مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

واستدلّ على هذا التفصيل على ما حكي عنه : بأنّ إيجاب الشيء إنّما يقتضي بحكم العقل والشرع والعرف إيجاب التهيّؤ له والتوصّل إليه ، فيجب فعل ما يقتضي وجوده وجوده وترك ما يقتضي تركه فعله ، كترك الحركة المقتضي لتحقّق السكون الواجب ، وترك ما يقتضي فعله عدم التمكّن منه كالمنافيات ، فالضدّ إن كان ممّا يوجب فعله عدم التمكّن من الواجب ـ كالسفر المانع من إيصال الحقّ المضيّق إلى صاحبه ـ فهو محرّم ، سواء قصد به الغاية المحرّمة أم لا ؛ لأنّ إباحته يقتضي عدم الإثم فيما يترتّب عليه ، فلو لم يكن الضدّ [ الموجب ](١) لعدم التمكّن منه محرّما لزم خروج الواجب عن كونه واجبا ؛ ولأنّ قضيّة إناطة الأحكام بالحكم والمصالح هو تحريم ما يقتضي رفع التمكّن من فعل الواجب ، ولما ورد من النهي عن دخول البحر قبل الصلاة لمن لا يتمكّن من الخروج عنه لأدائها (٢) وغير ذلك. وإن لم يرفع تمكّنه ، بل كان في جميع أفعال الضدّ متمكّنا من تركه وأداء الواجب ، فلا يلزم من إيجاب الواجب تحريم مثل هذا.

هذه خلاصة ما حكي عنه من الاستدلال على الفرق. ونحن نزيد عليها : بأنّ فعل الضدّ في الأوّل ـ وهو الرافع للتمكّن عن الامتثال بالواجب ـ سبب لتركه ، إذ لا معنى للترك إلاّ صيرورة الواجب بحيث يتعذّر المكلّف عن الامتثال تعذّرا اختياريّا. بخلافه في الثاني ؛ فإنّ الاشتغال بالضدّ غير رافع للتمكّن كما هو المفروض ، ومن المعلوم أنّ ترك الواجب حرام ، ويحرم لذلك فعل الضدّ الرافع ، كما تقدّم من أنّ علّة الحرام حرام.

__________________

(١) الزيادة منّا.

(٢) لم نعثر عليه بعينه ، انظر الوسائل ٣ : ٢٣٤ ، الباب ٣ من أبواب القبلة ، الحديث ٨.

٥٨١

وقد أجاب صاحب الفصول (١) عن هذه الأدلّة في كلمات طويلة كلّها أو جلّها مبنيّة على المقدّمة الموصلة التي عرفت فسادها.

ونحن نقتصر في المقال ونجيب عنها :

أوّلا بالنقض ، وتقريره : أنّ ما ذكر من الأدلّة إن نهض في إثبات وجوب ترك الرافع للتمكّن فمقتضاه وجوب غير الرافع أيضا ، لأنّ الكلام في ضدّ الواجب المضيّق الذي وجوبه فوريّ ثابت في جميع آنات القدرة ، ولا ريب أنّ الاشتغال بضدّ مثل هذا الواجب الفوري يرفع التمكّن عن الامتثال به زمن الاشتغال مطلقا ، من غير فرق بين شيء من الأضداد ، فإنّ الاشتغال بالصلاة ـ مثلا ـ أو بغيرها من الأضداد المنافية للإزالة يوجب امتناع فعل الإزالة في آن وقوع الصلاة ، وقضيّة ما ذكر من الأدلّة الحكم بحرمة الصلاة لكونها رافعة للتمكّن من فعل الواجب الذي هو الإزالة. وهكذا الكلام فيما فرضنا من المثال ، إذ الاشتغال بقراءة القرآن يرفع التمكّن عن أداء الشهادة في آن القراءة ، نحو رافعيّة السفر للتمكّن عن إيصال الحقّ الواجب.

