخر (٢) ، كما ترى في أمر الشارع بإعادة الصلاة مع الجماعة مع وقوعها فرادى (٣) ، وغير ذلك من موارد الإعادة (٤) ، كما هو ظاهر.

__________________

(١) لم يرد « أو نفيها » في « م ».

(٢) في « ط » و « ع » زيادة : « أيضا ».

(٣) راجع الوسائل ٥ : ٤٥٥ ، الباب ٥٤ من أبواب صلاة الجماعة.

(٤) راجع الوسائل ٥ : ١٥٣ ، الباب ٨ من أبواب صلاة الكسوف.

١٢٥
١٢٦

هداية

في أنّ الأمر الظاهري العقلي لا يقتضي الإجزاء ، بل يمتنع ذلك فيه.

وبيانه إجمالا : أنّ الإجزاء فرع الأمر والإتيان بالمأمور به بعد ذلك على ما يعتبر فيه من الامور الداخليّة والخارجيّة ، ومع انتفاء الأمر ـ كما في محلّ الكلام ـ يمتنع الإتيان بالمأمور به على أنّه مأمور به ، فلا يتحقّق الامتثال ، فيمتنع حصول الإجزاء والكفاية عن الإعادة والقضاء.

وتوضيح ذلك على وجه التفصيل : أنّ ما هو مسلّم من الأمر العقلي الظاهري ، كحكم العقل بوجوب الاحتياط ، أو حكمه بوجوب دفع الضرر الموهوم أو المظنون ، لا يعقل أن يكون محلاّ للكلام ؛ إذ البحث في الإجزاء وعدمه إنّما يعقل فيما إذا انكشف الخلاف ، وحكم العقل بوجوب الاحتياط أو دفع الضرر لا معنى لكشف الخلاف فيه ؛ فإنّ ذلك هو مجرّد إحراز الواقع ، فلا يتصوّر فيه المخالفة على تقدير وجود الأمر الواقعي ، وعلى تقدير عدمه فلا واقع حتّى ينكشف عدم مطابقة الاحتياط أو دفع الضرر له ، وذلك ظاهر جدّا.

بل الكلام في ذلك إنّما هو فيما لو قيل بالأمر الظاهري فيه ، كالعمل بالقطع عند عدم المطابقة ، والعمل عند السهو والنسيان ، وكالعمل بالظنّ ـ عند انسداد باب العلم ـ الحاصل من غير الطرق الشرعيّة.

والحقّ أنّه لا أمر في هذه الموارد :

أمّا الأوّل ، فلأنّ الحامل للقاطع على الإتيان بما تخيّله الواقع هو الأمر الواقعي بحسب معتقده ؛ إذ بعد قطعه بوجود الأمر الواقعي يحكم العقل بوجوب الخروج عن

١٢٧

عهدته وامتثاله. ولا فرق في ذلك بين مطابقة اعتقاده للواقع ومخالفته ، فإنّ ذلك أمر خارج عن إدراك المدرك. وكما أنّه ليس عند المطابقة أمر آخر غير الأمر الواقعي الذي يدعو إلى وجود المأمور به ، فكذا عند المخالفة ليس شيئا آخر ؛ والمفروض عدم الأمر واقعا ، فلا أمر عند المخالفة.

والسرّ في ذلك هو ما حقّقناه ـ في بحث حجّية القطع ـ : من أنّ القطع ليس إلاّ مرآة للواقع كاشفا عنه ، فلا يعقل تأثيره في ترتّب الأحكام المترتّبة على المعلوم (١) ، ولا مدخل له في متعلّقه ؛ فإنّه أمر يتفرّع وجوده (٢) على وجوده ، فكيف يعقل تأثيره في متعلّقه! فلو كان موجودا كان العلم به واقعا ، وإلاّ (٣) فالعلم لا يصير علّة لوجوده ، وذلك ظاهر.

فعند الجهل المركّب لا يكون إلاّ اعتقاد الأمر الغير المؤثّر في وجود الأمر ، ومن الواضح الجليّ عدم كون اعتقاد الأمر أمرا ، فلا وجه لتوهّم الإجزاء ؛ ضرورة توقّفه على وجود الأمر ، والمفروض عدمه في المقام.

