مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

وعدمه ، كما في الأمارات المعمولة في الموضوعات ـ مثل الاستصحاب واليد والسوق ونحوها ـ وإمّا مع الفحص ، كما في الأمارات المعمولة في الأحكام ؛ كما يرشدك إلى ذلك ملاحظة أدلّة الاصول العمليّة ، كقوله : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام ... إلى آخره » (١) وغير ذلك ، فإنّ المستفاد منها هو وجود الحرام الواقعي مع قطع النظر عن العلم والجهل ، وأنّ الشارع جعل في موارد الاصول أحكاما كلّية في مقام العلاج.

ويظهر ذلك ـ غاية الظهور ـ من ملاحظة الأخبار الواردة في حجّية الأخبار الموثوق بها (٢) ، وملاحظة الأخبار الواردة في مقام علاج الأخبار المتعارضة (٣) ، وملاحظة كلمات العلماء في الأبواب الفقهيّة والقوانين الاصوليّة وغيرها.

ويكفيك شاهدا في المقام الإجماع على حسن الاحتياط في الموارد التي قامت فيها الطرق الشرعيّة والأخبار الآمرة على وجه الإرشاد بالأخذ بما هو الحائط (٤) ، والنهي عن ارتكاب الشبهات (٥) ، والاجتناب عمّا لم يعلم (٦).

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٢) انظر الوسائل ١٨ : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧ ، ٣٣ و ٤٠ ، والكافي ١ : ٣٣٠ ، الحديث الأوّل.

(٣) انظر الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل ، والمستدرك ١٧ : ٣٠٣ ، الحديث ٢.

(٤) الوسائل ١٨ : ١١١ ، الحديث ١ و ٥٤ و ٥٨.

(٥) الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل ، والصفحة ١١١ ، الباب ١٢ من الأبواب ، الحديث ٢ ، ١٥ ، ٤٣ و ٥٠.

(٦) الوسائل ١٨ : ١١١ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠ و ٢٧ ، والباب ٤ من الأبواب ، الحديث ١٤.

١٤١

والوجه في ذلك كلّه ظاهر ؛ إذ لو لا أنّ الأحكام الواقعيّة محفوظة عند الجهل والعلم ، لوجب أن يكون بدل قوله : « حتّى تعرف الحرام » ، « حتّى يصير حراما بالمعرفة » ومن هنا قلنا : بأنّ مقتضى تلك الأخبار هو وجوب الاجتناب عن الحرام المعلوم إجمالا في أطراف الشبهة المحصورة.

وأظهر من ذلك قوله : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (١) فإنّ القذارة أمر لا مدخل للعلم والجهل فيها وتكون ثابتة على التقديرين ، غاية الأمر جواز ترتيب آثار الطهارة على المشكوك من حيث هو مشكوك الطهارة ، لا أنّ موارد الشكّ طاهرة في الواقع بواسطة الاصول المعمولة فيها.

وما ذكرنا غير خفيّ على المتتبّع الماهر ، سيّما بعد ملاحظة وجوب الفحص والسؤال عن الأحكام الواقعيّة ؛ إذ المكلّف يمتنع خلوّه عن موارد الاصول العمليّة ، وعلى أيّ تقدير يصل إليه ما يساوي الأحكام الواقعيّة المجعولة على طبق الصفات الكامنة (٢) من جهة المصلحة ، ومن المعلوم أنّ وصول ما يساوي لمصلحة الشيء يوجب سقوط ذلك الشيء ، وقضيّة ذلك عدم وجوب الفحص والسؤال ـ كما قلنا ـ مع أنّه مأمور به في جملة من الروايات (٣) ، بل وهو ممّا اتّفقت عليه كلمة أصحاب التخطئة (٤).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٥٤ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤ ، وفيه : « كلّ شيء نظيف ... ».

(٢) في « ع » بدل « الكامنة » : « الكائنة ».

(٣) انظر الكافي ١ : ٤٠ ، باب سؤال العالم ، الحديث ٢ و ٥ ، والوسائل ٢ : ٩٦٧ ، الباب ٥ من أبواب التيمّم ، الحديث ١ و ٦ ، وانظر فرائد الاصول ٢ : ٤١٢ ـ ٤١٣.

(٤) لم ترد عبارة : « بل وهو ممّا اتّفقت عليه كلمات أصحاب التخطئة » في « ع » و « م ».

١٤٢

وبما ذكرنا يظهر اندفاع ما عسى أن (١) يتوهّم : من أنّ وجود المصلحة في موارد الطرق لا ينافي وجوب الفحص عن الأحكام الواقعيّة ؛ لإمكان اشتراط وجودها بالفحص.

ووجه الاندفاع : أنّه لا وجه لذلك الاشتراط بعد عدم الاعتناء بالواقع ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فقد عرفت فيما تقدّم : أنّ لازم الطريقيّة هو عدم الإجزاء ، ولازم الموضوعيّة هو الإجزاء.

وقد ظهر بذلك وجه القول المختار : من عدم الإجزاء في الأوامر الظاهريّة الشرعيّة عند التخلّف عن الواقع فيما إذا كان الوقت باقيا ؛ لبقاء الأوامر الواقعيّة بحالها ، والطريق بعد تخلّفه عن الواقع وانكشاف ذلك في الوقت ممّا لا دليل على اشتماله على مصلحة متداركة ، فإنّ قضيّة اللطف ونقض الغرض في التكاليف الواقعيّة لا تزيد على التزام وجود المصلحة في جعل الأمارة حجّة فيما إذا لم ينكشف الخلاف مع عدم المطابقة واقعا ، وأمّا مع انكشاف الخلاف فلا دليل على وجود المصلحة في الطريق ؛ إذ المفروض بقاء الوقت ، ولا حاجة إلى تكليف جديد ، فيكفي في تحصيل المصلحة وجود الأمر الواقعي المعلوم ـ كما هو المفروض ـ فلا يلزم تفويت منه ، كما أنّه لا دليل على ذلك مع المطابقة.