نعم ، ربما يكون فعل الضدّ مستوعبا لتمام وقت الواجب بحيث لا يتمكّن المكلّف من تركه ، وقد لا يكون كذلك بل يكون من الأفعال التي يقتدر المكلّف على تركها ، وكلاهما مشتركان في كونهما رافعين للتمكّن عن الإتيان بالواجب. وإنّما الفرق بينهما هو أنّ رفع الأوّل مستمرّ إلى انقضاء وقت الواجب ورفع الثاني دائر مدار وجوده ، ولا يلزم في اتّصاف الشيء بالحرمة كونه رافعا للتمكّن عن الامتثال بالأمر الفوري مطلقا ، بل يكفي في ذلك كونه رافعا للتمكّن في آن ما ، ضرورة وجوب المسارعة إلى الامتثال في الأوامر الفوريّة في كلّ آن وحرمة التأخير ، بحيث إذا أخّر كان عاصيا تاركا للعمل بالقضيّة (٢) الفوريّة.

__________________

(١) الفصول : ١٠٠.

(٢) في ( م ) : بما يقضيه.

٥٨٢

وثانيا بالحل ، وهو : أنّ ما ذكره من تطابق العقل والشرع والعرف في إيجاب التهيّؤ للواجب والتوصّل بترك فعل الضدّ ولو رفع التمكّن لفعله (١) دليل القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ مطلقا ؛ لأنّ ترك الأضداد تهيّؤ لفعل الواجب. ومن يقول بوجوب المقدّمة فهو قائل بوجوب ترك الضدّ من باب المقدّمة بعد تسليم كون الترك من مقدّمات الفعل لا من المقارنات ، فيكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن الضدّ ، إذ لا نعني بالنهي إلاّ ما كان تركه واجبا مطلقا ، من غير فرق بين الرافع للتمكّن وغيره ، لأنّ النظر الدقيق يرى جميع الأضداد رافعة للتمكّن. كيف لا! ومن الواضحات استحالة اجتماع الضدّين وعدم تمكّن وجود أحدهما في آن وجود الآخر. وأمّا صيرورة بعض الأضداد رافعا للتمكّن إلى انقضاء وقت الواجب دون بعض فلا ربط له بأطراف مسألتنا هذه. ومن لا يقول بوجوبها أو يقول به ولكن يمنع عن كون الترك مقدّمة للفعل ـ كالسلطان (٢) ـ فهو إمّا يمنع عن حكم العقل والشرع والعرف بوجوب التهيّؤ إن كان من منكري وجوب المقدّمة ، أو يمنع عن كون ترك الضدّ ـ رافعا كان أو غير رافع ـ من التهيّؤ والتوصّل ، بدعوى كون التهيّؤ إنّما هو انتفاء الصارف الذي يحرّك إلى فعل الواجب وترك أضداده.

وأمّا ما ذكره من اقتضاء إناطة الحكم بالمصالح تحريم ما يقتضي رفع التمكّن من فعل الواجب ، فمع كونه عبارة اخرى عن القول بحرمة سبب الحرام ـ وحرمته بسبب فوات المصلحة ـ مشترك الورود بين الضدّ الرافع والغير الرافع ، لما عرفت من كونهما رافعين معا ؛ وكذا ما ورد من النهي عن دخول البحر قبل الصلاة ، فإنّه لو دلّ

__________________

(١) في ( ع ) ، ( م ) : « للتمكّن بعينه » والعبارة مشوّشة.

(٢) حاشية سلطان العلماء : ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

٥٨٣

على المدّعى نسبته إلى المقامين متساوية ؛ مضافا إلى ما فيه أوّلا من خروجه عن محلّ الكلام ، لأنّ الصلاة ليست من الواجبات الفوريّة المضيّقة التي كلامنا فيها ، فلا ضير في كون الضدّ رافعا عن التمكّن بها ما لم يرفع التمكّن إلى انقضاء الوقت ، إذ ليست المسارعة إليها واجبة حتى يكون ضدّه مطلقا ولو كان رافعا في مقدار زمانه حراما.

والحاصل أنّه لا مضايقة في نحو الصلاة من الواجبات الموسّعة الالتزام بحرمة ضدّها الذي يرفع التمكّن منها رأسا دون غيره ممّا لا يرفع التمكّن ، بل لعلّ الحقّ هو هذا بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ ، لأنّ الواجب الموسّع إذا لاحظته وقايسته مع الضدّ الذي يصير سبب امتناعها في حق المكلّف يكون في حكم الواجب المضيّق في اقتضائه للنهي عنه ، لكون تركه مقدّمة لأداء الواجب. بخلاف ما إذا قايسته بالضدّ الذي لا يرفع التمكّن من الواجب إلى آخر الوقت ، فإنّ تركه حينئذ ليس مقدّمة لفعل الواجب على وجه الانحصار ، لإمكان الواجب في زمان آخر غير زمان ذلك الضدّ.