وما يتوهّم : من حصول امتثال أوامر الإطاعة حينئذ ؛ حيث إنّه اعتقد كونه مأمورا به فامتثل أوامر الإطاعة ، مضافا إلى وجود حكم العقل بلزوم الإتيان بما اعتقده مأمورا به ، فممّا لا يجدي شيئا ؛ إذ المقصود بالإجزاء في المقام هو كفاية المأتيّ به حال المخالفة للمأمور به واقعا ، وامتثال أوامر الإطاعة ممّا لا مدخل له في سقوط ذلك الأمر الواقعي الذي لم يحم حوله المكلّف أبدا. وكذلك حكم العقل ؛ فإنّ حكمه موافق لأدلّة الإطاعة ، على أنّ الإطاعة الواقعيّة غير حاصلة قطعا ؛ إذ من

__________________

(١) انظر فرائد الاصول ١ : ٣٠.

(٢) لم يرد « وجوده » في « م ».

(٣) في « م » زيادة : « فلا ».

١٢٨

المعلوم في محلّه أنّ وجود موضوع الإطاعة وتحقّق ماهيّتها في الواقع موقوف على تحقّق الأمر ، وحيث إنّه لا أمر في الواقع فلا إطاعة في الواقع (١) ، غاية الأمر تخيّل المكلّف بحسب (٢) معتقده وجود الإطاعة ، واعتقاده لو كان مؤثّرا في وجودها لكان الأمر المعتقد أيضا موجودا.

وبوجه آخر : أنّ من المعلوم توقّف الإجزاء على الأمر ، وقد عرفت أنّ الأمر إمّا واقعيّ أو ظاهري ، وعلى التقديرين إمّا عقليّ أو شرعي ، ولا خامس لهذه الأقسام الأربعة ، وشيء منها لا يوجد في مقام تخلّف الاعتقاد عن الواقع.

أمّا الأمر الواقعي الشرعي فلأنّ المفروض عدمه ، كالواقعيّ العقلي.

وأمّا الظاهري الشرعي فغير موجود ؛ إذ لا يعقل تكليف القاطع من حيث كونه جاهلا بالواقع على العمل بمعتقده ؛ لعدم احتماله خلاف الواقع ، فلا يمكن توجيه (٣) هذا الخطاب إليه ، والخصم أيضا لا يقول به.

وأمّا الظاهري العقلي فلعدم تعقّل حكم العقل بكونه مكلّفا بالعمل بقطعه من حيث كونه جاهلا بالواقع ؛ إذ بعد قطعه بخلاف الواقع لا احتمال للواقع عنده ، فكيف يقال في حقّه ذلك. نعم ، العقلاء المطّلعون على حاله وعلى الواقع يحكمون بكونه جاهلا بالواقع ومعذوريّته بالنسبة إلى الواقع للزوم التكليف بما لا يطاق.

وأمّا أوامر الإطاعة والنهي عن المعصية فتحقّقها موقوف على الأوامر الواقعيّة ، والمفروض (٤) انتفاؤها.

__________________

(١) في « ع » و « م » زيادة : « أيضا ».

(٢) في « م » بدل « بحسب » : « بسبب ».

(٣) في « م » : « توجّه ».

(٤) في « ع » زيادة : « في المقام ».