هذا كلّه مع إمكان الوصول إلى الواقع.

وأمّا مع تعذّره ـ كما في صورة الانسداد ـ فجعل الطريق لا دليل على اشتماله على المصلحة ؛ إذ يكفي في جعل الطريق وكونه حسنا كونه مطابقا للواقع في الأغلب ، فعند التخلّف عن الواقع من دون الكشف أيضا لا دليل على وجود المصلحة في العمل بالطريق ؛ لعدم استناد التفويت إليه تعالى ، فلا يلزم خلاف اللطف.

__________________

(١) لم يرد « عسى أن » في « ع » و « م ».

١٤٣

ومن هنا ذكرنا في مباحث الظنّ : أنّ كلام المانع من العمل بالخبر (١) الظنّي لو اختصّ بصورة الانفتاح فله وجه (٢) ، ولا بدّ في دفعه من التزام وجود المصلحة في الطريق على وجه يساوي مصلحة الواقع عند التخلّف ـ كما عرفت في الوجهين السابقين ـ وإنّ عمّ كلامه صورة الانسداد فلا وجه له ؛ إذ المفروض عدم إمكان الوصول إلى الواقع ، فيكفي في الجعل كون المجعول غالب المطابقة.

هذا كلّه بالنسبة إلى الإعادة ، فإنّ قضيّة القواعد عدم الإجزاء عنها ، ولا بدّ من الإعادة عند الكشف القطعي ، مضافا إلى دعوى الإجماع في ذلك عن كاشف الغطاء (٣) ، ولعلّه الظاهر.

وأمّا القضاء ، فإن قلنا بأنّه تابع للأمر الأوّل من دون حاجة إلى بيان زائد عليه ، فلا إشكال في وجوبه أيضا ؛ لأنّه حينئذ كالإعادة ، غاية الأمر أنّ المكلّف بواسطة التأخير آثم عند العلم ، وبدونه لا بدّ من التدارك عند الانفتاح ـ كما عرفت ـ ولكنّه لم يسقط عنه الواجب.

وكذا لو قلنا بأنّ أدلّة « القضاء » قرينة عامّة على بقاء الأمر الأوّل (٤) بعد الوقت ، كما أنّ أدلّة « الميسور » حاكمة على أدلّة المركّبات الشرعيّة ؛ إذ لا ينبغي الإشكال حينئذ في وجوب القضاء ، إذ على تقدير بقاء الأمر الأوّل لا يلزم التفويت منه تعالى ، إلاّ أنّه يلزم التدارك فيما لا يصل إليه المكلّف من إيقاع الفعل في الوقت تعويلا على الطريق واتّكالا على الأمارة.

__________________

(١) في « ع » زيادة : « الواحد ».

(٢) راجع فرائد الاصول ١ : ١٠٨ ـ ١١٠.

(٣) لم نعثر عليه حسب تتبّعنا.

(٤) لم يرد « الأوّل » في « ع » و « م ».

١٤٤

وأمّا لو قلنا بأنّ أدلّة « القضاء » إنشاء أمر جديد من دون أن تكون حاكمة على أدلّة الواجبات الموقّتة ـ كما هو الظاهر من لفظ « الفوت » المأخوذ في تلك الأدلّة ـ :

فيحتمل القول بالإجزاء ؛ إذ الفوت إنّما يصدق مع عدم وصول المصلحة والمنفعة إلى المكلّف ، وحيث إنّ ترك الواقع في المقام مستند إلى الاعتماد على الأمارة والركون إليها ، فيجب التدارك منه تعالى وإيصال المصلحة إلى العبد ، ومع ذلك فلا فوت.

ويحتمل القول بعدم الإجزاء ؛ فإنّ وجوب القضاء مستند إلى أمر جديد دائر مدار ترك المأمور به واقعا ، وذلك معلوم فيما نحن بصدده. وأمّا حديث إيصال المصلحة إلى العبد ـ فبعد صدق الترك الموجب لوجوب القضاء لأجل (١) تدارك المتروك ـ فلا دليل عليه.

وممّا ذكرنا يتّضح فساد القول بالإجزاء في الأوامر الظاهريّة الشرعيّة.

وأوضح فسادا من ذلك ما قد يتراءى (٢) من البعض في المباحث الفقهيّة (٣) من الاحتجاج على ذلك :

تارة : بأصالة البراءة عن حكم آخر.

واخرى : باستصحاب عدم وجوب الإعادة ، مضافا إلى المنع من شمول أدلّة الأحكام الواقعيّة للجاهل العامل بالطرق الشرعيّة ، مستندا في ذلك إلى اختصاص الخطابات الشفاهيّة بالمشافهين ، والإجماع على الاشتراك ـ بعد وجود الخلاف في الإجزاء وعدمه ـ غير موجود.

__________________

(١) كذا صحّحنا ، وفي « ط » بدل « لأجل » : « لأصل » ، وفي « م » : « لا قصد ».

(٢) في « ع » و « م » بدل « يتراءى » : « ترى ».

(٣) لم يرد « المباحث الفقهيّة » في « م ».

١٤٥

وتارة اخرى : بدعوى بدليّة الأحكام الظاهريّة عن الأحكام الواقعيّة.

والكلّ ممّا لا ينبغي الركون إليه :

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه بعد الانكشاف ووجود الأمر الواقعي لا وجه لأصالة البراءة.

