مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

وفيه : أنّ الوجوب الغيري على التفسير الثاني ، إمّا أن يكون من لوازم نفس المقدّميّة ووجوبها كأن يكون وجوب ذي المقدّمة يلازم هذا النحو من الوجوب في المقدّمة ، وإمّا أن لا يكون هذا النحو من الوجوب من لوازم وجوب ذيها. فعلى الأوّل لا وجه لاختصاص ذلك ببعض المقدّمات بعد استوائها فيما هو المناط للوجوب. وعلى الثاني فلا مدخل له في المقام ؛ إذ الإشكال ناش من جهة وجوبها الغيري على التفسير الأوّل. والتزام الوجوب النفسي لا يدفع الإشكال الناشئ من جهة الغير.

الثاني : ما أفاده بعض الأجلّة ، من الفرق بين الواجب المشروط والواجب المعلّق ، وما يجب فيه الإتيان بالمقدّمة قبل ذيها إنّما هو في الواجب المعلّق دون المشروط ، ولا محذور ؛ لأنّ المعلّق وجوبه حالي ، دون المشروط فإنّ الطلب فيه مشروط.

قال في جملة كلام له في إبداء الفرق بين هذين النوعين من الوجوب : إنّ الموقوف عليه في المشروط شرط الوجوب وفي المعلّق شرط الفعل ، فلا تكليف في الأوّل بالفعل ولا وجوب قبله ، بخلاف الثاني كما أشرنا إليه ، ففرق إذن بين قول القائل : « إذا دخل وقت كذا فافعل كذا » وقوله : « افعل كذا في وقت كذا » فإنّ الاولى جملة شرطيّة مفادها تعلّق الأمر والإلزام بالمكلّف عند دخول الوقت ، وهذا قد يقارن وقت الأداء فيه لوقت تعلّق الوجوب وقد يتأخّر عنه ، كقولك : « إن زارك زيد في الغداة فزره في العشاء » ، والثانية جملة طلبيّة مفادها إلزام المكلّف بالفعل في الوقت الآتي.

وحاصل الكلام : أنّه ينشئ في الأوّل طلبا مشروطا حصوله بمجيء وقت كذا ، وفي الثاني طلبا حاليّا والمطلوب فعل مقيّد بكونه في وقت كذا (١). انتهى ما أردنا نقله.

__________________

(١) الفصول : ٨٠.

٢٦١

وتوضيح ما ذكره : أنّ نسبة الفعل إلى الزمان والمكان متساوية ، فكما أنّه يمكن أن يكون الفعل المطلوب مقيّدا بوقوعه في مكان خاصّ ـ كالصلاة في المسجد ـ كذا يمكن أن يكون وجوبه مشروطا بوقوعها في مكان خاصّ. فعلى الأوّل فاللفظ الكاشف عن ذلك الطلب لا بدّ أن يكون على وجه الإطلاق ، كأن يقول : « صلّ في المسجد » وعلى الثاني لا بدّ أن يكون على وجه الاشتراط ، كأن يقول : « إذا دخلت المسجد فصلّ » وهذان الوجهان بعينهما جاريان في الزمان أيضا ، فيمكن أن يلاحظ الآمر (١) المقيّد بوقوعه في زمان خاصّ ، فيطلب على هذا الوجه من المكلّف ، ولا بدّ أن يكون التعبير عن ذلك المعنى على وجه الإطلاق ، كأن يقول : « صلّ صلاة واقعة في وقت كذا ». ويمكن أن يلاحظ الفعل المطلق (٢) لكن وجوبه المتعلّق به وطلبه مشروط بمجيء وقت كذا.

فالوجوب على الأوّل فعليّ ، ولا بأس باتّصاف مقدّمات الفعل الواجب على هذا الوجه بالوجوب ، إذ لا خلف حينئذ ، لأنّ ذاها أيضا متّصف بالوجوب. بخلاف الوجوب على الوجه الثاني ، فإنّ الفعليّة إنّما هي منتفية في الواجب المشروط ، فيمتنع اتّصاف مقدّماته بالوجوب الفعلي.

ففي الموارد التي حكموا فيها بوجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها يلتزم بأنّ الواجب (٣) معلّق ، بمعنى أنّ المطلوب هو الفعل المقيّد بوقت كذا ، ووجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها ، لا أنّه تابع لنفس الواجب ، فيمكن أن يكون وقت إيقاعها قبل زمان إيجاده ، لأنّ زمان اتّصاف الفعل المقيّد بالوجوب ليس متأخّرا عن زمان

__________________

(١) في ( م ) زيادة : « الفعل » تصحيحا. والصواب في العبارة : أن يلاحظ الآمر الفعل مقيّدا.

(٢) في ( م ) شطب على « المطلق » وكتب عليه : « مطلقا » والتصحيح في محلّه.

(٣) في ( ع ) زيادة : « فيه » ، والمناسب : فيها.

٢٦٢

اتّصاف المقدّمة بالوجوب ، بل يقارنه وإن كان زمان وقوع الفعل متأخّرا عن زمان وقوع المقدّمة. هذا غاية توضيح ما أفاده رحمه‌الله. ولكنّه ليس في محلّه.

وتحقيق ذلك موقوف على بيان أمر ، وهو : أنّ وجوب المقدّمة على القول به وجوب عقليّ تابع للوجوب المتعلّق بذيها ، بمعنى أنّه بعد ما أدرك العقل تعلّق الطلب بشيء يتوقّف ذلك الشيء على امور عديدة يحكم بتعلّق ذلك الطلب في مرتبة من المراتب وطور من الأطوار على تلك الامور ، ولا يختلف ذلك باختلاف كواشف الطلب من اللفظ وما يصلح لأن يكون كاشفا عنه ، فالوجوب المنتزع من المقدّمة بواسطة مطلوبيّتها المتفرّعة على مطلوبيّة ذيها ، ويتبع نفس الطلب المتعلّق بذيها وواقعه وإن كان التعبير في ذلك أيضا مختلفا ما لم يؤدّ إلى اختلاف معنى الطلب ولبّه. فلو فرضنا أنّ الأمر المنقدح في نفس الطالب ممّا لا يختلف باختلاف ما يكشف عنه من الألفاظ ، فلا يعقل اختلاف الطلب المتعلّق بالمقدّمة ، إذ المدار في وجوبها وإيجاد وجوبه هو وجوب ذيها المفروض عدم اختلافه في نفس الأمر باختلاف التعبير. ولعلّ ذلك ممّا لا ينبغي أن يتأمّل فيه.