١٢٩

نعم يبقى في المقام عنوان « التجرّي » و « الانقياد » وهو أيضا لا يجدي شيئا ؛ إذ بعد تسليم وجوب الانقياد وحرمة التجرّي ، فهذا الفعل الذي ارتكبه الجاهل يصير حسنا أو قبيحا باعتبار كونه انقيادا أو تجرّيا مع قطع النظر عن الأوامر الواقعيّة ؛ فإنّ موضوع التجرّي والانقياد ممّا لا يتحقّق إلاّ بعد تخلّف الواقع ـ كما هو ظاهر ـ فإيجاد فعل يكون منشأ لانتزاع عنوان « الانقياد » ممّا لا يجدي في عنوان المأمور به الواقعي الذي لم يحم حوله المكلّف أبدا ، فالأمر به بعد العلم به باق بحاله ، والعقل الحامل على وجوب امتثال أوامر الله ورسوله (١) موجود ، فيحكم بوجوبه ، ولا مخلص عنه إلاّ بالامتثال. ولو قام دليل على عدم التكليف بعد الكشف لا بدّ من طرحه ؛ إذ ليس الكلام في الخارج عن الوقت. وأمّا في الوقت (٢) فلا بدّ أن يحمل على النسخ أو حصول البداء أو غير ذلك من وجوه سقوط التكليف ، والكلّ باطل ؛ ولذلك قلنا بامتناع الإجزاء في المقام.

وأمّا الثاني (٣) ـ يعني صورة النسيان ـ كما إذا نسى شيئا من أجزاء المركّب وأتى ببعض أجزائه ، فقضيّة القاعدة عدم الإجزاء فيما إذا كان الجزء من الأجزاء الواقعيّة لذلك المركّب.

وأمّا إذا كان التكليف بالإتيان بذلك الجزء مختصّا بحالة الذكر ، على وجه يكون المكلّف به هو المشترك بين حالة الذكر والذهول ، فمرجعه إلى الواقعيّ الاضطراري ، وهو ـ كما عرفت ـ يفيد الإجزاء ، ففيما إذا كان الجزء واقعيّا

__________________

(١) في « ع » و « م » بدل « أوامر الله ورسوله » : « الأوامر الإلهيّة والنبويّة ».

(٢) في « م » : « وأمّا ما في الوقت ».

(٣) عطف على قوله « أمّا الأوّل » في الصفحة ١٢٧.

١٣٠

والشرط كذلك وأتى المكلّف بالفعل من دون إتيانه ذلك يمتنع الإجزاء ؛ إذ لا أمر هناك أيضا لا واقعا ولا ظاهرا :

أمّا الأمر الواقعي فمعلوم العدم ؛ إذ المفروض تعلّقه بمركّب مشتمل على الجزء المنسي ، فليس ما عداه مأمورا به واقعا.

وأمّا الأمر الظاهري فلأنّ مرجعه ـ كما ستعرف ـ إلى بيان حكم لموضوع من حيث هو جاهل بالواقع ، كما في الأحكام المجعولة في موارد الاصول العمليّة ـ كالبراءة والاستصحاب ـ فإنّ المكلّف من حيث هو شاك بالواقع حكمه الأخذ بالحالة السابقة مثلا ، ومن المعلوم أنّ حكم موضوع من الموضوعات غير متوجّه إلى أحد إلاّ على تقدير التفاته بأنّه داخل في ذلك الموضوع ، فالغافل والناسي والساهي لو كان لها أحكام ظاهريّة من حيث عدم الوصول إلى الواقع ، لا تتوجّه تلك الأحكام إلى المكلّف إلاّ على تقدير التفاته ـ في حال السهو والنسيان والغفلة ـ بكونه ساهيا غافلا ناسيا ، ومن المعلوم بالضرورة فساد ذلك ؛ إذ على تقدير التفاته بالسهو والنسيان والغفلة يلتفت إلى الواقع (١) ، فإن علم به لا بدّ من الإتيان به ، وإلاّ فعليه الفحص ، ويخرج بذلك عن موضوع الساهي والناسي والغافل ، وذلك ظاهر جدّا. على أنّ العمل الصادر من المكلّف حال النسيان إنّما يعتقد فيه أنّه الواقع ، فعلى تقدير وجود الحكم الظاهري لذلك الموضوع وتعلّقه بالنسبة إليه ليس العمل الذي ارتكبه صادرا منه بذلك الاعتبار ، وهو واضح.

وأمّا الثالث (٢) ، أعني صورة حصول الظنّ من الأمارات الغير المجعولة شرعا عند انسداد باب العلم ـ نظرا إلى استقلال العقل بكون الظنّ المطلق طريقا إلى الواقع

__________________

(١) في « ع » و « م » زيادة : « أيضا ».