وأمّا الاستصحاب ، فلا مجرى له في المقام ؛ لأنّ الشكّ في وجوب الإعادة بعد الكشف ممّا لا يقين له أوّلا ، والمتيقّن من جهة الأمر الظاهري متيقّن بعد الكشف ، إذ لا إشكال في عدم (١) وجوب الإعادة بالنسبة إلى الأمر الظاهري. وأمّا المنع المذكور فممّا لا يصغى إليه ؛ إذ قد قامت البراهين القطعيّة على ثبوت التكاليف الواقعيّة من غير تعليق على العلم والجهل ، غاية الأمر عدم العقاب مع المعذوريّة ، إذ ليس العقاب من آثار نفس التكاليف الواقعيّة ، بل هو من لوازم المخالفة التي لا يتحقّق موضوعها بدون العلم ، فالمقدّمة الممنوعة ممّا قد استدلّ عليها فلا يتوجّه إليها المنع ، فلا بدّ من دعوى المسقط كما في الدعوى الأخيرة : من بدليّة الأحكام الظاهريّة.

وبعد ما عرفت : من أنّ النظر فيما يفيد اعتبار تلك الطرق ، يعطي كونها طرقا إلى الواقع من دون مداخلة (٢) لها فيه ، فلا وجه لتلك الدعوى أيضا.

ومن هنا يتطرّق النظر في ما أفاده المحقّق القمّي (٣) : من بناء المسألة على كون الحكم الظاهري بدلا عن الواقعي (٤) على وجه الإطلاق أو ما لم ينكشف الخلاف ؛ إذ لا وجه للقول بالبدليّة ، وعلى تقديره فلا معنى للترديد في كونه بدلا على وجه

__________________

(١) لم يرد « عدم » في « م ».

(٢) في « ع » و « م » بدل « مداخلة » : « مدخليّة ».

(٣) انظر القوانين ١ : ١٣٠.

(٤) في « ط » بدل « الواقعي » : « الواقع ».

١٤٦

الإطلاق ، فإنّ قضيّة البدليّة ـ كما عرفت في الواقعي الاضطراري ـ هو السقوط ؛ لرجوعه إلى فعل أحد الأبدال ، كما في الواجب التخييري. كما أنّه لا ينبغي الترديد (١) في عدم السقوط على القول بعدم البدليّة وكون الأمارات طرقا صرفة (٢) من دون شائبة (٣) الموضوعيّة على تقدير الكشف.

هذا كلّه بالنسبة إلى مسألة الإجزاء في الأمر الظاهري وعدمه ، إلاّ أنّ القول باشتمال جعل الطريق للمصلحة المساوية للمصلحة الكامنة يستلزم محذورا بحسب الظاهر ، وهو محذور التصويب وتعدّد الأحكام الواقعيّة.

وبيان ذلك : أنّا لمّا قلنا بأنّ الواجب على الحكيم بواسطة العدل والحكمة إيصال المصلحة الواقعيّة إلى العبد عند تخلّف ما جعله طريقا إلى الواقع عنه ، فيكون الأخذ بالطريق والعمل به عند عدم المطابقة وعدم (٤) ظهور الخلاف في الوقت أو مطلقا ـ بناء على لزوم القضاء إذا انكشف في خارج الوقت أيضا على ما عرفت ـ مشتملا على مصلحة الواقع ، فيكون أحد الأبدال للواجب الواقعي ؛ لما أرسله المتكلّمون : من أنّ كلّ فعل يشتمل على مثل مصلحة الواجب يكون أيضا واجبا.

ويستتبع ذلك عدم حسن الاحتياط فيما إذا قامت الأمارات الشرعيّة ، إذ بعد اشتمال الأخذ بالطريق على مثل مصلحة الواقع لا حسن في الاحتياط ، وذلك ظاهر.

إلاّ أن يقال : إنّ حسن الاحتياط لا يزول بواسطة اشتمال الطريق على مصلحة الواقع ؛ فإنّ ذلك غير معلوم ، إذ يحتمل انكشاف الخلاف في الوقت أو في

__________________

(١) في « م » : « لا معنى للترديد ».

(٢) لم يرد « صرفة » في « م ».

(٣) في « م » : « شأنيّة ».

(٤) لم يرد « عدم » في « ع ».

١٤٧

غيره فيجب الإعادة والقضاء. نعم ، لو قطع بعدم اختلاف حاله لم يحسن منه الاحتياط في اعتقاده ، وإن كان قد يؤثّر في الواقع لو ظهر له خطأ في اعتقاده.

وكيف كان ، فمحذور التصويب لازم في الأحكام ، بل وفي الموضوعات أيضا. ولا يراد بذلك لزوم اختلاف الموضوعات الواقعيّة باختلاف الأمارات القائمة فيها ، كأن يكون قيام البيّنة أو وجود الحالة السابقة مؤثّرا في موت زيد وحياته ؛ فإنّ ذلك غير معقول ، بل المراد التصويب في الأحكام الجزئيّة المتعلّقة بها ، كما التزم به صاحب الحدائق في خصوص الطهارة والنجاسة (١) ، حيث زعم أنّهما ليستا من الامور الواقعيّة (٢) التي يتعلّق بها الأحكام الشرعيّة ، بل ليست النجاسة إلاّ حكم الشارع بعد العلم بوجود الخمر بالاجتناب عنه ، كنفس الحرمة المتعلّقة به. وليست الطهارة إلاّ حكم الشارع بعدم الاجتناب عن مشكوك الخمريّة أو المعلوم عدم الخمريّة ، مستندا في ذلك إلى روايات ، منها قوله : « ما ابالي أبول وقع عليّ أم ماء إذا لم أدر » (٣).