وإذا قد عرفت هذا ، فنقول : الذي يظهر لنا بعد التأمّل في موارد استعمال العبارتين اللتين أوردهما المجيب في بيان الفرق بين ما تخيّله من نوعي الوجوب ، هو : أنّ الموجود في نفس الآمر والطالب شيء واحد لا اختلاف فيه على الوجهين ، وإنّما الاختلاف راجع في الحقيقة إلى التعبير وإن استلزم ذلك اختلاف ملاحظات المعنى المعبّر عنه بهذه التعبيرات.

وذلك يظهر عند ملاحظة اختلاف وجوه التراكيب اللغويّة والنحويّة ، فإنّ الموجود في الواقع هو أمر واحد ، لكنّه تختلف عباراته بوجوه مختلفة ، كما يرى ذلك فيما هو ثابت لشيء ، كالركوب لزيد ، فإنّه قد يلاحظ خبرا عنه محمولا عليه ، وقد يلاحظ صفة له ونعتا منه ، وقد يعتبر حالا عنه ، مع أنّ الواقع في جميع هذه الصور هو ثبوت الركوب وحصوله لزيد.

٢٦٣

وما نحن فيه بعينه من هذا القبيل ، فإنّه لا يفرق عندنا فيما ينقدح في أنفسنا عند طلبنا شيئا في زمان ، بين أن يجعل الزمان بحسب القواعد النحويّة قيدا للحكم الذي هو الوجوب ، وبين أن يجعل قيدا للفعل الذي تعلّق به الحكم ، وذلك ظاهر لمن راجع وجدانه وأنصف من نفسه. ويتّضح ذلك غاية الظهور فيما لو تجرّد الطلب من الكواشف اللفظيّة وثبت تحقّقه في نفس الطالب بدليل لبّي ، فهل تجد من نفسك فرقا فيما علمت بوجوب شيء في زمان بين الوجهين؟ كلاّ! فلا فرق في محصّل المعنى بين قول القائل : « إذا دخل وقت كذا فافعل كذا » وبين قوله : « افعل كذا في وقت كذا » إذ المعنى الموجود الذي يدعو إلى إظهاره وداعي الأمر فيهما أمر واحد لا تعدّد فيه. نعم ، يمكن التعبير عنه بأحد هذين الوجهين.

فإن قلت : إنّ الأحكام الشرعيّة تابعة لما يستفاد من عنوان الدليل ، واختلاف ورود الأدلّة فيما نحن فيه بصدده يكفي ، كما قد سبق نظيره في الفرق بين الواجب المطلق والواجب المشروط. قلت : وذلك ظاهر الفساد بعد ما قرّرنا في التمهيد ، من أنّ وجوب المقدّمة تابع لما هو واقع الطلب ولبّه (١) ، وبعد تسليم اتّحاده لا وجه لاختلاف لوازمه. وأمّا الفرق بين المشروط والمطلق فنحن بعد ما بيّنّا اختلاف المعنى فيهما استكشفنا من كلّ لفظ وارد في مقام البيان ما يناسبه من المعنى ، ولم نقل بأنّ مجرّد الاختلاف في العبارة كاف في الفرق. كيف؟ ولا يعقل أن يكون ذلك مناطا فيما هو راجع إلى المعنى.

لا يقال : إنّ ذلك المعنى الواحد المعبّر عنه بالعبارتين لا محالة يختلف وجوبه واعتباراته عند اختلاف العبارة ، كما يظهر ذلك عند ورود الركوب حالا أو صفة أو خبرا ، إذ لا شكّ في اختلاف ملاحظات ذلك المعنى الموجود المحكيّ عنه بهذه الخطابات.

__________________

(١) راجع الصفحة ١٩٧.

٢٦٤

لأنّا نقول : وذلك أيضا ممّا لا مدخل فيه لما نحن بصدده ، لاختصاص التبعيّة بما هو واقع المعنى ، كما يظهر ذلك فيما هو متعلّق بما هو الواقع في المثال المذكور ، فإنّ حقيقة ثبوت الركوب لزيد يقتضي اتّحاد الركوب المأخوذ لا بشرط شيء أو المشتقّ منه مع زيد في الوجود ، وذلك لمّا كان من لوازم ذلك المعنى فلا يختلف باختلاف ملاحظاته ولا باختلاف عباراته. نعم ، الامور الراجعة إلى الألفاظ أو ملاحظات المعنى كالأحكام اللفظيّة من الرفع والنصب والتنكير والتعريف يختلف باختلاف العبارات ، وقد عرفت في التمهيد أنّ الوجوب العارض للمقدّمة من لوازم واقع الطلب.

فإن قلت : قد ذكر في كلامه (١) أنّ نسبة الفعل إلى الزمان والمكان متساوية ، والفعل قد يؤخذ المكان فيه قيدا على وجه يختلف المعنى الموجود في نفس الطالب فيه إذا كان المطلوب ممّا يختصّ بكونه وحصوله في ذلك المكان ، كما إذا قيل : « جئني بالبطّيخ الموجود في بلد كذا » ، فإنّ التقييد على ذلك الوجه يغاير التقييد على وجه آخر ، كما إذا لم يكن المطلوب ممّا يختصّ بكونه في مكان خاصّ ، كما إذا قيل : « جئني بالبطّيخ في مكان كذا » ، فإنّ المأمور به على الأوّل هو البطّيخ الحاصل في ذلك المكان ، بحيث لو أتى بدلا عنه ما يكون في بلد آخر لم يكن مجزئا. وعلى الثاني هو مطلق البطيّخ ، ولكنّه يريده منه في مكان كذا. وقد يؤخذ المكان في الفعل على وجه لا يختلف المعنى فيه كما إذا قيل : « إذا دخلت في مكان كذا فجئني بالبطّيخ » أو قيل : « جئني بالبطّيخ في مكان كذا » وحيث إنّ نسبة الفعل إلى الزمان والمكان متساوية ، فيمكن أن يكون الزمان قيدا على وجه يختلف المأمور به فيه ، كما عرفت في المكان.