(٢) عطف على قوله « أمّا الأوّل » في الصفحة ١٢٧.

١٣١

منجعلا من دون حاجة إلى الجعل كما في العلم ـ فلأنّ الداعي إلى إيجاد الفعل والعمل في الخارج ليس إلاّ الأمر الواقعي الذي استكشفه العامل بالظنّ الذي ليس فيه شائبة (١) الموضوعيّة ، بل اعتباره حينئذ بمجرّد كشفه الظنّي عن الواقع ، وبعد كشف الخلاف يظهر أنّه كان لاغيا في العمل ، وإنّما كان متخيّلا لوجود الأمر ، والمفروض عدم تأثير تخيّله في وجود الأمر واقعا ، فلا أمر في الواقع ، فلا إجزاء ؛ ضرورة تفرّعه على الأمر. وذلك ظاهر بعد ما عرفت القول في ذلك عند القطع مع عدم المطابقة. وعنوان « التجرّي » و « الانقياد » قد عرفت عدم اتّجاه الاستناد إليه ، فتدبّر. والله الهادي.

__________________

(١) في « ع » و « م » بدل « شائبة » : « شأنيّة ».

١٣٢

هداية في الأمر الظاهريّ الشرعي

وينبغي تمهيد مقدّمة في بيان المراد من الحكم الظاهري ، فنقول :

قد يطلق الحكم الظاهري في قبال الأحكام المستفادة من الأدلّة الاجتهاديّة ، كأخبار الآحاد ونحوها من الأمارات الكاشفة عن الأحكام الواقعيّة التي لا مدخل للعلم والجهل فيها ، وإن كان لغيرهما من الصفات واللواحق والطوارئ مدخل فيه ، كالصحّة والمرض والسفر والحضر وأمثالها. فتكون الأحكام الظاهرية مختصّة بموارد الاصول العمليّة : من البراءة والاحتياط والاستصحاب ونحوها.

وقد يطلق ويراد بها الأحكام المستفادة من الأمارات التي يحتاج في اعتبارها إلى جعل ، فيعمّ الأمارات الاجتهادية وغيرها من الاصول العمليّة.

فالمراد من الحكم الظاهري هو الوجوب المستفاد من الأدلّة التي يجب الأخذ به بواسطة ما دلّ على اعتبار ما دلّ على ذلك الوجوب ، من الخبر والأصل ونحوهما ، وإن كان ذلك الخبر مثلا ناظرا إلى الواقع ومبيّنا لما نزل به جبرئيل عليه‌السلام ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن ذلك البيان والكشف علميّا احتاج إلى دليل آخر يفيد اعتباره.

فلمثل هذه الأخبار جهتان : إحداهما : كونها ناظرة إلى الواقع ، والثانية : احتياجها إلى دليل الاعتبار ، فمن حيث إنّها كواشف عن الواقع يقيّد بالأحكام الواقعيّة الاجتهاديّة ، ومن حيث احتياجها إلى دليل الاعتبار يطلق على ما يستفاد منها : الأحكام الظاهريّة ، وهذا إنّما هو في مثل الأخبار.

١٣٣

وأمّا الاصول فلها جهة واحدة ؛ إذ لا كشف فيها جدّا ، وهو الوجه في تقديم الأدلّة الاجتهاديّة عليها مع اشتراكهما في كون الأحكام المستفادة منهما أحكاما ظاهريّة ، وليس المقام محلّ توضيحه.

وكيف كان ، فالمراد من الأحكام الظاهريّة في المقام ، هي : المحمولات الثابتة للموضوعات الواقعيّة باعتبار قيام أمارة عليها التي دلّت الأدلّة القطعيّة على وجوب العمل بها وترتّب الأثر عليها ، سواء كانت تلك الأمارة دليلا اجتهاديّا حكميّا كأخبار الآحاد ، أو موضوعيّا كالبيّنة ونحوها ، أم أصلا من الاصول ، سواء كان من الاصول المعمولة في الأحكام الكلّية الإلهيّة كالبراءة والاحتياط والاستصحاب ونحوها ، أم من الاصول (١) المعمولة في الموضوعات الخارجيّة والأحكام الجزئيّة كأصالة الصحّة ، واليد ، والسوق ونحوها.

