مطارح الأنظار - ج ١

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-50-5
الصفحات: ٧٧٦

العقلاء بكافّتهم مطبقون على أنّ الإتيان بواجب واحد يتوقّف على مقدّمات عديدة ولو بلغ ما بلغت إطاعة واحدة وامتثال واحد ، والتارك لواجب واحد وإن تعدّدت مقدّماته لم يعص إلاّ معصية واحدة ، ولا يترتّب على إطاعة واحدة أو معصية واحدة إلاّ جزاء واحد.

ولا فرق في ذلك في نظر العقل بين أن يكون المقدّمة ملحوظة في نفسها في ضمن خطاب أصليّ وبين أن لا يكون مدلولا عليها إلاّ بخطاب تبعيّ ، إذ تأثير الملاحظة التفصيليّة والتعبير عن مطلوبيّتها بعبارة مستقلّة فيما نحن بصدده غير معقول ، فإنّ مناط استحقاق الثواب والعقاب متعدّد بتعدّد (١) الإطاعة والعصيان ، والمفروض أنّهما متّحدان حينئذ أيضا. والقول بأنّ ذلك يوجب التعدّد فاسد جدّا ، كيف! وذلك تفصيل في نفس الأمر بالنسبة إلى سائر المقدّمات على القول بوجوبها ، كما ستعرف.

نعم ، يبقى في المقام نكتة التصريح بالبعض دون الآخر. والخطب فيه من أسهل الخطوب ، كما هو ظاهر.

وأمّا التفرقة بين الثواب والعقاب فلعلّه ممّا لا يرجع إلى طائل بالنظر إلى حكم العقل ، لما عرفت من إمكان المناقشة في استحقاق الثواب على فعل الطاعات النفسيّة ، فكيف يقال باستحقاق الثواب في الغيري دون العقاب؟

وأمّا النقل فغاية ما يمكن الاستناد إليه أمران :

أحدهما : الآيات الدالّة على ترتّب الثواب والعقاب بوجوب (٢) الإطاعة والعصيان ، الشاملين بعمومها لجميع المطلوبات الشرعيّة غيريّا كان أو نفسيّا ،

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : تعدّده على تعدّد.

(٢) كذا ، والمناسب بدل « وجوب الإطاعة » : على الإطاعة.

٣٤١

كقوله : ( مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ )(١) وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً )(٢) إلى غير ذلك.

والجواب عنه ظاهر بعد ما عرفت من عدم صدق الإطاعة والمعصية في الواجبات الغيريّة (٣).

وثانيهما : الأدلّة الدالّة على ترتّب الثواب في خصوص بعض المقدّمات ، ويستكشف عن ذلك جواز ترتّبه عليها مطلقا ، فيكون من الطاعات ، أو يستند في الباقي إلى دعوى عدم الفصل ، وذلك مثل قوله تعالى : ( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ )(٤).

فإنّ دلالة الآية على ترتّب الثواب على المقدّمات التي يترتّب عليها الجهاد ـ من قطع البوادي وإنفاق الأموال وصرف المؤنات ـ ممّا لا ينبغي إنكارها.

مضافا إلى ما ورد في زيارة مولانا الحسين عليه‌السلام : من أنّه « لكلّ قدم ثواب عتق عبد من أولاد إسماعيل » (٥) وغيره من الأخبار الصريحة في ذلك على ما أوردها غوّاص بحار أنوار الأئمّة فيها (٦).

__________________

(١) النور : ٥٢.

(٢) النساء : ١٤.

(٣) في ( ط ) زيادة : وذلك ظاهر.

(٤) التوبة : ١٢٠ ـ ١٢١.

(٥) البحار ١٠١ : ٣٦ ، الحديث ٤٨.

(٦) راجع البحار ١٠١ : ٢٨ ، باب أنّ زيارته عليه‌السلام تعدل الحج والعمرة والجهاد والاعتكاف.

٣٤٢

وما ورد في ثواب الوضوء والغسل (١) وغير ذلك.

والإنصاف أنّ منع ظهور هذه الروايات أو دلالتها على ترتّب الثواب على فعل المقدّمات ممّا لا وجه له. إلاّ أنّه مع ذلك لا دلالة فيها على المدعى ، إذ المقصود في المقام إثبات الاستحقاق ، ولا أثر من ذلك فيها. فلعلّه مستند إلى فضل الربّ الكريم ، فإنّ الفضل بيده يؤتيه من يشاء.

مع أنّ من المحتمل أن يقال (٢) : إنّ الثواب المترتّب عليها في هذه المقامات في الحقيقة هو الثواب المترتّب على فعل ذي المقدّمة. ولكنّه إذا وزّع على الأفعال الصادرة من المكلّف في تحصيله يكون لكلّ واحد من أفعاله شيء من الثواب ، نظير ما يقول التاجر المسافر الساعي في تحصيل الأرباح عند توزيعه : ما حصل له على أيّام مسافرته.

ولا يخفى أنّ هذا احتمال قريب (٣) ، وممّا يؤيد ذلك ما ورد في بعض الأخبار : من ترتّب الثواب على الأقدام بعد المراجعة من الزيارة الحسينيّة عليه‌السلام (٤) ، فإنّها ليست من المقدّمات جدّا ولا سيّما بملاحظة أنّ ثوابها ضعف ثواب الرواح ، كما لا يخفى.

لا يقال : لو كان الثواب المترتّب على فعل المقدّمات هو الثواب المترتّب على ذويها من دون مدخليّة لها فيه يلزم مساواة زيارة البعيد والقريب.

لأنّا نقول : لا ريب في أنّ عسر المقدّمات يوجب ازدياد ثواب الواجب ، فانّ أفضل الأعمال أشقّها ، ولعلّ ذلك أمر ظاهر لا سترة عليه جدّا.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٦٣ ، الباب ٨ من أبواب الوضوء ، والصفحة ٢٦٩ ، الباب ١١ منها ، الحديث ٣ ، والصفحة ٤٦٦ ، الباب ٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ٣.