__________________

(١) أي كلام صاحب الفصول.

٢٦٥

قلت : الظاهر من كلامه ـ كما يظهر من تمثيله ـ إنّما هو إبداء الفرق بين هذين الوجهين من التعبير ، فالتكليف المذكور لعلّه ممّا لا يرضى هو به.

وتوضيح ذلك : أنّ الزمان والمكان قد يؤخذان ظرفين لنفس الفعل المأمور به ، كما إذا أخذ المكان ظرفا للصلاة التي هي عبارة عن فعل خاصّ وحركة مخصوصة ، أو اخذ الزمان ظرفا له ، كأن يقال : « صلّ في المسجد » أو « في الظهر » مثلا. وقد يؤخذان ظرفين لما يتعلّق به الفعل المأمور به ، كما في مثال البطّيخ ، فإنّ المكان فيه ليس ظرفا للفعل الذي أمر به الآمر وطلبه منه وهو الإتيان ، وإن أمكن تقييد الفعل بالمكان المذكور أيضا ، والكلام إنّما هو فيما إذا كان الزمان قيدا لنفس الفعل لا لمتعلّقه ، كما يظهر ذلك من الأمثلة التي فيها الإشكال ، كما في الغسل للصوم وتعلّم المسائل للصلاة ، وغير ذلك ممّا عرفت آنفا.

وبالجملة ، فالاحتمال المذكور ممّا لا مساس له بكلام المجيب ، وإنّما يحتمله من لا خبرة له بالمقام. نعم ، ذلك ينهض وجها من وجوه اختلاف الفعل المطلوب ، إذ باختلاف المتعلّق عموما وخصوصا يختلف الفعل أيضا ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فلا فرق فيما ينقدح في نفس الآمر بين أن يكون الزمان بحسب القواعد اللغويّة قيدا للفعل كما إذا قيل : « افعل في وقت كذا » وللحكم كما إذا قيل : « إذا جاء وقت كذا افعل كذا ». وبعد ما عرفت من أنّه هو المناط في الأحكام التي نحن بصددها من لوازم الوجوب ينبغي العلم بفساد الوجه المذكور في مقام دفع الإشكال.

ولعلّ اتّحاد المعنى على الوجهين ظاهر ، بناء على ما ذهب إليه الإماميّة : من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ؛ إذ الفعل يختلف مصالحه ومفاسده باعتبار قيوده الطارئة عليه ووجوهه اللاحقة له ، ومن جملة وجوهه وقوعه في زمان خاصّ ، فالطالب إذا تصوّر الفعل المطلوب فهو إمّا أن يكون المصلحة الداعية إلى طلبه

٢٦٦

موجودة فيه على تقدير وجوده في ذلك الزمان فقط ، أو لا يكون كذلك بل المصلحة فيه تحصل على تقدير خلافه أيضا. فعلى الأوّل فلا بدّ من أن يتعلّق الأمر بذلك الفعل على الوجه الذي يشتمل على المصلحة ، كأن يكون المأمور به هو الفعل المقيّد بحصوله في الزمان الخاصّ. وعلى الثاني يجب أن يتعلّق الأمر بالفعل المطلق بالنسبة إلى خصوصيّات الزمان. ولا يعقل أن يكون هناك قسم ثالث يكون القيد الزماني راجعا إلى نفس الطلب دون الفعل المطلوب ، فإنّ تقييد الطلب حقيقة ممّا لا معنى له ؛ إذ لا إطلاق في الفرد الموجود منه المتعلّق بالفعل حتّى يصحّ القول بتقييده بالزمان أو نحوه. فكلّ ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدلّ عليه الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادّة. وبعد ذلك يظهر عدم اختلاف المعنى الذي هو المناط في وجوب المقدّمة.

بل التحقيق أنّ ذلك غير مبنيّ على مذهب العدليّة ، إذ على القول بانتفاء المصلحة والمفسدة أيضا يتمّ ما ذكرنا ؛ فإنّ العاقل إذا توجّه إلى أمر والتفت إليه : فإمّا أن يتعلّق طلبه بذلك الشيء أو لا يتعلّق طلبه به ، لا كلام على الثاني. وعلى الأوّل ، فإمّا أن يكون ذلك الأمر موردا لأمره وطلبه مطلقا على جميع اختلاف طوارئه أو على تقدير خاصّ. وذلك التقدير الخاصّ قد يكون شيئا من الامور الاختياريّة ، كما في قولك : « إن دخلت الدار فافعل كذا » وقد يكون من الامور التي لا مدخل للمأمور فيه لعدم ارتباطه بما هو مناط تكليفه ، كما في الزمان وأمثاله.

لا إشكال فيما إذا كان المطلوب مطلقا. وأمّا إذا كان مقيّدا بتقدير خاصّ راجع إلى الأفعال الاختياريّة فقد عرفت فيما تقدّم اختلاف وجوه مصالح الفعل ، إذ قد يكون المصلحة في الفعل على وجه يكون ذلك القيد خارجا عن المكلّف به ، بمعنى أنّ المصلحة في الفعل المقيّد لكن على وجه لا يكون ذلك القيد أيضا موردا للتكليف ، هذا على القول بالمصلحة. وأمّا على تقدير عدمها ـ كما هو المفروض ـ فالطلب

٢٦٧

متعلّق بالفعل على هذا الوجه فيصير واجبا مشروطا. وقد يكون المصلحة في الفعل المقيّد مطلقا فيصير واجبا مطلقا ، لكن المطلوب شيء خاصّ يجب تحصيل تلك الخصوصيّة أيضا. وممّا ذكرنا في المشروط يظهر الإطلاق أيضا بناء على عدم المصلحة لتعلّق الطلب بالفعل على الوجه المذكور (١).

وأمّا إذا لم يكن راجعا إلى الامور الاختيارية فالمطلوب في الواقع هو الفعل المقيّد بذلك التقدير الخاصّ ، ولا يعقل فيه الوجهان كما إذا كان فعلا اختياريّا ، كما عرفت. فرجوع التقييد تارة إلى الفعل واخرى إلى الحكم بحسب القواعد العربيّة ممّا لا يجدي (٢) بعد اتّحاد المناط في هذه المسألة العقليّة. فقد ظهر من جميع ما مرّ أنّ سلوك هذا الطريق ممّا لا يجدي في رفع الإشكال.