وبما ذكرنا ظهر الجواب عن الوجه الذي ذكرناه دليلا على هذا التفصيل : من كون الرافع للتمكّن سببا لترك الواجب دون غيره ؛ لأنّ كلاّ منهما سبب للترك بالنسبة إلى الإتيان بالواجب المضيّق في زمان الضدّ وإن كان الأوّل رافعا للتمكّن بالنسبة إلى تمام العمر أو تمام الوقت. فتدبّر في المقام حتّى يظهر لك بطلان هذا التفصيل بما لا مزيد عليه.

وأمّا القول الثاني ـ وهو قول البهائي ـ فقد أشرنا إلى ما فيه عند تحرير الأقوال ، إذ قد ذكرنا أنّ هذا القول إن لم يرجع إلى اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ كان بمعزل عن التحقيق ، وقلنا : إنّ صحّة العبادة لا يحتاج إلى تعلّق الأمر بها إذا كانت مندرجة تحت عنوان مأمور به ، بل يكفي في صحّتها انطباقها على ذلك

٥٨٤

العنوان. وقلنا : إنّ الوجوب الثابت للطبائع لا يسري إلى الأفراد ، وإلاّ لزم كون جميع الأفراد واجبات عينيّة إذا كان الأمر المتعلّق بالكلّي أمرا عينيّا لا غيريّا. ونزيد هنا في تزييف هذا القول الذي ذهب إليه بعض من متأخّري المتأخّرين ـ كصاحب الرياض على ما صرّح به في مبحث العلم بغصبيّة الثوب (١) ـ ونقول : إنّ القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر بضدّه لا النهي عنه لا دليل عليه إلاّ دعوى كون الأمر بالضدّين تكليفا بالمحال ، فلا بدّ من الحكم بعدم تعلّق الأمر بأحدهما إذا ثبت وجوب الآخر عينا.

وفيه : أنّه إن أردت من تعلّق الأمر بالضدّين تعلّق الأمر الشرعي أو العقلي بهما عينيّا أو تخييريّا شرعيّا أو عقليّا ، فالأمر كما ذكرت من كونه تكليفا بالمحال ، ولكن مصادمة فرد من أفراد الواجب الموسّع مع الواجب المضيّق ليس من هذا القبيل ، لأنّ الفرد بخصوصه ليس ممّا ورد فيه أمر شرعيّ أو عقليّ عينيّا أو تخييريّا ؛ لأنّ معنى كون الفرد مأمورا به كون الكلّي الذي هو فرده مطلوبا للشارع ثمّ انطباق ذلك الفرد على ذلك الكلّي ، فليس الفرد في فرديّته مأمورا به في شيء.

وما يقال : من توقّف صحّة العبادة على الأمر فليس معناه إلاّ ورود الأمر على عنوان تلك العبادة وطبيعتها ، مثلا إذا قال الآمر : « ائتني برجل » فالمأمور به هنا إنّما هو الإتيان بالكلّي المنطبق على خصوصيّات الإتيان بحسب الزمان والمكان والمأتيّ به ، وأمّا خصوصيّات الإتيان وأفرادها فلم يتعلّق بها عن الكلّي انطباقه عليها وحصوله في ضمنها.

وما يقال : من أنّ حكم الطبيعة لا بدّ وأن يسري إلى الأفراد ، نظير سريان الحلاوة الثابتة لطبيعة التمر إلى جميع أفراده.

__________________

(١) الرياض ٣ : ١٩٠ ـ ١٩١.

٥٨٥

فجوابه : أنّ أحكام الطبائع ولوازمها مختلفة ، فمنها : ما هو ثابت لها من حيث هي مع قطع النظر عن الوجود الذهني والخارجي ، ومنها : ما هو ثابت لها بشرط وجودها في الخارج ، ومنها : ما هو ثابت لها بشرط الوجود الذهني كما في القضايا الطبيعيّة ، مثل قولنا : « الإنسان نوع والحيوان جنس » وأمثال ذلك.