(٢) في ( ط ) زيادة : احتمالا ظاهرا.

(٣) لم ترد عبارة « ولا يخفى أنّ هذا احتمال قريب » في ( ط ).

(٤) انظر كامل الزيارات : ١٣٢ ـ ١٣٥ ، الباب ٤٩ ، والصفحة ١٤٤ ، الباب ٥٧.

٣٤٣

فان قلت : لا ريب في استحقاق المدح لمن ارتكب المقدّمات وإن لم يات بالواجب ، وذلك يكشف عن خلاف ما ذكرته.

قلت : نعم ، ولكنّه لا يجديك شيئا ، إذ العقلاء يحاولون بمدحهم الآتي بالمقدّمة الكشف عن حسن سريرته وعدم كدورة طينته ، وأين ذلك من استحقاق الثواب على فعل المقدّمة؟ وذلك نظير ما نبّهناك عليه في الانقياد والتجرّي (١).

فإن قلت : قد ذكر بعض المتكلّمين (٢) : أنّ كلّ فعل قصد به الإطاعة ففاعله يستحقّ الثواب عليه ، والمقدّمة لا تنقص عن أحد الأفعال المباحة ، فإذا فرض ترتّب الثواب عليها فترتّبه عليها بطريق أولى.

قلت : إن اريد بذلك من حيث دخول المباح تحت عنوان المطلوب نفسا فهو مسلّم ولكنّه غير مفيد إذ لا إشكال في ترتّب الثواب على المطلوبات النفسيّة ، فالمضاجعة مثلا تصير مطلوبة نفسيّة (٣) لو وقعت على وجه قضاء حاجة الزوجة المؤمنة ، إلى غير ذلك من العناوين المطلوبة. وإن اريد بذلك ولو مع قطع النظر عن اندراجه تحت عنوان مطلوب فغير سديد ، ضرورة عدم تحقّق الإطاعة إلاّ بعد تحقّق الأمر والإرادة ، وعند عدمه ـ كما هو المفروض ـ لا سبيل إلى التزام وجود الإطاعة وصدقها.

والعجب من بعض المحقّقين! حيث إنّه جنح إلى إثبات الثواب بمثل ما ذكرناه في السؤال.

وممّا ذكرنا تقدر على استخراج مواضع النظر فيما أفاده بعض الأجلّة ، حيث إنّه ردّد في المقام بين أن يكون المراد بالثواب هو الاجرة أو المدح ، فقال : إن أرادوا

__________________

(١) راجع فرائد الاصول ١ : ٣٩.

(٢) تقدّم كلامهم في الصفحة ٣٠٠.

(٣) في ( ع ) : مطلوبا نفسيّا.

٣٤٤

بالثواب أمرا غير المدح والقرب فربّما كان له وجه ؛ نظرا إلى أنّ العقل لا يستقلّ بإثباته في جميع موارده ، وثبوته في بعض الموارد شرعا ـ كالسير إلى الجهاد ونحوه ـ لا يثبت الكلّيّة ، وقوله تعالى : ( لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ )(١) لا دلالة له على تعيين أثر غيرهما. وإن أرادوا الأعمّ فترتّب الأوّل ـ أعني المدح ـ ممّا لا ريب فيه ، بشهادة العقل والعادة. ثمّ استشهد لذلك بحسن تعليل المدح بالفعل. ثمّ قال :

وكذا الأمر الثاني أعني القرب ، واستند في ذلك إلى صدق الإطاعة والانقياد المستلزمين للقرب (٢).

ووجه النظر هو : أنّه ما أجاد في حكمه بعدم استقلال العقل على ترتّب الثواب بمعنى الأجر ، إذ التحقيق على ما عرفته هو استقلاله بعدمه ؛ على أنّ الترديد في الثواب في غير محلّه ، فإنّ المراد به ـ على ما هو صريح المتكلّمين (٣) ـ هو العوض ، فيكون اجرة. مضافا إلى أنّ نفي ظهور الآية في الأجر على تقدير عدم استقلال العقل خلاف الإنصاف ، كما ارتكبه ، فإنّ ظهورها ممّا لا ينكر. بل التحقيق في ردّها هو : ما عرفت من لزوم تأويلها بعد مخالفتها لصريح العقل. مع أنّ الوجه في ترتّب المدح هو ما عرفته من ملاحظة العقلاء في ذاته سريرة طيّبة ، وذلك ظاهر بعد ما عرفته.

ومن هنا ينقدح لك : أنّ القول بأنّ « فعل المقدّمة يوجب الثواب وتركها لا يورث العقاب » قول باستحباب المقدّمة ، إذ لا يعقل أن يكون الفعل موجبا لاستحقاق الثواب وتركه لا يوجب عقابا مع كونه واجبا ، فهو إمّا قول بالاستحباب وهو باطل ، إذ لا قاضي به ، فإنّ الطلب الاستحبابي لا يستفاد من

__________________

(١) آل عمران : ١٩٥.

(٢) الفصول : ٨٧.

(٣) راجع شرح تجريد العقائد ( للقوشجي ) : ٣٥٠ ، وكشف المراد : ٣١٩ ـ ٣٢٠.

٣٤٥

وجوب ذيها ولا من غيره لانتفائه. وإمّا قول بتسبيع الأحكام ـ كما (١) أفاده المحقّق القمّي (٢) ـ إذ القاضي بالحكم المذكور هو وجوب ذيها ، وحيث إنّه ليس وجوبا لعدم استحقاق العقاب على فعله بنفسه ، ولا ندبا لعدم ما يقضي به ، فلا بدّ أن يكون قسما سادسا. وبمثله نقول في الموانع ، فلا يكون محرّما لعدم ترتّب العقاب على فعلها امتثالا (٣) وترتّب الثواب على تركها ، ولا مكروها لعدم ما يقضي به ، فهو قسم سابع. وليس مراده أنّه وجوب ظاهريّ لا واقعيّ ـ كما يظهر منه في بعض المباحث ـ إذ على تقديره فاللازم تعشير الأحكام ، مع أنّه لا محذور كما لا يخفى.