وكما التزم به بعض من تأخّر عنه (٤) في جملة من الأحكام المتعلّقة بالموضوعات الجزئيّة نظرا إلى سيرة الأئمة ، حيث إنّهم كانوا يخالطون الناس ومعاشرين لهم مع ما يرى في هذه المخالطة والمعاشرة من المفاسد المترتّبة عليها من ارتكاب المحرّمات الواقعيّة ؛ لعدم مبالاة أكثر الناس فيما يتعاطونه في معاشهم وعدم

__________________

(١) الحدائق ١ : ١٣٤ ـ ١٣٦ ، و ٥ : ٢٤٨ ـ ٢٥٨.

(٢) لم يرد « الواقعيّة » في « م ».

(٣) الوسائل ٢ : ١٠٥٤ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٥ ، وفيه : « ما ابالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم ».

(٤) لم نعثر عليه.

١٤٨

احترازهم عن النجاسات في المياه الموجودة عندهم والأطعمة واللحوم وغير ذلك ، فإنّه لو كانت تلك الامور ـ من النجاسة والحلّية والحرمة ـ امورا واقعيّة لا مدخل للعلم والجهل فيها لزم فساد عباداتهم في الواقع من جهة عدم اجتماع الشرائط الواقعيّة فيها.

ولكنّ الإنصاف : أنّ التزام مثل ذلك بعيد في الغاية ، كيف! وجلّ الأدلّة بل كلّها ممّا ينافي ذلك ، كما هو غير خفيّ على المتتبّع العارف بموارد الكلام ، كما أومأنا إليه فيما تقدّم (١). والأدلّة القائمة في المشكوكات صريحة على ثبوت الواقع عند الشكّ.

وأمّا الاستناد إلى سيرة الأئمّة ، فلا يجدي شيئا في المقام ؛ فإنّ المعلوم من ذلك هو ابتلاؤهم بالموضوعات المشكوكة عندنا ، ولا دليل على ارتكابهم عليهم‌السلام للمحرّمات الواقعيّة حتّى يدفع بما ذكر : من أنّ الأحكام المذكورة مترتّبة على العلم بها من وجه خاص ، وإلاّ فلو قيل بأنّها من أحكام مطلق العلم أيضا لم يكن لما ذكر وجه على تقدير القول بإحاطة علمهم عليهم‌السلام فعلا لجميع الموضوعات وأحكامها. فعلى هذا يحتمل عدم وقوعهم في المحرّمات الواقعيّة إمّا بدعوى العلم بها ، وإمّا بواسطة أنّهم عليهم‌السلام مؤيّدون بالتأييدات الإلهيّة ومسدّدون بالتسديدات الربّانيّة محفوظين عن الوقوع في الامور الدنيّة ، فما يرتكبونه وإن كان في أنظارنا من الموارد المشتبهة إلاّ أنّه في الواقع من الموضوعات التي يجوز ارتكابها.

وأمّا قول الأمير عليه‌السلام (٢) ، فدلالته على ثبوت النجاسة الواقعيّة عند عدم العلم أظهر من دلالته على انتفائها عند عدم العلم. نعم ، يظهر منه ما يفيد النجاسة للصلاة عند العلم ، وأين ذلك من ارتفاع موضوعها عند عدم العلم؟ ويؤيّد ما ذكر بعض

__________________

(١) راجع الصفحة ١٤٠ وما بعدها.

(٢) المراد قوله عليه‌السلام : « ما ابالي أبول وقع عليّ أم ماء إذا لم أدر ».

١٤٩

الأخبار ، كما عن الإمام الهمام علي بن الحسين عليه‌السلام : من أمره بإهراق ماء أحضره عبده فتبيّن وقوع الفأرة فيه (١).

وبالجملة : فلا وجه للالتزام بأنّ الأحكام المتعلّقة بالموضوعات (٢) مختصّة بصورة العلم ومع عدمه لا حكم لها في الواقع ؛ فإنّ التصويب في ذلك يسري إلى التصويب في الأحكام الكلّية الإلهيّة ، إذ الأحكام الجزئيّة من شعب الأحكام الكلّية ، فلو لم يلتزم بالتصويب فيها لم يجز الالتزام به فيما ينشعب منها.

والأولى أن يقال : إنّ الأحكام الواقعيّة ممّا لا يختلف بواسطة وجود الأمارات الشرعيّة وعدمها ونهوضها على موضوع وعدمه ، إلاّ أنّ عند عدم المطابقة واختفاء ذلك لا ضير في التزام اشتمال الأخذ بالأمارة على المصلحة المساوية لمصلحة الواقع ، وهو وإن كان نوعا من التصويب إلاّ أن الإجماع على بطلانه ممنوع ، كيف (٣)! ووجوب اللطف عند الإماميّة مما لا سبيل إلى إنكاره ، وقضيّة ذلك اشتمال الأخذ بالطريق على المصلحة التي تفوت بواسطة الجعل عن العبد ـ كما عرفت ـ والأخبار المتواترة في انتفاء التصويب (٤) إنّما هي مسوقة لنفي التصويب على وجه لا يكون في الواقع أحكام واقعيّة ، وأمّا التصويب على الوجه المذكور فلا دليل على امتناعه لا عقلا ولا نقلا.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٦ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٥ ، والمأمور هو ابنه وليس عبده.

(٢) في « ط » و « م » : « بتلك الموضوعات ».

(٣) لم يرد « كيف » في « م ».

(٤) أشار إلى هذه الأخبار في الفصول : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ ، وراجع الكافي ١ : ٤٠ باب سؤال العالم وتذاكره ، والصفحة ٥٨ الحديث ١٩ ، والصفحة ٥٩ الحديث ١٢ ، والصفحة ١٩٩ الحديث الأوّل ، والبحار ١ : ١٧٨ ، الباب الأوّل من أبواب العقل والجهل الحديث ٥٨ ، وكنز العمّال ٦ : ٧ الحديث ١٤٥٩٧.