وما ذكر من السريان إنّما هو مسلّم في الأوّلين ، وأمّا في الثالث فمن الواضح امتناع السريان فيه ، وإلاّ لكان كلّ فرد من أفراد الحيوان جنسا. والوجوب العارض للماهيّات من هذا القبيل ، فإنّه ليس عارضا للطبيعة من حيث هي هي ، ولا بها بشرط وجودها في الخارج ، بل يعرض لها بشرط وجودها الذهني. وإنّما قلنا كذلك ، لأنّ الوجوب في الحقيقة ليس من صفات الماهيّة بل هو عبارة عن الطلب القائم بنفس المتكلّم المتعلّق بإيجاد تلك الطبيعة ، وطلب الإيجاد لا يمكن أن يعتبر فيه بشرط كون المطلوب في الذهن دون الخارج. وإن أردت من تعلّق الأمر بهما تعلّق الأمر بأحدهما وبكلّي الآخر فما ذكرت من كونه تكليفا بالمسمّى ممنوع ، لأنّ المسمّى إنّما هو طلب الأمرين لا طلب أحدهما. والظاهر انطباق الآخر على المطلوب.

لا يقال : كلّ ما ذكرت ـ بعد تسليمه ـ إنّما يقضي بعدم تعلّق الأمر الشرعي بالفرد لا عينا ولا تخييرا ، وأمّا الأمر العقلي التخييري فليس في وسعك إنكار هذا ، لأنّ العقل إذا وجد تعلّق الأمر بالكلّي حكم بكون كلّ واحد من أفراده مطلوبا على جهة التخيير ، وهذا الطلب العقلي التخييري أيضا يستحيل اجتماعه مع طلب ضدّه عينا.

لأنّا نقول : إن أردت بالتخيير العقلي حكم العقل بكون الأفراد مطلوبة للشارع على سبيل التخيير ، فهذا يرجع إلى التخيير الشرعي ، إذ لا نعني بالتخيير الشرعي إلاّ طلب الشارع أشياء على جهة التخيير كالخصال ، وهذا أوّل الكلام.

٥٨٦

وإن أردت بالتخيير العقلي أنّ العقل إذا وجد تعلّق الأمر بعنوان كلّي ولم يجد التخصيص حكم بحصول الامتثال في ضمن كلّ فرد ، فهذا بعينه هو الانطباق الذي ادّعينا كونه كافيا في الامتثال وأنّه ليس من الطلب في شيء.

فإن قلت : إنّ الذي سمّيته بانطباق الفرد على الكلّي هو الذي يعدّ امرا عرفا وحكمه حكم الأمر الصريح في صحّة العمل وسقوط (١) التكليف وحصول الإجزاء وترتّب الثواب والعقاب والإطاعة والعصيان وغيرها من أحكام المأمور به ، سمّيته بالأمر أم لا ، ولا ريب في استحالة هذا الانطباق في أحد الضدّين على وجه يؤثّر في الصحّة مع تعلّق الأمر بالضدّ الآخر.

قلت : هذا ممنوع ، فإنّ القبح والاستحالة إنّما هي في خصائص تعلّق الطلب بالضدّين ، فلا يثبت بطلب أحدهما وانطباق الآخر على المطلوب.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرنا ليس مبنيّا على القول بكون متعلّق الأمر هي الطبيعة دون الفرد ـ كما يتوهّم من ظاهر كلماتنا ـ بل لو قيل بتعلّق الأوامر بالأفراد لتمّ ما ذكرنا أيضا ، لأنّ معنى تعلّق الأمر بالفرد أنّ المطلوب إنّما هو الحصّة من الطبيعة في الخارج في ضمن فرد ما ، ولا ريب أنّ نسبة فرد ما إلى خصوص الأفراد مثل نسبة الكلّي إلى الأفراد. وحينئذ نقول : إنّ المطلوب إنّما هو أحد الأفراد على سبيل البدليّة ، ومعنى البدليّة حصول الامتثال بكلّ فرد لانطباقه على فرد ما ، فتدبّر جيّدا.

نعم ، يمكن أن يستدلّ على هذا القول بنحو ما اخترنا في هذه المسألة ومسألة مقدّمة الواجب : من أنّ الأمر التخييري الشرعي الشأني ثابت لجميع الأفراد ولو كان الأمر الفعلي منتفيا ؛ لأنّ الآمر إذا التفت إلى الأفراد [ و ] أراد أن يثبت لها حكما من الأحكام امتنع أن يثبت شيئا إلاّ الوجوب التخييري ، وحينئذ أمكن دعوى

__________________

(١) في ( م ) : ثبوت.