وأمّا ما قد يدفع عن ذلك باختلاف حدّي الوجوب الغيري والنفسي ـ كما تكلّفه بعض الأجلّة (٤) ـ فليس يجدي شيئا بعد ما عرفت أنّ الكلام في الاستحقاق ، ولا يعقل التفرقة في الوجوب بين أحد لازميه كما صنعه.

وأمّا ما أفاده (٥) من استناد استحباب المقدّمة إلى قاعدة التسامح فهو تسامح في إصابة الواقع ، إذ بعد الغضّ عن شمول الأخبار لمثل فتوى الفقيه أوّلا ثمّ لفتوى مثل الغزالي ـ كما لعلّه تفطّن له ، كما يشعر به قوله : فتأمّل ـ فهو ممّا ليس ينبغي ، إذ الكلام مع الغزالي القائل بهذه المقالة الفاسدة ، فالنزاع إنّما هو في أمر واقعي يدّعيه الغزالي ، ونحن ندّعي أنّ الواقع على خلافه. وليس المقام من موارد إثبات الحكم المتنازع فيه بالتسامح.

نعم ، إذا فرض البحث مع غيره فيمكن لمدّعي الاستحباب الاستناد إلى قول

__________________

(١) في ( ط ) : على ما.

(٢) تقدّمت عبارته في الصفحة ٣٤٠.

(٣) لم يرد « امتثالا » في ( ط ).

(٤) وهو المحقّق القمّي كما تقدّم في الصفحة ٣٣٩.

(٥) أي المحقق القمي ، كما تقدّم في الصفحة ٣٤٠.

٣٤٦

الغزالي به ، من حيث إنّه قد أفتى بالاستحباب لا من حيث إنّه مقدّمة. وأمّا ما التزم به في الحاشية : من أنّه لا مانع من التسبيع في الأحكام التبعيّة ، فممّا لا يرجع إلى طائل ؛ لعدم الفرق بين الأحكام الأصليّة وغيرها أصلا ، إذ الحصر في الخمسة بعد ملاحظة الاستحقاق واقعي ، فلا يعقل قسم سادس أو سابع.

وينبغي التنبيه على أمرين :

الأوّل : لا يستبعد دعوى معلوميّة ترتّب الثواب على فعل الطهارات الثلاث شرعا ، فإنّ الأخبار في ذلك فوق حدّ الاستفاضة (١).

وكأنّه ممّا لم يقع فيه الخلاف أيضا ، فيشكل الأمر نظرا إلى ما مرّ من استقلال العقل بعدم الاستحقاق. ولا سبيل إلى دفعه بمثل ما دفعناه في مطلق المقدّمات : من احتمال التفضّل أو التوزيع ، إذ لعلّه يأباه مساق الأخبار الدالّة على ذلك. وقد عرفت فساد توهّم الفرق بين الخطاب الأصلي وغيره أيضا.

ويمكن التفصّي عن ذلك : بأنّ الطهارات ليس ممحّضة في التوصّليّة ، بل لها جهات نفسيّة ؛ فإنّها عبادات في أنفسها مستحبّة في حدود ذواتها ، وإن كان قد يعرض لها الوجوب التبعي ، فلا ينافي ترتّب الثواب عليها على وجه الاستحقاق.

إلاّ أنّه مع ذلك لا ينهض بدفع الإشكال ، إذ ليس الكلام في الطهارة التي تقع على وجه المطلوبيّة النفسيّة ، بل الكلام فيما هي مقدّمة للصلاة الواجبة مثلا ، وبعد عروض الوجوب على ما هو المفروض يمتنع بقاء المطلوبيّة النفسيّة ، لطريان ما هو أقوى منها

__________________

(١) انظر الوسائل ١ : ٢٦٣ ، الباب ٨ من أبواب الوضوء ، والصفحة ٢٦٥ ، الباب ٩ من أبواب الوضوء ، والصفحة ٤٦٦ ، الباب ٢ من أبواب الجنابة ، الحديث ٣ ، والمستدرك ١ : ٢٩٤ ، الباب ٨ من أبواب الوضوء ، والصفحة ٢٩٦ ، الباب ٩ منها ، والصفحة ٤٥٠ ، الباب ٢ من أبواب الجنابة ، الحديث الأوّل.

٣٤٧

تأثيرا وأشدّ مطلوبيّة ، فلا يعقل ترتّب الثواب عليها بعد عروض الوجوب ، إذ لو لم يكن قاصدا إلى الجهة النفسيّة لم يقع على وجه الامتثال ، فلا يستحقّ ثوابا عليها ، وبعد ارتفاع الأمر النفسيّ ـ ولو بواسطة طريان الأمر الوجوبي الغيري ـ لا يعقل ان يكون الداعي إليها هو الأمر ؛ لانتفائه ، فلا امتثال.

ويمكن أن يقال في دفعه : بأنّ ارتفاع الطلب تارة يكون بواسطة ارتفاع ما هو الوجه في طلبه كانقلاب المصلحة الموجبة له مفسدة ، واخرى يكون بواسطة طريان ما هو أقوى منه ، فإنّ ارتفاعه إنّما يكون بواسطة امتناع اجتماع الأمثال ونحوه. والفرق بين الوجهين ظاهر. والقدر المسلّم من عدم استحقاق الثواب عند ارتفاع الطلب إنّما هو فيما إذا كان ارتفاعه على الوجه الأوّل. وأمّا إذا كان على الوجه الثاني فلا نسلّم أنّه لا يستلزم ثوابا ؛ لأنّ لحوق المرتبة القويّة للمرتبة الضعيفة إنّما ينافيها من حيث تحدّدها بحدّ ضعيف وتشخيصها بتشخيص قاصر ، وذلك لا مدخل له فيما هو مناط الطلب على ما هو ظاهر. فعروض الوجوب لا ينافي الطلب الموجود بواسطة جهة نفسيّة ، بل يؤكّده ، فيصحّ القصد إليه بوجوده ولو على وجه قويّ.