ولنا في المقام مسلك آخر لعلّه حاسم لمادّة الشبهة بحذافيرها. وربّما يظهر من بعضهم أيضا ، كما نشير إليهم.

وتقريره ـ بعد ما عرفت من أنّ الحاكم بوجوب المقدّمة إنّما هو العقل على القول بالوجوب ، فالقاضي في أمثال هذه الاختلافات الواقعة فيه هو ذلك الحاكم ، ولا بدّ من ملاحظة حكم العقل الخالي عن شوائب الوهم في ذلك ـ أن يقال : إنّ الفعل الواجب الموقوف على حضور زمان تارة يكون ذلك الزمان واسعا صالحا لوقوع الفعل بجميع مقدّماته فيه ، وتارة يكون بقدر وقوع ذات الفعل فقط من غير أن يصلح لوقوع المقدّمات أيضا (٣). والأوّل كما في الصلاة بالنسبة إلى الطهارة ، والثاني كما في الصوم بالنسبة إلى الغسل.

__________________

(١) لم ترد عبارة « وممّا ـ إلى ـ المذكور » في ( ع ) و ( م ).

(٢) في ( ع ) و ( ط ) : لا يجهل.

(٣) في ( ط ) بدل « أيضا » : فيه.

٢٦٨

وعلى الأوّل ، إمّا أن يكون المكلّف عالما باقتداره من المكلّف به وقت حضور زمانه بإتيانه على جميع أجزائه وشرائطه ولواحقه ، أو يشكّ في ذلك ، أو يعلم بعدم اقتداره له في ذلك الزمان ، لكنّه قادر على تمهيد مقدّماته قبل حضوره.

لا كلام في جواز التأخير عند علمه باقتداره من المكلّف به على وجهه. وصورة الشكّ أيضا ممّا لا دخل لها بالمقام ؛ لأنّ المرجع في ذلك إلى الاصول العمليّة ، ولعلّ الأصل عدم الوجوب في ذلك الزمان ، والظنّ به ملحق إمّا بالعلم أو بالشكّ.

وأمّا عند العلم بعدم اقتداره في ذلك الوقت مع تمكّنه من المقدّمات قبله ، كما إذا أمر المولى عبده بالمسافرة بعد الزوال مع علمه بعدم تمكّنه من الراحلة بعده وتمكّنه قبله ، فإن تهيّأ الإتيان (١) بذلك الواجب بترتيب مقدّماته من شراء الزاد وإجارة الراحلة ونحو ذلك ، فلا ينبغي أن يتأمّل في أنّ ذلك العبد مطيع لأمر مولاه. وإن تخلّف عنها ولم يتهيّأ للواجب وأهمل في تمهيد المقدّمات ، فالعقل المستقيم حاكم جزما باستحقاقه العقاب المترتّب على ترك الواجب عند تركه ما يمكن التوصّل به إليه ، ولا يتوقّف ذلك على حضور زمان الفعل.

ويكشف عمّا ذكرنا ملاحظة الوجدان الخالي عن الاعتساف وملاحظة طريقة العقلاء أيضا ، فإنّه يحسن من المولى ذمّ العبد حينئذ ، ولو اعتذر بعدم حضور الوقت فلا يستحقّ أن يصغى إلى اعتذاره ، كيف وهو عاص قطعا ومخالف جدّا!

وعلى الثاني ـ وهو ما إذا لم يكن الزمان واسعا للمقدّمة أيضا ـ فالأمر في المخالفة عند تركه المقدّمة أظهر ولا قبح في عقابه عند العقل ، وحيث إنّك قد عرفت أنّ القاضي بالوجوب فيما نحن بصدده هو العقل ، فلا مانع من اتّصاف المقدّمة

__________________

(١) كذا ، والمناسب : للإتيان.

٢٦٩

بالوجوب قبل حضور زمان الواجب ، لأنّ العلم بمجيء زمان الفعل الواجب مع عدم اقتداره عليه بدون إحراز المقدّمة قبله كاف في انتزاع المطلوبيّة والوجوب من المقدّمة عند العقل ، فيحكم بوجوب إتيانها وإحرازها.

وبذلك يرتفع الإشكال عن أصله ؛ إذ لا محذور في أن يكون الشيء الواجب موقوفا على مقدّمة يجب تحصيلها قبل زمان الواجب بعد ما هو المفروض من تعلّق الوجوب بذلك الشيء على ما حقّقنا : من أنّ الوجوب في الواجب المشروط أيضا وجوب فعلي ، غاية الأمر أنّ الواجب فعل مخصوص على تقدير خاصّ. وليس ذلك بمزيّة الفرع على الأصل ؛ فإنّ مراعاة المقدّمة عين مراعاة ذيها.

لا يقال : إنّ الوجوب في الواجب المشروط يتعلّق بالفعل بعد حضور زمانه ووجود الشرط ، فليس وجوبه فعليّا ، ومع ذلك لا يعقل الوجوب الفعلي في المقدّمة ؛ إذ لو كان فيلزم مزيّة الفرع على الأصل كما ذكر.

لأنّا نقول : إنّ الواجب صفة منتزعة من الفعل الواجب الذي تعلّق به الطلب في نظر الطالب ، وبعد تحقّق الطلب ـ كما هو المفروض ـ لا وجه لعدم اتّصاف ذلك الفعل بالوجوب ، لوجوب ما هو المناط في انتزاعه عن محلّه.

وما قد يتوهّم : من أنّ الطلب ليس علّة تامّة لانتزاع تلك الصفة عن محلّها ، بل هو مقتض له فلا ينافي وجود المانع من ذلك ـ وهو عدم حضور زمان الواجب أو وجود الشرط مثلا ـ فهو ليس في محلّه ؛ إذ لا نعني بالوجوب إلاّ كون الفعل على أيّ وجه فرض في تعلّق الطلب به غير جائز الترك إن مطلقا فمطلقا وإن مشروطا فمشروطا ، وهو حاصل في الواجب الموقوف على حصول شيء زمانا كان أو غيره ، لأنّ المناط في ذلك هو الإنشاء والطلب ، والمفروض أنّ الطالب قد تعلّق طلبه بالفعل وأقام بجميع وظائف الطالبيّة ، ويكفي ذلك في انتزاع الصفة المذكورة.