٥٨٧

اقتضاء الأمر بالشيء عدم هذا الأمر الشأني للضدّ. ولكنّ الانصاف أنّ من يقول بهذا فلا ينبغي له إنكار اقتضاء الأمر النهي الشأني عن الضدّ ، كما أثبتنا ذلك واخترناه في المسألة وقلنا : بأنّ هذا النهي الشأني قائم مقام النهي الفعلي في الآثار. والله العالم.

تذنيب

هل النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضدّه العامّ أو الخاصّ ، على القول باقتضاء الأمر به النهي عنهما أو عن أحدهما أم لا؟ ذهب الكعبي إلى أنّ النهي عن الشيء أمر بضدّه الخاصّ (١) لوجوه قد عرفت جوابها بما لا مزيد عليها ، وخالفه أكثر العامّة (٢) وجميع الخاصّة (٣) إلاّ في مواضع مستثناة متقدّمة إليها الإشارة.

وأمّا اقتضاؤه الأمر بضدّه العامّ ، مثل اقتضاء قوله : « لا تزن » الأمر بترك الزنا ، فالظاهر أنّه مثل اقتضاء الأمر النهي عن الضدّ العام ، فالكلام الذي سبق (٤) هناك جار هاهنا أيضا. وقد عرفت أنّ القول بكلّ واحد منهما عين الآخر على بعض التقادير ـ وهو أن يكون المراد اتّحاد مصداق المطلوبين دون الطلبين ـ لا يخلو عن استقامة. كما أنّ القول بالعينيّة على التفسير المراد به اتّحاد نفس الطلبين لا يخلو عن استقامة ، فارجع إلى ما تقدّم حتّى يتضح لك الحال في أطراف المسألة هنا.

__________________

(١) انظر شرح مختصر الاصول : ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ، ونهاية الوصول : ٩٨ ، وهداية المسترشدين ٢ : ٢٨٣.

(٢) انظر شرح مختصر الاصول : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٣) انظر القوانين ١ : ١١٦.

(٤) في ( ع ) و ( م ) : سيق.

٥٨٨

ثمّ قد يتفرّع على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ اقتضاء الأمر الندبي كراهة ضدّه العامّ أو الخاصّ ، وعلى اقتضاء النهي عن الشيء الأمر بضدّه استحباب ضدّ المكروه.

والتحقيق أنّ الأمر الندبي لا يقتضي كراهة ضدّه العامّ فضلا عن الخاصّ ، إذ ليس في ترك المندوب إلاّ فوت بعض المصالح ، وليس هذا بمبغوض للشارع حتّى يكون مكروها. نعم لو قلنا بأنّ المكروه طلب تركه مع الإذن في الفعل كان ترك ترك المستحب مطلوبا وفعل تركه مأذونا ، ولكنّه مع ذلك لا يعدّ من المكروه ، لأنّه عبارة عن شيء وجودي مطلوب تركه ، فلا يصدق على أمر عدميّ مطلوب نقيضه.

وأمّا اقتضاء النهي على وجه الكراهة استحباب ضدّه العام ، فالظاهر أنّه لا ضير فيه ؛ لأنّ الفرار عن المنقصة مطلوب عند الشارع ، ولا نعني بالمستحبّ إلاّ ما كان مطلوبا. وأمّا استحباب الضدّ الخاصّ فهو مبنيّ على تماميّة قول الكعبي ، ولا نقول به ، كما مرّ غير مرّة.

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى على خير خلقه محمّد وآله أجمعين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

٥٨٩
٥٩٠

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

القول في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد

٥٩١
٥٩٢

وتوضيح المرام في طيّ مقدّمة وهدايات :

أمّا المقدّمة : ففي بيان أنّ هذه المسألة هل هي ملحقة بمسائل الاصول أو بمسائل الكلام؟ وعلى الأوّل فهل هي من مقاصدها أو من المبادئ؟

فنقول : يظهر من بعضهم أنّها من المسائل الكلاميّة (١). ولم يظهر له وجه ، فإنّه يبحث في الكلام عن أحوال المبدأ والمعاد ، حيث إنّها صناعة نظريّة تقدر معها على إثبات العقائد الدينيّة : من إثبات الصانع ، وصفاته التي يتوصّل بها إلى إثبات النبيّ ، والوصيّ ، والمعاد بما فيها من العقائد ، وليس البحث المذكور ممّا يرجع إليها كما هو ظاهر. نعم ، لو كان البحث من حيث صدوره عنه [ كأن يكون النزاع في فعله ، كما يبحث في جواز إقدار الكاذب على فعل خارق للعادة ](٢) كان له وجه. لكن الظاهر عدم رجوع النزاع إليه ، كما يرشد إليه كلماتهم نقضا وإيرادا. ومجرّد كونها من المباحث العقليّة لا يقضي بإلحاقها إلى المسائل الكلاميّة.