وذلك أيضا لا يدفع الإشكال ؛ إذ لا أقلّ من أن يكون اللازم على ذلك التقدير هو القصد إلى الطلب النفسي ولو في ضمن الطلب الوجوبي ، والمعلوم من طريقة الفقهاء هو القول بترتّب الثواب على الطهارات وإن انحصر الداعي إلى إيجادها في الأمر المقدّمي على وجه لو لم يعلم باستحبابها النفسي أيضا يكون كافيا في ذلك. على أنّ الاستحباب النفسي في التيمّم لعلّه ممّا لا دليل عليه وإن كان قد يستفاد من بعض الروايات ، إلاّ أنّه ممّا لم يعتمد عليه أحد ظاهرا. وبالجملة ، فالقول بأنّ الثواب من جهة عموم فضله وسعة رحمته أو احتمال التوزيع لعلّه أقرب ، فتأمّل.

٣٤٨

الأمر الثاني : قد عرفت فيما تقدّم أنّ النسبة بين الواجب الغيري والتعبّدي عموم وخصوص من وجه ؛ لافتراق الأوّل في غسل الثوب ، والثاني في الصلاة ، واجتماعهما في المقدّمات العباديّة التي يشترط فيها نيّة القربة كالطهارات الثلاث ، فإنّها كما أطبقوا على كونها ممّا يترتّب عليها الثواب ـ كما هو منشأ الإشكال في الأمر الأوّل ـ كذلك أطبقوا على كونها عبادة مشروطة بقصد القربة.

ويشكل : بأنّ القربة عبارة ـ على ما عرفت مرارا ـ عن الإتيان بالفعل بواسطة الأمر ، ولا مصحّح لها في الأوامر المقدّميّة ، إذ الأمر المقدّمي لا يعقل أن يكون مستتبعا لذلك ، ضرورة معلوميّة الغرض الداعي إلى المقدّمة ، وهو التوصّل بها إلى ذيها ، وبعد العلم بأنّ المقصود والغرض هو التوصّل لا معنى للقول بوجوب الإتيان بالمقدّمة على وجه القربة.

والسرّ في ذلك أيضا هو ما عرفت : من أنّ امتثالها تابع لامتثال ذيها ، كما أنّ وجوبها على القول به وجوب تبعي منتزع من وجوب ذيها ، وهو لا يستتبع امتثالا ولا قربة ، كما لا يوجب ثوابا.

ويمكن التفصّي عن هذا الإشكال بوجوه :

أحدها : أنّها مطلوبات نفسيّة ومندوبات ذاتيّة يصحّ قصد التعبّد بها من حيث مطلوبيّتها النفسيّة.

وذلك فاسد جدّا ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ التيمّم ـ على ما هو المشهور ـ ممّا لم يقم دليل على كونه مطلوبا نفسيّا ، فالإشكال فيه باق.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ذلك غير مجد فيما نحن بصدده ، إذ لا إشكال في صحّة قصد القربة فيما هو المطلوب النفسي ، والكلام إنّما هو في قصد التعبّد بالمقدّمة من حيث إنّها مقدّمة ، فالوضوء لأجل الصلاة لا بدّ وأن يكون على وجه القربة بواسطة الأمر المقدّمي.

وتوضيحه : أنّه تارة يستشكل في أنّ العبادة كيف تكون مقدّمة مع تنافي

٣٤٩

قضيّة كلّ منهما للآخر ، حيث إنّ المقدّميّة لا تقتضي إلاّ التوصّليّة ، والعباديّة قاضية بالتعبّديّة ، وهما متنافيان متباينان ، على ما عرفت في تحديدهما. فيجاب بأن لا تنافي بينهما لاختلاف الجهة ، حيث إنّ الأمر المقدّمي متأخّر اعتباره في العبادة عن الأمر الّذي تعلّق بها وبه صارت عبادة ، كما لو فرض اشتراط الصلاة بعبادة خارجة مستقلّة مأمور بها في حيال ذاتها كالصوم مثلا ، إذ لا ضير في ذلك ، فإنّ المصحّح للعباديّة فيها هو الأمر الأوّل ، والاشتراط قاض بمقدّميّة العبادة المفروضة من غير غائلة.

واخرى يستشكل في أنّ الأمر المقدّمي كيف يقضي بالتعبّديّة من حيث إنّها مقدّمة بعد معلوميّة الغرض من الأمر بها كما هو مناط الإشكال في المقام؟ والجواب المذكور لا ينهض بدفعه ، لاتّحاد جهتي التعبّد والتوصّل حينئذ ، كما لا يخفى.

الثاني : أنّ المقدّمة التي تكون عبادة ليست من الأفعال العاديّة (١) التي تعلم بارتباط ذيها بها على نحو معلوميّة ارتباط الصعود على السطح بمقدّماته التي يتوقّف عليها ، فإنّ المعلوم عندنا من الصلاة ليس إلاّ نفس الحركات والسكنات ، ونحن لا نعقل توقّفا لهذه الصورة على الأفعال الواقعة عند تحصيل الطهارات (٢). نعم ، بعد ما كشف الشارع الحكيم عن توقّف الصلاة عليها لا بدّ من إيجادها للتوصّل بها إليها ، وحيث إنّ الأفعال الواقعة في الطهارات أيضا ممّا لا نعرف منها إلاّ الحركة الخاصّة ، فلا بدّ أن يكون الداعي إلى إيجادها هو توقّف الصلاة عليها في نظر الآمر ، كما أنّه لا بدّ من إيجاد هذه الحركات على وجه يكون في الواقع ممّا يترتّب عليها فعل الصلاة. ولا سبيل لنا إلى العلم بذلك إلاّ أن تقع هذه الحركات على وجه تعلّق الأمر بها ، ولا نعني بالقربة إلاّ ذلك.