١٥٠

هذا إذا قلنا بأنّ جعل الطريق إنّما هو في حال الانفتاح.

وأما في حال الانسداد فالأمر فيه أوضح ؛ إذ الوجه في الانسداد هو عدم موافقة العباد للحجّة عليه‌السلام كما قرّر في محلّه (١) فلا يجب على الحكيم إيصالهم إلى المصالح الواقعيّة ، فإنّهم هم السبب في امتناع ذلك في حقّهم ، فقضية اللطف لا مجرى لها في حال الانسداد. ويكفي حينئذ في مصلحة الجعل كون الطريق مطابقا لما هو الطريق إليه في الأغلب أو في الغالب ، فلا يكون الأخذ بالطريق مشتملا على المصلحة الزائدة على مصلحة الواقع ، فلا محذور.

وقد يجاب عن محذور التصويب في المقام : بأنّ الشارع الحكيم لمّا كان عالما بأنّ اقتصار المكلّفين على الأحكام الواقعيّة ـ بأن لا يجوز لهم تناول اللحم إلاّ بعد العلم بكونه حلالا واقعيا لا يدانيه ريبة الحرمة ـ مما يوجب مفاسد شتّى ولو بواسطة ضيق يشاهد في دار التكليف وعدم اتّساع عالم المكلّفين لذلك ووقوعهم في محاذير أخر من جهات اخرى ، فلا ضير في جعل الأمارات التي قد تتخلّف عن الأحكام الواقعيّة نظرا إلى إدراك (٢) تلك المصالح عند جعل تلك الأمارات. وهذا هو المراد مما عسى أن يقال في المقام ، من أنّ التسهيل في أمر العباد يقتضي جعل تلك الطرق.

وقد يقال : إنّ الشارع قد منّ على عباده بجعل تلك الطرق وعفى عن الواقع ولم يوجب عليهم تحصيله.

وكلا الوجهين ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه :

أمّا الأوّل ، فلأنّ التسهيل لو كان من الوجوه التي يختلف بها الأحكام الواقعيّة ويقتضي جعل حكم على طبقه ، فالأولى أن يكون وجها لإسقاط الواقع ؛ فإنّ مجرّد المصلحة في وجود الشيء لا يقضي بالأمر به ، بل لا بدّ مع ذلك من عدم

__________________

(١) انظر كشف المراد : ٣٦١ ـ ٣٦٢ ، والقوانين ١ : ٣٥٣.

(٢) في « م » بدل « إدراك » : « تدارك ».

١٥١

معارضة شيء آخر لها ، والمفروض في المقام هو أنّ الاقتصار على المصالح الواقعيّة يوجب مفاسد اخرى من جهات أخر ، فمع ذلك لا وجه لجعل الأحكام الواقعيّة.

هذا إذا اريد من التسهيل ما ذكرنا من أنّ الاقتصار على الواقع يوجب رفع (١) مصلحة واقعيّة اخرى عن المكلّف في مورد آخر ، من غير أن يكون مصلحة التسهيل في العمل بالطريق.

وإن اريد من التسهيل : أنّ العمل بالطريق فيه تسهيل على العباد من دون أن يكون موجبا لإحراز مصلحة اخرى في مورد آخر ، فعدم اتّجاهه في المقام أظهر ؛ إذ تلك المصلحة : إما أن تزيد على مصلحة الواقع ، أو تكون مساوية لها ، أو تنقص عنها ، لا سبيل إلى الأخير ؛ لمنافاته قضية اللطف ، ومن هنا تعرف فساد ما قد يتخيّل في دفع ما ذكرنا ـ من أنّ اللازم حينئذ عدم حسن الاحتياط ـ بأنّ الوجوب التخييري بين الواقع ومفاد الطريق لا يوجب رفع حسن الاحتياط ؛ إذ يمكن أن يكون الواقع أفضل فردي الواجب التخييري. والأوّلان لا يدفعان الخصم ؛ فإنّ ذلك هو التصويب جدّا ؛ إذ المفروض وجود المصلحة في نفس الطريق. ولعلّ ذلك ظاهر.

وأمّا الثاني ، ففساده أجلى من أن يذكر ؛ فإنّه إن اريد أنّ الامتنان إنّما هو في رفع الأحكام الواقعيّة عند العمل بالطريق المخالف ، فذلك ـ على تقدير صحّته ـ لا يقضي بعدم اشتمال الطريق على المصلحة ، ومعه ـ كما هو قضيّة اللطف ـ يلزم المحذور.

وإن اريد أنّ الامتنان في عدم اشتمال الطريق للمصلحة ، فهو مما لا سبيل إلى تعقّله فضلا عن التصديق به.

فالأولى ما ذكرنا من الالتزام ومنع ما يدلّ على خلاف ذلك. هذا كلّه مع انكشاف الخلاف على وجه القطع. والله الهادي.

__________________

(١) في « م » : « دفع ».

١٥٢

هداية

في أنّ الأمر الظاهري الشرعي هل يقتضي الإجزاء فيما لو انكشف الخلاف بواسطة قيام أمارة ظنّية اخرى؟

واعلم أولا : أنّ ذلك تارة يتحقّق في الموضوعات ، كما إذا بنى المصلّي على طهارة ثوبه بواسطة الاستصحاب أو غير ذلك من الاصول المقرّرة لتميّز الموضوعات التي لا تشترط بالفحص ، ثمّ قامت عنده بيّنة شرعيّة على نجاسة ذلك الثوب.