وإذ قد عرفت المراد من الحكم الظاهري في المقام ، فنقول :

الحقّ أنّ بعد كشف الخلاف في الأحكام الظاهريّة مع الإتيان بالمأمور به الظاهري لا إجزاء واقعا وإن أمكن الإجزاء ؛ فلنا في المقام دعويان ، يظهر وجه الثانية في ضمن بيان الاولى.

وتوضيحها يحتاج إلى تمهيد ، وهو : أنّ من المقرّر في مقامه (٢) أنّ جعل الطرق المفيدة للأحكام الظاهريّة باعتبار وجوب العمل بمفادها مع إمكان التخلّف عن الواقع ـ بل وقوع التخلّف كثيرا ـ قبيح ما لم يشتمل سلوك ذلك الطريق على مصلحة زائدة أو مساوية لمصلحة الواقع ؛ لئلاّ يلزم تفويت المصلحة الواقعيّة ونقض الغرض في جعل الأحكام الواقعيّة.

__________________

(١) في « م » زيادة : « الفقهيّة ».

(٢) انظر فرائد الاصول ١ : ١٠٨ ـ ١٢٤.

١٣٤

ووجه اللزوم لولاه ظاهر ، ونزيده توضيحا بملاحظة جواز الرجوع إلى البيّنة في تشخيص الوقت مع إمكان تحصيل العلم به بالإحساس وغيره من أسباب العلم ، فقضيّة اللطف الواجب على اللطيف الحكيم اشتمال ذلك الطريق على مصلحة متداركة لما هو الفائت ـ على تقدير التخلّف ـ كما أوضحنا ذلك في الردّ على « ابن قبة » (١) حين أنكر جواز العمل بالخبر (٢).

وتلك المصلحة يمكن أن تكون على وجهين :

أحدهما : أن يكون تلك المصلحة في الموارد التي دلّ على حكمها تلك الطرق لا من حيث ذواتها ، بل من حيث قيام تلك الطرق عليها واستفادة أحكامها منها ، فيكون قيام تلك الأمارة ودلالتها على حكم موردها موجبا لحدوث مصلحة في ذلك المورد ، عدا ما فيه من المصلحة المقتضية لجعل الحكم الواقعي على طبقه ، وتلك المصلحة هي الداعية لجعل الشارع تلك الأمارة حجّة (٣) في قبال مصلحة الواقع.

مثلا إذا دلّ الدليل على حرمة العصير العنبي ، فهذا الموضوع له مصلحتان : إحداهما : ما هي مكنونة فيه مع قطع النظر عن كونه مدلولا للأمارة التي اقتضت جعل الحكم الواقعي على طبقها من الحلية وجواز الأكل ونحوهما ، والثانية : ما يعتريه ويعرضه باعتبار كونه من موارد الأمارة الفلانيّة ، من مصلحة الحرمة وعدم جواز الأكل منه. ولازم ذلك تقييد الأدلّة الواقعيّة وتنويع ذلك الموضوع به ، فإنّه لا بدّ من القول بأنّ حلّية العصير فيما لم يكن أخبر العدل بحرمته ، فالعصير

__________________

(١) هو أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي ، من متكلّمي الإماميّة ، وكان معتزليّا ، ثمّ تبصّر ، انظر رجال النجاشي : ٣٧٥.

(٢) راجع فرائد الاصول ١ : ١٠٥ ـ ١١١.

(٣) في « ع » و « م » زيادة : « حينئذ ».

١٣٥

فيما إذا طرأ له كونه ممّا أخبر العدل بحرمته يغايره فيما إذا لم يخبر العدل بحرمته ، فهو إذن نوعان ، فالحكمان إنّما هما واردان على موضوعين ، كالحاضر والمسافر والصحيح والمريض.