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : العباديّة.

(٢) في ( ط ) زيادة : كما لا يخفى.

٣٥٠

وتوضيحه : أنّ الفعل الواحد قد يختلف وجوهه ، وذلك يلازم اختلاف مصالحه ومفاسده كما هو المقرّر في مقامه ، فتارة يكون الفعل معنونا بعنوان حسنا وبعنوان آخر قبيحا ، فإن علمنا بالعنوان القبيح والحسن فهو ، ويكون الفعل حينئذ من الواجبات العقليّة فعلا أو تركا. وإن لم نعلم بذلك مع العلم بأنّ الشارع لا يأمرنا إلاّ بما هو الحسن واقعا من عناوين معتورة على ذات الفعل ، وحيث إنّه لا علم لنا به بخصوصه فيجب اتّباع الأمر في ذلك للوصول إلى العنوان الحسن واقعا ، لأنّ الأمر حينئذ مرآة لذلك العنوان. وعلى قياس ذلك عنوان المقدّميّة ، فإنّ ذوات الحركات الخاصّة ربّما لا تكون محصّلة لما هو المقصود بالأمر بها ، فلا بدّ من قصد الحركة التي امر بها لأجل الصلاة تحصيلا للمقدّمة لأن يلاحظ مطلوبيّة تلك المقدّمة ، وتوقّف المأمور به عليها عنوان إجمالي لما هو المتوقّف عليها ومرآة لها.

وبالجملة ، فنحن لا ندّعي في الطهارات أنّ الأمر المقدّمي فيها يقضي بالتعبّديّة حتّى يقال بفساده قطعا ، مع أنّه لو صحّ ذلك لكان جاريا في المقدّمات التي نقطع بانتفاء ذلك فيها. بل نقول : إنّ ذلك إنّما هو من قبل نفس المقدّمة ، حيث إنّها لا نعرف وجه التوقّف فيها.

كذا افيد ، ولكنّه منقوض بجملة من المقدّمات الشرعيّة التي لا نعرف وجه التوقّف فيها أيضا ، فإنّ ذلك غير مختصّ بالطهارات كما لا يخفى ، فتدبّر.

الثالث : أنّك قد عرفت فيما تقدّم (١) أنّ الأوامر العباديّة من حيث تعلّقها بمتعلّقاتها يغاير الأوامر التوصّلية ، حيث إنّ نفس الأمر واف بتمام المقصود في الثاني دون الأوّل ، فلا بدّ فيه من بيان زائد على أصل الفعل المطلوب بالطلب المستفاد من الأمر أوّلا. ولا فرق في ذلك بين المقدّمة وذيها ، فما هو المصحّح لأحدهما مصحّح للآخر من غير حاجة إلى القول باستفادة التعبّديّة من الأمر المقدّمي.

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

٣٥١

وتوضيحه : أنّه كما يمكن أن يكون الفعل ذا مصلحة على تقدير الامتثال به ، فيجب على المريد لإيصال تلك المصلحة إلى المكلّف أن يأمره أوّلا بذلك الفعل ثم يبيّن له أنّ المقصود هو الامتثال بذلك الأمر ، كذلك يمكن أن يكون الفعل موقوفا على عنوان بشرط أن يكون الداعي إلى إيجاد ذلك العنوان هو توقّف ذلك الفعل عليه ، فهو بحيث لو وجد في الخارج ولم يكن الداعي إليه ترتّب الغير عليه لا يكون موقوفا عليه ، وإذا وجد في الخارج على الوجه المذكور يترتّب عليه الغير ، فالطالب لوجود ذي المقدّمة ، له أن يحتال في ذلك بأن يأمر أولا بذيها ويلزم من ذلك الأمر بما هو مقدّمة له في الواقع ، وهو الفعل المقدّمي على الوجه المذكور ، إلاّ أنّه حيث لا يمكن له الاكتفاء بذلك الأمر فيحتال بالقول بأنّ المطلوب موقوف على ذلك الفعل على وجه يكون الداعي إلى إيجاده هو التوقّف المذكور.

فما يقتضيه الأمر (١) المقدّمي في الحقيقة ليس هو إلاّ التوصّل بالموقوف الذي هو الواجب النفسي ، غاية الأمر أنّ ذات المقدّمة حينئذ ـ حصولها وتكوّنها في الخارج ـ موقوفة على القصد المذكور ، فلا بدّ من طلب آخر من سنخ طلب المقدّمة ، لا أن يكون طلبا نفسيّا ليلزم ما أوردناه على الوجه الأوّل ليصحّ الطلب المذكور.

ولتكن على بصيرة من ذلك لعلّك تطّلع على وجه آخر في التقصّي عن هذه العويصة. ولله التوفيق والهداية.

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : فما يقضى بالأمر :

٣٥٢

هداية

زعم صاحب المعالم ـ على ما يوهمه ظاهر عبارته في بحث الضدّ ـ توقّف وجوب الواجب الغيري على إرادة الغير ، وقال : وأيضا فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر (١).

وربّما يقال في توجيهه : إنّ وجوب المقدّمة لمّا كان متمحّضا في التوصّليّة نظرا إلى انحصار حكمة وجوبه في التوصّل بها إلى ذيها ، فعند وجود الصارف وعدم الداعي إلى المأمور به لا دليل على وجوبها. ونحن بعد ما أعطينا النظر في الأدلّة الناهضة على وجوب المقدّمة حقّ النظر واستقصينا التأمّل فيها ما وجدنا رائحة من ذلك فيها ، كيف! وإطلاق وجوب المقدّمة واشتراطها تابع لإطلاق وجوب ذيها واشتراطه. ولا يعقل اشتراط وجوب الواجب بإرادته ؛ لأدائه إلى إباحة الواجب ، فما يدلّ على وجوب ذيها عند عدم إرادته فهو دليل على وجوب المقدّمة أيضا ، والحجّة المفروضة القائمة على وجوب المقدّمة جارية بعينها حال الإرادة وعدمها من غير فرق في ذلك.