فإن قلت : الفعل المطلوب إمّا أن يكون قبل الوقت جائز الترك أو لا ، فعلى

٢٧٠

الأوّل يلزم اتّصاف المقدّمة بالوجوب وعدم جواز الترك قبل ذيها ، وعلى الثاني يلزم اتّصاف الفعل المذكور بجواز الترك قبله كما هو المفروض أوّلا ، وعدمه كما هو اللازم ثانيا.

قلت : اتّصاف الفعل في الحال بالوجوب في وقته يكفي في اتّصاف المقدّمة بعدم (١) جواز الترك فيما لو علمنا بأنّ تركها يفضي إلى تركه في الوقت.

فإن قلت : إنّ القدرة على الفعل في زمانه شرط لوجوب الفعل ، إذ القدرة من شرائط الوجوب ، وبعد تركه في الحال مقدّمة الفعل يصير المكلّف داخلا في عنوان « غير القادر » و « العاجز » ولا تكليف على العاجز ، فلا مخالفة ؛ لأنّها فرع التكليف. والقول بلزوم تحصيل القدرة يوجب القول بوجوب المقدّمة الوجوبيّة ، ولعلّه ممّا لا يمكن الالتزام به.

قلت : إنّ الحاكم باشتراط الوجوب بالقدرة هو العقل ، لامتناع التكليف بما لا يطاق في حقّ الحكيم العدل ، وليس يمتنع التكليف بالفعل مع تمكّنه واقتداره قبل الوقت. وأمّا منعه نفسه من تعلّق التكليف به فهو أمر راجع إلى المعصية الحكميّة ؛ إذ كما أنّ العقل حاكم بقبح المخالفة كذلك أيضا حاكم بقبح تفويت التكليف ، كما يظهر من ملاحظة (٢) إطباق العدليّة على استحقاق العقاب لمن سمع دعوى النبوّة ولم ينظر في المعجزة. وكما يظهر ذلك فيما إذا أراد المولى إعلام عبده لمراده مع امتناع العبد من أن يصغى إلى أمره ، بل وذلك ربما يكون أعظم مخالفة من تفويت المكلّف به ، كما لا يخفى.

بل ربما يقال : بأنّ العاجز المذكور حينئذ مكلّف بالفعل واقعا وإن لم يكن قادرا عليه ، لأنّ الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، إذ لا اختصاص لهذا القول

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : اتّصاف المقدّمة به لعدم.

(٢) لم يرد « ملاحظة » في ( ع ) و ( م ).

٢٧١

عند أصحابه بما إذا كان التكليف منجّزا كما إذا قطع يده بعد الزوال ، بل يجري مناط كلامهم فيما إذا صار المكلّف سببا لارتفاع نفس التكليف على أيّ وجه كان ، فيشمل المورد أيضا.

إلاّ أنّ التحقيق : أنّ الممتنع بالاختيار ينافي الاختيار تكليفا وخطابا ولو كان ابتلائيّا ، لعلم الممتنع عليه بامتناعه في حقّه ، فلا يصلح للخطاب أصلا ، وإنّما لا ينافي الاختيار عقابا ، كما ستعرف الوجه في ذلك فيما سيأتي إن شاء الله. فعلى هذا فالتارك المذكور معاقب ، ولكنّه ليس مخاطبا ، وعقابه إنّما هو عقاب تفويته التكليف على نفسه.

فإن قلت : ذلك يلازم القول بوجوب جميع المقدّمات قبل الوقت مع العلم بعدم تمكّنه منها بعد الوقت ، مع أنّ الظاهر عدم وجوب بعض المقدّمات قبل الوقت وإن أدّى ذلك إلى ترك ذيها في الوقت ، كما في إحراز الماء قبل الظهر.

قلت : قد عرفت أنّ الماء يجب إحرازه قبل الوقت ، كما صرّح بذلك الوحيد البهبهاني (١) ، ووجهه ما ذكرنا. ولو سلّم فكلّما علمنا بجواز ترك المقدّمة قبل الوقت ـ كما إذا استفدنا ذلك من إجماع أو دليل آخر ـ نقول : إنّ شرط الوجوب في ذلك الواجب هو القدرة على ذلك الواجب وشرائطه في زمان وجوبه ، فيكون من الشروط الشرعيّة. وليس ذلك تخصيصا لحكم العقل ، إذ القدرة المعتبرة في الفعل إذا قدرة خاصّة بحسب حكم الشرع ، فلا يجب تحصيل الراحلة قبل حصول الاستطاعة وإن علم باستطاعته فيما بعد ، ولا يجب إحراز الماء أيضا ، كما قد يمكن استفادة ذلك من دليل الوضوء ، فإنّ إقامة الصلاة إنّما هي بعد الوقت وقد توقّف وجوب الوضوء (٢) بوجدان الماء حال إرادة الإقامة التي هي توجد بعد الوقت ، كما لا يخفى.

__________________

(١) شرح المفاتيح ( مخطوط ) الورقة : ٢١١ ، وقد تقدّم في الصفحة ٢٥٩.

(٢) في ( ط ) : « وجود الوجوب » ، وفي ( ع ) : « وجوب الوجوب ».

٢٧٢

وبالجملة ، فإن دلّ دليل على عدم الوجوب ، فلا بدّ من القول بأنّ الشرط هو القدرة الخاصّة ، وإلاّ فيجب الإتيان بالمقدّمة.

وقد يفرق في ذلك بين ما إذا كان الأمر الموقوف عليه الوجوب صفة راجعة إلى جنس المكلّف على وجه يختلف بها أنواعه كالمسافر والحاضر والمستطيع وغيره وواجد النصاب وغيره ، وبين ما إذا لم يكن كذلك.