وتسمية مثل ذلك حكما ظاهريّا إنّما هو من مجرّد الاصطلاح الذي لا مشاحّة فيه ، وإلاّ فهو حكم واقعيّ في موضوعه ؛ إذ لا حكم في الواقع لذلك الموضوع إلاّ ذلك ، فيلزم التصويب على ذلك التقدير (١) ، ووجه اللزوم ظاهر.

والثاني : أن يكون ذلك الطريق على وجه لا يوجب وجود مصلحة متداركة لمصلحة الواقع ـ على تقدير التخلّف ـ في مورده ومتعلّقه ، ولا يصير منشأ لحدوث (٢) المصلحة في مدلوله من حيث دلالته عليه ، فلا بدّ من أن يكون المصلحة في جعله طريقا ، من غير أن تسري تلك المصلحة إلى الموارد التي دلّت تلك الطرق عليها ، وإلاّ لزم تحليل الحرام وتحريم الحلال من دون ما يقضي بذلك ، وهو قبيح ، كما عليه المانع من العمل بالطريق الظنّي.

وتوضيح الفرق بين الوجهين ، هو : أنّ المصلحة على الأوّل إنّما هي في الموضوعات التي يدلّ عليها الطرق الظنّية ، وعلى الثاني إنّما هي في جعلها طرقا إلى الواقع ووجوب الأخذ بمداليلها على أنّها هي الواقع ، فليس فيها إلغاء الواقع ، بل هو عين مراعاة الواقع بجعل الطريق إليه. ففيما إذا لم يخالف تلك الطرق عن الواقع فلا إشكال ، وعند التخلّف يكون مداليلها واقعيّا جعليّا ، لا لوجود المصلحة في نفس المدلول حتّى يكون من هذه الجهة في عرض الواقع وإن كان من جهة اخرى مرتّبا عليه ـ كما لا يخفى ـ بل لاقتضاء الحكمة والمصلحة نفس (٣) الجعل والتنزيل الذي

__________________

(١) لم يرد « التقدير » في « م ».

(٢) في « ع » زيادة : « تلك ».

(٣) في « ع » و « م » بدل « والمصلحة نفس » : « وجود المصلحة في نفس ».

١٣٦

يقضي بوجوب الأخذ به في مقام الظاهر وترتيب الآثار الواقعيّة على مداليلها ، كما هو ظاهر. ولازم ذلك هو بقاء الأحكام الواقعيّة وعدم تقييدها ، فهي إذن بالنسبة إلى العالم والجاهل سواء. ولا يفرق وجود الأمارة وعدمها في الأحكام الواقعيّة المتعلّقة بالموضوعات الواقعيّة (١) من غير تقييد فيها. نعم ، ما يدلّ على ذلك الجعل ـ من أدلّة حجّية تلك الأمارات ـ حاكمة على أدلّة (٢) الواقع ، بمعنى تنزيل مداليل تلك الطرق منزلة الواقع ، ووجوب الأخذ بها على أنّها الواقع ، ولزوم ترتيب آثار الواقع عليها.

وإذ قد عرفت هذين الوجهين والفرق بينهما ، فاعلم أنّ لازم الوجه الأوّل هو الإجزاء وعدم لزوم الإعادة فيما لو انكشف الخلاف في الوقت ـ نظير ما مرّ القول فيه (٣) في الواقعي الاضطراري ـ لما عرفت : من أنّ لازمه تقييد أدلّة الواقع وتنويع موضوعاتها ـ كالمسافر والحاضر ـ فيكون المكلّف به هو أحد الأمرين ؛ لما قرّر في محلّه : من أنّه لو تساوى شيئان في المصلحة فلا وجه للتكليف بأحدهما على وجه التعيين.

ولا معنى لبقاء التكليف بعد الإتيان بأحد الأبدال في الواجبات التخييريّة ـ كالخصال (٤) ـ بل ومن المعلوم أولويّة المقام من الأمر الاضطراري ؛ لما مرّ : من أنّ المصلحة المترتّبة على الناقص ربما يكون غير مساوية للمصلحة المترتّبة على الكامل ، فلا مانع من أن يأمر به الحكيم تحصيلا للمصلحة الكاملة بعد زوال العذر

__________________

(١) لم يرد « المتعلّقة بالموضوعات الواقعيّة » في « م ».