وبالجملة ، فلا إشكال في فساد التوهّم المذكور.

وهل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بالواجب الغيري لأجل التوصّل به إلى الغير أو لا؟ وجهان ، أقواهما الأوّل.

__________________

(١) معالم الدين : ٧١.

٣٥٣

وتحقيق المقام هو : أنّه لا إشكال في أنّ الأمر الغيري لا يستلزم امتثالا ـ كما عرفت في الهداية السابقة (١) ـ بل المقصود منه مجرّد التوصّل به إلى الغير ، وقضيّة ذلك هو قيام ذات الواجب مقامه وإن لم يكن المقصود منه التوصّل به إلى الواجب ، كما إذا أمر المولى عبده بشراء اللحم من السوق ، الموقوف على تحصيل الثمن ، ولكنّ العبد حصّل الثمن لا لأجل شراء اللحم بل بواسطة ما ظهر له من الامور الموقوفة عليه ، ثمّ بدا له الامتثال لأمر المولى ، فيكفي له في مقام المقدّميّة الثمن المذكور من غير إشكال في ذلك ، ولا حاجة إلى إعادة التحصيل ، كما هو ظاهر لمن تدبّر.

إنّما الإشكال في أنّ المقدّمة إذا كانت من الأعمال العباديّة التي يجب وقوعها على قصد القربة ـ كما مرّ الوجه فيها بأحد الوجوه السابقة ـ فهل يصحّ في وقوعها على جهة الوجوب أن لا يكون الآتي بها قاصدا للإتيان بذيها؟

ومن فروعه : ما إذا كان على المكلّف فائتة (٢) ، فتوضّأ قبل الوقت غير قاصد لأدائها ولا قاصدا لإحدى غاياته المترتّبة عليه ، فيما إذا جوّزنا قصدها في وقت التكليف به واجبا ـ كما هو المفروض ـ فإنّه على المختار لا يجوز الدخول به في الصلاة الحاضرة ولا الفائتة إذا بدا له الدخول إليها ، وعلى الثاني يصحّ.

ومن فروعه أيضا : ما إذا اشتبهت القبلة في جهات وقلنا بوجوب الاحتياط ـ كما هو التحقيق ـ فلو صلّى في جهة غير قاصد للإتيان بها بالجهات الباقية ، على ما اخترناه يجب عليه العود إلى تلك الجهة ، وعلى الثاني يجزئ في مقام الامتثال إذا لحقها الجهات الأخر. وقد نسب الثاني إلى المشهور ، ولم نتحقّقه.

وما يمكن الاستناد إليه في تقريب مرادهم هو : أنّ الوضوء ليس إلاّ مثل

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٤٠.

(٢) في ( ع ) و ( م ) بدل « فائتة » : طهارة مائيّة.

٣٥٤

الصلاة في لحوق الطلب الإيجابي بهما ، غاية الأمر أنّ الداعي إلى إيجاب الواجب الغيري هو التوصّل به إلى الغير ، والداعي إلى إيجاب الصلاة هو وجوب نفس الصلاة ، ولا دليل على لزوم قصد دواعي الأمر في الامتثال.

إلاّ أنّ الإنصاف : أنّ ذلك فاسد ؛ إذ بعد ما عرفت من تخصيص النزاع بما إذا اريد الامتثال بالمقدّمة نقول : لا إشكال في لزوم قصد عنوان الواجب فيما إذا اريد الامتثال بالواجب وإن لم يجب الامتثال ، ولا ريب في عدم تعلّق القصد بعنوان الواجب فيما إذا لم يكن الآتي بالواجب الغيري قاصدا للإتيان بذلك الغير ، فلا يتحقّق الامتثال بالواجب الغيري إذا لم يكن قاصدا للإتيان بذلك ، وهو المطلوب.

أمّا الأوّل ، فقد عرفت فيما تقدّم أنّ الامتثال لا نعني به إلاّ أن يكون الداعي إلى إيجاد الفعل هو الأمر ، ويمتنع دعاء الأمر إلى عنوان آخر غير ما تعلّق به الأمر ، لعدم الارتباط بينهما ، فلو كان الداعي هو الأمر يجب قصد المأمور به بعنوانه.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الحاكم بالوجوب الغيري ليس إلاّ العقل ، وليس الملحوظ عنده في عنوان حكمه بالوجوب إلاّ عنوان المقدميّة والموقوف عليه ، وهذه الجهة لا تلحق ذات المقدّمة إلاّ بملاحظة ذيها ، ضرورة كونها من العناوين الملحوظة باعتبار الغير ، فالإتيان بشيء على جهة المقدميّة للغير يمتنع انفكاكه عن قصد الغير ، وإلاّ لم يكن الداعي هو الأمر اللازم من أمر الغير.

وبعبارة اخرى : أنّ ذات المقدّمة معنونة بعنوانات كثيرة ، منها المقدميّة ، وهذا هو عنوان وجوبها الغيري ، فلا بدّ عند إرادة الامتثال بالمقدّمة من قصد هذا العنوان ، لما قرّر فيما تقدّم. وقصد عنوان المقدّمة (١) على وجه يكون الداعي إلى إيجاده ملاحظة المنفعة في هذا العنوان لا يعقل بدون قصد الغير ، إذ لا يعقل القصد

__________________

(١) في ( ع ) : المقدّميّة.

٣٥٥

إلى شيء يترتّب عليه فائدة لأجل تلك الفائدة بدون أن يكون تلك الفائدة مقصودة ، لكونه تناقضا.