واخرى يتحقق في الأحكام : فتارة بالنسبة إلى المجتهد ، واخرى بالنسبة إلى المقلّد.

أمّا بالنسبة إلى المجتهد ، فكما إذا حكم بعدم وجوب السورة في الصلاة بواسطة أمارة ظاهريّة : من آية أو رواية أو أصل ونحوها ، ثمّ ظهرت (١) أمارة اخرى حاكمة بوجوبها فيها. ولا بدّ أن يكون العمل بالأمارة الاولى مقرونا بما يعتبر فيه من الشروط واقعا ، كأن يكون المجتهد متفحّصا عن المعارض للأمارة الاولى على وجه يعتبر في الفحص ؛ إذ بدون ذلك لا يكون هناك أمر ظاهريّ شرعي ، بل هو ملحق بالظاهريّ العقلي ، كما إذا توهّم اقترانها بالشرائط أو تخيّل دلالة الرواية على شيء فبدا له خطؤه أو إلى العمل (٢) بالأمارة مع اعتقاد فساده.

__________________

(١) في « ع » و « م » بدل « ظهرت » : « ظهر له ».

(٢) كذا في النسخ ، والمناسب : « أو العمل ».

١٥٣

وأمّا بالنسبة إلى المقلّد ، فكما إذا رجع عن تقليد المجتهد في موارد وجوبه ـ كفسقه أو موته أو زوال ملكته أو حصول ملكة الاجتهاد له ـ أو موارد جوازه على القول به ، مع المنافاة بين ما يأخذ به في الحال من رأي مجتهد آخر أو رأيه وبين ما عمل به أوّلا.

فمن فروع هذه الهداية ما قد يعنون في مباحث الاجتهاد والتقليد من تجدّد رأي المجتهد.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ بعد قيام الأمارة اللاحقة في الموارد المتقدّمة وأشباهها لا إشكال في وجوب الأخذ بها في الوقائع اللاحقة الغير المرتبطة بالوقائع السابقة ، فإنّ ذلك هو مقتضى اعتبار تلك الأمارة ، فبعد قيام البيّنة على نجاسة الثوب المستصحب الطهارة لا بدّ من ترتيب آثار النجاسة عليه من عدم جواز الصلاة معه ونحوه. وكذا فيما إذا ظهر خطأ المجتهد له فيما أفتى به من طهارة الغسالة مثلا ، وكذا فيما إذا رجع المقلّد عن تقليد المفتي بالطهارة إلى فتوى القائل بالنجاسة مثلا. ولا ينبغي أن يكون ذلك مطرحا للأنظار.

كما أنّه لا إشكال في مضيّ الوقائع السابقة التي لا يترتب (١) عليها في الزمان اللاحق حكم ، كما إذا كان المبادرة والتعجيل واجبا فبادر إليه المكلّف ثمّ تبيّن خطؤه فيما بادر إليه ، فإنّ قضية اللطف ـ كما مرّ (٢) ـ إيصال مصلحة التعجيل إلى المكلّف ، ولا يعقل القول بعدم مضيّ مثل تلك الواقعة.

__________________

(١) في « ع » و « م » بدل « يترتّب » : « يطرأ ».

(٢) راجع الصفحة ١٣٩.

١٥٤

وإنّما الإشكال في الوقائع اللاحقة (١) المرتبطة بالوقائع السابقة ، مثل عدم اشتغال المكلّف في الوقت بإعادة ما عمل به بمقتضى الأمارة السابقة ، أو معاملة الطهارة مع ما لاقى شيئا مستصحب الطهارة بعد قيام البيّنة على نجاسته ، أو معاملة الزوجيّة مع الزوجة المعقودة بالفارسيّة بعد اعتقاد فساد العقد بها ، إلى غير ذلك من الأمثلة في الموارد المختلفة ، كما هو ظاهر.

فذهب جماعة من متأخّري المتأخّرين ـ ممّن عاصرناهم أو يقارب عصرهم عصرنا ـ إلى الإجزاء وعدم لزوم الإعادة (٢) ، حتّى أنّ بعض الأفاضل (٣) قد نسبه إلى ظاهر المذهب في تعليقاته على المعالم.

وقضيّة ما زعموا : أن يكون قيام الأمارة اللاحقة بمنزلة النسخ للآثار المترتّبة على الأمارة السابقة ، ففي الوقائع المتجدّدة الغير المرتبطة يؤخذ بالناسخ ، فلا يجوز إيقاع المعاطاة بعد ذلك ، ولكنّه يؤخذ بالمنسوخ في الآثار المرتبطة ، فلا يحكم بعدم ملكيّة المبيع المعاطاتي. وقد صرّح بذلك بعض الأجلّة (٤) أيضا.

والحقّ الحقيق بالتصديق هو عدم الإجزاء ، فلا بدّ من الإعادة وعدم ترتيب (٥) الأحكام المترتّبة على الأمارة (٦) السابقة ، وفاقا للنهاية (٧) والتهذيب (٨)

__________________

(١) لم يرد « اللاحقة » في « ع » و « م ».

(٢) كالمحقّق القمّي في القوانين : ٣٩٩ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٤٠٩.

(٣) وهو الشيخ محمد تقي في هداية المسترشدين ٣ : ٧١١.

(٤) وهو صاحب الفصول في الفصول : ٤٠٩.

(٥) في « ع » و « م » : « ترتّب ».

(٦) في « م » بدل « الأمارة » : « الآثار ».

(٧) نهاية الوصول : ٤٤٠.

(٨) تهذيب الوصول : ١٠٢.