فيقال بعدم وجوب المقدّمة الوجوديّة في مثل الأوّل ؛ لأنّ التكليف غير متوجّه إلى غير المستطيع ، لأنّه لا يكون عرضة للتكليف حال عدم الاستطاعة ، فلو أخلّ بشرط من شروط الواجب ـ كأن لم يحصّل الراحلة ـ فليس في ذلك تفويت التكليف ، فلا مخالفة لا حقيقة ولا حكما. ومن هنا تراهم يقولون بأنّ إدخال المكلّف نفسه في موضع التكليف ليس بواجب.

ويقال بالوجوب فيما لا يرجع إلى اختلاف موضوع (١) المكلّف.

وبيان ذلك : أنّ الصفة تارة تؤخذ عنوانا في الحكم على وجه لا مدخل للوصف العنواني في موضوع (٢) المكلّفين ، فيكون قيدا للفعل المكلّف به ، فيكون المكلّف حينئذ هو الذات التي تكون تلك الصفة عنوانا فيها ، وانتفاء الشرط في الفعل وإن كان يوجب انتفاء التكليف ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب انتفاء موضوع المكلّف.

وتارة يؤخذ قيدا للمكلّف ، كما إذا قيل : « يجب الحجّ على المستطيع » كما يقال في الأوّل : « إن دخلت الدار فافعل » فيما إذا لم يكن الملحوظ تنويع المكلّفين ، بل كان المقصود تقسيم الفعل المكلّف.

كذا أفاد ـ دام ظلّه ـ ولكنّه بعد محلّ تأمّل ؛ إذ لا نجد فرقا في محصّل المعنى

__________________

(١) في ( ط ) : موضع.

(٢) في ( م ) : موضع.

٢٧٣

بين العبارتين على ما هو المناط في المقام. وعلى تقدير الفرق ففي الموارد ما لا يمكن استفادة ذلك الفرق ، كما لا يخفى.

وقد يؤيّد ما نحن بصدده من حرمة تفويت التكليف ببعض الأخبار :

فمنها : ما رواه الشيخ في زيادات التهذيب عن محمد بن الحسن ، عن صفوان ، عن العلاء ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام : « سئل عن الرجل يقيم في البلاد الأشهر ، ليس فيها ماء ، من أجل المراعي وصلاح الإبل؟ قال عليه‌السلام : لا » (١). ويظهر منه : أنّ وجه منعه عليه‌السلام الإقامة في مثل ذلك المكان إنّما هو تفويته التكليف على نفسه قبل مجيء زمانه.

ومنها : ما رواه أيضا عن العبيدي ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز ، عن محمّد بن مسلم ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجنب في السفر فلا يجد إلاّ الثلج أو ماء جامدا ، قال : هو بمنزلة الضرورة يتيمّم ، ولا أرى أن يعود إلى هذه الأرض التي توبق دينه » (٢) والظاهر منه أيضا المنع من تفويت التكليف.

ومنها : الأخبار الدالّة على عدم جواز الإقامة في البلاد التي لا يتمكّن المكلّف فيها من إقامة أحكام الله وحدوده (٣).

ومنها : ما دلّ على أنّ المفتري بالرؤيا يؤمر بأن يعقد شعيرة وما هو بعاقدها (٤) ، فإنّه يدلّ على أنّ التكليف الذي نشأ من المكلّف امتناعه لا ضير في ذلك.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٠٥ ، الحديث ١٢٧٠ ، والوسائل ٢ : ٩٩٩ ، الباب ٢٨ من أبواب التيمّم ، الحديث الأوّل.

(٢) التهذيب ١ : ١٩١ ، الحديث ٥٥٣ ، والوسائل ٢ : ٩٧٣ ، الباب ٩ من أبواب التيمّم ، الحديث ٩.

(٣) راجع تفسير القمي ٢ : ١٥١ ، ومجمع البيان ٤ : ٢٩١.

(٤) البحار ٧ : ٢٠٨ ، الحديث ١٢٨ و ٧٦ : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ ، الحديث ٧ و ٨.

٢٧٤

والظاهر أنّ هذه الروايات ممّا لا ربط لها بما نحن بصدده ، لعدم التعويل عليها في مواردها ، وإنّما أوردناها تأييدا.

والعمدة هو ما عرفت من حكم العقل باستحقاق العقاب في الموارد المذكورة.

والخبير بمطاوي كلمات الأساطين يطّلع على أمثال ما ذكرنا ، فممّن تنبّه لمثل ما ذكرنا استاذ الكلّ في الكلّ (١) المحقّق السبزواري (٢) والسيّد العلاّمة بحر العلوم في المصابيح (٣).

ويستفاد ذلك من أصحابنا في الفروع الفقهيّة أيضا :

فمن جملتها : حكمهم بأنّ المرتدّ الفطري مأمور بالعبادات المشروطة صحّتها بالإسلام (٤) الغير الممكن في حقّه ـ بناء على عدم قبول توبته ـ إذ لا يعقل لذلك وجه إلاّ عقابه على تفويته التكليف على نفسه قبل مجيء زمان التكليف.

ومنها : حكمهم بعقاب الكافر على ترك قضاء عباداته (٥) مع أنّه غير ممكن في حقّه ، إذ هو مشروط بالإسلام ، فإمّا يراد امتثال التكليف بالقضاء بدون الإسلام أو مع الإسلام ، فعلى الأوّل فهو تكليف بما لا يطاق ، إذ التكليف بالشيء المشروط بدون الشرط تكليف بغير المقدور. وعلى الثاني لا يراد منه ، لأنّ المفروض أنّ « الإسلام يجبّ عمّا قبله » فعقابه على ترك مثل التكليف ليس إلاّ بواسطة تفويته التكليف على نفسه بإدخاله في الكفّار الممتنع في حقّهم أداء تكليف

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : بدل « استاذ الكل في الكل » : « هو ».

(٢) الذخيرة : ٥٤.

(٣) مصابيح الأحكام ( مخطوط ) : ٢١١.

(٤) المنتهى ( الحجرية ) ١ : ٤٢١ ، ومجمع الفائدة ٣ : ٢٠٢ ، والجواهر ٤١ : ٦٠٥ ـ ٦٠٦.