نعم ، قد يبحث في الكلام عن بعض المطالب العقليّة من حيث إنّ لها دخلا في المقاصد : كما في المسائل المتعلّقة بالطبيعيّات ، وبعض مطالب الامور العامّة كإبطال الجزء (٣) وإثباته بناء على ما زعموا من ابتناء أمر المعاد الجسماني عليه ، وكامتناع إعادة المعدوم وإمكانه لذلك أيضا ، وما نحن بصدده ليس من هذا القبيل أيضا.

__________________

(١) راجع الوافية : ٩٩ ، وإشارات الاصول : ١١٠.

(٢) أثبتناه من هامش ( ط ).

(٣) أي الجزء الأصلي للبدن ، راجع كشف المراد : ٤٠٦.

٥٩٣

وقد يظهر من بعض آخر (١) أنّ البحث فيها يرجع إلى البحث عن مقاصد الاصول ، فإنّها يستنبط منها صحّة الصلاة في الدار المغصوبة وفسادها.

وليس بشيء ؛ فإنّ الصحّة والفساد لا يترتّبان على الجواز والعدم ، بل التحقيق أنّ الصحّة متفرّعة على عدم التعارض والتناقض بين مدلولي الأمر والنهي ، وتشخيص ذلك موقوف على مسألة الجواز والامتناع.

فهذه المسألة من مباني المسألة الاصوليّة ، وهي وجود التعارض وتحقّق التناقض بين الأدلّة وعدمه ، فالحكم الفرعي لا يترتّب على هذه المسألة بدون توسيط.

والأولى أن يقال بأنّ البحث فيها إنّما هو بحث عن مبادئ (٢) الأحكاميّة ، حيث يناسب عند ذكرها وتحقيقها ذكر بعض أحكامها وأوصافها : من ملازمة وجوب شيء لوجوب مقدّمته ، ومن جواز اجتماع الحكمين مع تضادّهما ، كما تقدّم شطر من الكلام في ذلك في بحث المقدّمة. وذلك هو الوجه في ذكر العضدي له في المبادئ الأحكاميّة (٣) ، كشيخنا البهائي قدس‌سره (٤).

ويمكن إيرادها في مباحث الأدلّة العقليّة ، من حيث إنّ العقل يحكم بارتفاع أحدهما قطعا عند الاجتماع على المنع. إلاّ أنّه ضعيف ، إذ مجرّد ذلك لا يقضي به ما لم يلاحظ فيه ثمرة فقهيّة.

__________________

(١) انظر القوانين ١ : ١٤٢.

(٢) كذا ، والمناسب : « المبادئ ».

(٣) راجع شرح مختصر الاصول : ٣ و ٩٢ ، حيث جعله في المبادئ.

(٤) لم نعثر عليه.

٥٩٤

وقيل : إنّ النفي والإثبات في المسألة راجع إلى اللغة (١). وهذا أنسب بكلام المعالم (٢) حيث أوردها في مباحث النهي المبحوث فيها عن اللفظ.

وأنت خبير بما فيه من الضعف والوهن ؛ فإنّ البحث المذكور ـ كأدلّتهم وأجوبتهم ـ ممّا ينادي بأعلى صوته على فساد التوهّم المذكور. وقد ذكرنا في مباحث المقدّمة ما يوضح فساده في الغاية ، فراجعه.

وأمّا صاحب المعالم ، فحيث إنّه لم يذكر في المعالم ما يشتمل على مبادئ (٣) الأحكاميّة أوردها في مسائل النهي ، مع أنّ كلماته أيضا صريحة في فساد التوهّم المذكور في كلامه ، وإن كان له في كلامه وجه في نظائره كوجوب المقدّمة ، فتدبّر.