١٥٥

والمختصر (١) وشرحه (٢) وشرح المنهاج (٣) ـ على ما حكاه سيد المفاتيح عنهم (٤) ـ بل وفي محكيّ النهاية الإجماع عليه (٥).

وادّعى (٦) العميدي قدس‌سره الاتّفاق على ذلك ، قال ـ في مسألة نكاح امرأة خالعها زوجها في المرّة الثالثة معتقدا أنّ الخلع فسخ لا طلاق ثمّ تبدّل اجتهاده واعتقد كونه طلاقا ـ ما هذا لفظه : « فإن كان قد حكم بصحّة ذلك النكاح حاكم قبل تغيّر اجتهاده بقي النكاح على حاله ، وإن لم يحكم به حاكم لزمه مفارقتها اتّفاقا » (٧).

وفي المقام وجوه من التفصيل يطّلع عليها إن شاء الله.

لنا على ما اخترناه في المقام : أنّ المقتضي للإعادة وعدم ترتيب (٨) الآثار على الأمارة السابقة موجود ، والمانع عن ذلك غير موجود ، فلا بدّ من القول به.

أما الأوّل ، فلما تقدّم في الهداية السابقة : أنّ الطرق المجعولة الشرعيّة إنّما جعلت طرقا إلى الواقع ، من دون أن يكون تلك الطرق مخصّصة للأحكام الواقعيّة المتوجّهة (٩) إلى المكلّفين ـ على ما هو المتّفق عليه عند أرباب التخطئة ، كما هو الصواب ـ ففيما إذا انكشف فساد الأمارة القائمة على الواقع لا بدّ من الأخذ بما هو

__________________

(١) انظر المختصر وشرحه للعضدي في شرح مختصر الاصول : ٤٧٣.

(٢) في النسخ : « شروحه » ، وفي المفاتيح : « شرحه للعضدي ».

(٣) لم نعثر عليه.

(٤) مفاتيح الاصول : ٥٨١.

(٥) حكاه عنه في مفاتيح الاصول : ٥٨٢.

(٦) في « ط » : وبل ادّعى.

(٧) منية اللبيب : ٣٦٤.

(٨) في « ع » و « م » : « ترتّب ».

(٩) في « م » : « الموجّهة ».

١٥٦

الواقع ؛ فإنّ ما يدلّ على وجوب امتثال الأوامر الواقعيّة ـ من العقل والنقل ـ موجود في المقام ، فإن كان معلوما فلا كلام ـ كما تقدّم ـ وإلاّ فيجب الأخذ بما جعله الشارع طريقا إليه ، وهي الأمارة اللاحقة. ولازم الأخذ بها هو فساد الأمارة الاولى وبقاء التكاليف الواقعيّة.

فإنّ الخبر الدال على جزئيّة السورة ، مفاده أنّ السورة في الواقع جزء للصلاة الواقعيّة ، ولا يفرق في ذلك بين من عمل بالأمارة الاولى ومن لم يعمل بها ، كما إذا كان الشخص تاركا للصلاة مثلا ، وقضيّة ذلك عدم تحقّق الصلاة بدون ذلك الجزء ، فيترتّب على ذلك ـ بحكم الأدلّة الدالّة على إطاعة الأوامر الواقعيّة وامتثال أوامر الله تعالى ـ إيجاد الصلاة ثانيا وعدم الاتّكال بما فعله في المرّة الاولى مطابقا للأمارة التي انكشف فسادها.

ولعمري أنّ بعد هاتين المقدّمتين ـ اللتين إحداهما : أنّ الأمارة التي أخذ بها سابقا ليست مغيّرة للواقع ، والثانية : أنّ مفاد الأمارة الثانية هو جزئيّة السورة مثلا للصلاة في الواقع ، من غير فرق بين العامل بالأمارة الاولى وتاركها ـ كان الحكم بعدم الإجزاء وعدم ترتّب الآثار على منار ، بحيث لا يعدّ منكره إلاّ مكابر ، أو غير ملتفت إلى حقيقة المقدّمتين.

والحاصل : أنّ فساد الأمارة الاولى يوجب حصول صغرى عند العامل ، مفادها : فساد العبادة أو المعاملة التي وقعت على طبقها ، ويتلوها كبرى شرعيّة ثابتة بالقطع : من لزوم إعادة الواجب الواقعيّ الثابت بمقتضى الأمارة الثانية التي يجب العمل بها بالفرض.

فإن قلت : لا دليل على وجوب العمل بالأمارة بالنسبة إلى الوقائع السابقة ، بل المأتيّ به أوّلا إنّما كان تكليفه في ذلك الزمان ، وتكليفه بعد الوصول إلى الأمارة الثانية إنّما هو العمل بها.

١٥٧

قلت : ما ذكر إنّما يلائم (١) القول بأنّ الطرق الشرعيّة موضوعات لما يستفاد منها ، فيكون مفادها في عرض الواقع وقد فرغنا عن إبطال ذلك فيما مرّ (٢) ؛ فإنّ لازمه التصويب الباطل ، مضافا إلى ظواهر الأدلّة الدالّة على حجيّة الطرق الشرعيّة ، فإنّها تنادي بأعلى صوتها على بقاء الواقع وعدم تخصيصه بواسطة تلك الطرق. وأمّا وجوب الإعادة والقضاء فهو من الوقائع اللاحقة ، فإنّ التعويل على الأمارة السابقة وعدم الاشتغال بإعادة ما قد امر به في الوقت أو في خارجه من الامور الطارئة للمكلّف في اللاحق ، غاية الأمر أنّ منشأ وجوب ذلك هو فساد المأتيّ به بمقتضى الأمارة الاولى ؛ ولذا قلنا : بأنّ الإعادة والقضاء من الوقائع اللاحقة (٣) المرتبطة بالوقائع السابقة ، وذلك أمر ظاهر.