ولعلّ ذلك هو مراد كلّ من حكم بوجوب قصد الاستباحة في الوضوء ، إذ لا يظهر من الاستدلال بالآية الشريفة ( إِذا قُمْتُمْ )(١) الآية ... إلاّ الإتيان بالوضوء لأجل الصلاة (٢) ، ولا يظهر (٣) منها الدلالة على قصد الاستباحة مع عدم إرادة الصلاة ، كما لا يخفى. وأمّا اشتراط رفع الحدث ، فمرجعه أيضا إلى ذلك لو لم نقل بأنّ الحدث هي الحالة المانعة عن الدخول فيما يشترط بالطهارة. وأمّا إذا قلنا بأنّها من الامور الانتزاعيّة عن الأحكام التكليفيّة فرجوعه إلى ذلك ظاهر.

ومن هنا يظهر أنّ نسبة القول الثاني إلى المشهور لعلّها في غير محلّها ، فتأمّل.

وكيف كان ، فالظاهر اشتراط وقوع المقدّمة على صفة الوجوب والمطلوبيّة بقصد الغير المترتّب عليها ، لما عرفت. ويكشف عن ذلك ملاحظة الأوامر العرفيّة المعمولة عند الموالي والعبيد ، فإنّ الموالي إذا أمروا عبيدهم بشراء اللحم الموقوف على الثمن ، فحصّل العبد الثمن لا لأجل اللحم ، لم يكن ممتثلا للأمر الغيري قطعا ، وإن كان بعد ما بدا له الامتثال مجزيا ، لأنّ الغرض منه التوصّل.

ولمّا كان المقدّمة العباديّة ليست حالتها مثل تلك المقدّمات في الاكتفاء بذات المقدّمة عنها ، وجب إعادتها كما في غيرها من العبادات ، فلا يكاد يظهر الثمرة في هذا النزاع في المقدّمات الغير العباديّة ـ كغسل الثوب ونحوه ـ ضرورة حصول ذات الواجب وإن لم يحصل فيه الامتثال على وجه حصوله في الواجبات الغيريّة.

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) في ( ط ) زيادة : إلاّ ذلك.

(٣) في ( ع ) : فلا يظهر.

٣٥٦

نعم ، يظهر الثمرة من جهة بقاء الفعل المقدّمي على حكمه السابق. فلو قلنا بعدم اعتبار قصد الغير في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب لا يحرم الدخول في ملك الغير إذا كان مقدّمة لإنقاذ غريق ، بل يقع واجبا سواء ترتّب عليه الغير أو لا. وإن قلنا باعتباره في وقوعها على صفة الوجوب فيحرم الدخول ما لم يكن قاصدا لإنقاذ الغريق. كذا أفاد الاستاذ.

ولقائل أن يقول : إنّ قضيّة الوجوب الغيري لا تزيد على أنّ المعتبر في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب أن لا يكون الآتي بها قاصدا لعدم الغير ، أو يكون غير ملتفت إليه ، وأمّا أنّه لا بدّ من أن يكون قاصدا لوقوع الغير جزما فلا نسلّم أنّه ممّا يقضي به الوجوب الغيري ، بل الإتيان بالمقدّمة على وجه احتمال ترتّب الغير عليه ممّا يكفي في وقوعها على صفة الوجوب. ويظهر الثمرة فيما إذا أتى بالمقدّمة رجاء لأن يترتّب عليها الغير ، فإنّها صحيحة بناء على ما ذكرنا ، بخلاف ما لو قلنا بما أفاده الاستاذ ، فليتأمّل.

ثمّ إنّه بعد ما عرفت من عدم وقوع المقدّمة العباديّة على صفة الوجوب فيما إذا لم يكن الآتي بها قاصدا للغير ، فهل يجزئ في ترتّب ذلك الغير الّذي لم يكن مقصودا عليها فيما إذا كان الآتي قاصدا لغيره ممّا يترتّب عليها ويصحّ القصد إلى غيره ـ كما هو ظاهر في الوضوء (١) إذا أتى به المكلّف غير قاصد للصلاة مع القصد إلى غاية اخرى ممّا يترتّب عليه ، كالطواف وقراءة القرآن ونحو ذلك ـ أو لا يجزئ عنه ولا يصحّ القصد إلى غيره فيما إذا كان واجبا والغير مندوبا؟ وجهان.

فعلى الأوّلى ـ كما عن المشهور ، على ما نسبه جمال المحقّقين (٢) ـ يصحّ الوضوء بعد دخول الوقت مع عدم إرادة الصلاة فيما إذا اريد به الكون على الطهارة.

__________________

(١) في ( ط ) : كما أنّ الوضوء.

(٢) انظر الحواشي على اللمعة : ٣٠.

٣٥٧

وعلى الثاني ، لا يصحّ على ما ذهب إليه جمع من الأصحاب (١).

والتحقيق في المقام ان يقال : أمّا حديث إجزاء المقدّمة التي يراد بها غاية اخرى غير الغاية الغير المقصودة عنها ـ كما في الوضوء إذا قصد به الكون على الطهارة أو غيره عن الوضوء للصلاة ـ فمبنيّ على اتّحاد حقيقة تلك المقدّمة وعدم اختلاف ماهيّتها باختلاف ذويها (٢) ، كما هو كذلك في الوضوء ، على ما استظهرناه من الأخبار الواردة فيه ؛ ولذلك نقول بكفاية الوضوء لأجل غاية واحدة عن الوضوء في جميعها ، لأنّ المقدّمة بعد ما كانت حاصلة لا وجه للأمر بإيجادها ثانيا.

لا يقال : إنّ ذلك إنّما يتمّ فيما إذا كانت المقدّمة من المقدّمات التوصليّة كما في غسل الثوب. وأمّا إذا كانت عبادة كما في الوضوء ، فمجرّد حصولها لا يكفي عمّا هو المقصود منها من حصول التعبّد بها وقصد التقرّب منها.

لأنّا نقول : لا ينافي كونها عبادة ؛ لما ذكرنا من حصولها.