(٥) انظر العدّة ١ : ١٩٠ ـ ١٩٢ ، والغنية ٢ : ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ، والمنتهى ٢ : ١٨٢ ـ ١٨٨ ، وتمهيد القواعد : ٧٦ ـ ٧٧ ، وعوائد الأيّام : ٢٨٢.

٢٧٥

القضاء ، إذ لو كان مسلما صحّ منه الامتثال. وأمّا وجه صحّة الأمر بالقضاء فله محلّ آخر لعلّك تطّلع عليه.

ومنها : حكمهم بعقاب الجاهل المقصّر (١) ، سواء كان من جملة من يعلم إجمالا بوجود أحكام في الشريعة ولم يبذل جهده في تحصيلها ولا يبال بفوتها منه أو كان شاكّا صرفا ، فإنّ الظاهر منهم حكمهم بترتّب عقاب نفس التكاليف الواقعيّة.

نعم ، بعض أصحابنا ـ كالمحقّق الفيض (٢) وأمين الأخباريّة (٣) والمحدّث البحراني (٤) ـ ذهبوا إلى أنّ الكافر بالله مكلّف بالإيمان به ، وحين كفره بالله لا يكون مكلّفا بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمؤمن بالله مكلّف بالإيمان بالرسول ، والمؤمن بالرسول مكلّف بالإيمان بالإمامة ، والمكلّف بالإمامة مكلّف بالأحكام الفرعيّة.

واستندوا في ذلك إلى بعض الروايات ، وتعلّقوا بذيل التأويل في قوله تعالى بعد قوله : ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) ، ( لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ )(٥).

والمشهور أنّ الجاهل المقصّر معاقب. أمّا إذا لم يكن له علم إجمالي أيضا فظاهر أنّ عقابه بالامور الواقعيّة ليس إلاّ بواسطة تفويت التكليف في حقّهم. وأمّا

__________________

(١) لم نعثر عليه بعينه ، نعم يستفاد ذلك من حكم بعضهم بأنّ الجاهل المقصّر في حكم العامد ، كالمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة ٣ : ٣٦ ، والمحقّق النراقي في المستند ١٢ : ١٥٠ ، وما نسب الى المعروف من عدم معذوريّة الجاهل ، كما في الفصول : ٤٢٧ ، والقوانين ٢ : ١١١ ، والحدائق ١ : ٧٧.

(٢) الوافي ٢ : ٨٢ ، وتفسير الصافي ٤ : ٣٥٢.

(٣) الفوائد المدنيّة : ٢٢٦.

(٤) الحدائق ٣ : ٣٩ ـ ٤٠.

(٥) راجع العدة ١ : ١٩٢ ، ومعارج الاصول : ٧٦ ، ومبادئ الوصول : ١١٠ ، والمنتهى ٢ : ١٨٨ ، والآيات من سورة المدثّر : ٤٢ ـ ٤٤.

٢٧٦

مع العلم الإجمالي فإن كان يمكن القول بالعقاب على ترك تكليفه المعلوم له ، فإنّه يجب عليه الاحتياط ، إلاّ أنّ الواقع أنّ الاحتياط أيضا واجب إرشادي لا عقاب على تركه ، وإنّما العقاب على ترك الواجبات ، فيكون العقاب عليها مع عدم العلم بها تفصيلا وامتناع امتثالها في حقّه بواسطة تفويت التكليف.

ومنها : حكمهم بعقاب من توسّط أرضا مغصوبة حال الخروج منها (١) مع أنّه يمتنع تكليفه بعدم الغصب حال الأمر بخروجه الذي هو غصب ، وليس ذلك إلاّ بواسطة أنّه فوّت التكليف على نفسه حال الدخول أوّلا.

ومنها : ما ذكره الشهيدان ، من حرمة النوم الثاني في ليلة الصيام لمن لم يعزم على الانتباه ولم يكن معتادا (٢) ، مع ذهابهما إلى المضايقة في حديث الغسل قبل الفجر ، إذ لو قيل بالمواسعة يمكن القول بالحرمة ، لأنّ زمان النوم زمان التكليف ، وأمّا على المضايقة فليس الحرمة إلاّ بواسطة احتمال تفويت التكليف في حقّه ، وإلاّ فيمكن أن يقال : إنّ زمان النوم ليس زمان التكليف ولا يجب إبقاء القدرة فلا يحرم النوم وإن علم بعدم الانتباه قبل الفجر.

ومنها : ما ذكره غير واحد منهم (٣) ، من أنّه متى نذر واحد التصدّق بشاة مخصوصة على تقدير خاصّ ـ كقضاء حاجته مثلا ـ لا يجوز له التصرّف فيها من نقل ونحوه مطلقا أو فيما إذا علم تحقّق المنذور عليه ... إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع في كلماتهم.

__________________

(١) راجع الفصول : ١٣٨ ، والقوانين ١٥٣ ، وكشف الغطاء ١ : ١٦٨ ـ ١٦٩ ، والجواهر ٨ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

(٢) راجع الدروس ١ : ٢٧١ ، وغاية المراد ١ : ٣١٥ ـ ٣١٦ ، والمسالك ٢ : ١٨.

(٣) راجع المسالك ١ : ٣٦٠ ، والمدارك ٥ : ٣١ ، ومستند الشيعة ٩ : ٤٨ ـ ٤٩ ، والجواهر ١٥ : ٤٢ ـ ٤٦.

٢٧٧

وبالجملة ، فلا قبح في العقول فيما إذا عاقب المولى عبده عند تقصيره فيما أمره به ولو بواسطة تفويته التكليف على نفسه. ولا ينافي ذلك إطباقهم على عدم وجوب مقدّمة الواجب المشروط ؛ لما عرفت من أنّ المقدّمة الوجوبيّة مع كونها من قيود الفعل لا ينبغي أن تكون موردا للتكليف ؛ لأنّ الطلب إنّما يتعلّق بالفعل الملحوظ على وجه مخصوص. وأمّا المقدّمات الوجوديّة الأخر ، فتارة نقول بأنّها لو قام الدليل على عدم وجوبها قبل الوقت فلا بدّ من الالتزام بأنّ القدرة المعتبرة في هذه الواجبات التي يتوصّل إليها بهذه المقدّمات قدرة خاصّة ، لا مطلق الاقتدار. وتارة نقول بأنّ ذلك يتمّ فيما لم يكن الشرط راجعا إلى تقسيم موضوع المكلّف ، كأن كان راجعا إلى تقسيم الفعل. وقد عرفت تفصيل ذلك ، فلا نطيل بالإعادة ، فتدبّر في المقام ، فإنّه حقيق بذلك جدّا.