(٢) لم يرد « أدلّة » في « ع ».

(٣) في « ع » بدل « مرّ القول فيه » : « هو القول ».

(٤) لم يرد « كالخصال » في « ط ».

١٣٧

والاضطرار ، والمفروض في المقام هو مساواة المصلحة المترتّبة على الفعل من جهة ملاحظة نفسه ومن حيث (١) قيام الأمارة عليه ، وبعد فرض التساوي لا وجه للأمر ؛ لامتناع طلب الحاصل.

وبالجملة : بعد ملاحظة ما دلّ على كون العالم مكلّفا بالواقع ، والجاهل بما أدّى إليه الطريق كما هو المفروض ، مع كون الوقت موسّعا ، كما هو مفروض المقام ـ لعدم تعقّل الإعادة على تقدير عدم التوسعة ـ مع ملاحظة ما دلّ على الترخيص في إيجاد الفعل في أيّ جزء من أجزاء الوقت الموسّع ، يفهم منه أنّ المكلّف به هو القدر المشترك بين مؤدّى الطريق والواقع ، وأنّ المكلّف مخيّر بينهما على حسب أجزاء الزمان ، وعلى حسب ما يطرأ له من حالاته علما وجهلا وحضرا وسفرا إلى غير ذلك. وقد عرفت مرارا أنّ الإتيان بالفرد مسقط عن التكليف بالقدر المشترك ، فلا وجه للقول بالإعادة على ذلك التقدير ، إلاّ أنّ الكلام في نفس التقدير ، كما سيجيء.

ولازم الوجه الثاني هو وجوب الإعادة وعدم الإجزاء عند كشف الخلاف ؛ إذ المفروض عدم تقييد الواقع وبقاء الأحكام الواقعيّة بحالها وعدم اختلافها بالعلم والجهل وعدم تغيّرها بوجود الأمارة المتخلّفة وعدمها ، فقضيّة ما دلّ على وجوب الخروج عن عهدة التكاليف الواقعيّة ـ بعد العلم بها من العقل والنقل ـ هو لزوم الإتيان بالواقع ووجوب امتثال أوامره ونواهيه.

فإن قلت : إنّ وجود الأمارة وإن لم يوجب حدوث المصلحة في موردها ـ على ما مرّ في الوجه الأوّل ـ إلاّ أنّه لا بدّ من أن يكون جعلها حجّة وأمارة مشتملا على مصلحة مساوية لمصلحة الواقع عند التخلّف عنه ، وإلاّ لزم تفويت المصلحة الواقعيّة من غير تدارك لها. وبعد الأخذ بالأمارة والعمل بمدلولها قد حاز المكلّف ما يساوي مصلحة الواقع ، فيكون ذلك الأخذ في مرتبة العمل بالواقع ، وقد قرّر في

__________________

(١) في « ع » بدل « حيث » : « جهة ».

١٣٨

مقامه أنّ العمل بما يشتمل على مصلحة شيء مجز عن ذلك الشيء ، فلا بدّ أن يكون الأخذ بالأمارة مجزيا عن الواقع.

قلت : إنّ ما ذكرنا إنّما يجدي فيما لم ينكشف الخلاف ، وأمّا بعد انكشافه في الوقت ، فلا ينبغي الإشكال في عدم اشتمال الأمارة على مصلحة الفعل ؛ إذ بعد العلم بوجوب الواقع واشتماله على المصلحة ، لا يلزم تفويت المصلحة منه تعالى ، وذلك ظاهر. نعم ، لو فرض ترتّب فائدة على وقوع الفعل في الزمان الذي وقع فيه على حسب دلالة الأمر ـ مثل المسارعة في العمل ـ فمقتضى الحكمة واللطف هو ترتّب تلك الفائدة على الأخذ بالأمارة ؛ فإنّ تفويت تلك الفائدة مستند إلى الله حيث جعل تلك الأمارة حجّة.