__________________

(١) حكاه في إشارات الاصول : ١١٠ ، عن المحقّق الشيرواني.

(٢) المعالم : ٩٤ ـ ٩٦.

(٣) كذا ، والمناسب : « المبادئ » كما تقدّم.

٥٩٥
٥٩٦

هداية

في بيان المراد من الألفاظ المأخوذة في العنوان

فنقول : إنّ « الجواز » لغة ـ على ما يستفاد من كتب اللغة (١) والعرف ـ هو الانتقال وعدم الوقوف في حيّز ، كما في قولهم : « جاز منه إلى كذا » ومنه التجاوز. وقد يستعمل بالمشاكلة في مقابل المنع ، فيقال : « يجوز ذلك » أي لا مانع منه ، فكأنّه غير واقف على أحد الطرفين من الوجود والعدم ، و « فلان جوّز كذا » أي لم يمنع منه ، و « الشيء جائز » أي غير ممتنع. وأمّا الحاكم بالجواز فهو العقل والشرع ، وستعرف أنّ الجواز العرفي مرجعه إلى العقل ، غاية الأمر اختلاف موضوع الجوازين ، كما سيأتي.

وقيل (٢) : إنّ له معان خمسة ، فتارة يطلق في قبال الباطل والفاسد ، كما في قولهم : « يجوز بيع الفضولي ». وقد يطلق في قبال القبيح ، كما يقال : « يجوز صدور المعجزة عن كذا » مثلا. وقد يطلق في قبال ما يعدّ غلطا في اللغة كما يقال : « يجوز استعمال اللفظ في كذا » إلى غير ذلك. والظاهر رجوع كلّ ذلك إلى معنى واحد ، كما لا يخفى على الفطن.

وأمّا « الاجتماع » فبعد ملاحظة إضافته إلى الأمر والنهي ظاهره وجودهما

__________________

(١) راجع المصباح المنير : ١١٥ ، والقاموس ٢ : ١٧٠ ، وأقرب الموارد ١ : ١٤٩.

(٢) ضوابط الاصول : ١٣٥.

٥٩٧

في موردهما بجميع خواصّهما وأحكامهما ولوازمهما ، من حصول الامتثال والتقرّب والثواب والعقاب. وأمّا الإسقاط فليس من الاجتماع في شيء ، كما هو ظاهر لفظ « الاجتماع ».

ومن هنا تعرف النظر في كلام العضدي بعد ما مثّل لمحلّ النزاع بالصلاة في الدار المغصوبة ، حيث قال : « فقال الجمهور : تصحّ الصلاة. وقال القاضي لا يصحّ الصلاة لكن يسقط الفعل عندها ، لا بها. وقال أحمد وأكثر المتكلّمين والجبّائي : لا تصحّ ولا تسقط » (١) انتهى. حيث إنّ القول بالسقوط لا ينبغي ان يعدّ قولا ثالثا ، إذ لا اجتماع هناك ، فمرجعه إلى القول بالامتناع ، فيكون الصلاة عند القاضي من الواجبات التوصّليّة التي تسقط عند اجتماعها مع الحرام.

لكنّه بعد لا تخلو عن إجمال ؛ إذ ليس النزاع مختصّا بالصلاة ، فإنّها من مواردها كغيرها ، فإن أراد تصحيح الصلاة خاصّة فهي مسألة فرعيّة ، وإن أراد إقعاد قاعدة اصوليّة فلا وجه له كما هو ظاهر الاجتماع ، وإن أراد بيان رجوع كلّ من الأمر والنهي إلى أمر مغاير للآخر فهو مانع. ولعلّ الخلط المذكور من الناقل ، فإنّ كلام القاضي مجمل في المقام.

وأمّا القول بحصول الواجب من دون إسقاط وعدم حصول اللوازم المترتّبة على حصول المأمور به على وجهه من الشرائط والأجزاء فهو ممّا لا ينبغي المصير إليه ، كما اختاره المحقّق القمّي رحمه‌الله ، حيث بنى في العبادات المكروهة ـ كصوم الغدير في السفر وإن نوى الصائم فيه القربة ـ حصول المأمور به والمنهيّ عنه ، وعدم حصول لوازمه من التقرّب ، زاعما أنّ نيّة التقرّب لا تلازم وجود التقرّب (٢). وهو بمكان من الضعف.