تتميم تحصيليّ :

قد عرفت أنّ وجوب المقدّمة على القول به وجوب يدعو إليه العقل بعد اطّلاعه على وجوب ذيها ، وبذلك يرتفع الإشكال في الموارد المذكورة. وهل العقل يدعو إلى الإتيان بالمقدّمة قبل زمان ذيها في كلّ زمان يقتدر عليه ولا يفرق بين الزمان المقارن لزمان ذيها وبين غيره ، أو يقتصر حكمه به في آخر زمان لا يتمكّن بعده من الامتثال؟ وجهان بل قولان ، كما يظهر ذلك من ملاحظة أقوالهم في الغسل قبل الفجر ، فقال بعضهم : بأنّ الواجب هو الغسل في زمان يمكن أن يقع فيه قبل الفجر ، وهو المنسوب إلى المشهور (١). وقال بعضهم : إنّ الواجب هو الغسل في أيّ جزء من أجزاء الليل كان ، وهو خيرة المحقّق الخونساري (٢). وهو المنصور.

__________________

(١) نسبه اليهم صاحب الجواهر ، انظر الجواهر ١ : ٣٤.

(٢) انظر مشارق الشموس : ٣٨٦.

٢٧٨

ويمكن أن يكون مستند المشهور امورا :

أحدها : دعوى أنّ الغسل قبل زمان التضيّق ليس مقدّمة للواجب ولا شرطا له ؛ فإنّ الشرط ـ على ما ذكر في تحديده (١) ـ هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود ، ولا يلزم من عدم الغسل في غير آخر الوقت عدم المشروط ، إذ لو عدم في الأوّل يمكن إيجاده في آخر الوقت ، فلا يلزم من عدمه عدمه ، فلا يكون شرطا. وهذا ممّا أفاده بعض مشايخنا المعاصرين (٢).

والإنصاف أنّه ليس في محلّه ؛ فإنّ المراد بالعدم المأخوذ في تعريف الشرط الذي يلزم منه عدم المشروط هو عدمه مطلقا في جميع الأزمان ، لا عدمه في زمان خاصّ ، وإلاّ فعدمه في الزمان الآخر أيضا لا يلزم منه العدم إذا كان مسبوقا بوجود الشرط قبله. وبالجملة ، فإن أراد أنّ عدمه في الجزء الأخير يلزم منه العدم وإن سبقه الوجود ، فهو باطل جدّا. وإن أراد أنّ عدمه فيه مع عدمه في زمان قبله يلزم منه العدم ، فهو مسلّم لكنّه لا يجديه ، إذ عدمه في الجزء الأوّل مع عدمه في باقي الأجزاء أيضا يلزم منه العدم.

الثاني : إنّ ما دلّ على وجوب المقدّمة قبل الوقت لا يدلّ على أزيد من الزمان الذي يمكن أن يقع فيه الفعل المقدّمي قبل زمان الواجب. وهذا هو الذي اعتمد عليه الاستاذ في مباحث الطهارة (٣).

وتوضيحه : أنّ الداعي إلى إيجاد المقدّمة في الخارج قبل الوقت ليس إلاّ العقل ، وهو لا يظهر منه التحريك إلى الفعل قبله ، لاطمئنانه بفعله بعده ، فلا دليل على الوجوب فيما عدا زمان التضيّق.

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : « على ما ذكروه ».

(٢) هو صاحب الجواهر في الجواهر ١ : ٤٢.

(٣) راجع كتاب الطهارة ٢ : ٥٣ ـ ٦٣.

٢٧٩

فإن قلت : إنّ العقل يحكم بالوجوب في تمام الزمان ، إلاّ أنّ التوسعة فيه هو الباعث على اطمئنانه وعدم اضطرابه ، كما إذا كان الوجوب متعلّقا بماهيّة ذات أفراد مجتمعة في الوجود ، فإنّ العقل لا يبالي بترك بعض الأفراد ما لم ينحصر في الفرد الأخير. فكما لا يمكن القول بأنّ الواجب من هذه الأفراد المجتمعة هو الفرد الأخير ، فكذا فيما نحن فيه.

قلت : فرق بين المقامين ، فإنّ التخيير في الأفراد المجتمعة في الوجود ممّا لا ضير فيه ، بخلاف التخيير بين غيرها كما في الأفراد المختلفة بحسب اختلاف مراتب الزمان تقدّما وتأخّرا ، فإنّ ذلك يشبه أن يكون التخيير بينها في الواجبات العقليّة تخييرا بين الواجب وما هو مسقط عنه ، كما إذا جعل التخيير بين الصوم والسفر المسقط له.

والإنصاف أنّ ذلك أيضا ممّا لا وجه له ؛ إذ لا نجد فرقا بين الأفراد المجتمعة وبين غيرها. وليس ذلك من التخيير بين الواجب ومسقطه ، فإنّ المصلحة الداعية إلى طلب الشيء في العقل حاصلة في جميع أفراد الواجب ، كما هو المعنيّ من الواجب الموسّع شرعا أيضا ، ولو لم يكن دليل على عدم وجوبه قبل الليل لكنّا نفتي بذلك في ذلك الزمان أيضا ، ولكنّ الإجماع متحقّق ظاهرا على عدم الوجوب قبل الليل.

لا يقال : الحكم المذكور عقليّ يمتنع تخصيصه ، فكيف يقول بقيام الإجماع؟

لأنّا نقول : قد عرفت أنّ الدليل المذكور يكشف عن أنّ الشرط هو القدرة في زمان خاصّ ، فلا غائلة في ذلك.

الثالث : إنّ العقل لا يحكم بوجوب مقدّمة الواجب المشروط قبل الوقت ، ولكن ضيقه وعدم اتّساعه للفعل ومقدّماته يقوم مقام دخول الوقت ، فلا بدّ من الاقتصار على ما هو القدر المعلوم من ذلك.

٢٨٠