وينبغي أن يعلم أنّ ما ذكرنا لا يجري فيما لو كان هناك حكم مترتّب على العلم ؛ فإنّه لا بدّ من القول بالإجزاء فيه ، لأنّ موضوع ذلك الحكم واقع في الواقع ، فلا وجه لعدم ترتّبه عليه.

فلو دلّ الخبر الواحد على وجوب صلاة الجمعة ، وامتثلها المكلّف ، ثمّ أتى بالنافلة المبتدأة اتّكالا على فراغ ذمّته عن الواجب ـ بمقتضى الخبر ـ فانكشف الخلاف ، بأنّ الواجب عليه في الواقع هو الظهر دون الجمعة ، فهنا امور : أحدها : وجوب إعادة الصلاة ظهرا ، وثانيها : لزوم ترتّب فائدة التعجيل والمسارعة ـ التي لم يبق محلّها بعد الكشف ـ على العمل بالأمارة ، وثالثها : صحّة النافلة المبتدأة فيما لو قلنا بأنّ صحّتها متفرّعة على العلم بعدم اشتغال الذمّة بالفريضة ، كما قد يستظهر ذلك من كلمة « الاستعلاء » في قوله : « لا تطوّع لمن عليه الفريضة » (١) وأمّا لو قلنا بأنّ صحّتها موقوفة على عدم اشتغال الذمّة واقعا بالفريضة ، فلا وجه للقول بالصحّة حينئذ.

__________________

(١) المستدرك ٣ : ١٤٤ ، الباب ٢٨ من أبواب المواقيت ، الحديث ٢.

١٣٩

ونظير ذلك : إذا صلّى الإمام في الثوب النجس تعويلا على أصالة الطهارة ، فصحّة صلاة المأموم يحتمل تفرّعها على علم الإمام بصحّة صلاته ، ويحتمل تفرّعها على صحّتها في الواقع ، فعلى الأوّل لا وجه للإعادة مطلقا ؛ لحصول ما هو الوجه في الصحّة واقعا ، وعلى الثاني لا بدّ من القول بالإعادة إذا لم نقل بأنّ الصلاة في الثوب النجس تعويلا على استصحاب الطهارة صحيحة في الواقع بحيث لا يجب إعادتها لو انكشف نجاسته في الوقت ، وأمّا إذا قلنا بذلك فتصحّ صلاة المأموم قطعا ؛ لأنّ شرط صحّة الاقتداء صحّة صلاة الإمام واقعا ، وهي حاصلة على هذا. ولذا فرّع العلاّمة صحّة صلاة المأموم في الفرض على ذلك (١).

وبالجملة : فكلّ ما كان من آثار العلم بالواقع فهو مترتّب على العمل بالأمارة ، وكلّ ما هو من آثار الواقع فلا وجه لترتّبه على العمل بعد الكشف.

وهذا هو المراد من القول بإمكان الإجزاء في صورة التخلّف في الأحكام الظاهريّة الشرعيّة ، إلاّ أنّ ذلك غير خال عن المسامحة.

وأمّا تمييز ذلك ومعرفة أنّ الحكم من الأحكام المتفرّعة على العلم أو من الآثار المترتّبة على الواقع ، فلا بدّ في ذلك من الرجوع إلى ما يفيد ذلك الحكم من الأدلّة ، فإن استظهرنا من الدليل تفرّعه على العلم فيحكم بالإجزاء ، وإن استكشفنا منه ترتّبه على الواقع فلا وجه للقول بالإجزاء. وذلك كلّه ظاهر.

إنّما الإشكال في أنّ جعل الطرق الظاهريّة ، على أيّ وجه من الوجهين المعلومين؟ فنقول : إنّ الظاهر هو الوجه الثاني ؛ فإنّ مقتضى الأدلّة الدالّة على حجّية تلك الطرق هو مراعاة الواقع ، فلا تكون هذه الأمارات في عرض الواقع ، بل المستفاد منها أنّها طرق إليه عند الجهل ، إمّا مطلقا من دون تقييدها بالفحص

__________________

(١) انظر قواعد الأحكام ١ : ٣١٨.

١٤٠