__________________

(١) شرح مختصر الاصول : ٩٢.

(٢) القوانين ١ : ١٤٤ ـ ١٤٥.

٥٩٨

وبالجملة ، فلازم لفظ الاجتماع هو الالتزام بجميع لوازم الواجب والحرام من الثواب والعقاب والقرب والبعد ونحوها. وأمّا الأمر والنهي فالاقتصار على ظاهرهما يعطي كون النزاع في اجتماعهما نفسهما ، لا المأمور به والمنهيّ عنه.

ومن هنا قيل (١) : إنّ في المقام مسألتين ، إحداهما : أنّه هل يجوز كون الشيء الواحد متعلّقا للوجوب والحرمة من جهتين في محلّ النزاع فيهما؟ وثانيتهما : أنّه إذا أمر بعامّ ونهى عن آخر بينهما عموم من وجه ، فأتى المكلّف بالفرد الجامع ، فهل يحصل به الامتثال مع الإثم أم لا؟

وفرّق بين المسألتين : بأنّ الاولى لا ارتباط لها بتعلّق الأحكام للطبائع أو الأفراد ولا بوجوب المقدّمة وعدمه. نعم ، يحصل الفرد الذي هو محلّ الاجتماع في المسألة مثالا للاولى على بعض الوجوه. وأمّا الثانية فتتفرّع على المسألة الاولى ، فإنّ القائل بالجواز في الاولى يقول به فيها بالأولويّة (٢).

وأمّا المانع فيحتمل أن يقول بالمنع والجواز أيضا في المسألة الثانية ، فإنّه على تقدير تعلّق الأحكام بالأفراد لا مجال للجواز ، لرجوعه إلى المسألة الاولى. وعلى تقدير تعلّقه بالطبائع فعلى القول بوجوب المقدّمة أيضا يكون من أفراد المسألة الاولى إن لم نقل بأنّ الفرد المحرّم من المقدّمة يوجب الامتثال. وأمّا إذا قيل بعدم وجوب المقدّمة فيجوز (٣) ، أو قيل (٤) بوجوبها مع حصول الامتثال بالفرد المحرّم ، فيجوز أيضا.

__________________

(١) قاله الفاضل النراقي في المناهج.

(٢) مناهج الأحكام : ٥٨.

(٣) في ( ع ) : فيجوزه.

(٤) في ( ع ) : وقيل.

٥٩٩

ومن هنا اعترض على من عنون البحث باجتماع الوجوب والحرمة والأمر والنهي ، وبعد اختياره القول بالجواز استند إلى أنّ متعلّق الأمر هو الطبيعة والفرد مقدّمة وهي ليست بواجبة ، فإنّ هذه الدعوى غير مربوطة بهذه الحجّة ، وقال : ما أدري ما المناسبة بين الدليل والمدلول (١)؟

أقول : ولعلّ ما عرفت من عنوان المسألتين هو المراد في كلام بعض الأواخر من التفكيك بين اجتماع الأمر والنهي المنسوبين إلى الآمر وبينهما منسوبين إلى المأمور ، حيث قال بامتناع الأوّل وجواز الثاني (٢) ، وهو مطابق لظاهر لفظي « الأمر » و « النهي ».

إلاّ أنّ التأمّل في كلمات المانعين والمجوّزين يعطي عدم الفرق بين المسألتين ، بمعنى أنّ العنوان يصلح للنزاعين ولكلّ واحد منهما أيضا ، كما يظهر من ملاحظة كلام العضدي حيث استند للحكم بالجواز بالدليل المذكور (٣) مع أنّه عنون النزاع بما هو المعروف فيه. ويساعده جواب المانعين عن حجّة اخرى : من أنّ المقصود من الأمر بالخياطة هو حصولها على أيّ وجه اتّفق ، فإنّه ظاهر في المأمور به والمنهي عنه. وعلى ما ذكره يكون النزاع بين المانعين والمجوّزين في المسألة الثانية صغرويّا ، لأنّ النزاع إنّما هو في أوّل هذه المسألة ورجوعها إليها ، كما صرّح به البعض (٤) أيضا (٥).

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) ضوابط الاصول : ١٣٣.

(٣) شرح مختصر الاصول : ٩٣.

(٤) في ( ع ) : بعض.

(٥) ضوابط الاصول : ١٣٢.

٦٠٠