فإن قلت : سلّمنا أنّ الإعادة والقضاء من الوقائع اللاحقة ، لكن لا نسلّم وجوب الأخذ بالأمارة بالنسبة إلى (٤) الوقائع الغير المرتبطة بالسابقة. وذلك وإن كان تبعيضا بالنسبة إلى مدلول الأمارة ، لكن التبعيض في الشرعيّات كثير ، أمّا بالنسبة إلى الأحكام المترتّبة على الاصول فممّا لا حصر له ، وأمّا بالنسبة إلى غيرها فكثير أيضا ، كما إذا ورد خبر واحد يدلّ على نجاسة من فوّض أمر الخلق والرزق إليهم عليهم‌السلام ، فإنّ ذلك لا يصير مستندا في المسألة الاعتقاديّة ، لكنّه يؤخذ به بالنسبة إلى المسألة الفرعيّة. وكما إذا حصل الظنّ بالقبلة المستلزم لحصول الظنّ بالوقت ، فإنّه يتبعّض بالنسبة إليهما ، فيؤخذ بالظنّ في الأوّل دون الثاني. وكما إذا

__________________

(١) في « م » بدل « يلائم » : « يلزم ».

(٢) راجع الصفحة ١٤٠ ـ ١٤١.

(٣) لم يرد « اللاحقة » في « ع ».

(٤) في « ع » و « م » زيادة : « غير ».

١٥٨

قيل بعدم اعتبار الخبر الظنّي في اللغات ، مع ورود رواية دالّة على ثبوت موضوع من الموضوعات اللغويّة مع استلزامه حكما شرعيّا ، فإنّه يؤخذ به في الثاني دون الأوّل ، كما في رواية زرارة عن الإمام عليه‌السلام في تفسير آية « المسح » حيث استدلّ الإمام عليه‌السلام بورود « الباء » للتبعيض مثلا (١) ، إلى غير ذلك ، فلا ضير في الأخذ بالأمارة في بعض الوقائع دون بعض ، ونحن ندّعي أنّ الأدلّة الدالّة على حجيّة الأمارات لا تدلّ على اعتبارها إلاّ في الوقائع اللاحقة الغير المرتبطة بالوقائع السابقة.

قلت : وهذه الدعوى دون إثباتها خرط القتاد بعد ملاحظة الأدلّة الدالّة على حجيّة تلك الأمارات ، ومتى يمكن إثباتها! فإنّ أخبار الاستصحاب (٢) والروايات الدالّة على حجيّة الأخبار الظنيّة (٣) وغير ذلك ممّا لا مجال لأن يتوهّم فيها التقييد ببعض الآثار ، وذلك أمر ظاهر لمن راجعها وانصف ، وإن كان قد يمكن أن يناقش في أمارة دلّ على اعتبارها بعض الوجوه اللبيّة ، مثل الإجماع ونحوه. ولكنّ الإنصاف أنّ مثل هذه التعسّفات لا ينبغي أن يرتكب فيها أيضا.

وأما الثاني (٤) ـ وهو بيان فقدان المانع عمّا ذكرناه ـ فذلك (٥) موقوف على إيراد ما يمكن أن يكون مستندا للخصم في المقام ، وبيان عدم صلاحيّته للمنع.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٩٠ ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.

(٢) راجع فرائد الاصول ٣ : ٥٥ ـ ٨٢.

(٣) راجع فرائد الاصول ١ : ٢٩٧ ـ ٣١٠.

(٤) عطف على قوله « أمّا الأوّل » في الصفحة ١٥٦.

(٥) كذا في « ق » ، وفي غيرها : « وذلك ».

١٥٩

فنقول : إنّ من بعض القائلين بالإجزاء يظهر دعوى تطبيقه على القواعد (١) ، ويظهر من بعض آخر وجود الدليل عليه المخرج عن القاعدة القاضية بعدم الإجزاء (٢).

أمّا ما يمكن أن يكون وجها للأوّل فامور :

أحدها : ما مرّ ذكره سابقا وأشرنا إليه آنفا (٣) ، من أنّ مفاد الأمارات الظاهريّة إنّما يكون في عرض الواقع ، فيختلف الأحكام الواقعيّة على حسب اختلاف الأمارات (٤) فيكون الآتي بما دلّ عليه وجه من الوجوه الظنيّة آتيا بما هو المأمور به في الواقع ، على نحو ما عرفت فيما تقدّم.

وقد فرغنا عن إبطال هذا التوهّم في الطرق الشرعيّة (٥) ، فهو سخيف جدّا لا يكاد يلتفت إليه العاقل فضلا عن الفاضل ، مضافا إلى أنّ القول بذلك يوجب سقوط الإعادة والقضاء فيما لو ظهر فساد الأمارة الاولى على وجه قطعي ـ كما مرّ ـ والكلام في المقام إنّما هو بعد التسليم على أنّ الكشف القطعي يوجب الإعادة ، وذلك ظاهر.

ثمّ إنّ الطريقية في الأمارات الظاهريّة لا أظنّ أن يشكّ فيها أحد من أصحابنا ، كما يعاضده طريقة العرف والعقلاء ، إلاّ أنّه مع الشك في كون الأمارات طرقا إلى الواقع فالأصل يقضي بالبناء على الطريقيّة أيضا ، إذ البدليّة والتخصيص

__________________

(١) كصاحب الفصول في الفصول : ٤٠٩.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) راجع الصفحة ١٣٥.

(٤) في « ع » ومصحّحة « ط » زيادة : « والموضوعات ».

(٥) راجع الصفحة ١٣٩ ـ ١٤٠.

١٦٠