وتحقيقه : أنّ كون فعل عبادة تارة يلاحظ بالنسبة إلى الأمر الذي تعلّق به وصار بملاحظة ذلك الأمر عبادة من حيث إنّ المطلوب الحقيقي فيه الامتثال. وتارة يلاحظ بالنسبة إلى الامتثال الّذي صار لأجله الفعل عبادة. فبملاحظة نفس الفعل نقول بكونه تعبّديّا ، وأمّا مطلوبيّة الامتثال بذلك الفعل فمن المعلوم أنّه واجب توصّلي ومطلوب غير تعبّدي يسقط بمجرّد حصوله في الخارج من غير توقّف على شيء آخر. فما هو المطلوب من الوضوء وهو وقوعه على وجه العبادة ، ووقوعه على ذلك الوجه مطلوب توصّلي لا ينافي كون الفعل المطلوب بواسطة الامتثال به واجبا

__________________

(١) منهم الشيخ في المبسوط ١ : ١٩ ، والحلّي في السرائر ١ : ١٠٥ ، وفخر الدين في الإيضاح ١ : ٣٧ ، وراجع جامع المقاصد ١ : ٢٠٧.

(٢) كذا ، والظاهر : ذيها.

٣٥٨

تعبّديّا ، والمفروض من وقوعه على جهة العبادة بواسطة الغاية المترتّبة عليه من قراءة القرآن ونحوه ، فلا وجه للقول بعدم الإجزاء.

اللهمّ إلاّ أنّ يتعسّف بالتزام أنّ المطلوب هو الامتثال بالوضوء بواسطة الأمر الخاصّ المتعلّق بغاية مخصوصة ، وهو كما ترى!

هذا على تقدير الاتّحاد. وأمّا على فرض اختلاف المقدّمة كما في الأغسال وإن اتّحدت صورة ، فلا إشكال في عدم الاكتفاء والإجزاء.

ولعلّك بعد ما ذكرنا تطلّع على ما هو الحقّ بالنسبة إلى صحّة القصد إلى غاية مندوبة وصحّة العمل الذي يراد به ترتّب الغاية المندوبة فيما إذا لم يكن المكلّف قاصدا للغاية الواجبة مع دخول الوقت.

وتوضيح ذلك الإجمال وتبيين هذا المقال هو أن يقال : إنّه إذا كانت ماهيّة واحدة مقدّمة لعدّة امور بعضها واجب وبعضها مندوب ـ كالوضوء للصلاة وقراءة القرآن ونحوهما ـ فإن اختصّت تلك الماهيّة بشيء ممّا يخصّصها عند كونها مقدّمة لكلّ واحد من تلك الامور ، فلا ينبغي الإشكال في صحّة إرادة الماهيّة التي هي مقدّمة للمندوب ، إذ لا مدخل لما هي مقدّمة للواجب في ذلك ، فإنّ وجوب ماهيّة لا ينافي استحباب ماهيّة اخرى مضادّة لها ، وهو ظاهر. وإن لم يتخصّص تلك الماهيّة بمخصّص ـ كأن يكون بعينها من غير ملاحظة اعتبار موجب لاختلافها مقدّمة للواجب وهي بعينها مقدّمة للمندوب ـ فلا ينبغي الارتياب في عدم صحّة إرادة الغاية المستحبّة بعد العلم بفعليّة الوجوب فيها باعتبار وجوب الغاية المرتّبة عليها ، إذ لا ريب في تضادّ الاستحباب والوجوب ، والماهيّة الواحدة من حيث وحدتها على ما هو المفروض يمتنع أن تكون موردا للمتضادّين.

ومن هنا ينقدح لك فساد ما عسى أن يتوهّم : من ابتناء الكلام في المقام على

٣٥٩

مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ؛ إذ على تقدير التخصيص (١) لا إشكال في الاختلاف والجواز ، وعلى تقدير عدمه لا إشكال في عدم الجواز حتّى على القول بالجواز في تلك المسألة. نعم ، على تقدير الاختلاف مع كون النسبة بين تينك الماهيّتين عموما من وجه ، ففي مادّة الاجتماع يكون من موارد اجتماع الحكمين المتنافيين ، وهما الوجوب اللازم من وجوب ذيها والاستحباب اللازم من استحباب ذيها ، فيبتني على مسألة اجتماع الأحكام المختلفة.

فإن قلت : إنّ الماهيّة الكليّة تصلح لأن تكون موردا للأحكام المختلفة ، فلا ضير في وحدة الماهيّة مع اختلاف الأحكام ، كما ترى في الدخول في الدار المغصوبة ، فإنّه واجب وحرام باختلاف الغايات المترتّبة عليه من الإنقاذ ونحوه.

قلت : إن اريد أنّ الماهيّة الكليّة من حيث وحدتها تصلح لذلك فهو ضروريّ الاستحالة. وإن اريد أنّ تلك الماهيّة باختلاف أفرادها وإن كان الوجه في الاختلاف اختلاف القصد ـ كما هو الظاهر من المثال المذكور ـ تصلح لذلك فهو حقّ ، لكنّه ممّا لا مدخل له بالمقام ، لظهور الفرق بين ما نحن بصدده وبين ما ذكر من الأمثال ، لعدم اختلاف الحكم في المفروض باختلاف الأفراد.

لا يقال : ترتّب الغايات المختلفة على ماهيّة تصلح لأن يختلف به الماهيّة الواحدة ، فيكون موردا للأحكام المتخالفة.

لأنّا نقول : ذلك لا يجدي شيئا ، فإنّ ما يصلح لاختلاف الماهيّة هو ما يعتبر فيها قبل ملاحظة ترتّب الغايات الموجبة لاختلاف الأحكام. وأمّا اختلاف الغايات فهو اعتبار يلحق الماهيّة بملاحظة نفس الغاية ، فلا يصلح وجها للاختلاف ، كيف! وهو منشأ الإشكال.

__________________

(١) في ( ع ) و ( م ) : التحقيق.

٣٦٠